اللاهوت المريمي المسيحي في ظل العهدين القديم والجديد

سهام صالحي1

1 باحثة دكتوراه تخصص مقارنة أديان، كلية الآداب والعلوم الإنسانية-سايس، جامعة سيدي محمد بن عبد الله. فاس/ المغرب

البريد الإلكتروني: Sihamsalhi2211@gmail.com

HNSJ, 2021, 2(11); https://doi.org/10.53796/hnsj21121

تاريخ النشر: 01/11/2021م تاريخ القبول: 20/10/2021م

المستخلص

الحديث عن السيدة مريم عليها السلام، يدفعنا إلى استحضار سيرتها المتصفة بالقدسية والتفرد، لتحليل مجرياتها التاريخية وتحديد مدى تطابقها أو اختلافها مع ما حيك حولها من أخبار ثيولوجية وليتورجية أدرجت ضمن ما وصف باللاهوت المريمي. وقد تجاذبت الديانات السماوية مناحي هذه الشخصية لتتباين النظرة إليها، بين المتهم لها بأبشع الصفات، والمتشفع بها باعتبارها الشريكة في الفداء والخلاص. مما يجعل موضوع السيدة مريم يتجاوز المروي إلى علاقة تأثير وتأثر تمخض عنها خلق لصورة جديدة لها، تجمع التاريخي والعقدي والأسطوري. ويأتي هذا البحث، معتمدا على استقراء الكتب المقدسة، وفي إطار البحث العلمي المعزز بعلم مقارنة الأديان، لتناول هذه الشخصية، للخروج بنتائج في غاية الأهمية، توضح حقيقتها.

الكلمات المفتاحية: اللاهوت المريمي، الكتاب المقدس، الفرق المسيحية، السيدة مريم

Research Article

Mariamian theology under the Old and New Testaments

Siham Salhi1

1 Ph.D. Researcher specializing in religion comparison, Faculty of Arts and Humanities – Sais, Sidi Mohammed ben Abdullah University. Fes/ morocco.

Email: Sihamsalhi2211@gmail.com

HNSJ, 2021, 2(11); https://doi.org/10.53796/hnsj21121

Published at 01/11/2021 Accepted at 20/10/2021

Abstract

When Talking about Maryam, we find ourselves prompted to evoke her sacred character and uniqueness in order to analyze her history, and determine either it is compatible or not when studying the theoretical and liturgical news included in what was described as Mariamian theology. The monotheistic religions attracted the aspects of this character to make several different views, some of them accuse her with bad qualities, others saw her as a holy women blessed in the heavens, and the partner in redemption and salvation. This makes Maryam’s topic transcend the narrated one, to a relationship of influence that resulted creating a new image for her, which include historical, dogmatic, and legendary.

Key Words: Mariamian Theology, The Bible, Christian Differences, Mary

مقدمة:

كانت ولاتزال شخصية السيدة مريم مثار جدل كبير في الفكر الديني عموما، والمسيحي منه على وجه الخصوص. فطبيعة هذه الشخصية طبيعة إشكالية في أبعادها ومراميها، تتفرع بين مقدس لها مؤسس لسلطتها على الفكر المسيحي، ومنكر لحقيقتها، متجاوز كل المعطيات الدينية بشأنها، معتبر ما حيك حولها مجرد أساطير لا أساس لها من الصحة أو الحق. والواضح أن هناك غموضا يصل إلى حد الإبهام في تناول هذه الشخصية الوازنة في الفكر الديني، والتي أُنشئت حولها مذاهب وتوجهات فلسفية وفكرية متعددة أضفت عليها معالم شخصية قدسية امتدت آثارها إلى أنساق مختلفة من الفكر الديني المسيحي. لم تتناول المجادلات اللاهوتية السيدة مريم على وجه مباشر، بل المسيح بالأحرى، ومع ذلك سنرى كيف أدت هذه المجادلات إلى نتائج تختص بالعقيدة المريمية.

إشكالية الدراسة

تهدف هذه الدراسة إلى الإحاطة بمجموعة من القضايا والمسائل المرتبطة بالسيدة مريم عليها السلام، بتحديد مواضع التوافق والافتراق في سيرتها بين النظرة اليهودية والمسيحية. كما تهدف الدراسة إلى الإجابة عن السؤال المحوري التالي: إلى أي مدى تفردت السيدة مريم عليها السلام عن باقي نساء العالمين؟ وما الذي يميزها عن غيرها من النساء؟

سؤال تتفرع عنه مجموعة من الأسئلة سيحاول البحث الإجابة عنها وهي:

  • كيف كانت طبيعة الحمل وكيف تم وصف الولادة في الكتابات الانجيلية؟
  • لماذا حافظت مريم على لقب البتول رغم ولادتها للمسيح عليه السلام؟ وما حقيقة ذلك؟
  • ما هي الظروف التي أدت إلى وصف مريم بوالدة الإله؟ وما هو الأصل التاريخي لهذه التسمية؟
  • ما الذي أدى إلى ظهور اللاهوت المريمي؟
  • كيف ترجم تقديس السيدة مريم إلى عبادة متصلة بالأيقونات والتماثيل؟

أهمية الدراسة

تنبع أهمية هذا الموضوع من أهمية الكتب السماوية نفسها، فقد شكل الكتاب المقدس وعلى مر العصور أحد المحددات الأساسية والموجهات المركزية للعقل المتدين اليهودي ثم المسيحي. لتكون العقائد والأفكار والتصورات التي احتواها هذا الكتاب مؤثرة لا محالة على الواقع الاجتماعي والفكري والثقافي للمؤمنين به، ليتجاوز موضوع السيدة مريم المروي إلى علاقة تأثير وتأثر تمخض عنها خلق للمقدس. فقصة مولد وحياة مريم وولادتها للنبي عيسى عليهما السلام بكل تشعباتها وامتداداتها الفكرية والعقدية، توحي إلى كل باحث أو راغب في الاطلاع على مجريات هذه القصة، بأفكار لازمت الفكر الديني عموما وارتبطت به ارتباطا وثيقا، لأنها وجدت فيه التربة الخصبة والمنبت الملائم لمثل هذه التصورات. وانطلاقا من الأهمية القصوى التي تحتلها مثل هذه البحوث، وخطورة تجليات هذه المواضيع على الواقع الإنساني، كان العزم على اقتحام هذا المجال المليء بالمجازفات المعرفية، والممتلئ بالصعوبات والعراقيل النابعة من طبيعة البحث في الكتب المقدسة نفسها.

دوافع الدراسة

  • إبراز نظرة الديانة اليهودية والمسيحية إلى السيدة مريم.
  • تحديد شامل لنسب السيدة مريم ونشأتها، ووصفها الديني في الديانة المسيحية بطوائفها المختلفة.
  • إبراز الخلاف بين الطوائف المسيحية في تصور المعتقد، والتحول الذي طال العقيدة المسيحانية قبل وبعد القرن الرابع الميلادي، والمقصود فترة التوحيد المتعلقة بالمسيحية الأولى وفترة التثليث المتعلقة بالمسيحية الحالية.
  • توضيح حقيقة العقيدة المريمية وتبيان كيفية انتقالها من التقديس إلى التأليه والعبادة.

الدراسات السابقة

اعتنى العلماء قديما وحديثا بإبراز العقائد المسيحية، وكان تناول شخصية السيدة مريم عليها السلام منتسبا بالضرورة إلى هذه الدراسات باعتبار علاقتها المباشرة بالمسيح عليه السلام. وقد قمت بالاطلاع على عدد من هذه الكتب التي تناولت هذا الموضوع من قبيل:

وكتاب» تأليه مريم ابنة عمران والعبادات المقدمة لها عند النصارى» لمحمد عبد القادر الملكاوي، الذي هدف إلى إثبات تأليه النصارى لمريم ابنة عمران، من خلال كتب النصارى أنفسهم، وبين الفرق التي تؤلهها، والفرق التي تنكر ذلك، وذكر بعض العبادات المقدمة لها في الكنائس.

وكتاب» خلاصة اللاهوت المريمي» للأب أوغسطين دوبرة لاتور، ويعرض القضايا الأساسية في دراسة حياة السيدة مريم ومكانتها فيما يسمى باللاهوت المريمي[1]بطرح كاثوليكي.

وكتاب» مريم أم الرب ورمز الكنيسة» لماكس توريان ويعرض مختلف الألقاب والتسميات التي حصلت عليها السيدة مريم انطلاقا من القراءة والرؤية المسيحانية للكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.

وكتاب «Maria, études sur la sainte vierge » لمؤلفه Hubert Du manoir ، الذي حلل فيه اللاهوت المريمي من خلال الكتاب المقدس والأدب، ومن خلال الليتورجيا البيزنطية واليونانية، كما فسر بعض المفاهيم كالأمومة الإلهية والعذرية والقداسة.

وكتاب La vie de Marie, mère de Jésus» » لمؤلفه Franz Michel William، الذي حاول فيه التعريف بمريم وبحياتها داخل الشعب الإسرائيلي باعتبارها امرأة يهودية- قبيل ظهور المسيحية- من خلال دراسة متأنية لسفر المزامير.

كما قدمت مجلة Revue de Théologie et de Philosophie»» عددا مهما من المقالات التي تصب في الموضوع، تم فيها تناول الشخصية المريمية من جوانب مختلفة، وبمرجعيات دينية متنوعة.

أولا: السيدة مريم في الكتاب المقدس.

  1. سيرة السيدة مريم حسب الرواية الإنجيلية.

ولدت السيدة مريم حوالي سنة 18 قبل الميلاد، في الفترة التي احتل فيها الرومان المنطقة الشمالية من فلسطين التي عرفت باسم الجليل، فهي ابنة حنة »חנה» من بيت لحم ويوكاييم أو يوقيم »יאהוקים» من الناصرة، وحسب ما جاء في إنجيـــــل يعقـــــوب الأبوكريفي فقد كان الأبوان يقيـمان في الــناصرة[2]، وبالمقــــــارنة بين إنجيلي مرقس (15:40) ومتى (27: 56) ربما كانت أختها هي سالومة أم ابني زبدي، وفي هذه الحالة يكون يعقوب ويوحنا ابني خالة المسيح عيسى وهي نسيبة أليصابات زوجة زكريا التي كانت من بنات هارون (إنجيل لوقا 1: 5) مما قد يدفع إلى الظن أنها من سبط لاوي، بينما يكاد الإجماع ينعقد على أنها كانت من نسل داود الملك، وأن عبارة» مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ «المذكورة في إنجيل لوقا (1: 27) يمكن أن تكون وصفا لمريم أو ليوسف النجار خطيبها؛ وقد ورد في النسخة السريانية لإنجيل لوقا أن كليهما كان من بيت داود[3]. وجاء في كتاب »تاريخ يوسف النجار» أنها كانت بنت اثنتي عشرة سنة عندما خطبت ليوسف الذي كان أرملا في التسعين من عمره، وصاحب عائلة كبيرة، أما القصة الكتابية فتفترض أنه كان شابا مُقبلا على الزواج لأول مرة[4]. وحسب تقليد تسليم مريم ليوسف، فقد جاء في إنجيل يعقوب الأبوكريفي(8-9) أن مريم لما بلغت الثانية عشرة من عمرها، لم يعد من الممكن أن تبقى بعد في الهيكل، فعمد الكهنة إلى دعوة أرامل القرية من الرجال، وألقوا قرعة في الهيكل على أسمائهم بحيث يتم انتخاب أحدهم لأخذ مريم إلى بيته فوقعت القرعة على يوسف، على حسب العلامة التي أعطاها الملاك بهذا الخصوص لرئيس الكهنة[5]. وأثناء فترة الخطبة ظهر الملاك جبرائيل حاملا معه بشارة الحبل (لوقا 1: 28-35) وبعد أن وجدت مريم نفسها حبلى بواسطة الروح القدس وعلم يوسف بذلك، لم يشأ أن يشهر بها وأراد تخليتها سرا دون أن يعرضها للعار، ليتمثل له الملاك في الحلم (متى 1: 18-20) ويقرر أخذها إلى بيت لحم بالقرب من أورشليم حيث كان يتم إحصاء الأهالي من قبل الرومان، لتضطر مريم إلى وضع مولودها في مِذود بسبب امتلاء الفنادق بالوافدين[6].

وبالإجمال، قد تبدو حياة السيدة مريم بعد واقعة الحبل عادية إلى حد ما، خصوصا بعد تخليها عن العيش بالقرية التي ترعرعت فيها متجهة رفقة يوسف النجار للإقامة بمصر، كنوع من التضحية من أجل ابنها، إلا أنها وبعد حادثة الصلب، ستتخذ أبعادا أخرى يتقاطع فيها التقديس بالاتهام.

  1. السيدة مريم في الكتابات الكلاسيكية الأولى والمصادر اليهودية القديمة.

قبل التطرق إلى ذكر السيدة مريم وابنها في “العهد الجديد”، وجبت الإشارة إلى الظروف التي صاحبت حضورهما في الحياة الدينية اليهودية، فمما لا شك فيه أن ظهور المسيح كصوت جديد ينادي بالنبوة حاملا معه رسالة سماوية وسط بيئة بسيادة رومانية وثنية، سيجعله محارَبا ولو كان يحمل رسالة حقة. وقد وضحت معالم الموقف العدائي ضد المسيح وأمه في أغلب الكتابات الكلاسيكية والمصادر اليهودية القديمة، حيث لقب المؤرخ سوتنيوس Suetonius المسيح باسم كريستوس المحرض Chresto impulsor متهما إياه بتزعم فئة من اليهود الفقراء المهمشين، وبكونه قائدا للشغب ومثيرا للمشاكل، إلا أن هناك من اعتبر سوتنيوس يتحدث عن شخص آخر وليس المسيح Christus، باعتبار أن مصدر معلوماته غير معروف. وكان سيلسوس Celse[7] ضد الأصل اليهودي للمسيحية متهما المسيح بتلفيق قصة ولادته من عذراء، وأنه قادم من قرية يهودية ومن امرأة ريفية كانت تكسب عيشها بالغزل، وأن زوجها الذي كان يحترف النجارة طردها عندما أدينت بالزنا، وبينما كانت تجول بخزي، ولدت ابنها سرا، والذي عمل في كبره أجيرا في مصر لأنه كان فقيرا، وهناك تعلم بعض الحيل السحرية التي اشتهر بها المصريون ليعود معطيا لنفسه لقب إله[8]. وكان من ضمن تساؤلات سيلسوس:» هل والدة يسوع جميلة؟ وهل أقام الله علاقة معها لأنها جميلة، على الرغم من أنه لا يستطيع أن يحب جسدا فانيا بطبيعته؟ « ليستدرك أنها »لم تكن غنية ولا من أصل ملكي ولا حتى معروفة عند جيرانها». ثم يعلل بكون هذه الأشياء ليس لها علاقة بمملكة الله[9]. أما كورنيليوس تاسيتوس[10] Cornelius Tacitus فيرى أن المسيح غير موجود بالصيغة العقدية التي يراه بها المنتمون إليه، بل هو أسطورة تاريخية مسيحية لا غير، في حين أن عيسى كان شخصا عاديا أعدم لأنه مجرم.

وتعد تهمة» غير الشرعية «أقدم العبارات المؤرخة من التهم اليهودية حول ولادة يسوع نتيجة زنا، وأن والده الحقيقي كان جنديا رومانيا يدعى بانتيرا Pantera وكان هذا الاسم شائعا بين الجنود الرومان في تلك الفترة، لكن معظم المحللين يعتقدون أن بعض اليهود استخدموا هذا الاسم بسبب تشابهه مع الأصل اليوناني لكلمة «عذراء «في هذه الحالة، سيعني هذا أن الأمر مجرد رد فعل يهودي لعقيدة الحبل بلا دنس المسيحية، والتي لم تصبح موضوعا مسيحيا رئيسيا حتى قرابة نهاية القرن الأول الميلادي. ويؤكد سيلسوس أنه استنتج أحكامه من خلال الكتابات المسيحية الإنجيلية وغيرها، ومع تواصله الشخصي مع المسيحيين، إلا أن أوريجينOrigène يشكك بهذا ويرى أنه مجرد توظيف للأدبيات اليهودية ومعلومات متفرقة، ويمكن القول إن استنتاجات سيلسوس حول يسوع والمسيحية كان هجوما فلسفيا وليس تاريخيا.[11] وقد تنوعت مواقف العلماء حول حضور أو غياب شخصية المسيح ضمن مخطوطات قمران، حيث وضع البعض فرضية كون يسوع قد أمضى بعضا من سنوات حياته المبكرة بين الأسينيين وتأثر بهم، وذلك من خلال ما وجدوه في سفر حبقوق، في حين رأى البعض الآخر أن قصة يسوع كانت مفبركة بالكامل من خلال تفسير سفر ناحوم[12]. كما اعتقدت جماعات المتهودين والأبيونيين بولادة المسيح من علاقة طبيعية بين مريم ورجل عرفته، سواء كان يوسف النجار، أو غيره؛ وربما كان من مبرراتهم لذلك أنه لم يكن يوجد عندهم نص صحيح، أو أصل يوثق به على أن المسيح أشار إلى أنه ولد من عذراء، أو ربما لكون القول الذي كان ظاهرا آنذاك، وشائعا ومعترفا به من الناس، أنه كان ابنها من يوسف النجار من علاقة غير شرعية، بمعنى أنها كانت خطيبته ولم تكن بعد زوجة رسمية له؛ وقد ظل ذلك بلا جحد أو إنكار حتى عام 80م الذي كان بداية التفكير والهمس بفكرة الولادة من عذراء، الأمر الذي تأخر كثيرا، وكان جديرا بإثارة شكوك المتهودين؛ أو ربما أن السبب في ذلك هو إقرار القول بولادة المسيح من عذراء كعقيدة أساسية من عقائد الكنيسة لم يتم قبل 150م، وأن أصول الأناجيل الحالية كانت نتيجة لذلك خالية جميعها من قصة الولادة من عذراء التي نراها في إنجيلي متى ولوقا، وهذا يعني أن هذه العقيدة استوجبت بعض الوقت حتى تتمكن الكنيسة من تهيئة وجدان الشعب لتقبل هذا السر الفائق. أو ربما لاقتران القول بالولادة من عذراء بظهور القائلين بتأليهه وأمه فيما بعد[13]. ومع ذلك فإن فريقا منهم وهم الناصريون (إحدى جماعات الأبيونيين) أقروا بولادته من عذراء، لكنهم أصروا بحزم على رفض الادعاء له بالألوهية رغم ما بذله أصحاب تلك العقيدة لإقناعهم بها. وعليه، فربما كان إنكار الموحدين لعذراوية مريم، أو بمعنى أدق لولادة المسيح من عذراء، لتأخر القول به، وافتقاد الخبر الصحيح، والحفاظ على نقاء التوحيد.

وفي الأعراف الحاخامية اتهم يسوع[14] بالمعلم الهرطقي، حيث كانت الإشارة إليه بالاسم قليلة وغالبا ما كان يذكر باسم» شخص ما «أو»بن ستادا «أي ابن الخائنة أو» الساحر الشرير « أو» بن بانتيرا «وقد بين نص التلمود البابلي أن اليهود القدماء متورطـون في موت يسوع، كما وصفوا أمه مريم باسم» ستادا «وأنها مصففة شعر نساء خائنة لزوجها »بابوس بن يهوذا». كما قدم نص التلمود البابلي[15] (سنهدرين 67 أ) اضطرابا في هوية »ستادا» هل هو زوج ماري (أو مريم) الأب أم مريم نفسها، ليتم اعتماد الاختيار الثاني وتوضيح أن»بانتيرا» أو »بانديرا» هو عشيق مريم خارج إطار الزوجية[16].

استنتاجات

مما لا شك فيه أن ولادة السيدة للمسيح بمعجزة إلهية قد أثار نقاشات عديدة لما له من خرق لنواميس البشر ونواميس الطبيعة البشرية، وكخلاصة تحليلية لما سبق يمكن إيراد مختلف النقاط السالفة وغيرها في الجدول التوضيحي التالي:

اليهودية المسيحية
الاسم מריאם

مريام

ماري-ماريا-مادونا

marie -mary-maria-madone

النسب אל-דאווד

آل داود

آل داود
الأب יאהוקים

يهوياقيم

يوكايم-يوقيم
الأم חנה

حنة

حنة
مكان الولادة الناصرة (الجليل) الناصرة(الجليل)
الكفيل באבוס בן יהודה

بابوس بن يهوذا

(يوسف النجار)

يوسف

(عند الكاثوليك والأرثوذكس)

الزوج באבוס בן יהודה

بابوس بن يهوذا

يوسف

(عند البروتستانت)

الأبناء עמנואל

عمانوئيل

عند الكاثوليك والأرثوذكس: يسوع المسيح

عند البروتستانت: يسوع المسيح-جيمس-يهوذا-يوسي –سمعان-يعقوب-أختان (ربما سالومي ومريم)

حامل البشارة لا ذكر له جبريل
طبيعة الحمل علاقة غير شرعية روح القدس
نسب المسيح بن ستادا

بن بانتيرا/ بانديرا

ابن غير شرعي ليوسف

ابن الله (عند الكاثوليك والأرثوذكس)

ابن يوسف النجار (عند البروتستانت)

مكان الولادة لا ذكر له بيت لحم في مذود
رد فعل قوم مريم اتهام بالزنا تضارب الأقوال في الأناجيل
البتولية عذراء قبل ولادة المسيح دوام البتولية أي قبل وبعد الولادة (عند الكاثوليك والأرثوذكس)

عذراء قبل ولادة المسيح (عند البروتستانت)

ثانيا: أسس اللاهوت المريمي.

يبتدئ الثناء على مريم في الأناجيل من البشارة بالمولود، وقد أضربت الكنيسة تماما عن أي تناول تاريخي يستهدف التعريف بصورتها، واكتفت بتمجيدها وتعظيمها؛ حيث سميت »ملكة السماء»، ولقبت في العصور الوسطى »سيدتنا»، وأطلق عليها اسم »مادونا» في العصر الحديث، ثم »الطاهرة» في العصر الحالي، وهي صفات أضفت عليها نوعا من الخلود وأسهمت في ظهور العديد من العقائد أطلق عليها اللاهوت المريمي.

  1. عقيدة الحبل بلا دنس:

يعتقد النصارى بجميع طوائفهم أن الخطيئة الأصلية تتوارثها الأجيال منذ بدء الخليقة متسلسلة إلى جميع أفراد الجنس البشري، ولا يستثنى منها أحد إلا المسيح المنزه عن الخطيئة على الإطلاق، ويضيف الكاثوليك أن مريم أيضا قد وجدت منزهة عن الخطيئة. وترى هذه العقيدة أنها دخلت إلى العالم وهي «ممتلئة بالنعمة« وذلك منذ لحظة الحبل بها من أبويها، وهذه النعمة الخاصة قد أعطيت لها بصفة فريدة واستثنائية، نظرا لاستحقاقات ابنها المسيح الفادي، فلكي يتجسد ويصير إنسانا كاملا كان لابد له من طبيعة إنسانية كاملة غير ملوثة بالخطيئة لذلك وجب أن تكون الأم التي سيأخذ منها طبيعته البشرية طاهرة وبريئة من كل دنس وخطيئة. ويلاحظ أن العبارة «حبل بلا دنس «قد تدعو إلى الالتباس والخلط بين الحبل بلا دنس والحمل البتولي، فالعبارة الأولى تعني أن والدي مريم حبلا بها من غير الخطيئة الأصلية، في حين أن العبارة الأخرى تعني أن مريم حملت من غير أن تعرف رجلا، بالمعنى الكتابي للكلمة طبقا لما جاء في إنجيل لوقا (1: 34). وتتناول العبارة الأولى قداسة مريم منذ دخولها ووجودها في هذا العالم، في حين أن العبارة الأخرى تتناول الحبل بيسوع لدى بشارة الملاك لمريم. والمقصود أن مريم استثنيت من حالة الجنس البشري الخاطئة، وأنها لم تشارك في أي لحظة كانت في تاريخ الخطيئة، حيث لم يكن للسيدة مريم نصيب في هذه الحالة الشاملة لجميع البشر[17].

وقد اعتمد القائلون بهذه العقيدة على براهين من العهد القديم منها ما جاء في سفر التكوين (3: 15) »وَأضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأةِ وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا» والمقصود هنا -حسب الآباء-الشيطان ومريم التي لم يمسها الفساد الأصلي الذي كان قد عم الطبيعة، أي لم يمسها دنس الخطيئة الأصلية. أما نصوص العهد الجديد فتشهد_ حسب الكنيسة الكاثوليكية_ بطريقة أوضح لهذه العقيدة، حيث جاء في قول جبرائيل لها:»لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ» (لوقا 1: 30) أي إن بشارة مريم بالفرح جاءت تكليلا لكافة البشارات التي وردت في العهد القديم. ويصر هذا التعليم على أن مريم قد وُلدت من دون »ذنب أصيل» وقد سمح لها هذا بأن تلد يسوع في وضع خاص من النقاء الأخلاقي[18]. خلافا لما يعتقده الكاثوليك، لا يؤمن الأرثوذكس والبروتستانت بعقيدة الحبل بلا دنس، كما أنهم ينفون صحة عقيدة الكنيسة الكاثوليكية القائلة إن مريم شريكة في عمل الفداء، ويرفضون قولهم بعصمة العذراء الكاملة عن الخطإ، ويرون كل ذلك عقائد تمت إضافتها _بلا إجماع_ إلى قانون الإيمان المسيحي.

  1. البتولية الدائمة.

يعتبر الآباء أن بتولية العذراء هي معطى موضوعي في العهد الجديد لا يقبل أي شك، إلا أن كلمة بتول في العهد القديم كانت تحمل-غالبا-معنى الاحتقار وهو ما وضحته قصة ابنة يفتاح التي كانت تبكي بتوليتها قبل أن تعرف شرف الزواج والأمومة (قضاة 11: 38)، كما حمل لقب بتول معنى العار حسب سفري يوئيل (1: 8) وعاموس (5: 2). وعند اقتراب العهد المسيحي، اتخذ مفهوم البتولية معنى صوفيا، وأصبحت بتولية مريم علامة اكتفائها بحب الله الكامل[19]. ويؤكد تقليد الكنيسة العريق بتولية مريم الدائمة، وكونها حملت حملا بتوليا من الروح القدس (حسب تأكيد إنجيلي متى ولوقا)، وبقائها عذراء بعد الولادة، أي لم تلد أولادا لا بعد ولادتها ليسوع فحسب، بل لم يقم وصال بينها وبين رجل.[20]

إن عدم استمرارية بتولية العذراء بعد ولادتها للمسيح لا يعد خطيئة أو عارا ولا يقلل من شأنها ومكانتها، كما أن القول بدوام بتوليتها لم يرد في التاريخ إلا بعد ظهور بدع وهرطقات كثيرة؛ إذ ثبت اقتران العذراء بعد ولادة المسيح بالقديس يوسف وولادتها لأبناء له حسبما جاء في إنجيل متى (1: 24-25)» فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْمِ فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ. وَلَمْ يَعْرِفْهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ. وَدَعَا اسْمَهُ يَسُوعَ « أي إنه عرفها بعد إنجابها لابنها البكر يسوع المسيح، ومعنى كلمة يَعْرِفْهَا: أي يجامعها جماع الأزواج، ودليل أن كلمة يعرفها تعني النكاح والوطء ما جاء في سفر التكوين (4: 1-2):» وَعَرَفَ ادَمُ حَوَّاءَ امْرَأتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ قَايِين« وقوله: «ابْنَهَا الْبِكْر« دليل على أنه الأول بين إخوته حسب ما ورد في إنجيل لوقا (2: 7) وقد أثبتت النصوص الإنجيلية الأخرى وجود إخوة للمسيح (مرقس6: 3) و(متى 12: 46)، ومع ذلك فإن آباء الكنيسة أكدوا دائما بتولية مريم الدائمة معالجين حياتها الجنسية بواسطة شرحين بديلين: أولهما أن الأخوة لا تعني الأخوة بشكل حرفي، أي إنهم من الأم نفسها، بل هو اصطلاح عام يشير إلى أبناء العمومة أو الخؤولة، وقد أصبح هذا الشرح هو الشرح القياسي في الغرب، وأيدته الكنيسة الكاثوليكية ودافعت عنه. وفي الشرق آثر المتحدثون باللغة الإغريقية من المسيحيين وجهة نظر مختلفة، بأن قالوا كان الإخوة أبناء يوسف، ولكن من زواج سالف، وبذلك لم يمتلكوا قرابة عضوية بيسوع أو بأمه[21]، ويجنح لهذا الفكر بعض المفكرين واللاهوتيين من البروتستانت، غير أن كثيرين منهم لا يجد غضاضة في قبول فكرة أن إخوة المسيح هم إخوته من مريم ويوسف، وأن زواجها لا يقلل بحال من مركزها العظيم[22]. والغالب أنهم أبناء مريم ويوسف ولدوا فيما بعد، أثناء زواجهما، ويمكن القول بالإعجاز في عذريتها وقت ميلاد المسيح فقط وليس بعده، ودوام العذرية بعد الولادة يعد محالا ويناقض العقل تماما.

  1. تلقيب السيدة مريم بوالدة الإله.

تعتقد الكنيسة الأرثودوكسية والكاثوليكية بأن تلقيب مريم بوالدة الإله (theotokos) ضرورة لاهوتية تحتمها حقيقة التجسد الإلهي، بما أن المولود منها هو السيد المسيح «الكلمة «الإله المتأنس، بينما ترفض الكنيسة البروتستانتية ذلك وتنكر عليها هذا اللقب مكتفية بكونها والدة يسوع الإنسان[23]. ومما استُند إليه من براهين كتابية في هذه العقيدة من العهد القديم ما استنبط من قول أشعياء النبي:»وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَه عِمَّانُوئِيلَ»(أشعياء 7: 14). أما في العهد الجديد فقد استدل بقول الملك للعذراء مريم:» اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ« (لوقا 1: 35).

تضاربت الآراء حول تأليه السيدة مريم في المسيحية الأولى، وكان أهمها قول الكاهن كيرلس الإسكندري في رده على آراء نسطور[24] التي تقول إن مريم ليست أم الإله theotokos، وأنها أم المسيح الإنسان christotokos أي إنها ليست سوى وسيلة لتعطي المسيح طبيعة بشرية. فالإله لم يتخذ جسدا بمعنى أنه ولد حقيقة كإنسان، بل إنه اتحد بإنسان كان موجودا قبل الاتحاد[25]. وقد ترك هذا النزاع أثرا على جموع المسيحيين الذي انتهى بإقرار لاهوت يسوع ومساواته للآب في الجوهر، مما جعل الناس يبحثون عن شخصية وسطى تقربهم إليه، وقد كانت أمه مريم، ليتم التقرب منها والتعبد لها. ويظهر أن كيرلس الإسكندري تولى الرد على مذهب النساطرة بصيغة شابها اللبس، مما أدى إلى نشوء مذاهب وطوائف أخرى تقول بتأليه السيدة مريم؛ ومن أوائل هذه الطوائف نجد الغنوصية الذين نفوا البشرية عن المسيح، فيما أكدوا على طبيعته الإلهية، وزعموا أن عيوب المادة تتنافى مع طهارة الجوهر السماوي، مؤكدين أن المسيح بدلا من أن يولد من رحم السيدة مريم، نزل على ضفاف نهر الأردن في هيئة إنسان كامل، وأدركته الحواس[26]. في حين قالت المارسيونية بوجود إلهين أحدهما الإله العادل، أو الإله ديميدرج أي الخالق، وهو الإله الذي اتخذ من بني إسرائيل شعبا مختارا وأنزل عليهم التوراة، والآخر الإله الخير الذي ظهر متمثلا بالمسيح، وخلص الإنسانية من خطاياها، وقد كان للإله الأول السلطان حتى ظهر الإله الثاني، وأمه أبطلت جميع أعمال الإله الأول وزال سلطانه، ومن الواضح تأثر هذا المذهب بالزرادشتية[27]. كما ألّهت فرقة إليان المسيح وقررت أنه ابن الله، فذهبت إلى أن مريم لم تحمل به كما تحمل النساء بالأجنة، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب، لأن الكلمة الابن دخلت من أذنها وخرجت لتوها من حيث يخرج الولد، وأن ما ظهر من شخص المسيح في الأعين إنما هو خيال بالصورة التي تظهر في المرآة فلم يكن المسيح جسما متجسما كثيفا كما في الحقيقة، وهذا العمل انعكس على أمه التي صارت والدة للإله وجب تقديسها[28]. أما فرقة البربرانية أو المريميين التي ظهرت في القرن الخامس الميلادي وهم وثنيون اعتنقوا المسيحية كانوا يعبدون الزهرة، حاولوا التقريب بين ما كانوا يعبدون وعقيدتهم الجديدة، فاعتبروا مريم ملكة السماء أو إلهة السماء بدلا من الزهرة، وأطلقوا على أنفسهم اسم المريميين[29]؛ وقد انقرضت هذه الفرقة تاركة آثارا ورواسب كثيرة في معظم الفرق المسيحية تتمثل في عدة معتقدات وطقوس خاصة بالسيدة مريم تعتنقها جميع الفرق المسيحية ما عدا البروتستانت.

من الطبيعي أن نرى فرقا رفضت ألوهية المسيح وأمه مريم وانحازت عن التوحيد، والحقيقة أن الفرق التوحيدية كانت على مبادئ المسيح، ولكن قوة الفرق الأخرى المدعومة من الدولة الرومانية ظلت تحارب فرق التوحيد حتى أبادت معتنقيها ولم يبق منها إلا القليل. فقد اعتبرت الفرقة الأبيونية المسيح هو المنتظر الذي تحدثت عنه أسفار التوراة وأنكرت ألوهيته[30]، صرح الآريوس أن المسيح ليس إلها ولا ابنا لله وأمه ليست إلهة، مما أثار معارك من الجدل في جسد كل الكنيسة وهزها لأكثر من نصف قرن، ما أدى إلى ظهور العقيدة النيقاوية (أول مجمع مسكوني في نيقية عام 325م) القاضية بتأليه المسيح، والتي صارت دستور الإيمان المسيحي الأرثودوكسي وأول عقيدة يتم فرضها على جميع الكنائس.

يعتقد الأرثوذوكس والكاثوليك بأن النصوص تثبت أن مريم تدعى «والدة الإله «لأنها ولدت المسيح الإله المتأنس والمتجسد، ما يعارض ما جاء في إنجيل يوحنا (3: 6)» اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ «والسيدة مريم جسد والذي يولد منها لابد أن يكون جسدا فقط، إلا أن تأليه المسيح أدى إلى تأليه أمه وعبادتها وهو النتيجة الحتمية لتلقيبها»والدة الإله». ومن مظاهر هذا التأليه عند الأرثوذكس، تقديم ممارسات وطقوس العبادة كإيقاد الشموع والقيام بصلوات التسبيح والتمجيد والتعظيم والتضرعات والتوسلات والسجود لها، بالإضافة إلى الصوم في الشهر المريمي وتقديم النذور.

  1. مريــــــــم في الأيقـــــــــــــــونة

الأيقونة تعريب لكلمة يونانية تعني صورة أو شبه أو مثال، تصنع وفق أساليب محددة، لكي تخدم أغراضا دينية معينة. تحمل في طياتها تعبيرات ورموزا دينية تعبر عن نصوص العهد القديم والجديد[31]. ورد تحريم عبادة غير الله سواء تعلق الأمر بالتماثيل أو الصور في مواضع عدة من التوراة وأسفار الأنبياء الملحقة بها، حيث نجد في سفر الخروج (20:22)» مَنْ ذَبَحَ لِإلِهَةٍ غَيْرِ الرَّبِّ وَحْدَهُ يُهْلَك« وجاء في سفر اللاويين (19: 4) »لا تَلْتَفِتُوا إلى الأوْثَانِ وآلهة مَسْبُوكَةً لا تَصْنَعُوا لأنْفُسِكُمْ أنا الرَّبُّ الَهُكُمْ». وعلى هذا النظام سارت الديانة المسيحية، على مدى ثلاثة قرون، لكن الجيل الرابع من المسيحيين بدأ يستعمل الصور في بعض الكنائس، ليتم بعد ذلك أخذ هياكل الأصنام الوثنية كما هي وجعلها في الكنائس المسيحية مع تغيير أسمائها من أسماء وثنية إلى أخرى مسيحية، فالتمثال الذي كان على اسم زيوس صار على اسم بطرس، والذي كان على اسم هرمس صار على اسم بولس، والذي كان على اسم الزهرة صار على اسم مريم العذراء.[32]

أول أيقونة للسيدة مريم رسمها لوقا الإنجيلي اليوناني الأصل[33]، والمعروف أن لوقا هو الوحيد بين الإنجيليين الأربعة الذي أعطى التفاصيل الدقيقة عن حادثة البشارة وسلط الأضواء على شخصيتها. ويمكن القول بأن الكنائس حاليا قد انقسمت إلى قسمين بالنسبة للموقف من الأيقونات والتماثيل، فالكنائس التي تنادي برفض هذه العقيدة هي الكنائس الإنجيلية وفي مقدمتها الكنيسة البروتستانتية، في حين ترى الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية جواز هذه العبادة.

خاتمة

رام هذا المقال بحث الأسس التي يقوم عليها اللاهوت المريمي الذي أضفى نوعا من الشرعية والقداسة على أم المسيح، ومن خلال ما تقدم من الشواهد، والكتابات الإنجيلية، وثقافات العصور السابقة، نجد أن هذا الضرب من الدراسات المنصبة في الكتب المقدسة تحمل في طياتها مجموعة من المجازفات الشائكة والملابسات الحساسة التي تصب في الفكر اللاهوتي بشكل عام، فيصعب معالجتها والإحاطة بها لارتباطها بكل ما هو عقدي ثيولوجي، كما نجد أن شخصية السيدة مريم ليست فقط نتيجة ما نقل عنها من العهد الجديد، بل هي كذلك مجموعة من التراكمات الأسطورية التي أسهمت لا محالة في تكوين صورتها ورمزيتها التاريخية، والتي رسمت معالم العقيدة المريمية وكرست لكل ما هو ليتورجي[34] ولاهوتي بشأنها، ما جعلت منها شخصية خيالية وأسطورية أكثر من كونها نبية أو قديسة؛ وتبقى القضايا والمسائل المسيحانية التي أثيرت آنفا، بالإضافة إلى تصريحات وتلميحات العهد القديم والكتابات الكلاسيكية اليهودية القديمة، هي المحرك الأساس الذي ميز هذه الشخصية وجعلها بلا منازع أهم نساء الكتاب المقدس.

لائحة المصادر والمراجع

  • الكتاب المقدس، ترجمة سيمث وفان دايك. دار الكتاب المقدس. القاهرة. (2010)
  • إبراهيم، عوض: مع الجاحظ في رسالة الرد على النصارى، القاهرة، مكتبة زهراء الشرق. (د.ت)
  • الباش، حسن: المسيح عليه السلام بين اللاهوت والناسوت، دمشق، دار القبس(2017).
  • بيباوي، وليم وهبة: دائرة المعارف الكتابية، القاهرة. دار الثقافة، (د.ت).
  • توريان، ماكس: مريم أم الرب ورمز الكنيسة، ترجمة خليل رستم. بيروت، دار المشرق، (2007).
  • حموي، صبحي: معجم الإيمان المسيحي، دار المشرق، بيروت 1994
  • خوري، إيما غريب: الأيقونة شرح وتأمل، بيروت، منشورات النور (2000).
  • خياطة، نهاد: الفرق والمذاهب المسيحية منذ البدايات حتى ظهور الإسلام، دمشق، دار الأوائل(2010).
  • سلوان، الأرشمندريت سلوان: سر التجسد. بيروت، تعاونية الأرثوذكسية للنشر والتوزيع(2006).
  • عبودي، هنري: معجم الحضارات السامية، بيروت. جروس بريس (1991).
  • فورست، روبيرت أي فان: يسوع خارج العهد الجديد مدخل إلى الدليل القديم ترجمة وسيم حسن عبده. دمشق، صفحات للدراسة والنشر(2012).
  • مقار، إلياس: نساء الكتاب المقدس، القاهرة، دار الثقافة، (1986).
  • ملكاوي، محمد أحمد محمد عبد القادر: تأليه مريم ابنة عمران والعبادات المقدمة لها عند النصارى. الرياض، مركز البحوث التربوية جامعة الملك سعود. (1996).
  • مينا، ميخائيل: موسوعة علم اللاهوت، القاهرة، مكتبة المحبة (د.ت).
  • هبي، الأرشمندريت أنطون: الصور المقدسة والأيقونات. المكتبة البولسية، بيروت (1989)
  • وبرة لاتور، أوغسطين: خلاصة اللاهوت المريمي traité de mariologie، ترجمة الأب يوسف قوشاقجي، بيروت، دار المشرق، (2002).
  • Barnay, Sylvie : Les mille visages de la Vierge Marie, L’Histoire 12 (n°282)/ Cairn. Paris 2003.
  • Congar, Yves-M.-J : Marie Et L’église Dans La Pensée Patristique.revue des sciences philosophiques et théologiques. Vol 38. No 1. Paris. Librairie philosophiques 1954.
  • EPSTEIN, RABBI DR I: Contents of the Soncinobabylian Talmud .London. (1935-1948)
  • Manoir, Hubert du : Maria, études sur la sainte vierge. paris. Beauchesne et ses fils 1961

الهوامش:

  1. اللاهوت المريمي: هو جزء من علم اللاهوت المسيحي العام يختص بدراسة العقائد المسيحية المتعلقة بمريم.
  2. أوغسطين، دوبرة لاتور: خلاصة اللاهوت المريمي traité de mariologie، ترجمة الأب يوسف قوشاقجي، بيروت، دار المشرق، (2002). (ص/58).
  3. وليم، وهبة بيباوي: دائرة المعارف الكتابية، القاهرة. دار الثقافة، (د.ت). (ص/125).
  4. sylvie ; barnay : les mille visages de la vierge marie, l’histoire 12 (n°282)/ 2003, cairn. Paris. ) page /58(.
  5. سلوان، الأرشمندريت سلوان: سر التجسد. بيروت، تعاونية الأرثوذكسية للنشر والتوزيع، 2006. (ص/25).
  6. ويليم، وهبة بيباوي: دائرة المعارف الكتابية، مرجع سابق. المجلد الخامس (ص/126).
  7. سيلسوس Celse: مفكر وفيلسوف من أتباع الأفلاطونية المحدثة. له عدة مؤلفات في محاربة المسيحية
  8. فان، روبيرت فورست: يسوع المسيح خارج العهد الجديد، مدخل إلى الأدلة القديمة، صفحات للدراسة والنشر، دمشق، 2012. (ص/78) بتصرف يسير.
  9. المرجع نفسه. (ص/79).
  10. كورنيليوس تاسيتوس Cornelius Tacitus: أعظم مِؤرخ روماني، ربما عاش بين 56و 120م تناول عمله في التاريخ ما بين السنوات 69 إلى 96م وهي فترة حكم الاباطرة، ويتألف عمله من اثني عشر كتابا بقي منها أربعة كتب باسم “الحوليات”. انظر فان، روبيرت فورست: يسوع المسيح خارج العهد الجديد، مدخل إلى الأدلة القديمة، مرجع سابق. (ص/55-66) بتصرف
  11. نفسه ص: 81-82 بتصرف
  12. نفسه ص: 12 بتصرف
  13. حسن، يوسف الأطير: عقائد النصارى الموحدين بين الإسلام والمسيحية، مكتبة النافذة القاهرة. 2004. ص: 185. بتصرف يسير
  14. الصيغة العربية للاسم العبري يشوع، ومعناه الرب يخلص أو الرب خلاصي. وقد ورد باسم عيسى في الإسلام.
  15. لفظ عبري معناه الدراسة. وهو مؤلف واسع من الأدب الديني اليهودي. يشمل حقبة تاريخية تنطلق من القرن 3 ق.م وتنتهي أواخر القرن 5م لتعريف الشريعة الشفهية التي تأتي مكملة لتعاليم الشريعة المدونة أو التوراة. ويتألف قسمين: المشنة: המשנה ومعناها التثنية أو الترديد. وهي توضيح للشريعة الشفهية وضعه الربابنة تحت إشراف الحاخام يهوذا بهناسي بعد التمحيص الدقيق في مختلف الأعراف. وتنقسم المشنة إلى ستة أقسام: يتعلق القسم الأول بأمور الزراعة זרעים والقسم الثاني بالأعياد מועד والقسم الثالث بالنساء נשים والقسم الرابع بالأضرار נזקים والقسم الخامس بالأمور المقدسة קדשים والقسم السادس بالتطهيرات תחרות. والجمارة: هي مجموعة توضيحات وتعليقات على المشنة. انظر هنري، س عبودي: معجم الحضارات السامية، جروس برس، 1991، بيروت. ص: 281
  16. Epstein, Rabbi I: Contents Of The Soncino Babylian Talmud (1935-1948) .London Page: 75-76.
  17. أوغسطين، وبرة لاتور: خلاصة اللاهوت المريميtraité de mariologie، مرجع سابق. ص: 82-85 بتصرف
  18. Hubert du manoir : Maria, études sur la sainte vierge. Beauchesne et ses fils 1961 paris. P 680
  19. ماكس، توريان: مريم أم الرب ورمز الكنيسة، ترجمة خليل رستم. بيروت، دار المشرق، (2007). (ص/ 35).
  20. Yves-M.-J. Congar: Marie Et L’église Dans La Pensée Patristique. Revue des sciences philosophiques et théologiques. Vol 38. No 1. Paris. Librairie philosophiques 1954. Pp6-8
  21. أوغسطين، وبرة لاتور: خلاصة اللاهوت المريميtraité de mariologie، مرجع سابق. (ص/ 99).
  22. الياس، مقار: نساء الكتاب المقدس، القاهرة، دار الثقافة، (1986). (ص/197).
  23. مينا، ميخائيل: موسوعة علم اللاهوت، القاهرة، مكتبة المحبة (د.ت). (ص/424).
  24. أسقف على القسطنطينية 428م وهو القائل بأن للمسيح أقنومين خلافا للعقيدة الرسمية التي ترى في المسيح أقنوما واحدا في طبيعيتين لاهوتية وناسوتية، الشيء الذي جعل كيرلس أسقف الإسكندرية يومئذ إلى عقد مجمع أفسس الثالث في العالم 431م، الذي كفر نسطورا، وعزله، ومنع من نشر آراءه. انظر نهاد خياطة: الفرق والمذاهب المسيحية منذ البدايات حتى ظهور الإسلام، مرجع سابق. ص: 90
  25. ماكس توريان: مريم أم الرب ورمز الكنيسة، مرجع سابق. (ص/ 85 – 86).
  26. نهاد، خياطة: الفرق والمذاهب المسيحية منذ البدايات حتى ظهور الإسلام، مرجع سابق. (ص/ 78).
  27. حسن، الباش: المسيح عليه السلام بين اللاهوت والناسوت، دمشق، دار القبس(2017). (ص/ 120).
  28. المرجع نفسه. (ص/ 121).
  29. إبراهيم، عوض: مع الجاحظ في رسالة الرد على النصارى، القاهرة، مكتبة زهراء الشرق. (د.ت) (ص/ 16).
  30. حسن، الباش: المسيح عليه السلام بين اللاهوت والناسوت، مرجع سابق. (ص/121).
  31. أنطون، هبي الأرشمندريت: الصور المقدسة والأيقونات. المكتبة البولسية، بيروت 1989. (ص/20).
  32. محمد، أحمد محمد عبد القادر ملكاوي: تأليه مريم ابنة عمران والعبادات المقدمة لها عند النصارى. الرياض، مركز البحوث التربوية جامعة الملك سعود. 1996(ص/5).
  33. إيما، غريب خوري: الأيقونة شرح وتأمل، بيروت، منشورات النور (2000). (ص/ 8).
  34. كلمة يونانية معناها الخدمة العامة والرسمية، استعملها البيزنطيون للدلالة على الذبيحة الإلهيّة، واستعملها المسيحيون للدلالة على القيام بالعمل الكهنوتي بمجمله. انظر لفظ liturgy، صبحي حموي: معجم الإيمان المسيحي، دار المشرق، بيروت 1994. ص421