الصمت الفلسفي، نقاش حول إمكانه، صمت الغزالي وأفلوطين نموذجا

تنزيل الملف

ياسين مقنيعي1

1 باحث بقسم الدكتوراه، جامعة ابن طفيل، المغرب.

بريد الكتروني: Mokniiyassine@gmail.com

HNSJ, 2021, 2(10); https://doi.org/10.53796/hnsj21029

تاريخ النشر: 01/10/2021م تاريخ القبول: 25/09/2021م

المستخلص

يقارب الصمت الفلسفي كالذي عند الغزالي وأفلوطين، للأسف في الساحة العلمية اليوم كأنه جذب صوفي غامض وأنه عجز للعظمة الهاجمة على الفيلسوف، وهكذا بتسديج تام لا يتم التوغل في الأسباب الفلسفية العميقة لهذا الموقف والبراهين المستعملة في تأكيده…ويكتسي مفهوم الصمت اليوم راهينة قصوى عبر ما تثيره مرة بعض مرة نصوص فيتجنشتاين حوله التي لم تمت بعد والتي تؤسس لفلسفة برمتها أقصد الوضعية المنطقية وغيرها… مما دعا الباحث إلى نقاش هذا المفهوم القديم، أسبابه الفلسفية المعلنة وغير المعلنة والنظر فيما ينتهي إليه موقف كهذا فلسفيا، ويمكن أن يكون هذا المقال مقدمة للمقارنة بين مفهوم الصمت في الفلسفة القديمة والمعاصرة، وربما تكون الدوافع قريبة للغاية على ما يبدو لي. والسؤال المباشر الملخص للمقال هو: هل الصمت ممكن فلسفيا، هل يمكننا أن نصمت ؟

الكلمات المفتاحية: الصمت، الفلسفة، الغزالي ، أفلوطين، الإمكان .

Research Article

Philosophical silence, a discussion about its possibility, the silence of Al-Ghazali and Plotinus as a model

Yassin Moqnaei1

1 Researcher, PhD Department, Ibn Tofail University, Morocco.

Email: Mokniiyassine@gmail.com

HNSJ, 2021, 2(10); https://doi.org/10.53796/hnsj21029

Published at 01/10/2021 Accepted at 25/09/2021

Abstract

The philosophical silence approche for Al ghazali and plotinus unfortunately in the scientific arena today, it is as if a mysterious mystical irrational and an inability for the greatness attacking the philosopher, and so with complete ease we do not delve into the deep philosophical reasons for This position and the evidence used to confirm it. Today the concept of silence is of the utmost importance through what it evokes from time to time in wittgenstein’s texts a out it, which have not yet died and which establish a whole philosophy, i mean logical positivism, which prompted the researcher to discuss this old concept, its stated and unstated philosophical reasons, and to consider what such a position ends to philosophically. This article can be an introduction to the comparison between the concept of silence in ancient and contemporary philosophy, the motives may be very close as it seems to me . The immediate question that summarizes the artical is, is silence possible philosophically, can we be silent ?

مقدمة:

عادة ما يحاط الصمت بجلال وربما بمأساة …التحديق مطولا إلى السماء ثم التلعثم وسقوط بعض الدمعات …وكأنه بين الوجود والعدم وكأنه وجود يكاد …البين المنطوق واللامنطوق …المعروف جدا هو عينه الذي تستحيل في حقه ليس العبارة بل حتى الإشارة …لكن كما قال فيتجشتاين المتأخر متشككا من المتقدم: وكأنه يمكن خرق قانون التناقض والثالث المرفوع وكأنه يمكن ذلك مادام أننا نعي أننا ننظر للعالم منه فمعرفة ذلك الإطار وكأنه قدرة للخروج عنه والنظر من جانبه ويستمد فيتجنشتين فكرته من كون أنه لولم يكن ذلك ممكنا لما طرأت فكرته(خرق التناقض) لما استطعنا أن نعي أننا نفكر من خلال إطار معين[1] … لكن هذا البين بين هاته الحالة الغريبة التي هي وجود (يكاد) أو بين الوجود والعدم هاته المأساة يضربها فيتجنشتين الأول بعبارة باردة قاتلة: إنه لا يمكن أن تفكر خارج المنطق إلا عن طريق المنطق نفسه[2].

لكن لما أمكن تصور إمكان ذلك ؟ إنه كالصمت وجود (يكاد) كتلك الصورة من التعبير الغريب التي تقول: إنه على طرف لساني لكني نسيته[3]…إني (أعرفه لكن نسيته !) هاته الحالة بالضبط البين بين، ما هي؟ كيف يلتقي معرفة ونسيان في شيء واحد؟ كيف تعرف ما أنت نسي له في نفس اللحظة ؟

يمكن استحضار سبينوزا هنا والقول أن ذلك مجرد تفكير مختلط مشوش وهو تضارب بين تأثيرين لفكريتين من نفس القوة[4] كحب فتاة لجمالها وكرهها لأخلاقها…هاته الحالة التي تفرض الحيرة في هل يحبها أو يكرهها أو ما هو شعوره بالتحديد لها…؟ أما هيجل فإنه سيقتل هذا الشعور مطلقا بقوله أنه كل ما لا يمكن التعبير عنه في مفهوم واضح، فإنه غير معروف أصلا وهو مجرد وهم أو شعور وجداني خافت ليس بقوة العقل أو المفهوم [5]…الشيء نفسه وبنوع من التحدي لذا فيتجنشتاين المتأخر في تناقض كما نرى أو تشكك مما تقدمنا وتكلمنا عنه وهو الإشعار بالقدرة على الخروج عن القوانين الصورية مادام يطرأ علينا أننا نفكر من خلالها ففيتجنشتاين يعلن بحسم أنه لا يمكن التفكير أصلا من غير لغة وحتى التفكير الباطني هو عن طريق لغة[6]

إنني لا أدري ما صحت ذلك لكن عند القراءة لفيتجنشتاين الأول وكذلك الثاني نفسه، لكن فلنبقى مع الأول الآن والتركيز على فكرة: “كل ما لا يمكن التعبير عنه يجب اتخاذ الصمت حياله”. ألا توحي هاته العبارة بأنه هناك ما يمكن التفكير فيه لكن لا يمكن التعبير عنه …؟ ألا توحي بأنه الصمت هنا حالة (سريالية)…إنه أسف وألم إنه نعم تحمل للألم، فتنة التعبير…فعادة ما يكون الكلام دعوة للراحة والإرتياح من عبء مكنون فيعبر عنه ليتخلص منه، فيقول أحدهم: (إنه لن يكون ذلك الألم الذي أشعر به في صدري إلا نتاج عن حساسية عابرة)، هروبا من احتمال آخر وهو سرطان رئة…إنه يعبر عنه ليحسم فيه لينهي الإحتمال …ليكف الصمت…لكن الصمت دوام الإحتمال دوام الألم …وتحمل له، إنه قدرة مرعبة وتضحية تامة…

لكن إذا كان الصمت تحمل للأسف من أجل أن يبقى المعنى فإنه دلالة على وجود معنى! بل على أن المعنى الذي سينطق به على الأقل له قدرة على تدمير معنى موجود حالا ومتداول…إن صمت فيتجنشتين في نظري هو لدوام الألم والشعور به بدل أن يصبح مبتدلا ومتجاوزا إذا عبرنا عنه وارتحنا منه.

سأكف عن الإطالة فيما تقدم لندخل إلى مبرارات الصمت عندن أفلوطين والغزالي:

إن الغزالي وكذلك أفلوطين يظهران حالة من البين بين مرعبة، توسط مأساوي …إن الغزالي جسده فعليا لمدة دامت عشر سنوات هجر فيها كل الجاه والمكانة العلمية وأهله…لقد أسف حتى جف حلقه ولم يستطع إمرار الطعام لكنه بعدها تكلم ودون لكن بشكل أساسي عن (ضرورة الصمت) أو تكلم لنفي الكلام !

يبرر الغزالي صمته ويظهر تناقضا عاليا في غير الصمت بعدة طرق وأشارات:

أحدها التفرقة الشائعة بين الحسي والعقلي…إن الحسي كما يبرهن عليه هو خلفه العقلي ولابد ويظهر ذلك في عديد من المواطن وبالعموم فإنه يصحح الحسي ويضبطه ويدرك الثبات والدوام عبر تجديره عبر إدراكه الكليات بل إن الحسي لا يكون صحيحا إلا به كمن رأى الشمس في حجم قرص وظنها كذلك لولا تدخل الرياضي. إنه بينما الحسي محدود جامد فإن العقلي يولد بعضه بعضا وغير محدود وسمته العليا التجاوز…المهم أنه وكفتجنشتاين المتأخر هنا شعر بالقدرة في الخروج عن الظاهر وكما أنه كشف زيف الظاهر بتوسط الذات وعلم أن قرص الشمس أكبر من حجم درهم فإنه كذلك علم أنه فوق العقل نفسه طورا من التجريد هو الآخر، يقول الغزالي: “العقل إذا تجرد عن غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط ،بل يرى الأشياء على ما هي عليه، وفي تجريده عسر عظيم. وإنما يكمل تجرده عن هذه النوازع بعد الموت ، وعند ذلك ينكشف الغطاء وتتجلى الأسرار ويصادف كل أحد ما قدم من خير أو شر محضرا… وإنما الغطاء الخيال والوهم وغيرهما”.  [7]

ويقول: ” والتحقيق بالبرهان علم ، وملابسة عين تلك الحالة ذوق، والقبول من السامع بالتجربة ، والتجربة وحسن الظن إيمان..وعلى الجملة : فالأنبياء عليهم السلام أطباء أمراض القلب، وإنما فائدة العقل وتصرفه أن عرفنا ذلك، وشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز عن درك ما يدرك بعين النبوة، وأخذ بأيدينا وسلمنا إليها تسليم العميان إلى القائدين، وتسليم المرضى المتحيرين إلى الأطباء المشفقين. فإلى هاهنا مجرى العقل وعطاءه وهو معزول عما بعد ذاك إلا عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه.. فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة، في مدة الخلوة والعزلة.”[8]

لكن للأسف كل تعبير عن المطلق هو من داخل إطار في أعلاه تجريد عقلي أو أسوء: تخيل وحس وهمي، يقول الغزالي يمكن تصور تفرد هذا النوع من الوجود.. بتصور فكرة لا مثيل لها قطعا في أي من الوجود أمامنا الآن وهي فكرة شيء وجوده واجب بذاته .

إنه متفرد بهذا الأمر، إنه تصور لا يوجد له نظير: “والخاصية الإلهية أنه الموجود الواجب الوجود بذاته، الذي عنه يوجد كل ما في الإمكان وجوده، على أحسن وجوه النظام والكمال. وهذه الخاصية لا يتصور فيها مشاركة البتة، والمماثلة بها لا تحصل.”[9]

لكن المأساوي عند الغزالي أنه كل تعبير عنه ككونه عليم وسميع هو مبني على مخاطرة فإنه أولا الإسم مشتق من الفعل…والفعل الإلهي عظيم بدرجة لا يمكن أن يحيط بها أحدنا ففعله كما نرى متكثر في الطبيعة فكيف سيعلم أحدنا فعله المطلق ليعلم ما اشتق منه إسمه.

يقول: “الأسامي المشتقة من الأفعال لا تفهم إلا بعد فهم الأفعال، وكل ما في الوجود من أفعال الله تعالى. ومن لم يحط علما بتفاصيلها ولا بجملتها، فلا يكون معه منها إلا محض التفسير واللغة. ولا مطمع في العلم بتفصيلها، فإنه لا نهاية له.”[10]

بل إن كل وصف له هو إسقاط منا عليه يقول: “وبالجملة فلا يدرك الإنسان إلا نفسه وصفات نفسه مما هي حاضرة له في الحال أو مما كانت له من قبل ثم بالمقايسة إليه يفهم ذلك لغيره، ثم يصدق بأن بينهما تفاوتا في الشرف والكمال فليس في قوة البشر إلا أن يثبت لله تعالى ما هو ثابت لنفسه من الفعل والعلم والقدرة وغيرها من الصفات مع التصديق أن ذلك أكمل وأشرف، فيكون معظم تحريمه على صفات نفسه لا على ما اختص الرب تعالى به من الجلال.”[11]

ويقول: “هو المنزه عن كل وصف يدركه حس، أو يتصوره خيال، أو يسبق إليه وهم، أو يختلج به ضمير، أو يقضي به تفكير.. بل أقول: القدوس هو المنزه عن كل وصف من أوصاف الكمال الذي يظنه أكثر الخلق كمالا في حقه. لأن الخلق أولا نظروا إلى أنفسهم وعرفوا صفاتهم، وأدركوا انقسامها إلى ما هو كمال، ولكنه في حقهم، مثل علمه وقدرتهم وسمعهم وبصرهم وكلامهم وإرادتهم واختيارهم، ووضعوا هذه الألفاظ بإزاء هذه المعاني، وقالوا: إن هذه هي أسماء، وإلى ما هو نقص في حقهم، مثل جهلهم وعجزهم وعماهم وصممهم وخرسهم، فوضعوا بإزاء هذه المعاني هذه الألفاظ.

ثم كان غايتهم في الثناء على الله تعالى ووصفه بما هو أوصاف كمالهم، من علم وقدرة وسمع وبصر وكلام، وأن نفوا عنه ما هو أوصاف نقصهم. والله سبحانه وتعالى، منزه عن أوصاف كمالهم كما أنه منزه عن أوصاف نقصهم، بل كل صفة تتصور للخلق، فهو منزه ومقدس عنها وعما يشبهها ويماثلها. ولولا ورود الرخصة والإذن بإطلاقها لم يجز إطلاق أكثرها. وقد فهمت معنى هذا في الفصل الرابع من فصول المقدمات، فلا حاجة إلى الإعادة”.[12]

بل إن كل إسم هو موضوع أولا لموضوع حسي ثم ينقل إلى غيره: “العظيم: إعلم أن إسم العظيم في أول الوضع إنما أطلق على الأجسام. يقال: هذا جسم عظيم، وهذا الجسم أعظم من ذلك الجسم، إذا كان امتداد مساحته في الطول والعرض والعمق أكثر منه.”[13]

بل إن الغزالي خط قاعدة كبيرة وهي أنه الإسم ليس هو المسمى أصلا وإنما هو دلالة عليه وأنه يختلف الإسم عن المسمى في كل شيء وأنه ليس هو هو فمثلا قد يسمى أحدهم كريما وهو بخيل…ولأن الإسم يطرأ على المسمى ويوضع له كفعل حادث بعد تحقق المسمى…ولأنه الإسم معناه خارجه وهو دلالته على المسمى ليس إلا، فهو مجرد رمز واصطلاح..

أما الأول فقال فيه: “بل تسميتنا الولد قاسما وجامعا لا يدل على أنه موصوف بمعاني هذه الأسماء، بل دلالة هذه الأسماء.”[14]

ويقول عن الثاني والثالث : ” الإسم له دلالة ومدلول وهو المسمى ووضعه فعل مختار.”[15]

وكل وصف له هو ليس إلا إضافة أو سلب أي يسمى بما فعله في غيره ومنحه او باعتبار علاقته بغيره فإنه يوصف (اولا) لأنه يوجد ثاني وهكذا…

لكن الغريب أن الغزالي في نفس الكتاب تجره حالة عنيفة أخرى وغيرة تامة أن يكون أحد غير الله متحقق في الوجود حتى يقول :” فاعلم أنك إذا أشرت إلى نور الشمس فكأنما أشرت إلى الشمس، ولا إشارة إلى نور الشمس بل إلى الشمس. فكل ما في الوجود فنسبته إليه في ظاهر المثال كنسبة النور إلى الشمس. فإذن لا إله إلا الله توحيد العوام، ولا إله إلا هو توحيد الخواص، لأن هذا أعم، وأخص ، وأشمل، وأحق، وأدق، وأدخل بصاحبه في الفردانية المحضة، والوحدانية الصرفة، ومنتهى معراج الخلائق مملكة الفردانية. وليس وراء ذلك مرقى، إذ الترقي لا يتصور إلا بكثرة، فإنه نوع إضافة يستدعي ما منه الإرتقاء وما إليه الإرتقاء. وإذا ارتفعت الكثرة حقت الوحدة، وبطلت الإضافات، وطاحت الإشارات، ولم يبق علو ولا سفل، ولا نازل ولا مرتفع: واستحال الترقي واستحال العروج. فليس وراء الأعلى علو ولا مع الوحدة الكثرة، ولا مع انتفاء الكثرة عروج.”[16]

وكأنه يظهر له من ذلك الصمت التعطيل ومزاحمة الله في وجوده…فإنه يذهب أخرى إلى أنه وحده الله من يرى لكن هناك رؤية القلب ورؤية البصيرة لكن المأساوي مرة أخرى أن بينما رؤية البصيرة (معنى) فإنه لا يمكن التعبير عنه إلا بخيال وتمثيل فهو حبيس الصدر “يكون المعنى سابقا إلى المشاهدة الباطنة ثم يشرق منها على الروح الخيالي فينطبع الخيال بصورة موازنة للمعنى محاكية له”.[17]

ويضرب لذلك تمثيلا بديعا وأنه كما الأشياء لا ترى إلا بالنور وبغيرها تصبح عدما لأن الوجود ظهور …فإنه الله نور السماوات والأرض لكن أمكن التعبير عن النور الحسي لأنه يعرف التمييز بينه وبين غيره عندما ينصرف النور… لكن الله لو تميز فإن معناه انهاير العالم لأنه يحفظه ببقائه ولأنه ليس له ضد والمعرفة ضد وتمييز…ولأن(فعله في الحقيقة واحد) فإنه لا يتميز أيضا ومن ذلك كان لشدة ظهوره مخفي، وكما أنه النور الحسي لشدة ضيائه وظهوره لايكاد يتميز وجوده عن الأشياء المضاءة به إلا عند طريق انصرافه…فكذلك المطلق

لكن مع ذلك ومادام هو أصل كل شيء في وجوده وبقائه فإنه وحده الموجود لأن كل شيء زائل في ذاته ومرتبط ظهوره بإنارة خالقه فهو في ذاته لا شيء سوى إظهار لخالقه…فإنه عند تمحص رؤيته لا يظهر سوى الله بل لا يرى إلا بالله.

يقول: ” فإذا قد عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شيء للبصر بالنور الظاهر، فقد ظهر كل شيء للبصيرة الباطنة بالله. فهو مع كل شيء لا يفارقه ثم يظهر كل شيء، كما أن النور مع كل شيء وبه يظهر. ولكن بقي ها هنا تفاوت: وهو أن النور الظاهر يتصور أن يغيب بغروب الشمس ويحجب حتى يظهر الظل، وأما النور الإلهي الذي به يظهر كل شيء ولا يتصور غيبته بل يستحيل تغيره. فيبقى مع الأشياء دائما، فانقطع طريق الإستدلال بالتفرقة. ولو تصورت غيبته لانهدت السموات والأرض، ولأدرك به من التفرقة. ولو تصورت غيبته لانهدت السماوات والأرض، ولأدرك به من التفرقة ما يضطر معه إلى المعرفة بما به ظهرت الأشياء. ولكن لما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة على وحدانيته خالقها إذ كل شيء يسبح بمحده لا بعض الأشياء، وفي جميع الأوقات لا في بعض الأوقات، ارتفعت المعرفة وخفي الطريق: إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد، فما لا ضد له ولا تغير له بتشابه الأحوال في الشهادة له، فلا يبعد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة جلائه والغفلة عنه لإشراق ضيائه. فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره، واحتجب عنهم لإشراق نوره.”[18]

لكن عند التعبير عنه كما نرى يخفى، وبينما نتجاوز العالم إليه لا يمكن تجاوزه هو فينعدم عند الوصول إليه ما بعده، وما إليه وما منه تنهار النسب والإضافات والأمكنة والأزمنة .. وكل هاته الأشياء هي وسيلتنا الوحيدة للتعبير كما نرى …إنه لشدة ظهوره يخفى …

لكن يعود الغزالي ليدرك أن مجرد إثبات الشخص العارف فإنه إثبات لثنائية، وجودين، فيقول بطريقة مجازية غامضة أنه بينما ليس هناك علو فوق علو فإنه هناك نزول فيكون هو سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به أي المطلق .. أما الظاهر من استدلاله بهذا الحديث بهاته الطريقة هو الإتحاد…

يقول:” فليس وراء الأعلى علو ولا مع الوحدة الكثرة، ولا مع انتفاء الكثرة عروج. فإن كان من تغير حال. فالنزول إلى سماء الدنيا: أعنى : بالإشراف من علو إلى سفل لأن الأعلى له أسفل وليس له أعلى. فهذه غاية الغايات ومنتهى الطلبات: يعلمه من يعلمه، وينكره من يجهله، وهو من العلم الذي هو كهيئة المكنون الذي لا يعلمه إلا العلماء بالله. فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله…قال هذا المستغرق بالفردانية أيضا له نزول إلى السماء الدنيا: فإن ذلك هو نزوله إلى استعمال الحواس أو تحريك الاعضاء. وإليه الإشارة بقوله: صرت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به فإذا كان هو سمعه وبصره ولسانه، فهو السامع والباصر والناطق إذن لا غيره، وإليه الإشارة بقوله: مرضت فلم تعدني. الحديث”[19]

أما الاتحاد أو الحلول فإن الغزالي يستشنعه…لذلك فإنه ليس هناك حلول للمشاكل العقلية التي يثيرها وليس هناك وجودين وليس هناك قدرة على التعبير…فالصمت هو الحل الوحيد. أو التلاشي المطلق للذات .

يقول: “وإنما الواصلون صنف رابع تجل لهم أيضا أن هذا (المطاع) موصوف بصفة تنافي الوحدانية المحضة، والكمال البالغ ليس يحتمل هذا الكتاب كشفه: وأن نسبة هذا (المطاع) نسبة الشمس إلى الأنوار. فتوجهوا من الذي يحرك السموات ومن الذي يحرك الجرم الأقصى، ومن الذي أمر بتحريكها-(قلت: يقصد نفي كل وصف إلهي وإن تناقض وأثبت ما سيأتي مباشرة !)- إلى الذي فطر السموات وفطر الجرم الأقصى، وفطر الآمر بتحريكها، فوصلوا إلى موجود منزه عن كل ما أدركه بصر من قبلهم، فأحرقت سبحات وجهه الأول الأعلى جميع ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم إذا وجدوه مقدسا منزها عن جميع ما وصفناه من قبل.

ثم هؤلاء انقسموا فمنهم من احترق منه جميع ما أدركه بصره، وانمحق وتلاشى، لكن بقي هو ملاحظا للجمال والقدس وملاحظا ذاته في جماله الذي ناله بالوصول إلى الحضرة الإلهية. فانمحقت منهم المبصرات دون المبصر. وجاوز هؤلاء طائفة هم خواص الخواص فأحرقتهم سبحات وجهه وغشيهم سلطان الجلال فانمحقوا وتلاشوا في ذواتهم ولم يبق لهم لحظات إلى أنفسهم لفنائهم عن أنفسهم. ولم يبق إلا الواحد الحق. وصار معنى قوله:( كل شيء هالك إلا وجهه) لهم ذوقا وحالا. وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول، وذكرنا أنهم كيف أطلقوا الإتحاد وكيف ظنوه. فهذه نهاية الواصلين .

ومنهم: من لم يتدرج في هذا الترقي والعروج على التفصيل الذي ذكرناه ولم يطل عليهم الطريق فسبقوا في أول وهلة إلى معرفة القدس وتنزيه الربوبية عن كل ما يجب تنزيهه عنه، فغلب عليهم أولا ما غلب على الآخرين آخرا، وهجم عليهم التجلي دفعة فأحرقت سبحات وجهه جميع ما يمكن أن يدركه بصر حسي وبصيرة عقلية. ويشبه أن يكون الأول : طريق الخليل إبراهيم عليه السلام والثاني طريق الحبيب صلى الله عليه وسلم والله أعلم بأسرار أقدامهما وأنوار مقامهما.”[20]

ويقول: “ومن أول الطريقة تبتدأ المكاشفات والمشاهدات، حتى أنهم وهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة ، وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد. ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها (نطاق النطق)، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز منه. وعلى الجملة ينتهي الأمر إلى قرب، يكاد يتخيل منه طائفة الحلول، وطائفة الإتحاد وطائفة الوصول، وكل ذلك خطأ.”[21]

أما التفكير الأفلوطيني فليس ببعيد عن الأسلوب الغزالي في التفكير فانه يصر في البرهنة على ضرورة الصمت كالتالي:

  1. كل شيء حقيقي وكماله في كونه واحد. يقول: “لم يكن الجيش حقا إلا بوحدته”[22]، ويقول:” المقادير المتصلة لن تكون حقا ما لم تضمن لها الوحدة”[23]، ويقول:” فالأقل حظا من الحق أقل حظا من الوحدة والأكثر حظا منه أكثر حظا منها.” [24]
  2. لا شيء من الجزئيات بواحد لأنه يمكن التمييز بينه وبين وحدته يقول : “الإنسان هو على الأقل حيوان ناطق وأجزاء أخرى كثيرة وهي أشياء تضبط بالوحدة فيكون الإنسان شيئا (والواحد شيئا آخر) مادام الأول يتجزأ والآخر لا يتجزأ ثم إن الحق الكلي منطوق في ذاته على الحقائق كلها فهو بأن يكون كثرة أحرى فيمسي مختلفا عن الواحد ولا يشتمل عليه إلا بمعنى أنه يصيب منه بالإشتراك.”[25]
  3. الواحد الجزئي في أحسن أحواله الوحدة فيه عارضة. يقول: “فليس الجسم والواحد شيئا واحدا إنما يصيب الجسم حظه من الوحدة”[26]، ويقول: “إن هذه النفس الواحدة هي ذات كثرة ولم تكن مؤلفة من أجزاء، فالقوة فيها متعددة كالقوة على التفكير، والقوة على الرغبة والقوة على الإدراك يضم الواحد بعضها إلى بعض وكأنه يقيدها، إن النفس بكونها واحدة ذاتها تصير غيرها واحدا في ذاته إذا، لكنها تتلقى الوحدة من غيرها هي أيضا.”[27]
  4. الواحد بحق لا يمكن التمييز بينه وبين حتى ذاته.
  5. إذن كل وصف للواحد هو تكثير فيه وخرق لوحدته. فينفى من ذلك كونه عارف وكونه خير، أما عن الأول فقال: “…أما الذي كان وحده فلا يعرف شيئا ولا يقابله مجهول وما دام واحدا وحده …فينفى عنه العرفان.”[28] ويقول حول الثاني: “…يجب ألا يوصف بأنه الخير الذي يمد به غيره بل هو من وجه آخر الخير الذي كان فوق كل خير سواه”. [29]
  6. لكن قد كان عنوان كلامنا وتمييزنا بين المطلق وغيره هو هذا أقصد (الوصف بكونه واحد)! بل الواحد ضروري لوجود أي شيء إذ كما قلنا لايكون الشيء إلا بإضافة الوحدة إليه من الخارج. يقول: “لابد لذي الكثرة من الأجزاء التي بقدرها كان ثم إن كل جزء من الأجزاء التي ينطوي عليها مرتبط بالأجزاء الأخرى، فيحتاج إليها ولا يقوم في ذاته، فيبدو ذو الكثرة ناقصا في أجزائه وكلا به وما دمنا نحتاج إلى شيء يقوم أشد ما يكون اكتفاء بذاته وجب أن يستوي الواحد وحده لا يحتاج إلى ما كان عليه في ذاته ولا إلى غيره فإنه لا يطلب شيئا ليقوم به أو ليقوم عليه.”[30]
  7. إذن يعود أفلوطين فيقول أن قولنا واحد مجاز ليستقيم القول فقط … :” لا يليق به إسم مهما نتحر الصحة فيما نقول. ولكن لابد من تسمية فأجمع الرأي على أن الإسم الذي هو الواحد من غير أن يكون شيئا ثم يمسي ذلك الشيء واحدا، ولذلك صعبت معرفته.”[31] أو إنه طريق لشد الإنتباه إليه كسلم فيتجنشتاين الذي يجب التخلي عنه عند الوصول! يقول: ” ولكنا نقول ونكتب لنبعث إليه ونحول الإنتباه من المعاني إلى المشاهدة…إنما غرض العلم معرفة الطريق والسير فيها أما المشاهدة فهي عمل من يبتغيها بذاته.”[32]
  8. إن كل فكرة حوله هي تكثير له لأنه لا صو ة له.
  9. العقل والعرفان لايدرك بهما الواحد لما تقدم. يقول: “والمشكلة في هذا الأمر على أشد ما تكون لأنه لا يدرك بالعلم أو بالعرفان كما هو شأن الأمور الروحانية بل بحضور هو وراء العلم وفوقه.”[33] ويقول: “إن النفس تشعر ببعد الشقة بينها وبين كونها واحدة في ذاتها، ولا تتوحد في ذاتها توحدا تاما عندما تدرك بالعلم شيئا. فالعلم عقل والعقل ذو كثرة فتعقل على الواحد وتقع في العدد والكثرة.”[34]
  10. هناك حل واحد هو أن يكون الإدراك أولا لا يتميز منه مدرك بمدرك، ويعبر عنه مرة بمشاهدة باطنية لأن كل مشاهدة حسية أو عقلية هي تكثير له ونظر إليه من الخارج. يقول: “وإذا تحرينا الدقة في قولنا لم نقل عنه إنه هذا أو ذاك بل إنا نريد حينئذ أن نعبر عما نشعر به إذ نصبح وكأنا نحيط به من الخارج عن كثب تارة وعن بعد طورا بسبب المشكلات التي تتعلق به.”[35]
  11. إذن هو اتحاد كامل عند الإدراك أو يدرك بذاته أو يدرك بكونه المدرك هو هو. يقول: “ولكن النفس إن أرادت أن ترى هي بذاتها وما هي لا ترى إلا بالإتحاد ولا تتوحد إلا بكونها أمرا قائما في الوحدة، فإنها تكاد تظن ما تبحث عنه منفلتا منها لأنها لا تختلف في ذاتها عما تعرفه. ومع ذاك فإن من كان شأنه أن يبحث بحثا فلسفيا ينبغي له أن يسير على هذا المنهج.”[36]
  12. لكن هنا يعود مشكل مرة أخرى إذ يصير هنا مادة معروفة وهو هنا في اضطراب كبير يقول أفلوطين إنها هي هو، مجرد نظر إليه أزلي…إننا لا نكون إلا عندما نتوجه إليه أي نحن غير موجودين أصلا عندما نكون غيرا له، أما وإذا اتحدنا لا تعود هاته التفرقة حتى. يقول: “أما هو فيكون حاضرا دائما لأنه ينطوي على غيرية أما نحن فنكون حاضرين عندما لا ننطوي على غيرية”[37]، ويقول: “في هذه الرقصة تشاهد النفس معين الحياة ومعين الروح وأصل الحق وسببه الخير وجذورها هي ذاتها على أن هذه الأمور لاتندلع منه اندلاعا فتنقصه إذ إنها ليست حجما وإلا لكانت مبدعاته فاسدة، فإنها أزلية لأن أصلها يبقى متساوية أحواله لا يتجزأ إليها بل يبقى على حاله كلا، ولذلك كانت تلك الأمور باقية كما أن النور باق مادامت الشمس باقية فإنه ليس بيننا وبينه انفصام ولا انفصال ولو تسللت طبيعة الجسد إلينا فأخذت تجذبنا إليها.”[38]
  13. إذن وجودنا عدم في الحالين.
  14. لكن أفلوطين يحقق العبارة بقوله إنه ليس عدم لأنه مجرد رجوع إلى الذات، يقول: “وذلك هو الأصل لها والغاية أما الأصل فلأنها من هناك جاءت وأما الغاية فلأن الخير ماثل هنالك فإذا أصبحت هنالك عادت إلى ما كانت عليه في ذاتها.”[39]
  15. ثم مرة أخرى يتردد في هذا الإتحاد المطلق يقول هنا مقرا بالإنفصال: “مادامت النفس أمرا ليس الإله وكانت من الإله منبعثة فهي تعشقه لا محالة.”[40]ويصف الإتحاد بأنه غلو يقول: ” ليس الطرفان أمرا واحدا لما في هذا القول من غلو.”[41] ولكنه مجرد مطابقة بين الشاهد والمشاهد، يستحيل فيها افتراق ومرة أخرة يقول أنه لايمكن التعبير عن هاته الحالة وتلخيصه: أنه لا يدرك وإلا نحن لسنا نحن أو أنه اللحظة التي لا يرى فيها اختلافه عنا لأنه كل ما تقدم يفيد كثرة…إذن كما قال: “ولذلك كانت المشاهدة شيئا يصعب علينا وصفه.فكيف يسعنا أن نصفه بأنه يختلف عنا ونحن لا نراه عندما شاهدناه، على أنه شيء يختلف عنا بل على أنه مع ما نحن عليه في ذواتنا أمرا واحدا؟ [42]. ويقول :”…ولذلك يقول أفلاطون فيه إنه لا يدل عليه بالقول أو بالكتابة”.[43] ويقول: “بل ينبغي لك أن تجهل الأشياء كلها في حال علاقتها بنا أولا ثم من بعد في مثلها وأن تجهل أنك أنت في مشاهدته قائم”[44]، ويقول: “في هذه الرقصة تشاهد النفس معين الحياة ومعين الروح وأصل الحق وسببه الخير وجذورها هي ذاتها على أن هذه الأمور لا تندلع منه اندلاعا فتنقصه إذ إنها ليست حجما وإلا لكانت مبدعاته فاسدة، فإنها أزلية لأن أصلها يبقى متساوية أحواله لا يتجزأ إليها بل يبقى على حاله كلا، ولذلك كانت تلك الأمور باقية كما أن النور باق مادامت الشمس باقية فإنه ليس بيننا وبينه انفصام ولا انفصال ولو تسللت طبيعة الجسد إلينا فأخذت تجذبنا إليها.”[45]

يظهر لي بشكل صريح أن الصمت المدافع عنه فيما تقدم ليس هو الصمت الحقيقي إنه صمت زائف أو كلام متناقض وتصور متناقض، يحاول الفيلسوفان المتقدمان التغطية عليه بإظهاره كنوع من الجلال الذي يعجز عنه اللسان …لكن وفي الحقيقة فإن الصمت المتقدم هو إكراه فلسفي تتفلت منه اللغة باعتبارها معيارا عقليا كما قال هيجل وكذلك فيتجنشتاين …إن اللغة صارمة بقدر لايمكنك معها أن تجمع المتناقض دون أن تفضحه وهذا طبعا ضد فيتجنشتاين المتأخر الذي يجعل اللغة لعبة مطلقة ،كلا بتاتا…

وهنا الإكراه الخفي الفلسفي الدافع للصمت أو العجز هو التفرقة المألوفة بين الحسي والعقلي ثم التصور الأرسطي للغة وثالثا مفهوم الوحدة …

أما الأول فإنه على التقليد القديم والذي لايزال إلى الآن فإن العقلي هو نقيض الحسي تماما وأول خصائصه أنه لا يتكثر ولا يتجزأ، ليس في جهة…لكن كل وصف للإله هو يتضمن ذلك حصرا…كأنه عليم سميع بصير …

أما قضية اللغة فإنه وعكس الغزالي، فعند العديد من الفلاسفة العظام كأفلاطون[46]، إخوان الصفا.. فإن اللغة أسسها الدفينة ليست حسية أو من عالمنا أولا بل إنها حقيقة في الدلالة على المثال مجازا فينا.

أو أنه لا شيء يكون عاما ومشتركا بين الله وغيره وإنما كل يتحدد بسياقه وهذا ما يقول فيتجنشتاين المتأخر[47]…إذن عند التسمية لا يكون هناك إسقاط من الذات البشرية ثم صعودا إلى الإله كما يصور الغزالي المسألة أو أنه الإسم مخترع وطارئ أو أنه لا يطابق تماما المسمى كما في عالمنا حيث يسمى أحدهم كريما وهو ليس كريما فإن الإله وعلاقته باسمه باعتباره مطلق، ليس هو علاقة غيره باسمه لأنه التحقق التام لإسمه وذلك لسبب بسيط يتفق فيه معنا الغزالي وأفلوطين وهو انه (كامل/واجب الوجود وتفريع هذا الوصف أو الفكرة أنه لايحتاج إلى شيء في كماله أيضا فهو كامل الأوصاف والوجود …) فإن مطلق الصفة أو الصفة في كمالها لا يمكنها أو توجد مطلقا وتتطابق مطلقا إلا على الإله فإنه لا يعود هناك فرق بين التصور والشيء المتصور عنه ولا يكون طارئ عليه لأنه أزلي في صفاته كما في وجوده وكذلك أسمائه. إنه الشيء الوحيد قطعا الذي يتفق تصوره تماما مع كيانه، كما أقر بذلك هيجل[48]. أي شيء هو: صادق نسبة ما، جميل نسبة ما وقوي نسبة ما أي لا ينطبق عليه التصور، الإسم، الصفة، تمام الانطباق…لأبسط الأسباب: أنه ليس في شيء أصيل إنه دائما ممنوح ومحتاج في أي صفة إلى غيره، ناهيك عن كمالها …

أما مفهوم الوحدة أو الواحد كما هي عند أفلوطين مثلا فهي وحدة تنبني على الإكراهات المتقدمة وتصور الواحد بطريقة تجريدية غير عقلية ميتة…وجميع الإستدلالات على ضروراتها تبوء بالفشل في نظري…وأساسها التام هو أنه لا يكون السبب مسببا وأنه لا يمكن وفق ذلك مثلا لمانح الوجود أن يكون موجودا…أو الخير خيرا أو الوحدة واحدا …؟ وهذا لاضرورة تنص عليه عقلية أما عند اعتناقا هاته الأفكار فإنه من الطبيعي ألا يمكن التعبير مطلقا عن هاته الوحدة لأن كل إرادة للتعبير هي كثرة …وليست الوحدة هي المستحلية التصور أو الوحدة المتكثرة بل الوحدة الأفلاطونية المجردة…

رابعا وهو مبني على السابق إنه للهروب من التكثر والحد للمطلق لا يمكن أن تكون المعرفة إلا نفيا للكثرة بما فيها الذات.. وهنا المشكلة تتضاعف لأنه يصير واجبا أن تنفى المعرفة نفسها لأنها لا تكون إلا بكون الإثنية والكثرة أي عارف ومعروف…وكل هذا ضرب من الإستحالة العقلية…

إذن ما سمي ضرورة عقلية ووجوب الصمت لم يكن إلا إستحالة عقلية أو الدفع نحو قلب الأشياء، فمدام لا يمكن التعبير عن الشيء المستحيل الغير معقول نسميه جلالا وعمقا …وأنه لا تستطيع العقل بلوغه …

أما جلال المطلق فهو شيء حقيقي وعقلي وظاهر جدا وهو يظهر ببعض عبارات فيلسوفينا المتقدمة حتى كفكرة الواجب بنفسه التي هي فكرة تحيل إلى الحرية المطلقة والغنى التام الذي لا يمكن أن نجده لا في أنفسنا ولا في الطبيعة والذي هو ضروري ضرورة مطلقة ليوجد العالم …بل هو الفكرة الوحيدة في العالم والذهن التي يستحيل نقيضها كما قال سبينوزا[49] وغيره…فلا يمكنك فرض عدم وجود واجب الوجود وأنت تشاهد العالم أمامك…

إذن كما ينص هيجل فإن الشيء الأكثر حقيقة هو الأكثر تصورا وليس العكس وهذا ما نراه متحققا تماما وليس ما تقدم من تصور للوحدة واللغة والكثرة …

المصادر والمراجع :

أفلوطين، التاسوعات، تر، د.فريد جبر، (ط1)، بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 1997.

أفلاطون، كراتيلويس، (ط1)، الأردن: وزارة الثقافة، 1995.

الغزالي، المقصد الأسنى شرح أسماء الله الحسنى ، تح، محمود دبيجو، (ط1)، دمشق: مطبعة الصباح، 1999.

الغزالي، إحياء علوم الدين، (ط1)، بيروت: دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع: 2005.

الغزالي، مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار، تح، الشيخ عبد العزيز عز الدين السيروان، (ط1) بيروت: عالم الكتب، 1986.

الغزالي، المنقذ من الضلال والموصل الى ذي العزة والجلال، (د.ط)، واشنطن: جمعية البحث في القيم والفلسفة، (د.ت) .

هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، تر، إمام عبد الفتاح إمام، (ط3)، بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2007.

سبينوزا، رسالة في إصلاح العقل، تر، جلال الدين سعيد، (ط1)، تونس: دار الجنوب للنشر، 1990.

سبينوزا، علم الأخلاق، تر، جلال الدين سعيد، (ط1)، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009.

فيتغنشتاين، تحقيقات فلسفية، تر، عبد الرزاق بنور، (ط1)، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007.

Wittgenstein, Tractatus Logico-Philosophicus, (1st ed), London: Taylor & Francis e-Libray, 2002.

الهوامش

  1. يقول فيتجنشتاين: “يحدث هنا أن تفكيرنا يمكر بنا مكرا غريبا. نريد أن نستشهد بمدأ الثالث المرفوع فنقول: (إما أن هذه الصورة بذهني، أو أنها ليست به، ولا وجود لإمكانية ثالثة، نجد هذا الاستدلال الغريب في ميادين أخرى من الفلسفة. في بسط p اللامتناهي نجد المجموعة < 7777 >، مرة واحدة أو لانجدها- ولا سبيل لإمكانية ثالثة. أي: الله يراه- ولكننا لا نعلم ذلك، لكن ماذا يعني هذا؟ نحن نستعمل صورة؛ هي صورة سلسلة مرئية، يمكن أن يراها الأول بطريقة شمولية ولا يراها الثاني. يقول مبدأ الثالث المرفوع: سيبدو الشيء بهذا المظهر أو بذاك؛ فهو في الحقيقة لا يقول شيئا- وهذا بديهي- ولكنه يقدم لنا صورة. وينبغي أن تتعلق المسألة بمعرفة ما إذا كانت الحقيقة توافق الصورة أم لا. ويبدو أن الصورة تحدد ما علينا فعله؛ كيف نبحث وفي أي اتجاه- ولكنها لا تفعل، لأننا لا نعرف كيف نطبقها. عندما نقول هنا: لا وجود لإمكانية ثالثة أو ولكن، لا وجود لإمكانية ثالثة! فإننا نعبر عن عدم استطاعتنا صرف نظرنا عن هذه الصورة- التي تبدو وكأنها تحتوي الإشكال وحله، بينما نشعر في الحقيقة أن الأمور ليست على هذا النحو”

    لودفيك فيتغنشتاين، تحقيقات فلسفية، تر، عبد الرزاق بنور، ط1( ،بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007). ص 296.

    ويقول : كيف ندرك أن الإنسان يرى بثلاثة أبعاد؟

    المصدر السابق، ص 427.

  2. يقول فيتجنشتاين: “لايمكن أن يكون التفكير في أي شيء غير منطقيا، لأنه إن كان كذلك، فإنه يجيب أن نفكر غير منطقيا، ) – الباحث: أي ها نحن حتى عندما أردنا أن نتحدد بخلاف المنطق حددنا ذلك بالمنطق أي قولنا: غير منطقي !

    ثم يقول فيتجنشتاين بعد ما تقدم :” ..يقال: انه الله يمكن ان يخلق اي شيء استناءا ما يكون متناقضا مع قوانين المنطق. الحقيقة انه لا يمكننا ان نقول كيف سيبدو العالم الغير منطقي.”

    Wittgenstein, Tractatus Logico-Philosophicus, 1st ed, (London: Taylor & Francis e-Libray, 2002), p 12.

    ويقول : “مستحيل تمثل أي شيء مناقض للمنطق في اللغة ”

    Ibid, p 13.

  3. يقول فيتجنشتاين: تحدث جيمس (james) عن ذلك كان يريد أن يقول: يا لها من تجربة غريبة مر بها ! لم تكن اللفظة موجودة، ومع ذلك كانت بوجه من الوجوه موجودة بعد”

    فيتجنشتاين، تحقيقات فلسفية، ص 460.

    ويقول : وصلت اللفظة إلى طرف لساني. ما الذي يحدث في وعي عندما أقول ذلك ؟

    فيتجنشتاين، تحقيقات فلسفية، ص 459.

  4. سبينوزا، علم الأخلاق.
  5. يقول هيجل:” هناك فارق واسع بين أن تكون لك هذه الوجدانات أو المشاعر، والتصويرات أو التمثلات الذهنية العامة التي يشكلها الفكر ويشبع فيها، وبين أن تكون لديك أفكار عنها… وهي ما نطلق عليه إسم الفلسفة.” هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، تر، إمام عبد الفتاح إمام، ط3، ( بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2007 ) ص 48. إن الحقيقي عند هيجل هو ما يطابق فكرتنا عن الشيء ليس العكس، فالشيء الحقيقي هو المفهوم اللغوي اكثر من الجزئي الخارجي حتى، لان اللغة هي مخزن الافكار التي هي الحقيقة يقول :” غير أن المعنى الفلسفي الأعمق للصدق أو الحقيقة يكمن، في الوقت نفسه، إلى حد ما، حتى في الاستخدام المألوف المعتاد للغة فنحن عندما نتحدث عن صديق وننعته بأنه مخلص صادق، فإننا نقصد بذلك أن سلوك هذا الصديق يطابق مفهوم الصداقة وفكرتها الشاملة عندنا.”

    هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، ص 106.

  6. يقول فيتجنشتاين: ” إذا كنت أفكر باللغة فإن المدلولات لا تمر بذهني علاوة على العبارات اللغوية: بل إن اللغة هي نفسها ناقلة أفكار”.

    فيتجنشتاين، تحقيقات فلسفية، ص 286.

  7. الغزالي، المقصد الأسنى شرح أسماء الله الحسنى ، تح، محمود دبيجو، ط1، ( دمشق: مطبعة الصباح، 1999)، ص 138/139.
  8. الغزالي، إحياء علوم الدين، ط1، (بيروت: دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع: 2005)، ص 282.
  9. المصدر السابق، ص 33.
  10. الغزالي، المقصد الأسنى، مصدر سبق ذكره، ص 80.
  11. الغزالي، إحياء علوم الدين، ط1، (بيروت: دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، 2005)، ص 119.
  12. الغزالي، المقصد الأسنى، ص 52.
  13. السابق، ص 84.
  14. الغزالي، المقصد الأسنى، ص 12.
  15. السابق، ص 14
  16. الغزالي، المقصد الأسنى، ص 147.
  17. الغزالي، مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار، تح ، الشيخ عبد العزيز عز الدين السيروان، ط1( ،بيروت: عالم الكتب، 1986)، ص 185.
  18. الغزالي، مشكاة الأنوار ، ص 148.
  19. الغزالي، المقصد الأسنى، مصدر سبق ذكره، ص 147.
  20. الغزالي، مشكاة الأنوار، ص 185.
  21. الغزالي، المنقذ من الضلال والموصل الى ذي العزة والجلال، (د.ط)، (واشنطن: جمعية البحث في القيم والفلسفة (د.ت) )، ص 260/261.
  22. أفلوطين، التاسوعات، تر، د.فريد جبر، ط1، ( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 1997)، ص 689
  23. السابق، ص 689
  24. السابق، ص 689.
  25. السابق، ص 691.
  26. السابق، ص 690.
  27. السابق، ص 690.
  28. السابق، ص695.
  29. السابق، ص 695/696.
  30. السابق، ص 695.
  31. السابق، ص 694.
  32. السابق، ص 693.
  33. السابق، ص 693.
  34. السابق، ص 693.
  35. السابق، 692.
  36. السابق، ص 691.
  37. السابق، ص 697.
  38. السابق، ص 698.
  39. السابق، ص 698.
  40. السابق، ص 698.
  41. السابق، ص 699.
  42. السابق، ص 700.
  43. السابق، ص 693.
  44. السابق، ص 696.
  45. السابق، ص 698.
  46. يقول أفلاطون:

    _” سقراط: أليست كل الأشياء الخارجية لها صوت وشكل خارجي وكثيرة لها لون؟

    _ هر موجينس: بالتأكيد.

    _ سقراط: ولكن يبدو أن فن التسمية لا يهتم بالمحاكاة من هذا النوع. الفنون التي عليها أن تتعامل معها هي الموسيقى والرسم”.

    أفلاطون، كراتيلويس، ط1( ،الأردن: وزارة الثقافة، 1995 ،) ص174 .

    ويقول أفلاطون: “لكنني أرى من الأفضل أن نترك هذه الأسماء (قلت: يقصد التي يبدو أنها مضللة) لأنه ستكون هناك فرصة

    أكبر للعثور على الصواب في أسماء الماهيات الثابتة، والتي ينبغي أن يكون قد بذل فيها عناية كبيرة عند تسميتها، ومن المحتمل تكون هناك قوة سماوية أكبر من قوة البشر، أطلقت هذه الأسماء”. المصدر السابق، ص 118.

    ويقول: “هرموجينس: إنني أعرف بالطبع أنهم أي الآلهة إذا كانوا يطلقون الأسماء على الأشياء فإنهم يطلقونها بصورة صحيحة.” أفلاطون، كراتيليوس، ص 107.

    ويقول: “سقراط: يوجد قاعدة ممتازة، علينا – كأناس ذوي تمييز- أن نعترف بها: ..إنا متأكدين بأن الأسماء التي سموا بها أنفسهم -أي الآلهة- كائنة ما كانت، أسماء صحيحة . وهذه هي أفضل القواعد” المصدر السابق، ص 125.

  47. يقول فيتجنشتاين : “يحدد مدلول اللفظة من خلال استعمالها”. فيتجنشتاين، تحقيقات فلسفية، مصدر سبق ذكره، ص 275.
  48. يقول هيجل: “إن الله وحده، هو الإنسجام التام بين الفكرة الشاملة والواقع. أما جميع الأشياء المتناهية فهي تحمل جانبا باطلا غير حقيقي، فهي لها فكر شاملة ووجود فعلي، غير أن وجودها لا يفي بمتطلبات الفكرة الشاملة، وهي لهذا السبب لابد أن تفنى، وعندئذ يتبدى بوضوح التعارض والتناقض بين فكرتها الشاملة ووجودها الفعلي، ففي النوع يكون للحيوان الجزئي الفرد فكرته الشاملة: والنوع يتحرر من هذه الفردية بالموت”. هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، مصدرسبق ذكره، ص106 .
  49. يقول سبينوزا:” فأنا أسمي مستحيلا الشيء الذي لو سلمنا بوجوده، انطوت طبيعته على تناقض، وضروريا الشيء الذي لو لم نسلم بوجوده، انطوت طبيعته على تناقض، وممكنا الشيء الذي، سواء سلمنا بوجوده أو بعدم وجوده، لا ينطوي، بطبيعته ذاتها، على تناقض، إلا أن وجوب وجوده أو امتناعه يرتبط بأسباب تبقى مجهولة لدينا طالما توهمنا وجوده. وعليه فلو كان هذا الوجوب أو الامتناع، المرتبط بأسباب خارجية، معلوما لدينا، لما توهمنا هذا الشيء البتة. وينتج عن ذلك أنه لو وجد إله أو كائن عليم، لما توهم شيئا إطلاقا. ذلك أنه، فيما يتعلق بنا نحن، لا يمكنني، بعدما علمت أني موجود، أن أتوهم أني موجود أو غير موجود؛ ولا يمكنني أيضا أن أتوهم فيلا يمر عبر ثقب إبرة؛ ولا أن أتوهم الإله موجودا أو غير موجود بعد أن تمت لي معرفة طبيعته.. الوهم لا علاقة له بالحقائق الأزلية”.

    ويقول: ” أعني بالحقيقة الأزلية القضية التي إذا كانت موجبة لا يمكنها أن تصبح سالبة. وهكذا فالحقيقة الأزلية الأولى أن يكون الله موجودا.”

    سبينوزا، رسالة في إصلاح العقل، تر، جلال الدين سعيد، ط1( تونس: دار الجنوب للنشر، 1990 )، ص 41.