حسي هاجر1
1 جامعة ابن طفيل بالقنطيرة، المغرب.
بريد الكتروني: hajarhassi12@gmail.com
HNSJ, 2021, 2(10); https://doi.org/10.53796/hnsj21015
تاريخ النشر: 01/10/2021م تاريخ القبول: 20/09/2021م
المستخلص
يرصد المقالُ الذي بين ايدينا المعنون ب “تجليات البنية الحكائية والسننية في نص عمر بن الخطاب وأبي هريرة” دراسة البنية الحكائية من حيث الشخصيات والأحداث والدوافع والثنائيات والدلالة. وكذا بُنية السنن، وكيف تتمظهر في نص عمر وأبي هريرة. والنصُ يحكي عن أحداث الحكاية حقيقية حصلت بين رجلين من خيرة رجال التاريخ الإسلامي. فالأمرُ يتعلقُ بالخلفية الثاني “عمر بن الخطاب” وأحد كبار الصحابة “أبو هريرة” عندما عادَ ابو هريرة من البحرين، ومعه الكثير من المال، شكك عمر بأن هذا المال لم يجد على وجه حق، فلم يتوان في توجيه اللومَ والعتاب لأبي هريرة الذي وجد نفسهُ في موقفِ المتهم، وكان مضطربًا بأن يقوم بتقديم الحجج اللازمة لبراءته. وقد قمنا باستخراج الثنائيات لهذا النص ودلالتهُ. فمن الثنائيات الموجودة في النص ثنائيةُ الشكِ و ثنائية اليقين تنائيةُ التأكيد والنفي. وكذا مجموعة الدلالات، دلالة دينية اقتصادية خلقية ومن ثُم استخراج البنية السننية، وهدف البحث الرئيس هو:- إثبات الدور المهم للثنائيات والسنن والدلالة داخل النص.
واهتم النص في تحليله بالمنهج البنيوي، وفي هذا المقال تحدثت عن ملخص المقال باللغتين العربية والانجليزية. ففي الفصل الاول تحدث عن الشخصيات والأحداث والدوافع والتحولات، أما الفصل الثاني الثنائيات والدلالة. وفي الختام خلصنا الي نتائج منها ان النص يُعالج قضايا انسانية، كالدفاع عن الرأي وموضوعات اجتماعية، كما يحوي النص دلالات وسنن كثيرة كسنة الابتلاء وسنة التمحيص.
Studying the narrative structure and the dental structure in the news of Omar and Abu Huraira (uyun al-Akhbar)
HASSI HAJAR1
1 Ibn Tofail University in Kantira, Morocco.
Email: hajarhassi12@gmail.com
HNSJ, 2021, 2(10); https://doi.org/10.53796/hnsj21015
Published at 01/10/2021 Accepted at 20/09/2021
Abstract
The article entitled “Manifestations of Narrative and Sunnah Structure in the Text of Omar Ibn Al-Khattab and Abu Huraira” the study monitors the narrative structure in terms of characters, events, motives, and dualities. Also, the structure of the Sunan, and how it appears in the text of Omar and Abu Hurairah. The text tells about the events of a true story that took place between two of the best men of Islamic history.
The matter is related to the second background, “Omar Ibn Al-Khattab” and one of the senior companions, “Abu Huraira.” When Abu Huraira returned from Bahrain, with a lot of money, Omar doubted that this money had not been found in the right way! He did not hesitate to blame and admonish Abu Hurairah, who found himself in the position of the accused, and was troubled to present the necessary arguments for his innocence. We also extracted the binaries of this text and its significance. Among the dualities present in the text are the dualism of doubt and certainty, the dualism of affirmation and negation, as well as a set of connotations, religious, economic, moral, and then extract the sunnah structure.
The main objective of the research is: – To prove the important role of binaries of Sunnah and semantics within the text. In its analysis, the text focused on the structural approach, and in this article I talked about the summary of the article in both Arabic and English languages. In the first chapter, I talked about the characters, events, motives, relationships and transformations. The second chapter, dualities, significance. The last chapter, I came to the following conclusions: The text deals with humanitarian issues, such as defense of opinion and social issues, and the text contains connotations and many Sunnahs, such as the year of affliction and the year of scrutiny.
المقدمة:
من المعلوم أن الأشكال السردية قد حظيت في النصف الثاني من القرن الماضي بكثير من العناية والاهتمام، محتلة بذلك الصدارة داخل ميادين الدراسات الغربية والعربية، التي أفادتها في فهم الأنساق العامة للخطاب السردي بدءا من الحكايات الفلكلورية، والأسطورة، والخرافة، وانتهاء بالرواية والقصة، مرورا بالسينما والمسرح، متمكنة بذلك من بناء مجموعة من التصورات، والمفاهيم التي تقارب النص السردي في مستوياته، وتجلياته المختلفة، كما أمدت مجال النقد بمجموعة من الأدوات الإجرائية التي تعتبر فعالة في ملامسة المقولات الأساسية التي يقوم عليها، لهذا نرى أن السرد العربي القديم قد تميز بتنويعاته المختلفة، محققا بذلك تراكمات نصية مهمة، تعكس الطبيعة المتنوعة للثقافة العربية، وقدرتها على استيعاب خصوصيات الثقافة الأخرى. وتندرج دراستنا ضمن هذا الباب (السرد القديم) آخذين نصا من كتاب عيون الأخبار وهو كتاب جامع شامل للشعر والخبر خصوص وبعض الأحاديث، إذ يترجم صاحبه روح العصر وهو القرن 3 ه للكاتب ابن قتيبة الدنوري وسأقف في هذا التحليل على درسة هذا الخبر ومقاربته ودراسته دراسة بنيوية وكذا سننية.
فاختياري إذن موجه بمجموعة من الأسئلة التي تصب في طبيعة هذا الخطاب، ومكوناته، ومقاصده، ويمكن أن نجمل هذه الأسئلة بالشكل التالي:
ماذا نقصد بالبنية الحكائية؟ وكيف تتمظهر داخل خبر ” أبي هرير ة؟
ما هي خصوصياته السردية ؟ وكيف تمظهرت الثنائية والدلالة داخل هذا النص؟
2 ـ أهداف البحث
لكل دراسة أهداف وغايات تسعى إلى تحقيقها ومن بين هذه الأهداف هناك :
ـ المساهمة في التعريف بالتراث العربي القديم وإبراز أهم مصادره
ـ الكشف عن مقاصد وأبعاد ودلالات الكتاب الثقافية والاجتماعية والسياسية والأدبية ، وتحديد أهميتها وما يمكن أن تضيفه للكتابة السردية العربية المعاصرة …
ـ تبيان أن دراسة التراث السردي العربي بمناهج نقدية حديثة عملية مفيدة ومنتجة.
منهجه: هو المنهج البنيوي الذي يهتم ب ” أدبية الأدب “، أي ما يميز الأدب عن غيره من الخطابات الأخرى غير الأدبية. ومدار هذه المناهج هو النص ودراسة بنيته وعناصره الفنية الداخلية.
إن تحليلنا سينصب بالأساس على البنية الحكائية للنص ( خبر أبي هريرة) وسيضيف البحث شيئا جديد وهو وتجليات البنية السننية داخل نص الخبر.
وحاولت في هذا البحث الجمع بين النظري والتطبيقي مع إعطاء أهمية كبرى للجانب التطبيقي لأنه يبرز شخصية الباحث.
أما الخطوات المتبعة في البحث فهي الآتية
- الفصل الأول: الشخصيات / الاحداث / الدوافع / العلائق / التحولات.
- الفصل الثاني: الثنائيات والدلالة والسنن.
- نتائج البحث
الفصل الأول:
الشخصيات:
تعد “الشخصية مكونا رئيسا من مكونات البنية الحكائية، ويعرفها الدكتور ” محمد بن عبد العظيم بنعزوز بقوله ” الشخصية أهم عنصر من العناصر البنائية للقصة، فهي المحرك لعجلة السرد بل هي مادته الأساسية”[1] “وبهذا تكون الشخصية نظاما ينشئه النص تدريجيا. لكنها لا تعدم في بداية ظهورها هوية عامة. فهي، في البداية، شكل أو بنية عامة. وكلما أضيف إليها خصائص أضحت معقدة غنية مرغبة من دون أن تفقد هويتها الأصلية”[2]
كان النص عبارة عن حوار بين رجلين اثنين، و كلاهما له دوره الأساسي في الحكاية، ولم تتدخل في الحديث شخصيات أخرى من قريب أو من بعيد.
عمر بن الخطاب[3] : شخصية رئيسة، وهو فيما تتفق فيه احداث النص مع المعطيات المرجعية التاريخية للشخصية، فهو يمثل في النص مسؤول بمهام متعددة أهمها الصفة القضائية والجبائية ، فهو الرجل الضامن لشفافية المعاملات المالية والتجارية، والمراقب لنزاهة ونقاء الذمة المالية لموظفي ورجالات الدولة، وقد تجلى ذلك في المحاكمة والمساءلة المالية التي أقامها في حق شخصية أبي هريرة.
شخصية أبو هريرة[4]: شخصية مرجعية كذلك لدلالتها التاريخية العظيمة في التاريخ الإسلامي. وشخصية رئيسية في النص، لكونه موضوع الاتهامات التي وجهها عمر بن الخطاب إليه في أحداثه، قد قدمته الأحداث كشخصية حجاجية ذكية ونزيهة وعادلة، ولا تقبل أن تظلم او تظلم. فأبو هريرة محاور وخطيب جيد وناجح.
الملاحظ هنا بأن شخصيات القصة لا تعدو أن تكون اثنتين رئيستين، عمر وأبو هريرة، و هما شخصيتان مرجعيتان، و كلاهما صحابيان عاشا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، لقد عرف عمر بالعدل وصار كلاهما يذكر بذكر الآخر، لذلك كان عليه أن يعكف على مراقبة العمال القائمين بشؤون الأمصار، والذين قد يرضخون لدوافع النفس ووساوس الشيطان، فيسطون على أموال الناس بالباطل فتتغير أحوالهم نحو الأفضل كما يظنون وإن كانت بالطرق غير المشروعة، وهم بذلك يجهلون أنها تغيرت نحو الأسوأ
الأحداث
قبل البدء في الحديث عن أحداث النص يمكن إعطاء تعريف موجز عن ماهية الأحداث ودورها حسب الدكتور محمد بن عبد العظيم بنعزوز بقوله”
“- الحدث هو كل ما تنتجه الشخصية أو تتلقاه وما يحدث لها”
- الحدث فعل كبير يتضمن مجموعة من الأفعال الصغرى، ويتكون من أفعال منتجة وأفعال ملقاة”[5]
الحدث الرئيس:
أحداث الحكاية حقيقية، حصلت بين رجلين من خيرة رجال التاريخ الإسلامي، الأمر يتعلق بالخليفة الثاني: “عمر بن الخطاب”، و أحد كبار الصحابة: “أبي هريرة”.
عندما عاد “أبو هريرة” من البحرين و معه الكثير من المال، شكك عمر بأن هذا المال لم يجن على وجه حق، فلم يتوان في توجيه اللوم و العتاب لأبي هريرة الذي وجد نفسه في موقف المتهم، و كان مضطرا بأن يقوم بتقديم الحجج اللازمة لبراءته.
الأحداث الفرعية:
جاء الحدث الرئيس على شكل تساؤل و اتهام في بداية الموقف، و لم تكن الأحداث الفرعية إلا مجموعة من الذرائع و البراهين و الأجوبة و الدلائل على براءة أبي هريرة، و تجدر الإشارة إلى أن النص بأكمله هو عبارة عن حوار تفاعلي حجاجي استقصائي استدلالي بين الرجلين، يحاول كل واحد منهما إثبات وجهة نظره المختلفة :
- اتهام عمر لأبي هريرة الذي عاد لتوه من البحرين محملا بالمال الكثير، بأنه سرق أموال المسلمين.
- نفي أبي هريرة لهذه التهمة.
- تساؤل عمر عن مصدر ثروة أبي هريرة.
- إجابة أبي هريرة بأنها من الخيل التي تناسلت و العطاء الذي تلاحق.
- قبض عمر الأموال من أبي هريرة.
- استغفار أبي هريرة لعمر بعد صلاة الصبح.
- عمر يسأل أبا هريرة هل يعمل، فيجيب بالنفي ويستدل على ذلك.
- عمر يستدل لأبي هريرة بأن يوسف عليه السلام كان يعمل ليكسب قوت يومه.
- أبو هريرة يجيب بأن يوسف كان نبيا ابن نبي، و أن أبا هريرة ابن أميمة بالتصغير لأمة.
- أبو هريرة يستدل عن عدم عمله بأنه يخشى ثلاثا و اثنتين.
- عمر يقول له إنها خمسة.
- أبو هريرة يقولها بالتفصيل، فأما الثلاثة التي له، فهي أن يضرب ظهره و يشتم عرضه و ينزع ماله، و أما الاثنان التي عليه فهي أن يقول بغير علم و يحكم بغير حلم.
الملاحظ هنا هو أنه من خلال الحوار بين الرجلين، كان كل واحد منهما يحاول أن يثبت صحة دعواه عن طريق الإتيان بدلائل، كأن يستدل عمر بأن أبا هريرة أتى بالمال بطريقة غير مشروعة، وهذا غير صحيح، وأن العمل عبادة، فيوسف النبي كان يعمل من أجل كسب قوت يومه.
و أما أبو هريرة فإنه استدل بالثلاثة التي له، و التي فعلها عمر، و بذلك صار أبو هريرة يثبت بأنه ليس من حق عمر أن يتدخل فيها ما دامت من حقه، و هي أن يسلب ماله و هو مال حلال، و يشتم عرضه و هو بريء، و يضرب ظهره بدون جرم .
و لم يذكر النص هل أعاد عمر المال لأبي هريرة الذي دافع عن مشروعيته وصحة مصدر ماله باستبسال و أثبت براءته أم أن مرافعته لم تدعم بالحجج والبراهين الكافية لتخليص ذمته من التهم التي وجهها إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؟
الدوافع:
لكل فعل دافع، وأما في حالة حكايتنا هذه التفاعلية، و التي تنتهج أسلوبا سرديا متميزا أساسه الحوار، فإن دوافعها غزيرة بغزارة الأسئلة و الأجوبة و التدخلات:
- دافع المسؤولية: عمر بن الخطاب يحاور أبا هريرة من منطلق المسؤولية الملقاة على عاتقهما فعمر خليفة للمسلمين وأبو هريرة واليه على البحرين .
- دافع المحاسبة: المسؤولية تورث المحاسبة، و الحاكم له الحق أن يحاسب كل من يتحمل مسؤولية، على ما بيده.
- دافع البراءة: ينطلق أبو هريرة في الدفاع عن نفسه من منطلق أنه بريء.
- دافع الاستدلال: عمر يستدل بالنبي يوسف لإثبات ضرورة العمل، و أبو هريرة يستدل بما له و ما عليه لإثبات براءته.
- دافع إحقاق الحق: قام عمر بأخذ المال من أبي هريرة كخطوة أولى من أجل إحقاق الحق و إبطال الباطل.
الملاحظ في الدوافع داخل الحكاية، و هو كونها تنهل من روح الدين الإسلامي، كأنها مرافعات بين قيم العدل و المسؤولية، و المحاسبة و الالتزام، و هي تجعل القارئ يخلص في الأخير إلى أنه لا يصح إلا الصحيح.
العلائق:
إن القيمة المعنوية للشخصيات المنخرطة في هذه الحكاية، تضفي الكثير من الثقل على العلاقات الموجودة بينها:
- العلاقة بين عمر و أبي هريرة: علاقة مسؤول بموظف لدى إمارة المؤمنين (الدولة ) يجمعهما الإخلاص للوظيفة المنوطة بهم في إطار المحاسبة والشفافية المستمرة بتتبع آثار و مصادر الأموال وسبل إنفاقه ، بما يضمن حفظ أموال وحقوق المسلمين وتقدم وإزدهار البلاد . فعندما صار عمر بن الخطاب خليفة على الأمة، قام باستخلاف أبي هريرة على البحرين، وذلك لمكانته الدينية والاجتماعية وقربه من النبي في حياته كصحابي، ولروايته عنه وعن الأصفياء من أصحابه، فكان ذلك مصدرا لثقة عمر في أبي هريرة لتوليته البحرين، وبالرغم من ذلك فقد أصاب العلاقة التوتر عندما رأى حال هذا الأخير انقلب من فقر إلى غنى، و راوده الشك حول مصدر أمواله فبادر بأخذ ماله ومحاسبته، باعتبار أن حيازته لمال كثير في زمن قصير يعتبر بالنسبة لعمر تهمة بالسطو وأكل الأموال بالباطل.
- العلاقة بين أبي هريرة و عمر: علاقة امتثال واستجابة وترافع ومحاجة بهدف تحقيق العدل وإثباث البراءة من التهم للوصول إلى تسوية عاجلة للخلاف او سوء الفهم الحاصل بينه وبين الخليفة كان أبو هريرة مستخلفا من طرف عمر على البحرين، وكان الهدف من هذا الاستخلاف هو بناء دولة الإسلام والمحافظة عليها، فلما وصل أبو هريرة إلى البحرين اكتسب الكثير من المال بطريقة ما، قال أنها تجارة، إلا أن عمر كان يعتبرها خيانة للأمانة، لأنه ما كان لينال كل تلك الأموال لولا أنه كان عامل الأمير على البحرين، فاتهمه عمر، وقام أبو هريرة يجيب عن نفسه و يدافع عن ثروته التي اكتسبها عن طريق إعطاء العديد من الأدلة التي لم تنفع أمام قيام عمر بمصادرة أمواله، حتى اعتذر منه أبو هريرة في الفجر.
الملاحظ هنا بأن العلاقة الموجودة بين عمر و أبي هريرة، هي علاقة مسؤولية و محاسبة، باعتبار أن الثاني كان خليفة للأول على البحرين.
التحولات:
إن تسلسل الأحداث وتحركها في الزمان والمكان، يفرض تحولات داخلية أو خارجية، جسدية أو نفسية أو هما معا:
- من أهم التحولات التي تؤشر عنها القصة وتستفز الثقافة الإسلامية والعربية للمتلقي، كون أبي هريرة يتحول من شخصية مرجعية تاريخية تستمد قوتها وحضورها من مكانتها في التاريخ الإسلامي، كصحابي وأحد أكثر الصحابة رواية عن النبي إلى حاكم على البحرين وممثل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ويخضع لضوابط واحكام السياسة بتناقضاتها وسلبياتها وإيجابياتها، وهي تحولات خارج نصية لكنها لا تمنع من وجود تغيير على مستوى الأحداث والشخصيات، وكما هو معلوم أن قصر النص ومحدوديته لفظيا يوازيه انكماش في رقعة المكان وفضاء الزمان وندرة في الأحداث تنتج عنها ندرة في التحولات، لكنها بالرغم من ذلك فهي قوية ومركزة تجمع كل خيوط السرد ومفتوحة على التأويل والتداعي ونعرض لها أسفله:
- تحول أبي هريرة من رجل نزيه ومصدر ثقة إلى رجل فاسد وسارق لأموال المسلمين: لم يجد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب تفسيرا للأموال الكثيرة التي ظهرت فجأة عند اهم ولاته أبي هريرة غير اتهامه بالسرقة ومحاكمته على ما اقترفه من جرم في حق المسلمين والدولة.
- تحول عمر بن الخطاب من واثق بأبي هريرة ومحترم له إلى متهم له وشاتم إياه: بعدما استفزه منظر الغنى الذي طفح في حياة أبي هريرة فجاة، وهو الذي غادر البلاد فقيرا، كمسؤول كان الأجدر به التأسي بتعفف وزهد النبي (ص) وأصحابه، وعمر واحد من هؤلاء الزهاد وأكثرهم تشددا مع المخالفين لحدود الله المضييعين لحقوق المسلمين، لم يتمالك الخليفة نفسه فصب جام غضبه على أبي هريرة ورماه بأوصاف وتهم لم يتعود سماعها خصوصا من شخص كعمر، ولم تستسغها أذناه.
- تحول أبي هريرة من والي وعامل عن البحرين إلى معتزل للعمل السياسي: لم تذكر القصة مايمنع أبي هريرة أن يكون سعيدا راضيا بعمله قبل أن يأتي من البحرين، ليتحول لموظف يندب حظه، رجل لم يعد باستطاعته تحمل ضغط المسؤولية، ويعدد في جسامتها بعد تجربة مريرة، شكك في نزاهته وعدله إبان ممارستها. فاختار الحياد والابتعاد عن الحياة السياسية، صونا لماء وجهه لما تعرض له من طعن في كرامته وإساءة لفظية ومالية.
- بحيث أن الأمر كان يستدعي من الأمير أن يختار ثلة من الرجال لكي يكونوا ركائز تقف على أكتافها الدولة الإسلامية، فانتقى أبا هريرة، الذي كان صحابيا لا يملك إلا قوت يومه، إلا أن مقامه العالي كعامل على البلاد، جعله يستغل الظرف ويقوم بتطوير تجارته والزيادة في ماله و الاغتناء، وبين الفقر و الاغتناء هناك تهمة بالنسبة للأمير عمر بن الخطاب، مما أدى به إلى اتهامه بسرقة أموال الناس بالباطل، وهنا كذلك تحول من بريء إلى متهم بسبب الاغتناء اللامشروع.
- تحول أبي هريرة من رجل فقير إلى رجل غني، بحيث أن الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يعيشون على الكفاف والعفاف والغنى عن الناس، وذلك في ظل لوج الدولة الإسلامية، فكيف يقبل عمر بن الخطاب أن يرى واحدا من هؤلاء الرجال الذين عاشروا النبي الكريم وعرفوا الدين الحق بأن يغتني بهذا الشكل السريع و اللامشروع، فإن الإسلام يدعو إلى العطاء و الكرم و السخاء و إعالة الفقير و الانتباه لأحوال الغير، و بهذا فإن تحول فقر الرجل إلى غنى ليس بالأمر السليم.
- تحول عمر بن الخطاب من الثقة بأبي هريرة إلى حالة الشك عندما رأى ماله الكثير، بحيث أن الثقة بالنسبة للإنسان كالإيمان، تقر في القلب و يصدقها الحال، و مادام حال أبي هريرة يشي بتغير غير صحيح، وهو الاغتناء، ومادام المال في الإسلام وسيلة وليس غاية في حد ذاتها، فإن تلك الثقة قد انقلبت إلى شك، بل إلى يقين بأن المال الذي اكتسبه أبو هريرة ليس على وجه الحق.
- تحول أبي هريرة من ذي مال إلى مسلوب الحق، وذلك بعدما سلبه عمر المال الذي أتى به من البحرين حتى ينظر في شأنه، فإن المسلم في شريعتنا لا يملك أكثر مما يكفي لمأكله و مشربه، فاعتزم عمر محاسبة أبي هريرة الذي اعتذر إليه في فجر اليوم التالي و دار بينهما حوار أفصح من خلاله أبو هريرة عن خوفه من الله و من كلام الناس، ومن رجوعه إلى الصواب.
- تحول أبي هريرة من حالة الاطمئنان إلى حالة القلق، إذ أنه كان مطمئنا قبل أن يكون عاملا على البحرين، فكان اكتسابه للمال بمثابة القلق الذي لحق به بعدما اتهمه أمير المؤمنين بسرقة أموال الناس بالباطل، فالمال في دوله الإسلام إن زاد ليس إلا تهمة، وليس إلا متاع الدنيا، و الأمر الذي لا يورث قلقا مهما زاد هو العبادة والتقوى التي تمنع صاحبها من أكل أموال الناس.
إن الملاحظ هنا، هو هذه التحولات الخارجية التي لها الكثير من الآثار النفسية، بحيث أن تحول أبي هريرة من حاكم موثوق به إلى رجل محاكم ومستنطق متهم بكبائر الجرائم السياسية وهي سرقة المال العام، زرعت في نفسه الإحساس بالظلم، و تحول عمر من حال الثقة إلى حال الشك، مما ترك في نفسه الإحساس بالفشل أيضا. إلا أن نهاية الحوار بينهما أنبأتنا بأن حال الرجلين لم يعد بذات الوفاق كما في السابق، أي ان هناك مخلفات وأضرار في نفسية أبي هريرة الذي استبسل في الاستدلال على براءته محاولا التخفيف من وطاة الاتهام والشتم الذي لاقاه من الخليفة عمر على غير عادته لكنه تصرف منتظر وغير مستبعد من خليفة عادل ورع ونزيه، لا يتساهل أبدا إذا ما تعلق الأمر بمال المسلمين.
الفصل الثاني:
الثنائيات
تشمل الثنائيات جل مفاصل نص ” أبي هريرة” سواء على مستوى الشخصيات والأحداث أو المواقف والمشاعر. وهذا ما أشار إليه الدكتور ” محمد بن عبد العظيم بنعزوز في حديثه عن الثنائيات بأنها ” مرتبطة بالشخصيات والأحداث والمواقف وبالعلاقات والصفات والأحوال وبأسلوب السرد والخطاب والدلالات”[6] وسأحاول عرض بعض هذه الثنائيات على مستوى البنية السطحية والبنية العميقة كما يأتي:
ثنائية الشك و اليقين: و ذلك عندما رأى الخليفة عمر الأموال الكثيرة التي يحوزها أبو هريرة، فشك بأنها أموال الناس، و أنه قد استبد بهم، و أنه قد سرقها منهم، فتوجه إلى بالسؤال متهما إياه، و السؤال هنا هو في ذات الوقت بحث عن اليقين الذي يبدد الشك، إما بالدليل أو بالعقاب، و ذلك باعتبار أن عمر مسؤول عن كل ما يحصل في البلاد، و هو بلجوئه إلى الحوار مع أبي هريرة، و باتهامه المباشر له، يعترف ضمنيا بأن الشك منهج يوصل إلى الحقيقة إن تبعه السؤال.
ثنائية الأمانة و السرقة: حيث أن الخليفة عمر رضي الله عنه اتهم أبا هريرة بالسرقة، باعتبار أن سنة الحياة تقول بأن المال الكثير لا يجتمع لصاحبه بتلك السرعة إلا من السرقة، و السرقة هنا هي كل فعل مناف للاستقامة و الحق، على عكس الأمانة التي تقتضي المحافظة على خزائن بيت مال الأمة.
ثنائية التأكيد و النفي: تساءل عمر، و هو موقن بأن أبا هريرة قد سرق أموال الناس بالباطل، لكن أبا هريرة قد نفى التهمة عن نفسه عن طريق الاستعانة بمجموعة من الدلائل و البراهين، باعتبار أن البرهان أداة تجعل الشك يقينا، و ذلك عن طريق نفي التهمة و تأكيد غيرها.
ثنائية السؤال و الجواب: و ذلك من خلال الحوار الذي دار بين الخليفة عمر و أبي هريرة، و الذي بانت بعده الحقيقة و اتضحت الرؤية، بحيث ادعى أبو هريرة بأن خيله قد تناسلت و تكاثرت، و كانت سببا في اغتنائه، و أما عمر فقد سأله عن العمل فنفى أبو هريرة، فضرب له الخليفة المثل بأن النبي يوسف كان يعمل، إلا أن أبا هريرة تذرع بأن يوسف كان نبيا و وضعه مخالف.
ثنائية المنطق واللامنطق: استنتاج الحقائق من خلال الاستدلال الصحيح، بما في ذلك المفارقات والمغالطات .. مما يعصم الذهن عن الخطأ في التفكير. ويرى البعض ان القياس جزء منه، وهذا ما حصل عندما ورد اسم النبي يوسف، كمقياس مع حال أبو هريرة على امكاناته في استقراء الاحداث والوقائع. والتفكير المنطقي يعدُّ وسيلة لمعرفة الحقيقة والمعتقدات الصحيحة، اعتمادا على معايير معينة، بحيث يمنح الانسان القدرة على التفكير السليم. ففي النص نرى الحوار المنطقي جدا بين السائل والمجيب حين تم وضع الامور في نصابها، ونلمس ذلك جليا في الاجابات. مما كشف عن استقراء ابو هريرة لكل الاحداث والامثلة التي سردها عمر، وعلى خلاف ما متوقع. وهذا بيان للتفكير المنطقي والخلاص من الوقوع في دائرة الاتهام بشتى الجنايات، وبعدها الادانة واصدار الحكم. كان كلام الاثنين يتميز بقوة المحاجة، بحيث ضرب عمر المثل بالنبي يوسف، وأما أبو هريرة فقد استعان بعلمه الغزير ليعجز عمر عن معرفة الخمسة أمور.
إن كل الثنائيات الموجودة في هذا النص، تتميز بالقوة و التفاعلية، و ذلك تأثرا بالموقف الذي برزت من خلاله، فهو موقف شك تولد عنه سؤال ثم يقين بالنسبة للخليفة عمر، و هو موقف اتهام تولد عنه استدلال ثم إقناع بالنسبة لأبي هريرة.
دلالات النص:
تقوم الدلالة عموما على العلائق: العلاقة بين الحاضر والغائب، بين الدال والمدلول، بين الدال وباقي الدوال، بين المدلول وباقي المدلولات الأخرى، بين الجزء والكل، بين النص وخارج النص، كما تهيمن على هذا النص اربع دلالات، هي دلالة دينية ودلالة اقتصادية ودلالة عقلية ودلالة خُلقية، وتأخذ الدلالة الاولى مساحة اكبر وذلك لان هذا النص (الخبر) يعتمد على نقل واقعة حقيقة، تأخذ مدياتها واهميتها من الشخصيات التي نقل الخبر عنها، وهما عمر بن الخطاب (رض) وابي هريرة (رض)، حيث تتداخل في بعض المواضع مع الدلالة الاقتصادية لأنها تشير الى الاقتصاد الاسلامي، بينما الدلالتين الاخريين كانتا ثانويتان، ارتبطتا بأبي هريرة:
– دلالة دينية: حيث تظهر هذه الدلالة من خلال محاسبة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رض) لابي هريرة، وسؤاله عن مصدر هذه الاموال، وفي هذا دلالة دينية لأنها تركز على الدعوة الى محاسبة الذات، لان النفس امارة بالسوء، حيث قال تعالى “وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ “[7]، لذلك في هذا وسيرا على سنة الرسول (ص) تحصين للمسلم والتأكيد على زرع القيم الاسلامية، بالإضافة الى التركيز على جانب ديني اخر وهو الاشارة الى العمل واهميته، وانه من سنة انبياء الله، قال الله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*فإذا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ”[8]، وقال رسول الله (ص) “ما أَكَلَ أَحَدٌ طعامًا قطُّ، خيرًا من أن يأكلَ من عملِ يدِه، وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ عليهِ السلامُ كان يأكلُ من عملِ يدِه”، بالإضافة الى ان عمر (رض) اراد ان يقدم درسا للمسلمين بان هذا المبدأ يطبق على الجميع، مهما كان شأن هذا المسلم، تطبيقا للمبدأ الذي وضعه الرسول (ص) الذي قال ” إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا”[9]
– دلالة اقتصادية: وهنا اشارة الى الاقتصاد الاسلامي الذي يبنى على مبدأ (من اين لك هذا؟)، وهو نوع من الرقابة المالية التي شرعها الرسول (ص) على اصحابه وعماله، لذلك فسؤال عمر (رض) لابي هريرة، هو تطبيق لهذا المبدأ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليَّ رسول الله والمرجل يفور بلحم فقال: “من أين لك هذا؟” قلت: أهدته لنا بريرة وتُصُدِّق به عليها. فقال: هذا لبريرة صدقة ولنا هدية)[10].
– دلالة خُلقية: وتظهر هذه الدلالة من خلال عكس اخلاق ابي هريرة بعدم ادعاءه التميز عن الانبياء وانه ابن أميمة، واستخدامه لكلمة (أميمة) وهو تصغير لـ (أم) فيه دلالة على تواضعه امام عظمة انبياء الله (عليهم السلام).
– دلالة عقلية: وتظهر هذه الدلالة من خلال رد ابي هريرة وتقسيمه للخلال الى ثلاث واثنين (ولم يقل خمسا لأن الخلتين الأوليتين من الحق عليه فخاف أن يضيعه ، والخلال الثلاث من الحق له ، فخاف أن يضيعه ، والخلال الثلاث من الحق له، فخاف أن يظلم ، فلذلك فرقها)، وهذا تصرف عقلي ذكي، وهي اشارة الى كيفية ادارة اللغة بصورة بليغة.
تعريف السنن الإلهية:
السنة لغة: تطلق السنة في اللغة على” الطريقة والسيرة، حميدة كانت أو ذميمة”[11] ـ أما الشيخ محمد متولي الشعراوي فقد اعتبرها: ” الطرق التي يصرف الله بها كونه بما يحقق مصلحة ذلك الكون؛ ليضمن للإنسان – السيد في هذا الكون – ما يحقق مصلحته. ومصلحة الإنسان تتمثل في أن يسود الحق في حياة الإنسان المختار، كما ساد الحق في الكون المسيّر قبل الإنسان”[12]. إذن؛ فالسنن الإلهية: ” هي جملة القوانين والقواعد التي وضعها الله، وكل إنسان يمر منها ويختبر في ظلها،
أما الدكتور رشيد كهوس فقد عدها ” إرادة الله الكونية، وأمره الشرعي، وفعله المطلق، وكلماته التامات، وحكمته في آفاق الكون، وتسلسل التاريخ الجارية بالعباد عبر رحلة الأعمار إلى المعاد”[13].
تحليل السنن
في تحليلنا لنص هذا الخبر، والبحث عن السنن التي تحكم احداثة ودوافع شخصياته، وجدنا ان هناك عدة سنن، ولكننا لم نغفل ان صيغة الخبر برمتها تخضع لسنة تاريخية كبيرة باعتباره عبرة، نقلت لتقديم مجموعة من القيم الاخلاقية والتربوية، واظهار مدى صلابة المؤمنين ومدى تمسكهم بدينهم وباخلاقهم، رغم ما يقع عليهم من سنن الابتلاء، لذلك كانت سنة الابتلاء هي الثيمة الرئيسية او العقدة التي قامت عليها احداث الخبر، بالإضافة الى ما نتج عن هذه السنة من سنن فرعية هي سنة التمحيص والتمكين، كما سنلاحظ في سياق تحليلنا.
من اهم الصفات التي وضعها الله في الانسان هي حسن الظن، والتي هي سنة انسانية تميز الانسان المؤمن، إذ قال الله تبارك وتعالى: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ)[14]، اذ يقول أبو حيان الأندلسي في قول الله تبارك وتعالى: (فيه تنبيه على أنَّ حقَّ المؤمن إذا سمع قَالَةً في أخيه، أن يبني الأمر فيه على ظنِّ الخير، وأن يقول بناء على ظنِّه: هذا إفك مبين، هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه، كما يقول المستيقن المطَّلع على حقيقة الحال. وهذا من الأدب الحَسَن)[15]، فسوء الظن هو ابتلاء، ففي نص الخبر الذي بين ايدينا، يتهم عمر ابي هريرة بانه سرق المال، والا كيف حصل على هذه الاموال الكثيرة، اذ بدا ان نص الخبر مبني على سوء الظن، ولكنه ضمنا يحمل درسا اخلاقيا اراد عمر ايصاله للناس، بان الجميع خاضع للمسائلة، مهما ارتفع شأنه او انخفض، ولكنه ايضا سنة ابتلاء لابي هريرة، من خلال اتهامه ليكشف مدى صدقه وايمانه (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)[16]، وفي هذا سنة تمحيص واختيار للمؤمنين الصابرين المحتسبين، اذ يقول تبارك وتعالى (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)[17]، وايضا قوله تعالى: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)[18]، ولكن هذا الابتلاء والاختبار من الله سبحانه وتعالى لم يصب ابي هريرة بالخواء او يضعف ايمانه او ينهزم، بل انه التجأ الى الله سبحانه وتعالى بالصلاة والدعاء والاستغفار لمن ظلمه، وهذا هي صفات المؤمنين الذين مكنهم الله في الارض، كما في قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)[19]، بالاضافة الى ان هذا الخبر يحمل سننا اخرى، كسنة حسن الظن كما اسلفنا، اذ يجب على المسلمين تجنب سوء الظن الا بعد التأكد والتدبر، إذ قال الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)[20]، والتي يفسرها ابن حجر الهيتمي الذي يقول: (عقَّب تعالى بأمره باجتناب الظَّن، وعلَّل ذلك بأنَّ بعض الظَّن إثم، وهو ما تخيَّلت وقوعه من غيرك من غير مستند يقيني لك عليه، وقد صمَّم عليه قلبك، أو تكلَّم به لسانك من غير مسوِّغ شرعي)[21]، لذلك نرى بان ابا هريرة قد استند على سنة كونية لإزالة سوء الظن، وهي سنة التناسل ونمو الارزاق، والتي يصفها القرآن الكريم بالأنعام، وتسخيرها للإنسان، حيث يجمل الله سبحانه وتعالى تلك الارزاق في سورة آل عمران: ( وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ)[22]، وقوله تعالى: (مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون)[23]، اذ ان من اهم الهبات التي قدمها الله سبحانه وتعالى للإنسان وجعلها سنة كونية، هي سنة الرزق والذي تنتج من خلال سنة اخرى هي تناسل تلك الانعام التي وهبها الله له، يقول الله تبارك وتعالى: (أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ويَقْدِرُ انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤمِنُونَ)[24]، ولكن هذه السنة تحتاج الى سنة انسانية اخرى، والتي قد اكد عليها نص الخبر من خلال سؤال عمر لابي هريرة عن إن كان يعمل ام لا، حيث ان الله سبحانه وتعالى يحض على زيادة الرزق من خلال السعي والعمل، وليس عن طريق التكاسل والاتكال، اذ اعتبره الله سبحانه وتعالى من اهم الرسالات التي يحملها الانسان عند استخلافه في الارض، اذ يقول الله تبارك وتعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[25]، وقول النبي الاكرم: (أفضلُ الكسْبِ بيعٌ مبرورٌ، وعملُ الرجلِ بيدِه)[26]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما أكَلَ أحَدٌ طَعامًا قَطُّ، خَيْرًا مِن أنْ يَأْكُلَ مِن عَمَلِ يَدِهِ، وإنَّ نَبِيَّ اللَّهِ داوُدَ عليه السَّلامُ، كانَ يَأْكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ( ،اذ كان الانبياء يعملون بايديهم، وذلك حضا على سنة العمل، اذ كان النبي محمد عليه الصلاة والسلام تاجر، وداود حدادا، وادريس خياطا، لذلك فانه اشارة عمر الى ان الانبياء كانوا يعملون، وان جميع المؤمنين ليسوا بأفضل منهم، وفي هذا اشارة الى اهمية سنة العمل، والتأكيد عليها، وكان ذلك من خلال اشارة ابي هريرة لتميز الانبياء عن غيرهم ومكانتهم التي خصهم الله بها، وهي سنة الهية.
ونلاحظ ان هذه السنن اجتمعت في نص الخبر، لتعزيز سنة مهمة وهي سنة التمكين من خلال الابتلاء او الاختبار الذي وضعه الله سبحانه وتعالى به ابي هريرة، لتمحيص المؤمنين وليظهر مدى قوتهم وتمسكهم بايمانهم.
نتائج البحث:
يتميز نص أبي هريرة المأخوذ من كتاب عيون الاخبار بقدرته على جذب انتباه القارئ لما يحمل من دلالة عميقة رغم قصر حجمه، فلقد خقق البحث نتائج هامة نجملها في الاتي:
- إنه يعالج قضايا انسانية كالصراع والدفاع عن الرأي، كما يحتوي على عدة حقول كالحقل الديني والاقتصادي
- شخصيات القصة شخصيات دينية متمثلة في عمر وأبي هريرة / تتسم الأحداث في النص بخطيتها واستمراريتها على عادة الحكي القديم / تراوحت الأحداث بين تناول قضايا كبرى سياسية وثقافية وقضايا صغرى اجتماعية مرتبطة بالحياة اليومية للإنسان البسيط من قبيل: السرقة …/ تتنوع الدوافع بتنوع الشخصيات، وأهم ما يميز الثنائيات هي ميزة التناقض والتضاد
نص القصة: عيون الأخبار ص: 89/ 90 عمر وأبو هريرة.
حَدَّثنا محمد بن عُبَيد، عن هَوْدة ، عن عوْف، عن ابن سيرين .
وإسحاق، عن النَّضر بن شُميل، عن ابن عَوْن، عن ابنِ سِيرين، بمعناه، قال: لما قَدِم أبو هريرة من البحرين ، قال له عمر: يا عدوَّ الله وعدوَّ كتابه، أَسَرَقَتَ مال الله؟ قال أبو هريرة: لستُ بعدوِّ الله ولا عدوِّ كتابه، ولكني عدوُّ من عاداهما، ولم أسرق مَالَ الله. فقال: فمن أين اجتمعتْ لك عشرةُ آلاف درهم ؟ قال: خيلي تناسلتْ، وعطائي تَلاحَقَ، وسهامي تتابعت . فَقبَضَهَا منه . قال أبو هريرة: فلما صَلَّيْتُ الصبح استغفرتُ لأمير المؤمنين. ثم قال لي عمر بعد ذلك: ألا تعمل ؟ قلت: لا . قال: قد عَمِلَ من هو خيرُ منك، يُوسفُ .قلت : يوسفَ نبيُّ ابن نبيِّ، وأنا ابنُ أمَيمة ، أخشى ثلاثاً واثنتين[27] . قال: فهلا قلتَ خمسا؟ً؟
قلت: أخشى أن أقولَ بغير علم ، وأحْكُم بغير حِلم ، وأخشى أن يُضْرَبَ ظهري ويُشْتَمَ عِرْضِي، ويُنْزَعَ مالي.
المراجع والمصادر:
- القرآن الكريم
- الحديث النبوي الشريف
– ابن منظور، لسان العرب، مادة(سنن)، 13/225. مختار الصحاح، لأبي بكر الرازي، مادة(سنن).
– العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري بشرح البخاري، تحقيق عبد القادر شيبة الحمد، مكتبة الملك فهد الوطنية ج9 الرياض 1996 .
ـ رشيد كهوس، علم السنن الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، الطبعة الأولى، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث دبي، سنة 1436ه ـ 2015 م.
- ((البحر المحيط في التفسير)) لأبي حيان الأندلسي (8/21-22).
- أبو محمد عبد الله ابن مسلم ابن قتيبة الدينوري: عيون الأخبار، محمد مندر أبو سعيد أبو شيعر،ج1 ط ، 1429ه/ 2008م.
- رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن هانئ بن نيار أبو بردة: 1126.
- مجموعة من المؤلفين: معجم السرديات، إشراف محمد القاضي، دار محمد علي للنشر- تونس. ط1 2010.
- محمد بن عبد العظيم بنعزوز : قصة عبد النور بين الاستخفاء والظهور( دراسة لقضايا الفضاء في السرد العربي القديم )، النادي الأدبي بالرياض،ط1، 1428ه/ 2007م.
- محمد بن عبد العظيم بنعزوز: الغرابة بين التلقي والدلالة في السرد العربي القديم، مؤسسة اليمامة، الرياض، الطبعة واحد، 1430ه/2009م.
- محمد بن عبد العظيم بنعزوز: معجم مصطلحات الأدب الاسلامي، دار النحوي ، الرياض ، ط 1،1427ه/2006م.
- محمد متولي الشعراوي، تفسير الشعراوي، د.ط، مطابع أخبار اليوم، سنة 1997، ج 3 .
الندوي، أ. د. محمد لقمان الأعظمي، دراسات تربوية في الاحاديث النبوية، مكتبة العبيكان ط1 الرياض 1997
- محمد بن عبد العظيم بنعزوز، قصة عبد النور بين الاستخفاء والظهور 10. ↑
- محمد القاضي، معجم السرديات، ص271. ↑
- 3 هو ثاني الخلفاء الراشدين وأحد المبشرين بالجنة وواحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم المقربين، كان معروفا بالعدل في الحكم وفي الحياة، و من ذلك دوره في هذا النص، بحيث ما أن رأى كثرة أموال أبي هريرة حتى سأله: من أين لكهذا المال؟ توفي سنة 23 هجرية. ↑
- 4 صحابي محدث وفقيه وحافظ أسلم سنة 7 هـ، ولزم النبي محمداً، وحفظ الحديث عنه، حتى أصبح أكثر الصحابة روايةً وحفظًا للحديث النبوي. لسعة حفظ أبي هريرة، التفّ حوله العديد من الصحابة والتابعين من طلبة الحديث النبوي الذين قدّر البخاري عددهم بأنهم جاوزوا الثمانمائة ممن رووا عن أبي هريرة. كما يعد أبو هريرة واحدًا من أعلام قُرّاء الحجاز، حيث تلقّى القرآن عن النبي محمد، وعرضه على أبي بن كعب، وأخذ عنه عبد الرحمن بن هرمز. تولى أبو هريرة ولاية البحرين في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، كمل تولى إمارة المدينة من سنة 40 هـ حتى سنة 41 هـ. وبعدها لزم المدينة المنورة يُعلّم الناس الحديث النبوي، ويُفتيهم في أمور دينهم، حتى وفاته سنة 59 هـ. ↑
- محمد بن عبد العظيم بنعزوز، معجم مصطلحات الأدب الاسلامي ،ص7. ↑
- محمد بن عبد العظيم بنعزوز: الغرابة بين التلقي والدلالة، ص53. ↑
- سورية يوسف: 53 ↑
- سورة الجمعة: 9-10 ↑
- الندوي، أ. د. محمد لقمان الأعظمي، دراسات تربوية في الاحاديث النبوية، مكتبة العبيكان ط1 الرياض 1997 ص329 ↑
- العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري بشرح البخاري، تحقيق عبد القادر شيبة الحمد، مكتبة الملك فهد الوطنية ج9 الرياض 1996 ص317 ↑
- – لسان العرب، لابن منظور، مادة(سنن)، 13/225. مختار الصحاح، لأبي بكر الرازي، مادة(سنن)، ص 143. ↑
- ـ محمد متولي الشعراوي، تفسير الشعراوي، د.ط، مطابع أخبار اليوم، سنة 1997، ج 3 ص 1763 ↑
- ـ رشيد كهوس، علم السنن الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، الطبعة الأولى، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث دبي، سنة 1436ه ـ 2015 م، ص 22. ↑
- سورة النور: 12 ↑
- ((البحر المحيط في التفسير)) لأبي حيان الأندلسي (8/21-22). ↑
- محمد: 31 ↑
- ال عمران: 179 ↑
- ال عمران: 154 ↑
- النور: 55 ↑
- الحجرات: 12 ↑
- (الزواجر عن اقتراف الكبائر)) للهيتمي (2/9). ↑
- آل عمران: 14 ↑
- يس: 72 ↑
- الروم: 37 ↑
- الجمعة: 10 ↑
- رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن هانئ بن نيار أبو بردة: 1126 ↑
-
الثلاث والاثنتان هي الخلال التي سيذكرها، ولم يقل خمسا لأن الخلتين الأولتين من الحق عليه فخاف أن يضيعه ، والخلال الثلاث من الحق له ، فخاف أن يضيعه ، والخلال الثلاث من الحق له، فخاف أن يظلم ، فلذلك فرقها. ↑