د. طه محمد والى1 د. يوسف أحمد احمادي2
1 أستاذ مساعد، قسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والتجارة، الجامعة الأسمرية الإسلامية.
بريد الكتروني: t.wali@samarya.edu.ly
2 محاضر، قسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والتجارة، الجامعة الأسمرية الإسلامية.
بريد الكتروني: hmadeysf@yahoo.com
HNSJ، 2021، 2(10); https://doi.org/10.53796/hnsj21030
تاريخ النشر: 01/10/2021م تاريخ القبول: 25/09/2021م
المستخلص
تهدف الدراسة إلى التعرف على طبيعة الثورات العربية ودوافعها، وتأثير العامل الخارجي في هذه الثورات بخاصة في ليبيا وسوريا واليمن، ومعرفة الأسباب التي أدت لسقوط بعض الأنظمة العربية مقابل أخرى استطاعت التكيف والاستجابة للمطالب الشعبية، إضافة إلى دراسة دور العامل الأجنبي في التأثير على مستقبل دول ما بعد الثورة. وتبحث إشكالية الدراسة في الدوافع التي تقف وراء الدور الخارجي في الثورات العربية وهل حقا الثورات كانت بفعل خارجي أم بفعل داخلي. وقد تم استخدام المنهج الوصف التحليلي لتتبع ظاهرة الثورات العربية بغية تفسير استقرار وعدم استقرار بعض الأنظمة تجاه موجة الثورات وتحليل دور العامل الخارجي في التأثير في هذه الثورات مع الاستعانة باقتراب التبعية لسليط الضوء على هذا الدور.
الكلمات المفتاحية: الثورة، الربيع العربي، التدخل الخارجي، الأنظمة العربية.
شهد الوطن العربي موجه من التغيرات السياسية أو الثورات التي بدأت من تونس ثم تلتها مصر وليبيا واليمن وسورية، إلى جانب استهدافها لعدد من الدول الأخرى كالعراق والبحرين وغيرها من الدول، والتي ترتب عليها عدد من التداعيات الإقليمية والدولية في إطار العلاقات التي تجمع بين دول المنطقة والأطراف الفاعلة سواء دول الجوار كإيران وتركيا أو القوى الفاعلة الدولية كأمريكا والدول الأوروبية وروسيا وغيرها من القوى الدولية التي تحاول إيجاد موقعا لها في التأثير على مجرى الأحداث في الدول التي مرت بالتغيير في نظم حكمها.
وبناء على التغيرات السياسية والأطراف الخارجية الفاعلة، تبرز الحاجة لمعرفة طبيعة ما حدث والعوامل المؤدية لذلك، في إطار إلقاء نظرة على هذه التغيرات من بدايتها ومحاولة المقارنة فيما بينها لتوضيح أوجه الشبه والاختلاف في الدوافع والأسباب، ومن ثم تتبع وتقييم ذلك وفق تحليل دور العامل الخارجي في التأثير فيها، وأيضا أسباب عجز الأنظمة على الاستجابة والتكيف، ومن ثم المحافظة على بقاؤها أو معرفة سبب سقوطها وانهيارها.
الإشكالية
ما أن انتفضت الشعوب العربية في عدد من الدول، حتى انطلقت التساؤلات والمراهنات حول طبيعة هذه التحركات، ومدى التدخل الخارجي في التغيرات التي شهدتها دول الربيع العربي، والتي أدت إلى سقوط بعض الأنظمة العربية مقابل استمرار أخرى في الحكم.
ومن هذا الاستفسار الرئيسي يمكن وضع الأسئلة الآتية :
- هل كانت الثورات العربية الشعبية تلقائية أم هي تحركات موجهة خارجيا؟
- ما هو الدور والدافع لدى القوى الخارجية في دعم ثورات الربيع العربي وفي توجيه مسار الأحداث لاحقا؟ وهل كان هذا الدور ايجابيا أم سلبيا؟
- هل هناك تشابه في ثورات الربيع العربي؟
الفرضية
- هناك علاقة بين العوامل الداخلية والضغوط الخارجية وبين قيام الثورات العربية ونجاحها في بعض الدول في إسقاط الأنظمة السياسية.
- توافقت المصالح الغربية مع التغيرات الحاصلة في المنطقة فكانت عاملا داعما لها.
- إن التدخل الخارجي العسكري في الثورات العربية أدى لعدم قيام دول ديمقراطية مستقرة.
- إن ثورات الربيع العربي اقتربت فيها الأسباب والدوافع الناتجة عن عدم استطاعت الأنظمة السياسية تفهم التعامل مع مطالب شعوبها مما أدى إلى سقوطها.
الهدف
- التعرف على طبيعة الثورات العربية ودوافعها، وعلاقتها بسياسات الدول الكبرى التي لها مصالحها الإستراتيجية في المنطقة.
- معرفة الأسباب التي تقف وراء استقرار بعض الأنظمة العربية مقابل أخرى لم تستطع التكيف والاستجابة مع الضغوط الشعبية المطالبة بالتغيير السياسي.
- تحليل رؤية القوى الإقليمية والدولية من التغيرات الثورية في المنطقة ومدى سيطرتها عليها.
- دراسة الأثر الذي تركه التدخل الدولي في الثورة الليبية وما بعد سقوط نظام القذافي.
الأهمية
إن هذه التغيرات التي حدثت في المنطقة العربية تؤسس لمرحلة جديدة من دولة ما بعد الاستقلال، كما أن الثورات التي نجحت في إسقاط بعض الأنظمة وما ترتب عليها من تغيرات داخلية وإقليمية استطاعت أن ترسخ مجموعة من الفرضيات حول التحول الديمقراطي في الوطن العربي. أيضا تنبع أهمية الدراسة من تحليل الآثار التي تتركها التدخلات الخارجية في إسقاطه الأنظمة بدعماً شعبيا من جانب، وفي إعادة بناء السيادة الوطنية من جانب آخر. أما عن الأهمية النظرية للدراسة فهي تحاول إثراء المكتبة العربية بدراسات نقدية ومقارنة عبر استخدام اقتراب التبعية ونظرية المؤامرة لاتقاء الضوء على العامل الخارجي الفاعل في ثورات الربيع العربي، مقابل العامل الداخلي الذي يسوق له العديد من الكتاب والباحثين العرب.
المنهج
استخدام المنهج الوصفي التحليلي، للاستفادة منه في تتبع ظاهرة الثورة والاستقرار، بغية تفسير كيف حافظة بعض الأنظمة السياسية العربية على استقرارها واستمرارها في ظل ظاهرة التغيير التي شهدتها المنطقة، مقابل عجز دول أخرى عن تحقيق مطالب المحكومين، مما أدى لعدم الاستقرار والاضطرابات ومن ثم الثورة وإسقاطها في النهاية.
أيضا تم الاستعانة بأسلوب المقارنة لدارسة أوجه الشبه والاختلاف بين الثورات العربية وتفسير الدوافع الداخلية والخارجية التي تقف وراءها وفهم طبيعتها، وأيضا تم استخدام اقتراب التبعية في دراسة الثورات العربية: فهو اقتراب يسلط الضوء على دور العامل الدولي في تحديد الحركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل دول الربيع العربي وتأثيره في تشكيل توجهات وأنماط تطورها وبنيتها، ومن ثم في خلق الاستقرار من عدمه، فعلاقة البلدان التابعة بالبلدان المسيطرة لا يمكن تبديلها إلا بتغيير البنية الداخلية والعلاقات الخارجية، كما إن هذه التبعية تميل إلى التعمق والتجذر بحيث لا تستطيع هذه الدول أن تشكل مؤسساتها ونظمها بمعزل عن المتغيرات الدولية ذات الجذور التاريخية، فدور الغرب في تقسيم العمل الدولي أسهم في تشكيل تاريخ هذه الدول، ومن ثم فان مشاكل المنطقة العربية هي نتيجة طبيعية لتدخل العالم الأول.
تقسيمات الدراسة
المحور الأول: الإطار النظري لدراسة ظاهرة الثورة وعلاقتها بالاستقرار
المحور الثاني: طبيعة وحدود ثورات الربيع العربي
المحور الثالث: تأثير العامل الخارجي على الثورات العربية
المحور الأول :الإطار النظري لدراسة ظاهرة الثورة وعلاقتها الاستقرار
كلمة الثورة التي تدخل في مفاهيم علم الاجتماع السياسي، تعددت التعريفات حولها كلً حسب المدرسة التي تنطلق منها ومدى اقتناع الباحث بها في دراسته للظاهرة، فهناك من رأي بأنها معبرة عن التغيير الجذري للنظام السياسي والاجتماعي، وآخر رآها بأنها حركة شعبية أدت لإسقاط نظام سياسي استبدادي قائم واستلام قيادات هذه الحركة لمقاليد الحكم لفترة مؤقتة، بينما آخرون يرون بأنها حركة فوضوية تهدف لإسقاط نظام قائم وقيام حكم الغوغاء، في حين يعتبر طرف رابع الثورة بأنها تآمر خارجي يهدف للتدخل في الشؤون الداخلية في الدولة وإسقاط أنظمتها المناوئة مقابل تنصيب أنظمة مؤيدة أو ذات تبعية للخارج.
عرفت الثورة من الناحية السياسية بأنها حركة شعبية واسعة ذات توجه سياسي منظم تعبر عن الرغبة العامة لمجموع أفراد الشعب وتهدف إلى تغيير النظام السياسي القائم جذريا وإقامة نظام جديد يعبر عن الإرادة الشعبية لمجموع أفراد الشعب الذين يمثلون القوة الحقيقية للثورة(محمد صالح 2013 :310)، بينما عرفت الثورة من الناحية الاجتماعية بحسب رأى الدكتور “صادق الأسود” بأنها حركة اجتماعية تتطور في ذاتها لهدم القديم بكل جزئياته المادية والمعنوية، فهي”حركة اجتماعية لتقويض المؤسسات التي فقدت فاعليتها وإعادة بناء الروابط الاجتماعية على أسس جديدة”( بلقيس محمد 2012: 246).
أهم مدارس الثورة:
- المدرسة الإسلامية: فالثورة وفق الثقافة الإسلامية هي(خلع السلطان الجائر الظالم بقصد الإصلاح)، أو هي انتفاضة غاضبة تخرج لخلع النظام الحاكم القائم بغية التغيير الشامل في كافة مؤسساته وهياكله التي عاونته على الظلم والفساد، كما يقصد بها الانتصار للحق على الظلم(طارق فريد2012: 124).
- المدرسة الفرنسية: التي استوحت من الثورة الفرنسية، رأت في الثورة “انتفاضة شعبية تقودها النخب المثقفة لإحداث تغيير بالقوة في نظام الحكم”، فالثورة عند المفكر جون لوك هي (حق مشروع وظاهرة اجتماعية طبيعية ومنسجمة مع النسق العام للمجتمع الإنساني تحدث متى توافرت مقوماتها) (طارق فريد2012: 127- 129).
- المدرسة الماركسية: استخدم الماركسيون نفس المفهوم التقليدي، لكن بشرط إحلال الطلائع والقيادات العمالية بدلا النخب المثقفة في قيادة الانتفاضات الشعبية، وتعتبر الثورة في النظرية الماركسية أمرا حتميا لتغيير الانتقال من نظام اجتماعي إلى آخر، مثلما حدث في التغير من النظام الرأسمالي إلى الاشتراكي كنتاج لثورة البلاشفة في روسيا، فالثورة لدى المفكر كارل ماركس هي (القانون العام لمسار الطبيعة والمجتمع، وهى الحل الوحيد لمشكلاته) (طارق فريد2012: 127).
عناصر ومقومات الثورة:
- الثورة حركة أو انتفاضة شعبية رافضة للسيطرة والحكم الشمولي أو الفردي القائم، وتهدف إلى إقامة نظام ديمقراطي، وهو ما يميزها عن الانقلاب الذي يعتبر حركة تمثل فئة قليلة من داخل النظام السياسي نفسه تهدف إلى إسقاط نظام الحكم واستلام السلطة بطريقة غير دستورية يصاحبها العنف النسبي وتحكيم القوة في التغيير.
- الثورة تغيير جذري وشامل وسريع في البنية السياسية والاجتماعية للدولة، وهو ما يميزها عن الإصلاح السياسي الذي يعتمد على التغيير التدريجي والجزئي للنظام السياسي.
- الثورة تعبر عن حالة عدم الاستقرار، فعندما يعجز النظام على إدارة واحتواء الصراعات داخل المجتمع، ويفشل في التعامل مع البيئة (الداخلية والخارجية) والاستجابة لمطالبها والتكيف مع ضغوطها وتوقعاتها تبدأ بذلك تتناقص شرعيته والدعم المقدم من المواطنين، فتكون هنا للثورة.
من خلال ما سبق ذكره يتضح انه بالرغم من تعدد المفاهيم والتعريفات، إلا أن الغالب في هذه التعريفات هو الاتفاق على حركة الشعب الشاملة وبشكل عام ضد النظام القائم .
وإذا ما أردنا تناول مفهوم ظاهرة الثورة ما بعد ثورات الربيع العربي، فإننا ومن خلال دراسة واقع الثورات العربية يمكننا أن نضع مفهوما يرى في الثورة المعاصرة بأنها الثورة التي تعبر عن الانتفاضة الشاملة والتغيير الجذري والسريع والمفاجئ والعنيف نسبيا.
مفهوم الربيع العربي :
تعددت التسميات التي أطلقت على الانتفاضات العربية وحول استخدام كلمة الربيع العربي، فهناك من يقول أن جريدة كرستيان ساينس الامريكية هي أول من استخدم التسمية في 15 يناير2011، بينما يرى آخرون ان من أطلق هذه التسمية هو الصحفي الفرنسي “دومنيك مويزى” بعد اندلاع أحداث مصر بتاريخ 26 يناير 2012 (بلقيس محمد 2012 :243)، بينما يرى ثالث أن أول من أطلق هذا المصطلح “الربيع العربي” على هذه الأحداث هو “مارك لينش” أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن، في مقاله له بمجلة “foreign policy ” في ديسمبر 2010، تم تداول المصطلح على نطاق واسع في الدوائر الإعلامية والبحثية( طارق عثمان2013).
بالرغم من اختلاف الآراء حول تحديد الفترة الزمنية المحددة لمفهوم الربيع العربي، إلا أنه قد استخدم في فترات زمنية سابقة، فهناك مصطلح الربيع الأوروبي حين قادت الطبقة الوسطى عام 1848 في فرنسا وألمانيا والنمسا ثوراتها للمطالبة بتحقيق أهدافها السياسية وفقا للظروف الموضوعية والذاتية لتلك الشعوب آنذاك، فاستخدم للتعبير عن حالة الرفض لسياسات الحكم فيها، أيضا استخدم عندما ثار شباب جامعات أوروبا الغربية في عام 1968 ضد أنظمتهم السياسية والاجتماعية التقليدية الكابحة لمفهوم شباب التجديدية، فكانت البداية في ألمانيا الغربية ثم اتسعت إلى فرنسا فأسقطت الجمهورية الخامسة وامتدت بعد ذلك إلى دول العالم، أيضا أطلق مفهوم الربيع عندما انتفض شعب تشيكوسلوفاكيا عام 1968 ضد نظامه الشيوعي، وفق ما سمي(شباب ربيع براغ)، ثم استخدمت عند انتفاضات الحركة العمالية في بولونيا عام 1980، وأيضا استخدمت عندما ثارت شعوب أوروبا الشرقية 1989-1990(بلقيس محمد2012: 243- 244).
من خلال ما سبق ذكره يتضح أن كلمة الربيع العربي لم تكن كلمة جديدة بل تم استخدمها لوصف أحداث تاريخية سابقة، وهي في هذا معبر عن حالة ايجابية نتيجة إسقاطها لأنظمة مستبدة وديكتاتورية، فوصفت هذه الحالة بـ “الربيع” أي بالتغير نحو الأفضل. وتكرر هذا الوصف الايجابي في أحداث الانتفاضات العربية ضد الأنظمة التسلطية، وإن كان هذا الوصف يشوبه عدم الدقة، نتيجة لحالة العنف والتدخل الأجنبي ودعم الاستقرار الذي صاحب هذه الثورات.
لذا نجد الأمين العام للجامعة العربية اعترض على مصطلح الربيع العربي في منتدى شباب العالم بتاريخ 15 ديسمبر 2019 قائلا ” موت 500 ألف سوري وطرد 4.5 مليون سوري من بلادهم وهدم دولة مثل ليبيا والتأثيرات الخطيرة التي شهدتها مدن عراقية وليبية وسورية وعودة الكوليرا إلى اليمن لا يمكن أن يسمى بالربيع”( أكرم 2020).
المحور الثاني : طبيعة وحدود ثورات الربيع العربي
الثورة كما تم الإشارة إليها في السابق ظاهرة تدخل في أدبيات علم الاجتماع السياسي كونها حركة يقوم بها المجتمع تستهدف تغيير النظام السياسي بشكل شامل، وهي ناتجة عن دوافع متراكمة ناتجة عن غياب أو تضييق للحريات والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع استخدام العنف في سبيل تحقيق ذلك.
وعند الحديث عن الدوافع التي تقف وراء الانتفاضات العربية منذ عام 2010، نجدها تمتد لفترات ترجع أحيانا لقيام الدولة الوطنية العربية ومفهوم بناء العقد الاجتماعي والسياسي الذي قامت عليه، وعلى مرجعيات نضالية ودينية واجتماعية كانت تتوافق مع تلك الفترة في حدود معينة، ولكنها مع المتغيرات الداخلية والخارجية التي تلت قيام هذه الدولة القطرية، بدأت هذه المرجعيات السياسية السابقة تفقد فعاليتها ودورها في مراحل لاحقة للدولة العربية خاصة منذ تسعينات القرن العشرين، وكانت من أهم الأسباب لذلك، فشلها في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية والاصطلاح السياسي والتحول الديمقراطي، وعدم إيمان الأجيال الجديدة بفكرة المرجعية النضالية وربطها بوحدة الدولة ومبرر استمرارها في الحكم مقابل التبعية للخارج وتشبتها بالسلطة، ولا ننسى هنا العامل الخارجي وأدواته العلمية والتقنية التي جعلت من الشعوب تنفتح على العالم الآخر.
عند استخدام أسلوب المقارنة، يتضح أن تجربة الثورات العربية ودوافعها ومن ثم نتائجها، وإن كانت متقاربة في بعض جوانبها، إلا أنها تختلف في العديد من الجوانب الأخرى، منها:
أوجه الشبه في الثورات:
- غياب الطليعة والمؤسساتية في الثورات العربية، فاغلب القيادات التي قادت حركات الاحتجاج هي قيادات شابه ومتعلمة، وتنتمي للطبقات الوسطى(وبشكل واضح برزت في الثورة التونسية والمصرية) في المجتمع، مقابل دور مساعد للنقابات والتيارات السياسية المعارضة، ما أدى إلى غياب الإستراتيجية الواضحة لهذه الثورات، والتي لم يكن هدفها إلا إسقاط النظام السياسي القائم، ورفع شعارات تطالب بالديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية والإصلاح الاقتصادي، دون الحديث عن مشروع واضح لكيفية تطبيقها وإعادة بناء دولة ما بعد الثورة، أو بمعنى آخر ما هو النظام البديل؟
- كشفت الانتفاضات العربية عن تشابه وتقارب في العقلية العربية ومدى اتصال الشعوب العربية فيما بينها وتأثرها بالأحداث العربية، فالثورات انتقلت عدواها وتسارعت تداعياتها من منطقة لأخرى، وشموليتها لمختلف أنماط الحكم العربية.
أما عن أوجه الاختلاف الذي شهدته الثورات العربية يمكن توضيحه في الآتي:
- تغيير الحاكم دون تغيير النظام: كحالة الثورة اليمنية عام 2011، التي شهدت تدخل دول الجوار الخليجية في طرح مبادرة بين قوى الثورة المدعومة قبليا ورأس النظام علي عبد الله صالح، وأنتجت في النهاية اتفاقاً أدى إلى خروج الرئيس صالح من الحكم مقابل تسلم نائبه السلطة وتشكيل حكومة بالتوافق بين المعارضة والحزب الحاكم، وهو ما يعني إعادة إنتاج النظام القديم في مؤسساته وشخوصه وفق بنا جديدة، واجهت بعد تطبيقها أزمات حالت دون استقرار اليمن، وأدت إلى تعدد مراحله الانتقالية، ما أدى إلى وقوعه في النهاية في حرب أهلية.
- تغيير النظام دون تغيير فلسفة النظام وبنيته: كالحالة الثورة المصرية عام 2011، التي تغير فيها النظام بشكل شبه كامل، فالرئيس حسني مبارك تخلى عن السلطة وسلمها للمجلس العسكري، وتم حل المجلس التشريعي، وتغيرت الوزارات، وشهدت الدولة انتخابات برلمانية ورئاسية (بين عامي 2012 و2014)، وصدر دستور جديد للبلاد، ولكن رغم كل هذا التغيير بقيت فلسفة النظام كما هي، بل ورثها من ورث البرلمان كفكرة الحزب الحاكم المسيطر، كما ان البعد المؤسسي في العملية السياسية لا يزال على حاله.
- تغيير بنية وفلسفة النظام، كالحالة الثورة التونسية، التي شهدت تغيرات جذرية في بنية النظام وأدواته وطريقة عمله، فبعد إسقاط رأس النظام زين العابدين بن علي، تسلم البرلمان القائم ورئاسته السلطة ثم عمل بعد ذلك على تنظيم انتخابات في عام 2011، حيث استلم السلطة على إثرها المجلس التأسيسي الدستوري الذي ضم جميع القوى السياسية، واشرف من خلال إعلان دستوري وضعه على إدارة العملية الانتقالية حتى وصل بها إلى إقرار دستور وانتخابات جديدة عام 2014( إبراهيم: 2014، 178-180).
- العودة لحالة ما قبل النظام القديم، مع وجود المتغير الخارجي المسلح: ففي ليبيا رجعت الأفكار المنادية بالعهد الملكي وبنموذج دولة الاستقلال، في إطار الحفاظ على وحدة التراب الليبي والتمسك ببناء الأمة، أي الحفاظ على تماسك الأرض والشعب في وحدة واحدة. ولكن تعقد الحالة الليبية أثناء أحداث الثورة بين التدخل الخارجي والمطالب الداخلية وسياسة النظام الحاكم الرافضة للتغيير، جعل من الثورة تتحول إلى عمل مسلح يصاحبه دعم دولي لإسقاط النظام، لتشهد الدولة بعد ذلك تعددا في المراحل الانتقالية بعد سقوط النظام السابق، بدأتها بتشكيل المجلس الانتقالي ثم انتخابات المؤتمر الوطني ومن بعده البرلمان، مما جعل من الدولة تعيش حالة من عدم الاستقرار طوال المراحل الانتقالية.
الاستجابة والتكيف مع الثورات العربية (النظم العربية المستقرة):
إذا كانت الدول الأولى التي حصل فيها الربيع لم تستطع نظمها السياسية أن تحقق الاستقرار ومن ثم الاستمرار في الحكم، نتيجة لعدم تكيفها واستجابتها مع المستجدات والظروف التي تأتيها من البيئة المحيطة بها سواء الخارجية المتمثلة في التدخل والضغوط الدولية، أو الداخلية المتمثلة في مطالب واحتياجات المحكومين، إلا أن نظم أخرى في المقابل استطاعت أن تستجيب للبيئة الداخلية والخارجية، وان تكون ذات فاعلية أكثر في التكيف مع موجة الربيع العربي وذلك لاتخاذها جملة من الخطوات والإصلاحات استطاعت من خلالها ضمان استقرارها ومن ثم استمرارها في الحكم، ومن هذه النظم نذكر النظم الملكية كالمغرب والسعودية والأردن والكويت، إضافة إلى النظم الجمهورية كالجزائرية والسودان، وإن كانت الأخيرة قد دخلت في الموجة الثانية للثورات العربية التي أسفرت عن سقوط النظام على الطريقة المصرية.
من ابزر النظم التي تعاملت بإيجابية مع ثورات الربيع العربي تذكر المملكة المغربية، فالمظاهرات التي انطلقت في 20 فبراير 2011 بدعم من الهيئات والأحزاب السياسية وعموم المواطنين والمطالبة بملكية دستورية برلمانية ديمقراطية وإصلاحات سياسية واقتصادية، تلقاها الملك بإنشاء دستور جديد يحد من صلاحيات الملك ويقوى موقع رئيس الوزراء، ودخل حيز التنفيذ في 10 أغسطس 2011 بعدد من الحقوق المدنية الجديدة، بما في ذلك الضمانات الدستورية لحرية التعبير والمساواة الاجتماعية للمرأة وحقوق لغوية للأقليات واستقلال القضاء(مصطفى عثمان 2013: 104- 105). بينما تعاملت الحكومة الجزائرية مع ظاهرة الربيع العربي في الجزائر بإلغاء حالة الطوارئ المفروضة منذ 20 عاما، واتخاذ سلسلة من الإجراءات والإصلاحات في مجال العمل والإسكان ومكافحة الفساد، وانتهت إلى إجراء الانتخابات التشريعية في 9 مايو2012 (بلقيس محمد2012: 238 ).
وفي الأردن استجابة الإرادة الملكية إلى تغيير الحكومة، فخلال سنة واحدة تغيرت الحكومة مرتين لأجل إرضاء الشارع، وكذلك شكلت لجنة لمحاسبة الفاسدين في أجهزة الحكومة. وفي الكويت، ظهرت الاحتجاجات فيها تطالب بالإصلاح فتعاملت معها الدولة بإقالة الحكومة وحل مجلس الأمة الكويتي حل دستوريا. أما في سلطنة عمان فقد تلقى السلطان احتجاجات 18 يناير 2011 المطالبة بالإصلاح، بإجراء عدة تعديلات حكومية والأخذ بمطالب الشعب. وفي السعودية، قام النظام وفق سياسة احتواء الاحتجاجات المتفرقة التي بدأت في 3 مارس 2011 المطالبة بالإصلاحات، بإتباع إجراءات لمكافحة الفساد ومخصصات بمليارات الدولارات تركز على المساعدات الاجتماعية كرفع الأجور وتوفير الآلف الوظائف وبناء المساكن التي تقدر بنصف مليون مسكن (مصطفى عثمان2013: 102-103).
من خلال ما سبق يمكن تلخيص أهم الأبعاد الأساسية التي ساهمت في اندلاع ثورات الربيع العربي(مصطفى عثمان2013: 85):
- البعد السياسي، وهو بعد مشترك في كل بلدان الربيع العربي.
- البعد الاقتصادي، وهو مشترك باستثناء البحرين وليبيا.
- البعد الحقوقي في كل الدول.
- البعد العشائري القبلي في ليبيا واليمن.
- البعد الطائفي والأيديولوجي في البحرين وسوريا.
- البعد الإنساني في كل دول الربيع العربي.
- البعد الأمني في اليمن.
المحور الثالث: تأثير العامل الخارجي على الثورات العربية
بمجرد انطلاق الثورات العربية في تونس وانتقالها إلى عدة دول عربية، ظهرت العديد من التحليلات والكتابات والآراء تتحدث عن دوافع وأهداف هذه الثورات ودور العامل الخارجي في ذلك، فانقسمت الآراء بين التأكيد على عفويتها ودوافعها الشعبية الداخلية وبين وصفها بأنها ثورات مخطط لها مسبقة وان أطرافاً خارجية تقف وراءها، وبأنها مؤامرة لإسقاط أنظمة وطنية تحررية وإحلال الفوضى والتبعية الدولية.
- أولا: ارتباط الثورات العربية بالعامل الخارجي
إن تجربة الثورات العربية نتيجة لغياب دور الشعوب العربية طيلة عقود مضت من حكم الأنظمة التسلطية، تعتبر مثار شك وعدم اقتناع ومؤامرة لدى العديد من الدارسين والمفكرين لطبيعة الدولة العربية وشعوبها، فإسقاط الأنظمة بهذه السرعة التي فاجأت الجميع، جعلت منهم يرجعون أسباب قيام هذه الثورات للعامل الخارجي وليس بدافع الفعل المحلي العربي، وقد بنا العديد من الباحثين على هذه الفرضية بالاعتماد على عدة عوامل: منها ما هو يمتد لفترات تاريخية سابقة ترجع لقيام النظام العالمي الجديد ونظام القطب الواحد الذي رفع شعارات تنادي بالديمقراطية والحريات العامة والإصلاح السياسي بخاصة في الدول العربية التي شهدت منذ تسعينات القرن الماضي عدة مشاريع إصلاح سياسي وتحول نحو الديمقراطية، ثم جاءت مرحلة إسقاط الأنظمة التسلطية بالقوة في بداية الألفية ونموذجها في ذلك العراق، وشعارها مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو ما جعل من هذه الفرضية التي تربط العامل الخارجي بالمؤامرة قابلة للإثبات والتطبيق، وبالتالي لم تتوقف التدخلات الخارجية في الشؤون العربية والضغط على الأنظمة السياسية والدعوات من اجل التحول الديمقراطي، ليظهر هذا التدخل جليا في ثورات الربيع العربي التي انطلقت منذ عام 2010، وبمختلف الوسائل المقدمة لها سياسيا وإعلاميا ودبلوماسية بل وعسكرية مثل الحالة الليبية عبر تدخل حلف الناتو لدعم الثورة الشعبية، وكذلك اليمن بتدخل الدول الخليجية وطرح المبادرة الخليجية، وأيضا في البحرين التي شهدت تدخلا عسكريا لدول الخليج، وسوريا التي أصبحت ساحة للتدخلات الأجنبية.
بالتالي فالعامل الخارجي يعد من العوامل المؤثرة في عملية التغيير التي شهدتها المنطقة العربية، ولا يمكن لأي متابع إغفال دور الغرب ممثلا في الاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى في دعم الثورات العربية على كافة الأصعدة، سواء كان دعما سياسيا أو عسكريا مباشرا كما حدث في ليبيا وبوتيرة اقل سوريا.
وقد كان لهذه الفرضية العديد من المناصرين لها من المفكرين الأجانب والعرب التي تربط العامل الخارجي بقيام الثورات العربية وإسقاطها للأنظمة السياسية وعدم الاستقرار في دولها، أمثال: مايكل ليدن احد أعلام المحافظين الجديد (يقول: أن التدمير هو صفتنا المركزية، وإن الوقت حان لكي يتم تصدير الثورة من اجل صوغ شرق أوسط جديد عبر تغيير ليس النظم السياسية فقط بل الجغرافيا السياسية)، وأيضا بيرنارد هنري ليفي( يقول: الربيعيون هم لعبتنا الأولية، والحكومات الانتقالية العربية الجديدة أدواتنا الحالية، والربيع هو حصان طروادة للتعجيل بالنهاية لتحقيق مشروعنا الثوراتي، وستكون شعوب الربيع العربي وقودا لحروبنا القادمة…)، وأيضا المفكر عبدالاله بلقزيز الذي نظر للثورات نظرة سلبية أدت لفتن وحروب أهلية وإسقاط الدولة وتدمير مقدراتها ومقدرات المجتمع واستباحت سيادتها، ووفرت للتدخلات الخارجية السياسية والعسكرية البوابات الضرورية للنفاذ إلى الداخل المجتمعي والنفوذ فيه، وكذلك المفكر محمد اركون (يقول أن.. من ابرز نتائج الحراك الشعبي زيادة حجم التدخلات الأجنبية التي بلغت ذروتها في الأزمة السورية واليمنية والليبية البحرينية) (سي حمدي 2019: 79: 90).
ففي صحيفة النيويورك تايمز في تقرير لها إبان الثورات العربية تقول: بان هناك جهودا قامت بها وزارة الدفاع الأمريكية من اجل توطين الديمقراطية في العالم العربي، وبأن الدور الذي لعبته الولايات المتحدة لبناء الديمقراطية في العالم العربي وفي تأجيج الاحتجاجات كان اكبر مما كان يتصوره من قبل، فقد كانت هناك تدريبات للمجموعات والأفراد المشاركين في حركات الاحتجاج من قبل الأمريكان عبر حملات ومنظمات بواسطة وسائل الاتصال الحديثة، ووفقا لمقابلات مع مسؤولين دبلوماسيين والبرقيات. ومن هذه الحركات “حركة شباب 6 ابريل” في مصر، ومركز “حقوق الإنسان” في البحرين، وحركات شعبية مثل “انتصار القاضي” في اليمن. فأولئك تلقوا التدريب والتمويل عبر جماعات مثل المعهد الجمهوري والمعهد الديمقراطي الوطني وفريدوم هاوس والمنظمة الحقوقية الإنسان في واشنطن (احمد عبد الكريم 2012 : 169- 170).
كذلك نجد التأكيد على الدعم الخارجي في صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 3 من فبراير 2011، عندما ذكرت بأن: إدارة اوباما تناقش مع المسئولين المصريين اقتراحا للرئيس السابق حسني مبارك بتسليم السلطة إلى حكومة انتقالية برئاسة عمر سليمان بدعم من الجيش المصري، كما دعا مبارك لوقف الاعتقالات وإلغاء قانون الطوارئ، وفى الوقت نفسه أعلنت الإدارة الأمريكية أنها ستعيد النظر بمسألة المساعدات الأمريكية لمصر في إشارة للضغط على حكومة مبارك (ميثاق خير الله 2013: 231).
إضافة إلى هذا الدافع الخارجي والمتعلق بنشر قيم الديمقراطية ودوافع حقوق الإنسان وحق تقرير المصير ودعم التحول الديمقراطي في الدول التسلطية، والذي أكد عليه الباحث (ماتيوغيدير) أستاذ علم الإسلاميات والفكر العربي في جامعة تولوز الفرنسية في كتابه (صدمة الثورات العربية)، عبر مطالبته الغرب بان (تضخ الاستثمارات والأموال الضخمة في البلدان العربية كما فعل مع دول أوروبا الشرقية بغية تقوية التيارات الديمقراطية والمدنية الوسيطة المتسامحة في العالم العربي، وإلا فان التيار الآخر المعادي للغرب ولكل القيم الحضارية الحديثة سوف ينتصر ويجهض الآمال … التي علقت على هذه الثورات) (هاشم صالح2013: 327- 327). أيضا هناك دوافع خارجية أخرى متعلقة بالمصالح الإستراتيجية والاقتصادية كالنفط والحصول على موطأ قدم لها في تلك الدول، وإقامة حكومات مؤيدة وداعمة لها تحقق مصالح القوى الكبرى مقابل إسقاط أنظمة مناوئة لها، مثل التنافس الإقليمي بين تركيا وإيران على سوريا ودعم قوى الصراع بداخلها، ما أدى لتحول هذا الدعم إلى صراع مسلح اتسعت دائرة التدخل الخارجي فيه لتطال دولا كبرى كروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وتكرر نفس التدخل والتنافس الدولي الخارجي في الثورة الليبية منذ مارس 2011، وما بعد انتهاء نظام معمر القذافي.
وهنا نجد أوجه التقارب بين الثورتين (السورية والليبية) في مسالة الاستدعاء المبكر للتدخل الأجنبي وإسقاط النظام عبر قوى المعارضة أو الثورة، وهو ناتج عن استخدام النظامين للعنف المسلح في مواجهة حركات الاحتجاج التي كانت ضعيفة وتفتقر لقدرات المواجهة، التي تولد لديها قناعة بعدم إمكانية إسقاط النظام إلا بالحصول على الدعم الخارجي سواء كان مباشرة أو عبر الدعم بالسلاح والمال والسياسة من الخارج، ما أدى إلى تدويل الثورتين، بدءا من القوى الإقليمية سواء عبر مؤسسات إقليمية كالجامعة العربية أو عبر قوى دعم إقليمي كما حصل في مسالة الدعم الخليجي للثورتين، وكذلك عبر الدعم الغربي الدولي.
وعند تحليل تأثير الدور الخارجي على الثورة الليبية مثلا، فإننا لا نتوقف على مسالة إسقاط نظم الحكم السابق بفاعل دولي بل يمتد الدور إلى ما بعد سقوط النظام وقيام نظام بديل له، حيث استمر التدخل الأجنبي في مشروع الانتقال السياسي وتحقيق استقرار للدولة، فبمجرد وضع الأسس لقيام الدولة ما بعد الثورة وفق وثيقة دستورية مؤقتة تحدد خارطة الطريق للمرحلة الانتقالية وصولا إلى المرحلة الدائمة، نجد أن تعثر انجاز هذا الاستحقاق الدستوري كان بسبب تأثير خارجي على الفواعل المحلية، فما بعد انتخاب أول مؤسسة انتقالية عام 2012 بدأ العامل الخارجي التأثير في العملية السياسية عبر الدعم السياسي والإعلامي للقوى المحلية في صراعاتها السياسية والمسلحة – تجسد في حرب عام 2014 بين القوى السياسية والمسلحة المحلية- والذي بدوره جعل من الحل السياسي في ليبيا مرهونا بالأطراف الدولية التي أصبحت هي الراعي الوحيد للتسويات والاتفاقات السياسية بين الفرقاء الليبيين، فأشرفت على خارطة الطريق للحل السياسي عام 2015، ثم تكرر الدور الخارجي مرة أخرى عام 2019.
أيضا تكرر المشهد في الثورة اليمنية التي خضعت لعدة مراحل من التدخل الخارجي لتوجيه مسارها بناء على العامل الإقليمي، وهنا نذكر بالتنافس الإيراني الخليجي بقيادة السعودية الذي بدأ دوره سياسيا ودبلوماسيا في الفترة من عام 2011 والى عام 2014 عندما تم طرح المبادرة الخليجية التي ضمنت تقاسم السلطة بين القيادات الثورية والنظام الحاكم السابق، ولكنها بعد عام 2014 بسبب تعثر التسوية السياسية بين الأطراف المحلية تحول التدخل السياسي/ الدبلوماسي إلى تدخل عسكري غير مباشر بين طرفين إقليميين (إيران والسعودية) بأدوات محلية، أدى في النهاية لارتهان اليمن للقوى الإقليمية وفقدانه الملكية الوطنية لمشروعه السياسي.
يتضح مما سبق ذكره أن التدخل الأجنبي ليس بالضرورة جاء لدعم الانتقال الديمقراطي بل كان له وجه آخر تمثل في دعم الأنظمة القائمة وتحقيق عدم استقرار في الدول التي شهدت ثورات خاصة التي شهدت صعودا للقوى المتشددة أو المناهضة للقيم الغربية، وإن كان هذا يرجع في بعضه إلى تضارب مصالح الأطراف المتداخلة وعدم قيام دول ديمقراطية أو حليفه لها، ومثال ذلك التدخل الروسي لدعم النظام السوري في تجاه التحول الديمقراطي، والتدخل الخليجي لدعم النظام البحريني القائم مقابل الحراك الشعبي، وأيضا الدعم الخارجي لتدخل الجيش المصري لإنهاء الحكم المدني ذوي الخلفية الإسلامية في مصر عام 2013، وكذلك الأمر في ليبيا ما بعد انتخابات المجلس التشريعي الأول المؤقت عام 2012.
وتأكيدا على هذا الدور الخارجي، يرى دكتور في العلوم السياسية ” فانسانجيسير” الباحث في المعهد الفرنسي لشؤون الشرق الأوسط في بيروت أن “الغرب لن يقف موقف الحياد من الثورات العربية وسيحاول استغلال الوضع لصالحه والتأثير على المرحلة الانتقالية لدعم أنظمة جديدة غير معادية له إن لم تكن صديقة.. إن أمريكا تحاول التأثير على هذه الثورات العربية وتوجيهها في الاتجاه الذي يخدم مخططاتها في المنطقة وكذلك بشكل يتناسب مع رؤيتهم الإيديولوجية لطبيعة الديمقراطية الملائمة للعالم العربي” (هاشم صالح2013: 332).
أما عن أشكال التدخل الأجنبي فاخذ عدة أوجه وأساليب، منها ما هو سياسي ودبلوماسي وإعلامي، ومنها ما هو مادي سواء كان دعما مالياً أو عسكريا، نذكر منها:
- التدخل السياسي عبر الوكلاء المحليين
في مقالة اليوت ابرامزElliott Abrams مستشار إدارة بوش السابق لشؤون الشرق الأوسط في صحيفة ويكلى ستاندرد ((The Weekly Standard في أكتوبر 2010 عندما قال فيها (أصبح قلب العرب أجوف)، يقترح: أن يقوم وزير خارجية قطر وممثلون يتمتعون بالذكاء والفاعلية مثل وزراء تركيا “اردوجان واحمد اوغلو” بتنفيذ الأجندة، فقد تكون دبلوماسية قطر ماهرة ولكن قدرتها على توزيع ثروتها الضخمة تجعها اقدر مهارة، أما قادة تركيا فهم أذكياء وفاعلين ولتركيا جيش قوى وقوة ناعمة حقيقية ومتنامية في المنطقة بأسرها، في المقابل أصبحتا كل السعودية ومصر غير مؤثرين بسبب الشيخوخة، ولان كثيرا من سياساتها المدعومة أمريكيا لا تتمتع بأي شعبية، لذا تم تجويف القلب العربي إلى حد كبير بسبب دوره في السياسة الخارجية الأمريكية وانعدام شعبيتهما (مارك لينش 2013: 11- 28 :30).
- التدخل المالي عبر المؤسسات الأجنبية الغير رسمية:
هذا ما أثبتته التقارير والصحف والتصريحات الرسمية سواء المحلية أو الأجنبية المعروفة، منها: كشف مسئول المالية بوزارة الداخلية المصرية في الفترة من فبراير حتى أغسطس 2010 بان الإدارة الأمريكية قامت بتزويد المنظمات والجمعيات الأهلية التي تدين لها بالولاء في معظم أعمالها بمبلغ أربعين مليون دولار بعيدا عن رقابة أجهزة الدولة، كمنظمة فريد هاوس الأمريكية، ومنظمة كونراد اديناور الألمانية، والمعهدين الديمقراطي الوطني والجمهوري الدولي، والتي تعمل هذه دون ترخيص، وأنها تتلقى سيولة مالية هائلة منها ثلاثة ملايين جنيه لكونراد اديناور وستة ملايين جنيه للمعهد الديمقراطي، كما أن الحكومة الأمريكية تعمدت اقتطاع ستين مليون دولار من المساعدات المالية الخاصة بمصر لمصلحة المنظمات الأمريكية والمصرية تحت مسمى دعم الديمقراطية، وقد تم رصد مبلغ 240 مليون جنية كتمويل أجنبي إلى منظمات المجتمع المدني المصرية(زغلول راغب2012 : 265- 266).
- التدخل المباشرة عبر استخدام القوة العسكرية
النموذج الليبي يجسد استخدام القوة من قبل المجتمع الدولي لدعم قوى الثورة بغية إسقاط نظام معمر القذافي، بدأه بقرارات دولية كالقرار رقم (1970) في فبراير 2011 لفرض عقوبات على النظام الليبي القائم، ثم أعقبه القرار رقم (1973) في مارس 2011 لإقامة منطقة حضر جوي على الأجواء الليبية والترخيص باستخدام القوى المادية -من ضمنها العسكرية- بحسب ما جاء في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لحماية السكان المدنيين، والذي بدوره وفر الغطاء الدولي للتدخل العسكري الذي استمر من مارس إلى أكتوبر من عام 2011، وأدى في النهاية لإسقاط نظام معمر القذافي.
من خلال ما سبق ذكره يمكن القول إن تدخل الدول الغربية في ثورات الربيع العربي بهذا الشكل كان يرجع لعدة أسباب، وهى تحدد السيناريوهات المستقبلية المحتملة، ومن هذه الأسباب ما يلي (احمد عبد الكريم 2012 : 170):-
- تحسين صورة الغرب عند الشعوب، خاصة بعد أن أصبحت الشعوب تنظر إليه على أنه مستعمر ومعاد لها، ومن ذلك:و
- عون الغرب لهذه الأنظمة فترة من الزمن، ما ساعدها على ظلم الشعوب وكبتها.
- العدوان الذي مارسه الغرب على الأمة الإسلامية والعربية تحت ما يسمى بمكافحة الإرهاب، الأمر الذي ولد حقدا وكراهية للغرب.
- رجحان كفة الشعوب على كفة الحكام، وهذا يدفع الغرب للتعاون مع الأقوى والأرجح بسبب المصالح، لأن الغرب لا تحكمه الأخلاق بل المصالح الضيقة.
- استباق الإحداث ومحاولة كسب ود الحكومات القادمة التي ستقوم على الثورة الشعبية .
- تنامي التيارات الإسلامية خاصة السلفية وانحسار التيارات العلمانية واليسارية والقومية وانتشار التأييد للتوجه الإسلامي بين أفراد الشعوب العربية وصعود التيارات الإسلامية للواجهة في شتى المجالات، مما دعا الغرب للإسراع بعملية احتواء وإرضاء مسبق لهذه التيارات الإسلامية.
ويمكن القول إجمالا أن تضافر القوى والعوامل الخارجية أدت بالنتيجة النهائية إلى تأجيج الثورات وعملية التغيير السريع التي شهدتها المنطقة العربية.
- ثانيا: الدور الرافض لتبعية الثورات للعامل الخارجي
إن أحد أهم أسباب ثورات الربيع العربي هي تبعية وخنوع الحكام العرب للغرب، لذلك جاءت ردود أفعال المجتمع الدولي متفاوتة ما بين المباركة والخوف والحذر، عليه فقد رفض الكثير من الأطراف ربط الربيع العربي بالإملاءات الدولية لاحتواء التغيرات ورعايتها، لان هذه الثورات جاءت عفوية وذات رسالة مفادها أن هذه الشعوب قادرة على التغيير ومؤهلة لقيادة بلدانها، بل اعتبرت أن ما يحدث شأن داخلي، وفى المقابل أعلنت عدم تبعيتها وخضوعها للغرب بعد الثورات، فهي كل ما تحتاج إليه هو مساحة من الحرية والخصوصية بعيدا عن التدخل الخارجي، فالأسباب المحركة للثورات تحكم في ثلاثية الاستبداد والفساد والتبعية، إلى جانب غياب حكم القانون وافتقاد آليات تنفيذ القانون الذي كان موجودا، إضافة إلى هيمنة السلطات التنفيذية على السلطات الأخرى، أما عن القوى المحركة لها فتكمن في فئات الشباب والطبقات الفقيرة والقوى العقائدية (مصطفى عثمان2013 : من77 إلى 79).
وهذا ما أكده الباحث الفرنسي(جان بيير فيليو) الأستاذ بمعهد العلوم السياسية بباريس الذي رأى أن: البرامج السياسية لهذه الانتفاضات تتمثل في المبادئ الأربعة الآتية (هاشم صالح 2013 :328-329):-
- المطالبة بالشفافية في العالم العربي بسبب التعتيم وانغلاق الأنظمة على ذاتها واستفرادها بالقرار من دون بقية الشعب الذي يريد أن يشارك في صنع القرار الذي يتوقف عليه مصيره.
- الشعب أصبح يكره الفساد ولم يعد يتحمل مظاهر المحسوبية واستغلال المناصب من اجل الغنى غير المشروع.
- المطالبة بالعدالة الاجتماعية واقتسام الثروة التي أصبحت حكرا على السلطة وحاشيتها.
- المطالبة بالانتخابات الحرة لا المزورة، أي متعطش للحرية والديمقراطية -ففي رد على سؤال أن العرب معروفون بعبادة القائد الملهم قال فيليو “بل أنهم متعطشون للنظام البرلماني الحر وليس للقائد الأوحد”.
أيضا من الحجج التي تثبت عفوية واستقلالية مطالب الثورات العربية:-
- رجح في تاريخ 23فبراير2011 رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) أن تسفر التغيرات الجارية في العالم العربي عن حالة من عدم الاستقرار تستمر طويلا، في حين أعرب وزير دفاعه في تلك الفترة متحسرا على خسارة الرئيس المصري الذي يعتبر حليفا للغرب ومهادنا لإسرائيل، بيد أن نتنياهو عاد وحذر مما اعتبره التداعيات المحتملة لانهيار الأنظمة في الدول العربية المجاورة لإسرائيل على مسالة الشريك السياسي، معترفا بأن أفضل خبراء الاستخبارات في دول كثيرة لم يتوقعوا ما جرى وأنهم غير قادرين على تقويم النتائج (مصطفى عثمان2013: 92).
- في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض تطرق الرئيس السابق (باراك اوباما) إلى موجة الثورات التي وقعت في أكثر من بلد عربي قائلا “أن التغيير في الشرق الأوسط يتم بإرادة شعوبهم وليس وفقا لمشيئة واشنطن”، وفى المقابل قال في تصريح آخر في 3 ابريل 2011 (أن الانتفاضات في منطقة الشرق الأوسط تخدم الولايات المتحدة وتمنحها فرصة كبيرة، ورأى أن هذه الثورات تفتح أفاق واسعة أمام الأجيال الجديدة، فقد وصفها اوباما بأنها: رياح حرية هبت على المنطقة) (مصطفى عثمان2013 :93-94).
- يسأل المفكر العربي سمير أمين في كتابه (العالم العربي ضمن المدى الطويل ): هل هو ربيع عربي حقا؟. فيجيب أن هذه الانتفاضات لا تهدف إلى إزاحة الديكتاتوريين على الحكم بل لإحداث تغيرات ضخمة على المدى الطويل، فهو صرخة غضب ضد التفاوت الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء، كما تمثل صرخة غضب ضد النظام الاقتصادي العالمي، إنها تريد إخراج العرب من حالة التبعية والخنوع للغرب الذي ينهب ثرواتها وخيراتها، كما يمكن أيضا اعتبارها على الصعيد السياسي صرخة احتجاج ضد أملاءات السياسة الأمريكية والأطلسية على العرب (هاشم صالح2013 : 318- 319).
- يرى الصحفيان والمؤرخان الفرنسيان(بنيامين ستورا، إدوي بلينيل)أن (ديناميكية التحديث الاجتماعي والسياسي كانت شغالة وفعالة تحت السطح ولكن غطت عليها الإشكالية الأصولية … وحجبتها…هناك أيضا النقمة الاجتماعية على الأنظمة التي حكمت بعد الاستقلال وفشلت في إنجاح التنمية في انتخابات مزورة سلفا… أيضا تزايد النخب الحضرية في المدن، ثم تعميم التعليم على أوسع نطاق، وبالتالي ليست وسائل المعلومات الحديثة كالفيسبوك والتوتير والعربية والجزيرة هي التي أدت إلى اندلاع الانتفاضات العربية، بل عوامل اجتماعية وسياسية عميقة كانت تشتغل تحت السطح من دون أن يراها احد. إن المجتمعات العربية كانت تشهد نقلة عميقة باتجاه الحداثة منذ سنوات عديدة، ولكن الغرب كان يعتقد أنها غارفة في الأصولية، وهذه النقلة تتمثل في السياسة العالمية الجديدة ومكانة الفرد في المجتمع ودور الشبيبة المتصاعدة …الخ، وهذه المتغيرات كانت تعني إقامة علاقة جديدة مع العالم مختلفة عن العلاقة التقليدية لجيل الآباء…إن صانع الثورة الحقيقي هو الإنسان أي الشخص الذي قرر النزول إلى الشارع والمغامرة بنفسه وتقديم التضحية العظمى التي لا تضحية بعدها)(هاشم صالح2013 :322 إلى 325).
- يحاول الباحث (ماتيوغيدير) أستاذ علم الإسلاميات والفكر العربي في جامعة تولوز الفرنسية في كتابه (صدمة الثورات العربية) تفسير أسباب اندلاع الانتفاضات العربية، فقد درس البنية الداخلية للدول العربية، وتوصل بان هناك قوى رئيسية تؤثر على الجميع هي الجيش والقبيلة والطائفة والجامع، وإذا لم نأخذ بهذه العوامل بعين الاعتبار فإننا لن نفهم أوضاع البلدان العربية بشكل جيد. وقال إن (هذه الانتفاضات أثبتت أنهم شعوب محترمة ترغب في الحرية والعدالة والكرامة مثل بقية شعوب الأرض، فالشعوب العربية ما عادت تقبل بوضع الرعية بل أصبحت تطالب بوضع المواطن الحر والمسئول…لكن من مرحلة الرعية إلى مرحلة المواطنة الحديثة وحقوق الإنسان، وهذه ليست عملية سهلة على الإطلاق… ومن الواضح أن الحركات الإسلامية بكل تياراتها سوف تكون حاضرة على المدى البعيد وسوف تلعب دورا سياسيا مهما، ولكن هيمنة الإسلاميين مستبعدة في البلدان العربية لأسباب داخلية وخارجية) (هاشم صالح2013: 325 إلى 327).
- يرى كل من (جون اربرادلي ولين نويهد) أن: الحراك الشعبي كان نتاج الديكتاتورية العربية المسنة ووحشية الأجهزة الأمنية والفساد والمحسوبية التي تلت خصخصة أصول الدولة في بعض البلدان، وما زاد غضب الشعب هو محاولة بعض الحكام المستبدين تهيئة أبنائهم لخلافتهم في منصبهم، وفي وقت واحد مع بداية الحراك في مصر، حيث اندلعت الاعتراضات في أجزاء مختلفة من العواصم العربية.. والتي كانت عنيفة أحيانا، للمطالبة بتغييرات سياسية فورية وضرورية، مما أدى إلى نشوب أعمال ضخمة في الشوارع والساحات العامة، والتي قامت القوات لحكومية بسحقها بالقوة ( سي حمدي 2019: 87).
تقييم فترة ما بعد الثورات:
يتضح مما سبق ذكره بأن الثورات العربية سواء كان العامل الخارجي داعما لها أو العامل الداخلي كان ورائها، أنها كانت سريعة وفجائية وجذرية، وبان آثارها على المنطقة العربية كانت واضحة حتى بالنسبة للدول المستقرة التي لم تحدث فيها ثورات.
ولكن بالمقابل تبين أن مرحلة ما بعد إسقاط الأنظمة والمتمثلة في بناء الدولة هي الأطول، لأنها تتطلب إعادة بناء العقد السياسي للدولة وتغيير فلسفة النظام وبنيته وإدارته عبر مسارات واضحة تنقل الدولة من الثورة إلى بناء الدولة.
والنموذج الليبي يشهد على ذلك، فرغم إسقاط النظام في فترة وجيزة لم تتعدى الثمانية أشهر، ووضع خارطة طريق عبر إعلان دستوري مؤقت، إلا أن الحالة الليبية لم تشهد استقرارا وقيام دولة ديمقراطية كما رسم لها منذ عام 2011، فالنظام الليبي الانتقالي الجديد لا يملك رؤية واضحة للمستقبل ولم تتبلور هيكليته ولم يخرج من تبعات إسقاط النظام بعد ويعانى أزمة بناء دولة، لأن القوى التي شاركت في إسقاط النظام كانت تمثل مناطق وقبائل مختلفة، فالدولة لازالت هشة وغير مسيطرة على حدودها ومواردها، كما أن الجهاز الحكومي ومن قبله البرلمان المؤقت لازال ضعيفا وغير قادرين على مواجهة المستجدات والأزمات المتلاحقة من البيئة المحيطة به، إلى جانب أتساع طموح المواطن بعد الثورة بالتعويل على الجهات الرسمية لتحقيق مطالبه في اقرب وقت، والاهم من كل هذا الجانب الأمني المتعلق بانتشار السلاح وكثرة عدد المليشيات الخارجة عن إطار الدولة، وانتشار الجماعات المتشددة والإجرامية، وأيضا الحروب الداخلية المتكررة على النفوذ والسلطة ودور العامل الخارجي في تأجيجها ودعم الانقسام السياسي بين الفرقاء الليبيين.
الخاتمة
من خلال تتبع مسار الثورات العربية في أكثر من بلد ودراسة العوامل التي أدت إلى إسقاط الأنظمة فيها، يتضح أن دول الربيع العربي التي أسقطت أنظمتها كانت تعاني من غياب للحكم الرشيد وضعف القدرات الاستجابية والتنظيمية والتوزيعية، فهي لم تقم بمحاولات جادة في تغيير سياساتها والاستجابة للمطالب الشعبية في شكل سياسيات وقرارات تحاكى البيئة الداخلية والخارجية وتحقق الاستقرار، ومن ثم تزيد من نسبة التأييد والرضا عن سياساتها، مما أدى في النهاية إلى عدم الاستقرار ومن ثم الثورة والإطاحة بهذه الأنظمة. بينما النظم الأخرى المستقرة التي استطاعت التكيف مع مطالب المحكومين فكانت لها خصوصيات وتجارب تاريخية مختلفة بعض الشيء عن دول الربيع العربي، إلى جانب أنها تعاملت مع أزماتها ومطالب البيئة الداخلية والخارجية بشكل متدرج وسلمي.
أما عن العامل الدولي في هذه الثورات فهو أيضا متعلق بتعامل هذه الأنظمة مع مطالب وضغوطات البيئة الدولية، كذلك الأمر بالنسبة للتفسيرين المتعلقين بدور العامل الخارجي في الثورات العربية المؤيد والمعارض، فالأول الذي دعمته مسالة التبعية ونظرية المؤامرة، تم حشد الأدلة على مقولات أنصاره مستندين إلى وقائع شتى تؤكد نظريتهم، وفي مقدمتها أن الغرب لهم أجنداته الخاصة، وأنه لا يساند ثورة من الثورات إلا أن تكون له مصلحة في انتصارها، فهذه تبين أن الغرب لن يتركوا المنطقة العربية تسير في غير اتجاه ترتضيه لها. ولكن بالمقابل نجد تفسيرات للطرف الآخر الذي يرى بان السبب الرئيسي والمحرك لهذه الثورات مبعثه ودافعه كان في الأساس داخلي ومعبرا عن حالة الاحتقان لعشرات السنين ضد أنظمتها وظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وما الدور الخارجي في هذه الثورات إلا عاملا مساعدا للثورات وضاغطا على الأنظمة، فالثورات العربية المطالبة بالتغيير أو إسقاط الأنظمة هي نتاج تضافر عوامل داخلية وتوفر بيئة دولية مؤيدة ومساندة لهذا التغير وخصوصا الدول الغربية.
النتائج:
- إن الثورات العربية اتسمت بعدة سمات كان من أهمها غياب القيادة الكاريزمية، والرابط الأيديولوجي لها، إلى جانب غلبة عنصر الشباب عليها وغياب كتل المعارضة والأحزاب التقليدية في بدايتها، إضافة إلى انهيار حاجز الخوف لدى هذه الشريحة الاجتماعية.
- تعاملت الأنظمة المستقرة وبخاصة الملكية مع المطالب العاجلة بنوع من الحكمة والاستجابة السريعة، إلى جانب شبكة العلاقات التي كونتها مع ضغوط البيئة الدولية التي اتسمت بالاستقرار، كل هذا جعلها تتجاوز حالة الربيع العربي بنجاح.
- إن الدور الخارجي في الثورات العربية لم يكن بنفس التأثير أو الدافع في دول الثورات العربية، حيث أن تأثيره كان متغير ما بين دعم الثورة ومرحلة ما بعد الثورة أي التحول الديمقراطي، فمثلا في مصر وتونس ومع بداية الثورة كان الدور الخارجي محدودا، بينما أثناء الانتقال الديمقراطي في مصر زادت وتيرته في دعم الحراك الشعبي وسيطرت المؤسسة العسكرية على الحكم في عام 2014، وفي تونس عندما ظهر الانقسام بين القوى الإسلامية والمدنية.
- أن مرحلة ما بعد الثورة ليس بالضرورة أن تنتج دول ديمقراطية خاصة إذا كانت الثورة عنيفة ومسلحة، مما يعيد المشهد مرة أخرى لقيام دول تسلطية جديدة وصراع مستمر بين قوى الثورة والقوى المناهضة للثورة بسبب سياسة القمع والإقصاء تحت مبررات التصدي لأعداء الثورة.
قائمة المراجع:
- أبراش، إبراهيم، (2012/ 07/ 22)، استشراف مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي ما بعد (الربيع العربي( ، الحوار المتمدن، العدد 3796 .
- عبد الكريم، أحمد، (2012)، غياب الايدولوجيا عن الثورات العربية، مجلة الدراسات الدولية، جامعة بغداد، عدد51.
- السيسي، أكرم، (21 يناير 2020)، 25 يناير ثورة ام مؤامرة، بوابة الشروق، https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=21012020&id=c38b6342-0d21-4c39-9f0b-c1919b954496
- جواد، بلقيس محمد، (2012)، سوسيولوجية ثورات الربيع العربي، مجلة العلوم السياسية، جامعة بغداد، عدد 44.
- النجار، زغلول راغب،(2012)، ما بعد ربيع الثورات العربية، القاهرة: دار نهضة مصر للنشر.
- فريد، طارق، (2012)، تصحيح منهجية ثورة لم تنجز بعد، الجزء الأول، القاهرة: مطابع الأهرام التجارية.
- عثمان، طارق، (04/03/2013)، حماس والربيع العربي– جدل المكسب والخسارة، مركز نماء للبحوث والدراسات، الرياضhttp://nama- center.com/ActivitieDatials.aspx?id=223.
- سي حمدي، عبد المؤمن، (2019)، إشكالية التغيير السياسي في المنطقة العربية في ظل التحولات الجديدة، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد بوضياف.
- لينش، مارك، وآخرون، (2013)، ترجمة هاني حلمي، الثورة في العالم العربي، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع.
- إسماعيل، مصطفى عثمان. (2013)، الربيع العربي، ثورات لم تكتمل بعد، القاهرة: مكتبة مدبولي.
- جلود، ميثاق خيرالله، (2013)، موقف الولايات المتحدة الأمريكية من الثورات العربية عام 2011: مصر وليبيا أنموذجان، جامعة الموصل: مركز الدراسات الإقليمية.
- صالح، هاشم،(2013)، الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ، بيروت : دار الساقى .