معايير إعداد أجهزة تحليل النصوص

عبد الحق قاسمي1

1 مركز البحث العلمي والتقني لتطوير اللغة العربية – الجزائر

بريد الكتروني: gashak@protonmail.com

HNSJ, 2021, 2(11); https://doi.org/10.53796/hnsj21124

تاريخ النشر: 01/11/2021م تاريخ القبول: 12/10/2021م

المستخلص

موضوع البحث هو التعرف على المنهجية المناسبة في تحليل النصوص، من خلال اقتراح ثلاث مراحل للتحليل، يركز هذا البحث على المرحلة الثانية منها، والتي تتمثل في التمهيد لعملية التحليل بمرحلة إعداد جهاز خاص بالنص المراد تحليله، وذلك لما كان كل نص مختلفا عن النصوص الأخرى، فقد قرر البحث أنه لا يمكن الركون إلى نموذج واحد في تحليل النصوص جميعها، وقد تعرَّض هذا البحث إلى أربعة معايير من أجل بناء هذا الجهاز، يتعلق الأول بمكونات النص، حيث يحدد المحلل المكونات التي سيعتمدها في تحليلها، أما المعيار الثاني فيتعلق بوحدات النص، ويحدد النطاق الذي سيقف عنده في تحليله، وذلك لأن هذه الوحدات تختلف من حيث طريقة تحليلها، كما عليه أن يحدد مدى حاجته إلى استدعاء نصوص أخرى، وهو ما أشرت إليه في معيار التناص، أما المعيار الأخير فيتعلق بأطراف التواصل.

الكلمات المفتاحية: تحليل النصوص؛ معايير التحليل؛ نماذج تحليل النصوص

Research Article

Criterions for building an analytical device for text analysis

Abd El Hak Gasmi1

1 Center of Scienific and Technical Research

for the Development of Arabic Language

gashak@protonmail.com

HNSJ, 2021, 2(11); https://doi.org/10.53796/hnsj21124

Published at 01/11/2021 Accepted at 12/10/2021

Abstract

The aim of the study is to determine the appropriate methodology in analyzing texts, by proposing three phases of analysis, this research focuses on the second phase of it, which is to plan for the analysis process by building a device that allows us to analyze the text, bin light of the fact that every text is different from the other texts. The study concluded that relying on a single model in this area is impossible, in order to create this device, we are subjected to four requirements. The first criterion relates to text components, where the analyst chooses which components to utilize in the analysis of the text, and the second criterion relates to text units, which sets the scope at which he focuses in his analysis, because these units differ in terms of how they are studied, we must also determine how much we need to recollect other texts, by using the intertextuality criterion, and the last criterion is about the utterers in the situation of communication

Key Words: text analyses, analysis criteria; Text parsing models

مقدمة

وصلت اللسانيات النصية اليوم إلى مرحلة متطورة من تاريخها، بعد مراجعة ونقد الدراسات الأولى التي أسست لها، ما سمح لها بإعادة بناء مناهجها وتوجُّهاتها، وذلك منذ “المسار التصحيحي” الذي قام على أنقاض الانطلاقة “الفاشلة” التي حاولت القيام بها أعمال سعت إلى بناء نحوٍ للنص(Van Dijk, 1995, p. 348)، حيث أثبت نحو النص عجزه في بناء نظرية قائمة بذاتها، فحوّل هذا “المسار” توجُّه اللسانيات النصية إلى استكشاف مفاهيم ومناهج جديدة، تراعي طبيعة النص المعقدة، وهذه الطبيعة المعقدة لا ترجع فحسب لتركبه من وحدات لغوية، وإنما أيضا من حالات نفسانية واجتماعية واعتماده على عناصر مقامية، فلا يمكن أن ينجز النص إلا بتظافر هذه المكونات جميعها (Bronckart, 1996). وهذا ما جعل ميدان اللسانيات النصية يتقاطع مع ميدان تحليل الخطاب، مستفيدا من كثير من المفاهيم والمسائل التي فيه، كما يعتمد على نتائج الدراسات التداولية، وقد شكلت أعمال أوستين وسورل أهمية كبيرة في توجيه اللسانيات بصفة عامة واللسانيات النصية بصفة خاصة إلى اعتماد منهج تواصلي في التحليل، وذلك لأنهما دعيا إلى دراسة الاستعمال بدل التجريد اللغوي، غير أن أعمال التداوليين ظلت رغم ذلك تعتمد على أمثلة مصنوعة غير أصلية، بدل الملاحظة المباشرة للنصوص الحية، خلافا لما هو عليه الأمر في تحليل المحادثات، فلو تصفحنا كتب أوستين وسورل، لوجدناها تعبر عما يتصورانه من حالات وسيناريوهات لاستعمالات متخيلة فيمثلان لها بأمثلة يصنعانها، بدل دراسة ميدانية للتحقيقات اللغوية الحية في الواقع، وذلك بالرغم من أنهما يدعوان إلى دراسة الاستعمال، وهي الخطوة التي قام بها ساكس (Sacks) وشغلوف (Schegloff) في تحليل المحادثات (Sacks et al., 1974; Sacks & Schegloff, 1979)، إذْ كانا من السبَّاقين إلى توجيه الدراسة اللسانية إلى الواقع الحي، فكانت مدونتهما مبنية على استعمالات أصلية. وكما تستفيد اللسانيات النصية من تحليل الخطاب والتدوالية وتحليل المحادثات فإنها تستفيد من مفاهيم لسانيات التلفظ كذلك، التي درست العناصر المقامية واستعمال الزمن. وعلى خلفية هذا، ترجع إشكالية هذا المقال إلى استجلاء الطريقة التي يجب اعتمادها في تحليل النصوص، وكيف تُنظم اللسانيات النصية ما تأخذه من العلوم والميادين، في مسائلها ومناهجها، من حيث الكيفية التي يمكن بها استغلال هذه المناهج والمسائل في بناء نموذج لتحليل النصوص. إذْ إننا إذا ما تفحَّصنا مواقف اللسانيين المشتغلين على هذا العلم فيما يتعلق بالوظائف المناطة باللسانيات النصية، نجدها متأثرة بالدراسات التي اشتغلت على نحو النص (رغم أن مسعى إيجاد نحو للنص تم تجاوزه واُعترِف بعدم جدواه)، فتأثيره لا يزال ظاهرا، حيث لم تتخلص المناهج الحديثة من تسربات مسائله التي بنت تصور هذا العلم، وهذا ما استدعا هذا البحث إلى إعادة الرجوع إلى هذه الإشكالية، من أجل الخروج بموقف فاصل فيه، وهذا من خلال نظرة نقدية تتبع الخط التطوري لهذا العلم، من خلال المحاولات التي ساهمت في بناءه، وباستقراء ما جاء في أعمال المشتغلين على هذا المجال قصد معرفة تشكل مسائله وأهدافه العلمية، في ضوء مقاربة تواصلية في التحليل تُعنى بطرق تبليغ النص. كما يسعى لأن يطرح مجموعة من الاقتراحات على ضوء ذلك، تهدف إلى إعادة النظر في طريقة عمل هذا العلم ترجع إلى ضرورة التمهيد لعملية تحليل النص بإعداد جهاز للتحليل، يسمح لنا بتكييفه على أي نص نواجهه.

1. تطور اللسانيات النصية: «اختلافات النشأة»

لفهم الحدود التي تعمل ضمنها اللسانيات النصية لا بد من الرجوع إلى بدايات هذا العلم، باستقراء الاهتمامات الأولى التي دعت إليه، والمسائل التي شغلت الباحثين حينها.

وليس الهدف هنا التأريخ لهذا العلم، وإنما يكفينا النظر في تطوره لنعرف كيف تشكلت حدوده ومسائله التي يهتم بها، فمن خلال التعرف على هذه الأعمال الأولى يمكن اكتشاف ملامحه ومهامه. وبالرغم من أن أوجينيو كوشيريو (Eugeniu Coșeriu) كان هو أول من أطلق عليه تسمية «اللسانيات النصية» إلا أنه يمكن تتبع أولى الأعمال في دراسة النص بألمانيا، فهي التي تميزت بزخم البحوث في اللسانيات النصية، فكانت بذلك رائدة في هذا العلم، لأجل هذا سأنطلق من هناك لفهم طبيعة الدراسة في هذا الميدان.

منذ 1955 استعمل كارل بوست (Karl Boost) في (Boost, 1955) مصطلح Satzgemeinschaft (بالمعنى الصِّرف يعني مجموعة الجمل المشتركة أو المتحدة) درس من خلاله العلاقات الموجودة بين حزم الجمل فيما بينها بحيث تشكل وحدة أعلى، وذلك من خلال التكرار الإفرادي واستعمال الضمائر وغيرها. غير أن مساهمته توقفت عند هذا الحد، فهو لم يخرج عن الحدود البنوية في التحليل.

وقد ظهرت أولى الأعمال التي تنتمي إلى اللسانيات النصية بألمانيا منذ ستينات القرن الماضي، وصارت لها مع سنوات السبعينات مكانتها في التنظير وحتى في التعليم (Brinker, 1991). ومن خلال تتبع أعمال الرعيل الأول منهم؛ كـ:أغريكولا (E. Agricola) وهايدولف (Heidolph) وإيزنبرغ (H. Isenberg)، وهارتمان (P. Hartmann) وغيرهم، يمكن أن نتعرف على أهم المسائل التي انشغل بها هذا العلم في أول ظهوره، وهي في الغالب ترجع إلى ما يتعلق بالمسائل الشكلية المتجاوزة للجملة، كدراسة الإحالات وما يتعلق بالاتساق الضميري وعلاقات الاستبدال والتكرار الإفرادي (Helbig, 2013)، كما لم تتورع هذه الأعمال من الاستفادة من أعمال پراغ، خاصة النظرة الوظيفية للجملة (Functional sentence perspective) بدراسة العلاقات التي بين الموضوع والمحمول والتي سبق إلى دراستها اللساني الروماني دانيش (F. Daneš)[1]، وكذا ما يتعلق بموضوعات النص كما قام به أغريكولا (Agricola, 1976)، وهذا ما انجرَّ عنه محاولة توسيع قواعد النحو لبناء نحو خاص بالنص، إلا أن اللسانيات النصية الألمانية حتى مع بدايتها لم تتوقف عند المستويات الشكلية، بل تبنت مقاربة تواصلية تداولية في التناول، فلم تهمل مستويات المقام، وأحوال المتلفظين، ولا الطبيعة التواصلية للنص[2]، دون أن ننسى مسألة تصنيف النصوص التي احتلت مكانة مركزية في أعمالهم[3].

وإذا كان ظهور اللسانيات النصية الألمانية بهذا الشكل، فإن نشأتها تختلف بفرنسا، التي تباينت خطية تطورها هناك عن تحليل الخطاب، باعتنائها بما هو لغوي في النص بالخصوص دون ما هو خارج-لغوي، وذلك قبل أن تقوم دراسات أخرى تدعو إلى تحرير النص من الحدود الشكلية واللغوية، وإقحام المستويات الخارجية فيه، وكان هذا بعد توجيه البحث إلى المقاربة التواصلية. وقد صرح بهذا ج. م. آدم (J. M. Adam) (Adam, 2015a, p. 31)، عندما ذكر بأن اللسانيات النصية وتحليل الخطاب قد تطورا بشكل مستقل بعضها عن بعض، وأنهما لم يلتقيا سوى في أعمال دُني سلاكتا (Denis Slakta) الذي حاول الربط بين العلمين والجمع بينهما[4].

وعلى غرار الميادين اللسانية الأخرى فقد تفرعت اللسانيات النصية إلى دلاليات النص وتداولية النص وتراكيبية النص وصوتيات النص[5] ، فتعنى دلاليات النص بدراسة معنى النص وكيف يتشكل، في حين أن تداولية النص تبحث في السياقات الخارجية له، وتبحث تراكيبية النص عن الكيفية التي يعبر بها النص عن المعنى، أما صوتيات النص فتدرس كيف يتميَّز النص صوتيا. هذه الفروع يمكن اعتبارها كأبعاد لميدان كبير يضمها يسمى بعلم النص، في حين تجتمع دلاليات النص وتراكيبية النص لتشكل نحو النص. ومما انتبه إليه فيفيغر (D. Viehweger) هو أن البحوث التي تنضوي تحت هذا العلم إنما تشترك فيه فقط باشتغالها على «النص» وإلا فهي تختلف من حيث منطلقاتها والنظرة اللسانية التي تعتمد عليها، وكذا من حيث مناهجها فيصعب بهذا القول أنها جميعا ينتمي إلى علم واحد (انظر: Viehweger, 1976, p. 196).

ولا يمكن الحديث عن اللسانيات النصية دون الإشارة إلى «النقلة التداولية التواصلية» في اللسانيات، التي شهدتها منذ 1970، حيث تحوَّل اهتمام اللسانيين من نظام اللغة المجرد إلى التوجه نحو الوظيفة التواصلية للغة، ما نتج عنه ضم الظواهر الخارجية عن اللغة في التحليل، وهو ما ساعد على ظهور ميادين جديدة إضافة إلى اللسانيات النصية على غرار اللسانيات الاجتماعية واللسانيات النفسانية ونظرية أفعال الكلام، فمقارنة بالمناهج المجرِّدة والاختزالية التي تتميز بها الدراسات الشكلية فإن المناهج التي تتبنى هذه النظرة التواصلية تسعى لدراسة اللغة في صورتها الطبيعية الحقيقية، بدلا من دراسة عيِّنات مصنوعة من أجل أمثلة تعليمية.

كما أن النظرة إلى اللغة على أنها وسيلة تواصل دعا إلى دراسة النص بدلا من دراسة الجمل والكلمات معزولة، حيث يجعل هارتمان النص «الدليلَ اللسانيَّ اﻷصلي»[6]، بمعنى أنه مادة التحليل في اللسانيات بدل الجملة أو الملفوظ، وكأنه بهذا يعيد صياغة اللسانيات ككل ليحول توجهها إلى النص، وهنا نتحدث عن توجه نصي للسانيات، وعلى صعيد آخر يقابلنا توجه آخر يجعل من اللسانيات النصية مجرّد فرع من اللسانيات، يختص بدراسة مستوى جزئي منها، حيث ينطلق من الحد الذي تنتهي عنده التراكيبية، وهذا قريب من موقف بنفنيست، عندما فرّق بين اللغة والخطاب (Benveniste, 1966, p. 130).

ورغم أن تحليل الخطاب واللسانيات النصية يشتركان في كثير من المسائل التي يشتغلان عليها إلا أن اللسانيات النصية بألمانيا لم يختلط بتحليل الخطاب، وذلك لأن تحليل الخطاب لم يظهر فيها إلا مؤخرا وهو إلى الآن لم يجد له التوسع الذي كان منتظرا منه إذا ما قارناه باللسانيات النصية، لذا نجد في الدراسات الألمانية أن أغلب المسائل المتعلقة بما هو مجاوز للجملة يدخل في اللسانيات النصية، وبسبب هذا يقابلنا في هذا العلم هناك توجهات ومسائل أثرى مقارنة بغيرها، لأنها تفضل استعمال مصطلح نص (Text) على خطاب (Rede أو Diskourse) للتعبير عن الظواهر المجاوزة للجملة بصفة عامة، وهذا خلافا لما هو سائد في الدراسات باللغة الإنغليزية التي تفضل استعمال مصطلح خطاب كما هو الأمر عند هاليداي وحسن (M. Halliday & R. Hassan) (Halliday & Hasan, 1976) ويول وبراون (G. Yule & G. Brown) (Yule & Brown, 1986)،وغيرهم. وذلك منذ هاريس (Z. S. Harris) في مقاله «Discourse Analysis» الذي نشره في (1952)[7] (Harris, 1952)، ومقاله هذا يعدُّ أحد المقالات المؤسِّسة لهذا العلم، وإن دعاه بتحليل الخطاب، فهو أقرب إلى اللسانيات النصية منه إلى تحليل الخطاب إذا احتكمنا إلى صورتهما التي هما عليها اليوم[8]، ولم يعتمد هاريس فيه منهجية مغايرة عن تلك التي كان معمولا بها في تحليل الجمل في اللسانيات التوزيعية، فوحدات النص قائمة على أساس توزيعها فيه، وارتباط بعضها ببعض، فـ”تحليل الخطاب” الهاريسي يسعى إلى البحث عن توزيع وحدات نصية معينة مشابه لتسلسل الجمل المنسجم. إلا أن هذه المحاولة كانت غير كافية لدراسة النص، لأنها قصدت أن تُعمل مناهج التحليل التي طُوِّرت من أجل تحليل المستويات الفونولوجية والمورفولوجية على مستوى النص، وهذا ما نتج عنه إهمال الجانب الدلالي والتداولي، مع أن النص في بنيته يختلف عن الطريقة التي تُبنى بها الجملة، لذا من الصعب اعتبار هاريس مؤسسا لهذا العلم كما ينبه إلى هذا دريسلر (W. Dressler) (Dressler, 1978, p. 3).

وإذا أردنا التعرف على حدود اللسانيات النصية والوظيفة المناطة بها لا بد أن نحدد المادة التي تعتني بها في التحليل، فبهذا نستطيع تمييز هذا العلم عن غيره، ونسطِّر حدوده.

2. مادة التحليل في اللسانيات النصية : «النص»

يمكن التجرُّؤ بسهولة على نقل الإجماع بين اللسانيين المشتغلين على النص بأنه موضوع اللسانيات النصية، فيكفينا بناءً على هذا أن نحدد معنى النص لكي نتعرف على حدودها. وبالعودة مرة أخرى إلى الباحثين الألمان نجدهم يكادون يتفقون على أن النص سلسلة من الجمل المنسجمة (Brinker, 1973, p. 12)، ولكن المختلف فيه عندهم هو في تحديد هذا الانسجام، وبأي شيء يتعلق، وبمعنى آخر، ما هي الشروط التي يجب أن تتوفر عليها سلسلة الجمل لنقول عنها بأنها منسجمة. وهذا ما تفطن إليه الألماني هلبيغ (Gerhard Helbig) (Helbig, 2013) عندما أتى على مجموعة من التعريفات جمعا ونقدا، فقام بتمييزها بحسب المناهج التي يعتمدها أصحابها وكيف أثَّر توجههم في تحديدهم لمادة النص، الذي يعدُّ موضوع التحليل في اللسانيات النصية، منها تعريفات تعتمد البنية السطحية مراعية لخطية النص[9]. أو تلك التي تركز على الجانب التراكيبي والسمات النحوية وربطها بالعلاقات الدلالية والتداولية[10]. أو ما ركز منها على العلاقات الدلالية بالخصوص[11]. كما أشار هلبيغ إلى تعريفات شاملة تسعى أن تغطي جوانب مختلف من النص التي تعمل في تشكيل النص[12].

كل هذه التعريفات تحاول أن تنظر إلى النص من منطلق مقاربات متباينة، لذا لا يمكن الفصل في الخلاف فيها ما دام هناك خلاف في المنطلقات التي يعتمدها كل باحث، لذا أكتفي هنا بعرض الاختيار الذي أعتمده هنا طلبا للاختصار، فالنص يتكون من مجموعة من الوحدات التي تنتمي إلى المستويات الدنيا بحيث تتركب لتكون وحدات وسيطة ومنها إلى وحدات كبرى، كما أن النص قد يكون منطوقا أو مكتوبا، نثرا أو شعرا، حوارا أو مونولوغا… الخ، فمفهومه يرجع إلى وحدته الدلالية والتواصلية، كما لا يمكننا الحديث عن نص مصنوع، فإذا ما أمكن للنحاة استحداث جمل مصنوعة الغرض منها التمثيل لقاعدة نحوية دون أن تنسب هذه الجملة إلى قائل معين، فالنص لا يمكن أن يكون كذلك، وإلا لم يسمَّ هذا نصا، فبهذا فلا يدخل تحت هذا المسمى إلا ما كان له متلفظ معين، أنتج نصه في زمان ومكان معينين لجمهور معين. وإذا كانت هذه العناصر الخارجية مكونا لا يمكن تصور أن يُبنى النص بدونها فلا يستقيم إذًا دراسته بمعزل عنها. كما يشترط في النص أن يكون وحدة دلالية، هذه الوحدة يمكن دراستها من خلال ماكروبنيته الدلالية التي تسمح بتلخيص موضوعه[13]، أو عن طريق التشاكلات الدلالية بتتبع تكرار السيمات (اللفظات) في النص. مع اعتبار مجموعة من الآليات التي تسمح بالتعرف على ما يحقق النصية، ولا بد من التأكيد هنا على ضرورة اعتبار مكونات النص في النظر إلى النص، سواء ما كان منها سابقا لعملية إنتاج النص أو مصاحبا له أو ما كان متأخرا عنه[14].

وإذا ما تشكلت لدينا حدود النص يمكنني هنا أن أتعرض إلى مجال اشتغال اللسانيات النصية، من خلال التعرف على المسائل التي تتناولها، والقضايا التي تقوم بتحليلها.

3. مجال التحليل النصي : «من الظواهر النصية إلى التواصل»

على شاكلة ما قام به هاريس في تحليله للخطاب عندما وسع مناهج اللسانيات التوزيعية لتشمل النص، قامت محاولات أخرى «توسيعية» لدراسة النص. وهي وإن ظهر فيما بعد محدوديتها في معالجة النص، إلا أن تأثيرها بقي جليا، حيث أخذت اللسانيات النصية تعامل النص على أنه إما ظاهرة لغوية، أو في أفضل أحوالها على أنه ظاهرة مركبة لغوية ونفسانية واجتماعية وإدراكية…الخ إلا أن هذا لم يخرج في مجمله عن دراسة النصية[15]، أي بما يجب أن يتحقق في النص حتى يسمى نصا، وهي لا تتعدى في مبدئها أن تبحث في بناء النص. فقل ما نجد في هذه المحاولات دراسة النص من خلال وظيفته الأساسية التي أنشئ من أجلها؛ وهي كونه وسيلة للتواصل والتبليغ، بدراسة الآليات التي يحقق بها النص أهدافه، سواء كانت هذه الآليات لغوية أو غير لغوية، ولا بد من وقفة اصطلاحية هنا، حيث أستعمل التواصل وأقصد به دراسة اللغة في بيئتها التي أُنتجت فيها (وضعية التواصل)، فلا نقوم بعزلها عن المشاركين في العملية التلفظية وزمن ومكان التلفظ[16]، أما التبليغ فأجعل له استعمالا خاصا، يرجع إلى دراسة اللغة من خلال وظيفة توصيل الرسالة أو الطريقة التي يبني بها المتلفظ النص (بناء المعنى) والطريقة التي يتلقاه بها المتلفظ المشارك ويفك تشفيره (إعادة البناء أو الفهم).

ما ذكرته من إهمال اللسانيات النصية لدراسة التبليغ (بالمعنى الذي وضَّحته هنا) ينطبق على الأقل على الدراسات المنشورة تحت مسمى هذا العلم، إلا أن ما سبق عرضه من اختلاف تطور هذا العلم جغرافيا يجعلنا لا نكتفي في الأبحاث التي تدرس النص على ما جاء منها تحت مسمى اللسانيات النصية فقط، حيث نجد اهتماما بما يتعلق بتحليل النصوص وبالفهم في تحليل الخطاب كذلك.

أما بالنسبة للسانيي النص فإنهم لم ينظروا إلى النصوص على أنها وسيلة للتعبير والتواصل، وإنما على أنها أبنية لسانية مشكلة من مجموعة من القواعد. فاللسانيات النصية تهتم فقط بمحتوى النص الناتج عن قواعد دلالية وتداولية، وتميل إلى الالتفات إلى الظروف التي تشكلت فيها أبنية النصوص، وذلك من مختلف المعارف والممارسات، فهي ترجع إلى دراسة ظواهر نصية وكيفية اشتغالها، قصد استخراج قواعد هذه الأبنية. ويمكن تمييز خمسة المجالات مركزية تتعرض إليها اللسانيات النصية، هي:

1. خصائص النصوص : ويدخل هنا ما يتعلق بمعايير النصية، ويتم فيها دراسة جودة النص من خلال الشروط التي يجب أن تتوفر فيه، والخصائص التي تكون فيه؛

2. تصنيف النصوص : بتقسيم النصوص إلى أصناف بحسب معايير مختلفة شكلية-خطاطية أو دلالية أو تداولية أو إدراكية[17]؛

3. وظائف النص : يتم فيها دراسة النصوص بحسب الوظائف التي تؤديها، كالوصف: ويدخل فيه وظائف ترجع إلى الإخبارية أو الواقعية أو الرمزية …الخ و كالمحاججة وفيها وظائف الإقناع والجدال أو السرد وفيها وظائف كالإخبار والخيال والرمزية والشعرية وغيرها[18]؛

4. بنية النص سواء من حيث تكوين بنيته الصغرى (الميكروبنية) : وترجع إلى دراسة الوحدات الدنيا من مفردات وجمل وقضايا وملفوظات، ومن حيث بنيته الوسيطة (الميزوبنية): ويدرس فيها المتواليات، والسلاسل الجملية المركبة كالسؤال والجواب والشرط وجوابه. ومن حيث تكوين البنية الكلية (الماكروبنية): يدرس فيه مخطط النص العام (المقدمة، العرض، الخاتمة) أو المعنى العام الذي يحمله النص[19]؛

5. آليات الاتساق النصي (وهو يتعلق بربط عناصر النص السطحية لغويا) والانسجام (ويتعلق بالمعارف المتبادلة بين المتلفظين المشاركين في مقام تفاعل معين)[20].

فإذا استقرأنا ما ينشر اليوم تحت مسمى اللسانيات النصية نجده في غالبه لا يخرج عن هذه المجالات، فليس هناك فرق كبير بين المسائل الأولى التي ظهرت عند بداية التفكير في الظواهر النصية وبين ما نجده اليوم، مع اختلافات في المسائل التي صارت تحظى باعتناء أكبر، ومسائل أخرى اُلتُفت عنها إلى غيرها. وحتى عند من يعترف بضرورة تبني التوجه التواصلي في تحليل النصوص (كـ: هارتمان وإيزنبرغ وبرينكر وهاينَمان وآدم وراستييه وغيرهم) فلا يزال انحصار اللسانيات النصية في دراسة الظواهر النصية، بدلا من دراسة التواصل الذي تقوم به النصوص بذاته وكيف تقوم بذلك، ثم هذا لا يعني أن دراسة بنية النصوص لا ينبغي الالتفات إليها وإنما الأصل فيها أن تكون ثانوية مقارنة بدراسة التواصل الذي تقوم به. فدراسة ما يتعلق بظواهر النص ومنها النصية، ليس إلا مرحلة من مراحل دراسة النص، كان ينبغي أن لا يتوقف عندها هذا العلم.

وإذا تقرر أن المناهج التوسيعية (أي تلك المناهج التي تعمل على توسيع مناهج تحليل الجملة لتطبّقها على النص) ينبغي تجاوزها لكونها لا تتماشى مع طبيعة النص التي تختلف عن طبيعة الوحدات الدنيا الأخرى، صار لزاما على اللسانيات النصية أن تراعي الطبيعة المعقدة والمركبة وغير المتجانسة التي في النصوص، بحيث يكون تحليلها قادرا على رصد الجوانب التي نريد كشفها من نصنا دون أن ندير ظهرنا لهذا التعقيد الذي هو من طبيعتها، وهذا ما سعت كثير من البحوث القيام به، منذ تبنيها للمقاربات التداولية.

أما تحليل الخطاب، ففي مناهجه ومقارباته اختلاف كبير، لاشتغال فنون كثيرة عليه، كاللسانيات والتاريخ وعلم الاجتماع والنفسانيات والأنثروبولوجيا وغيرها، بما يسمح له من جهة أن يكون علما متعدد المشارب وعابرا للتخصصات والميادين، ولكن بقيت هذه التخصصات كل واحدة منها تشتغل على حدة دون أن تشترك فيما بينها في مناهجها[21]، ورغم أن مشارب تحليل الخطاب يمتد إلى علوم متنوعة، إلا أن بدايته كانت مع التداوليين الأوائل (أوستين وسورل)، الذين وجهوا دراسة اللغة إلى الاستعمال، ومن بعدهم محاولات المفكِّرَين فوكو (M. Foucault) وديريدا (J. Derida) اللذان اختلفا عما قام به أوستين بدراسة الخطاب ليس بصفته مادة لغوية وإنما بصفته ممارسة اجتماعية، وحملت إسهاماتهما الميادين غير اللسانية الأخرى بأن تعتمد الخطاب كمركز لأبحاثها ودراساتها، وأن تبحث عن الصلات التي بينه وبين الثقافة التي حدث فيها وكذا مستعمليه. ونشأت عن هذه التطورات مناهج متعددة لتحليل الخطاب، بما في ذلك تحليل السجلات والأجناس، وتحليل الخطاب النقدي، والنفسانيات الخطابية، وتحليل المحادثات، وعلم الاجتماع اللساني التفاعلي، وإثنوغرافيا الاتصال، والأسلوبية، وتحليل الخطاب الوسيط، وتحليل المدونات، والتحليل السردي، وتحليل الخطاب متعدد الوسائط، والتحليل النحوي والريطوريقي، وتحليل الحجاج، وغيرها، فبسبب انتشار مصطلح الخطاب بشكل أكبر في اللغة الإنغليزية،كما سبق أن نبهتُ إليه، فقد ضم هذا الميدان جل المجالات التي تجاوزت التحليل التراكيبي، بحيث يصعب بعد هذا تشكيل تصور واحد لخصائص العلم الذي يجمعها، سوى كونها تتجاوز الجملة ولا تقف عند الشكل.

وعن طريق تتبع المناهج التي تقابلنا اليوم في اللسانيات النصية أو تلك التي نجدها في تحليل الخطاب، يمكن أن نتنبَّه إلى أنها تركز إما على مفاهيم إجرائية تدرس بناءها، وإما على خطوات منهجية تسمح بدراستها لبناء نماذج يعتمد عليها المحلل لتحليل النصوص. إلا أن الادعاء بأن نموذجا ما يمكن تطبيقه على مختلف النصوص، مهما تنوعت واختلفت؛ فيه تجاوز وتجوُّزٌ كبيران. فالادعاء بأن نموذجا واحدا قادر على تحليل نص قرآني ومقال أكاديمي وأغنية وخطبة سياسية ورواية رغم الاختلافات الكبيرة والجوهرية التي بين هذه الأنواع من النصوص من الصعب تصوره، إلا إذا كان تعميميا، أو أخذ بجزئية منه دون أن يقدم لنا تحليلا كافيا للنص المعني بالتحليل.

فإذا توقفنا عند النصوص الدينية على سبيل التمثيل، فإنه عند تحليل نص ديني لا بد من مراعاة ضوابط تناولَها علماءُ الدين في علوم أصول الفقه والتفسير إضافة إلى ضوابط لغوية أخرى، فنصوص القرآن لا بد من أجل تحليلها من مراعاة علوم اللغة (خاصة النحو والصرف والبلاغة) وأسباب النزول و ومعرفة المحكم والمتشابه ومن ذلك الناسخ والمنسوخ، والأمر نفسه بالنسبة لنصوص الكتاب المقدس الذي أقيمت حوله علوم تأويلية، وطُورت من أجله المناهج الهيرمينوطيقية والفيلولوجية، حيث تفتقر النماذج التي تم تطويرها في اللسانيات الحديثة لكثير من هذه الطرق والمفاهيم التي جاءت في هذه العلوم، فليس من المنطقي أن نطبق عليها نماذج لسانية طُوِّرت من أجل تحليل نصوص مختلفة عنها في كثير من مكوناتها، وهي موجهة إلى لغة معينة (حيث إن اهتمام اللسانيين في غالبه مركز على النصوص الحديثة)، ثم حتى وإن جاز لبعض العناصر التي في نماذجهم أن تطبق على نصوص لم تُعدَّ لأجلها، إلا أن هذا لا يعني أنها الأكثر ملاءمة لها، وكذلك الأمر بالنسبة لأجناس أخرى من النصوص التي لم تكن الركيزة الأولى عند إعداد نماذج التحليل.

4. نحو طريقة جديدة لتحليل النصوص: «مراحل التحليل»

فمن هذا يظهر المشكل في نماذج التحليل في الدراسات النصية والخطابية بأنها تعتمد على خطوات ثابتة يعتمدها المحلل في تحليله بتتبع هذه الخطوات، أو على مفاهيم عامة تقدم لنا نظرة لمظهر نصي يعبر عن جزء من النص، وهذا ما قد يجرنا إلى إغفال ما يُشكِّل تميُّزها، فقد تقرر بأن كل نص يختلف في كثير من مكوناته وخصائصه عن غيره، وبالتالي فإنه من أجل تفادي هذا، ولكي يكون تحليلنا كاشفا عن خصائص النص، أقترح اعتماد ثلاث مراحل في التحليل:

  • المرحلة الأولى: تتمثل في تحديد جنس النص، حيث سيسمح لنا معرفة جنسه من التعرف على المكونات التي يشترك فيها مع نصوص أخرى والمكونات التي تميزه عنها، فأجناس النصوص، على التصور الذي جاء في كتاب أجناس النصوص (قاسمي, 2020)، لا تقوم فقط بتمييز النصوص إلى أنواع، وإنما تهدف إلى تحليلها بحسب معايير ترجع إلى مكوناتها، فيكون بهذا جهازا لوصف تميُّز النصوص بعضها عن بعض بدل قولبتها في أنماط نموذجية جامدة، وهو ما يسمح لنا عند تطبيقها، بالحصول على تحليل أولي للنصوص، يشمل مختلف جوانبه، سواء كانت لغوية أو خارج-لغوية، فيظهر من خلال معرفة جنس النص الخصائص التي يركز عليها المحلل، والمكونات النصية التي يجب عليه اعتمادها عند تحليله.
  • المرحلة الثانية : تتمثل في بناء جهاز للتحليل بحسب النص المقصود، ومن خلال هذا تتميز المنهجية التي يدعو إليها هذا البحث عن النماذج الأخرى المنتشرة في اللسانيات النصية أو تحليل الخطاب، حيث تركزت هذه المرحلة على تحديد المعايير التي يجب على المحلل أن يعتمد عليها، فكل نص يختلف عن غيره بحسب الجنس الذي ينتمي إليه، فيقوم المحلل في هذه المرحلة بإعداد جهاز لتحليل نصه من خلال الخصائص التي يتميز بها، ليكون تحليله مراعيا لما يميز نصه فلا يغفل خصائص مهمة في ذلك النص، فيكون هذا الجهاز ملائما للنص ومُعدًّا لأجله.
  • المرحلة الثالثة : هي التحليل، وهنا من خلال الجهاز الذي تم إعداده في المرحلة الثانية يمكن للمحلل أن يقوم بدراسة نصه، ويستفيد هنا من الآليات والمفاهيم التي توفرها له اللسانيات النصية والعلوم المجاورة لها، فيعتمد منها ما يلائم نصه بحسب الجهاز الذي قام بإعداده.

وبهذا التصور، فبدلا من إعداد نموذج يتبع منهجية تراعي خطوات جامدة ومحددة مسبقا لتحليل أي نص، يسمح بناء هذه الأجهزة بتجاوز القصور الذي تعاني منه اللسانيات، حيث تضع في يد المحلل أداة تسمح له عند استعمالها بتجاوز التعقيدات التي تواجه فهم أي نص وتأويله. فيكون هذا العلم (أي: اللسانيات النصية) بمثابة علبة أدوات، يأخذ منها المحلل ما يحتاج بما يتماشى وخصائص نصه، فيمكن أن يستخدم اللساني والمحلل من هذه العلبة ما يحتاج إليه منها بما يلائم النص وبحسب جنسه وغرضه وغايته، إذ لا يمكن الإقرار باختلاف النصوص وعدم تجانسها من جهة، والادعاء بأن طريقة واحدة كفيلة بتحليلها جميعا.

وقد تناولتُ المرحلة الأولى في كتاب أجناس النصوص، وسأترك تفصيلات المرحلة الثالثة إلى بحوث لاحقة، أما هنا فسأركز الحديث، فيما تبقى من هذا البحث، على المرحلة الثانية أي على المعايير التي يجب أن يتبعها المحلل عند بنائه جهاز التحليل الخاص بنصه.

5. طريقة بناء أجهزة تحليل النصوص: «المعايير»

من أجل بناء الجهاز لا بد على المحلل أن يعتمد على مجموعة من المعايير تكون كالأركان، يمكن إرجاعها إلى أربعة معايير، يتعلق كل معيار بسؤال معين، تسمح له الإجابة عنه من بناء جهازه:

  • الأول يرجع إلى مكونات النص: يتساءل المحلل في هذا المعيار : «ما هي المكونات الظاهرة في النص؟»؛
  • والثاني إلى أجزاء النص: يسأل هنا عن «أيٍّ من وحدات النص سيلتزم في تحليله»؛
  • أما الثالث فإلى علاقة النص بالنصوص الأخرى: ويتساءل فيه عن «ما هي علاقة هذا النص بنصوص أخرى؟ وهل يلزمه الرجوع إلى نصوص أخرى لكي يستطيع تحليل نصه؟»؛
  • والأخير إلى أطراف التواصل: هنا على المحلل أن يجيب على سؤال : «ما مدى تدخل أطراف التواصل في تحليل النص؟».

وبقي الآن أن أبيِّن صفة كل معيار منها، وكيف يُعمله في بناء جهازه.

أولا. مكونات النص:

لقد اعتاد البنويون على التوقف عند الحدود اللغوية للتحليل، وكذا الوقوف عند دراسة بنية الجملة، على خلاف كينيث پايك (Kenneth L. Pike) الذي كان من الأوائل الذين خرجوا عن هذا التقليد، موسعا دراسته إلى النص وإلى النشاطات الإنسانية المصاحبة لعملية تلفظه، ولعل ذلك راجع إلى الخلفية الأنثروبولوجية التي ورثها عن أستاذه ساپير (Edward Sapir)، وما يهمنا هنا هو ما قام به في الفصل الثالث من كتابه (Language) (Pike, 1954, p. 73) حيث أخذ يصف بطريقة أنثروبولوجية قداسا دينيا (حضره في أكتوبر 1952)، فتناول فيه كل ما يتعلق بحصول هذا القداس منذ قدوم الحضور وترحيب رجال الكنيسة بهم، إلى التحاق الحضور بمقاعدهم وانتظارهم انطلاق الطقوس الدينية، إلى وصف الصلوات والأغاني الدينية والترانيم، واصفا كل ذلك بالتفصيل، وهو ما يدل على أن نظرة پايك للغة لا تقف عند الحد الملفوظ منها، ويدل على هذا أنه كان يجمع في أبحاثه بين اللغة والنشاطات الإنسانية والسياق الثقافي-الاجتماعي والإدراكي، فلا يمكن استيعاب المعنى الذي في النص دون تعقب كل العناصر التي عملت على تكوينه في الواقع، وإذا درس هو القداس الكنسي، فالأمر نفسه كذلك يمكن إسقاطه على خطبة الجمعة مثلا، فليس فقط الخطبة ما يحقق صلاة الجمعة، فإنها لو قيلت في غير مسجد أو في غير يوم جمعة أو من قبل شخص ليس له صفة إمام لما سميت خطبة جمعة، إذ يدخل فيها الموضع الذي قيلت فيه (المسجد) والحضور (المصلون) والزمن (بعد الزوال)، كما أن المتلفظ لا بد له أن يحقق شروطا معينة بدوره، منها الحق في الكلام (صفة الإمام)، فكل هذا يدخل في تكوين النص، لذا كان لا بد من مراعاة كل هذه المكونات عند تحليل النص.

وإذا ما أقررنا بأن النص ليس مجرد تجمع من المفردات والجمل بل يدخل في تكوينه مكونات خارج-لغوية لا يمكن أن يتشكل النص بدونها، كان لا بد لنا إذا من تحديد المكونات التي تعنى بالتحليل في نصنا[22]، وقد أرجعت هذه المكونات باعتبار محلها من التلفظ إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول. مكونات سابقة لعملية التلفظ : ويرجع إلى هذا القسم كل ما يدخل في بناء النص مما يتعلق بالمتلفظ أو المتلقي أو مقام التلفظ، ويدخل فيها عدة مكونات، أهمها المكون الثقافي الذي يقوم على مكونين تاريخي واجتماعي، فالنص عندما يتشكل فإنه يأخذ من عناصر اجتماعية وتاريخية تتعلق بالاختيارات التي سيقوم بها في بناء نصه، والذي تنبني عليه المكونات الأخرى قاطبة، ومن المكونات التي تسبق عملية التلفظ كذلك المكون النفساني، وهو يتعلق بالقدرات اللغوية التي يمتلكها المتلفظ والمخزون اللغوي الذي يكتسبه، ويدخل فيه مكون الحالة الذهنية الداخلية وهو يتعلق بالفكرة التي يريد أن يوصلها المتلفظ من خلال النص، ومن المكونات كذلك المكون المقامي وهو يُعنى بكل الظروف المحيطة بالنص سواء منها الظروف المباشرة أو غير المباشرة، ويدخل فيه مكون القناة، ويتعلق بالوسيلة التي يوصل بها النص، ومكون مجال التواصل وهو يتعلق بالمجال المعرفي الذي يُستعمل فيه النص، وكذا من المكونات السابقة للتلفظ أيضا مكون عقد التواصل ويتعلق بهوية المتلفظ والمتلفظ المشارك.

القسم الثاني. مكونات مصاحبة لعملية التلفظ : ويتعلق بها عدة مكونات منها مكون الترتيب، ويتعلق بترتيب أطوار النص كما اختارها المتلفظ، بحيث نتعرف من خلالها على ترتيب عناصر النص، وكذا مكون الأسلوب، والذي يتعلق به عدة مكونات منها ما يتعلق بالمستوى المعجمي منها المكونات الموضوعاتية والتشاكل والحقول الدلالية، ومنها ما يتعلق بالمستوى الصوتي وعناصر من المستوى التراكيبي، ويدخل في المكون الأسلوبي كذلك المكون البلاغي ويندرج ضمنه ما يتعلق باستعال البديع والبيان، ومن المكونات كذلك مكون الحذف الذي يرتبط بالإطناب أو الإيجاز في النص، أو في الأدب بالنهايات المفتوحة والمغلقة في القصص أو الروايات.

القسم الثالث. مكونات لاحقة لعملية التلفظ: وتتعلق بردة فعل المتلقي، ويمكن دراسها من خلال سلوكه وما يقوم به من أفعال وسلوكات تشاهد في مقام التكلم، وكذا من خلال ما سيقوله وتوجيهه للكلام.

فلا بد للساني عندما يريد بناء جهازه للتحليل أن يراعي خصائص وطبيعة المكونات النصية بحيث يكون جهازه مناسبا لما يريد أن يكشف عنه من خلالها. وذلك بأن يحدد المكونات التي تدخل في هذا التحليل، فيختار منها ما يتناسب مع نصه أو ما يريد أن يظهره فيه. ولأجل هذا، فعلى اللسانيات النصية أن تلتفت إلى كل هذه المكونات وأن تدرسها، ليكون في حوزة المحلل الآليات التي يعتمد عليها في بناء جهازه لتحليل النص، بحيث لا يترك أي مكون يساعد في عملية الفهم إلا وجد كيف يفعِّله. كما إنه للسانيات النصية أن تأخذ من الآليات التي درستها علوم مجاورة كالتداولية ونظرية التلفظ وتحليل المحادثات، بما يسمح لها أن تحلل كل ما يدخل في تكون النص.

الثاني. أجزاء النص:

من المسائل التي يجب مراعاتها كذلك عند إعداد جهاز تحليل النصوص هو تحديد أجزاء النص التي يشتغل عليها المحلل في تحليله، إذ إنه كما قد ينحصر اهتمام التحليل على بعض المكونات دون بعض بحسب هدف الدراسة، فكذلك لابد أن يُحدد من النص الوحدات الداخلة في تحليله، مع مراعاة طبيعة كل وحدة من حيث الخصائص التي يدرسها فيها. فكل وحدة من وحدات النص لها طريقتها في التحليل، فلا ندرس الوحدات الكبرى للنص كما ندرس الوحدات الدنيا له[23]، فتستقل كل منها بآليات ووسائل خاصة، تبعا لطبيعتها ولطريقة تلقيها.

كما قد نجد أحيانا تداخلا بين أجزاء النص ومكوناته، وذلك لأننا قد نتناولهما من منظار وحداتين مختلفين من النص، إذ إن كثيرا من مكونات النص تتشكل في إطار هذه الوحدات :

فأول ما ننظر إليه في النص، سواء عند إنتاجه أو تلقيه، هو المقام، وهو يرجع إلى جميع العناصر الخارجية المكونة للنص، إذ لا يمكن فهم كثير من النصوص دون الرجوع إلى المقام الذي قيل فيه، فهو يكشف لنا عن كثير من العناصر المهمة، والتي لا يمكن فهم النص دونها. ندرس في المقام ما يتعلق بأحوال المتلفظين، وزمان ومكان التلفظ وذلك انطلاقا من واسمات الخطاب، مستفيدين في ذلك من نتائج لسانيات التلفظ.

في حين أن تحليل الوحدات الكبرى ، والمقصود هنا النص الملفوظ ككل، أو الأجزاء الكبرى كالفصل أو الباب أو المقاطع الكبيرة، ويقوم تحليلها على استنباط المعنى العام لها، وذلك بحذف ما لا يراه المحلل أو المتلقي ضروريا في المعنى، محتفظا بالمعاني التي يراها تمثل ما هو مقصود من النص، مستعينا في هذا بمبدأ الملاءمة، بمعنى أنه لا يحتفظ بكل المعاني التي يجدها في النص، بل يبقي منها على ما يراه أساسيا وضروريا، لأن ذاكرته لا يمكن أن تحتفظ بكل ما سمعه أو قرأه، فيضطر إلى اختيار المهم وحذف ما لا يراه مهما، وهو عند ذلك كثيرا ما يضيف معاني أخرى ترجع إلى فهمه وتأويله لما تلقاه، سدا للفرج الموجودة فيه. ومن أهم من اهتم بهذا الجانب فان دايك في مفهومه للماكروبنية (Van Dijk & Kintsch, 1983, p. 47)، نجد هذا عندما نطلب من متلق ما إعادة حكاية سمعها، فإنه يضيف فيها معان جديدة ويحذف أخرى. ويختلف ما يحتفظ به من النص بين متلقٍ وآخر، فالأحداث المتصلة/المرتبطة بالشخصيات الرئيسية في قصة مثلا يعتبرها القارئ أكثر أهمية ويتذكرها بشكل أفضل (Van Dijk & Kintsch, 1983, p. 47)، وكذا ما يرجع إلى قدرات الفهم، وإلى الاهتمامات التي يوجهها القارئ في النص الذي أمامه، فكلها يختلف تذكرها، بسبب الاختزال الذي يقوم به القارئ حين قراءته، إذ يقوم بحذف ما لا يرى فيه أهمية بالمقارنة مع ما يرى منه أهمية، لذا فبناء النص يحدث في ذهنه لا في النص بحدّ ذاته.

كما أن مفهوم الماكروبنية لا يتوقف تطبيقه عند الوحدات الكبرى فقط، بل طبقه فان دايك على الوحدات الوسيطة للنص كذلك، وترجع الوحدات الوسيطة إلى سلسلة الجمل التي تشكل متوالية، والتي تُعدُّ معلومات “معقدة”، وهي تتشكل في الكتابة على شكل “فقرات”، كما يرى أن «الفقرات والفصول الفرعية والفصول هي وحدات تركيبية رسمية تنتمي إلى الشكل، يمكن لها، ولكن ليس بالضرورة أن تتفق مع وحدات التركيب الدلالي المعنوي»[24] (بيتوفي, 2000, p. 222)، وكذلك هو الأمر عند شارول الذي يجعل الفقرة وحدة لسانية كتابية تؤدي معنًى، بحيث يسهل التعرف عليها وتحديدها بعلامات الترقيم. كما يؤكد في نفس الصدد على أن عملية تقسيم النصوص والخطابات إلى أقسام إنما هي عملية ميتاخطابية (activité métadiscursive) عند من يستعملها، أي أنها تدل على معرفة واعية للغة الواصفة لدى المستعملين، يقومون بها من أجل تسهيل عملية إيصال الفهم (Charolles, 1988, p. 9). وعن أهمية “تفقير” النصوص، فإن تجزئة النصوص إلى فقرات تسهل وتبرمج القراءة للاحتفاظ بالمعلومات وربط بعضها ببعض في مراحل المعالجة والتحليل، بحيث أن المعلومات التي يتلقاها القارئ في النص يسهل عليه فهمها، لأنها ترتب النص بحسب المواضيع (Adam, 2015b, p. 2).

كما أن التحليل لا يتوقف عند الحدود “المعقدة” للنص، ويتخطاها إلى مستويات بسيطة، تتعلق بالسلاسل الجملية البسيطة أو ما هو أدنى من ذلك، وهنا نتحدث عن الوحدات الدنيا، فهي دنيا باعتبار أن التحليل يكون تنازليا فتكون بهذا الوحدات الكبرى وحدات عليا، وهي تقوم على تفكيك المعاني ودراستها في نواتها، حتى إذا حمل المفلوظ أو الجملة أكثر من معنى فكك إلى قضايا تحمل معنى مفردا، ولكل وحدة من هذه الوحدات آلياتها في التحليل التي تختلف من جهة عن الوحدات الأعلى منها، ومن جهة أخرى عن بعضها البعض.

فالمحلل قبل أن ينطلق في تحليله، لا بد أن يحدد المدى الذي يقف عنده في تحليله، فيختار من أجزاء النص ووحداته ما يريد أن يكشف عنه.

الثالث. علاقة النص بالنصوص الأخرى:

في كثير من الأحيان نحتاج إلى الرجوع إلى نصوص أخرى لكي نفهم النص الذي بين أيدينا، ومن خلال العلاقات التي نجدها بين نص ونصوص أخرى يمكن أن يحدد المحلل مدى حاجته إلى الرجوع إلى نصوص أخرى لتحليل نصه هذا، وهل هو في حاجة إلى الاعتماد على نصوص أحيل عليها فيه، أو لا يمكن تحليله إلا بالعودة إليها.

ويبيِّن لنا مفهوم التناص أن النصوص المفردة والمستقلة لا مفك لها من أن ترتبط بنصوص أخرى، ففي الأدب يعني التناص أن أي نص أدبي يتكون من نصوص أخرى، ويظهر هذا من خلال الإشارات الصريحة أو الضمنية في النص إلى تلك النصوص، أو من خلال الاقتباسات أو عندما يقوم النص بتكرار أو تغيير الخصائص الشكلية للنصوص الأخرى أو عندما يأخذ من الإجراءات اللغوية الموجودة في ثقافته.

وقد استحدثت جوليا كريستيفا هذا المصطلح عند مناقشتها لمفهوم الحوارية عند باختين (باختين, 1986)، قامت كريستيفا بمراجعة وإعادة توجيه مفهوم باختين في مقالين مهمين لها، الأول Le mot, le dialogue et le roman (الكلمة والحوار والرواية) في (1966) والآخر Le texte clos (النص المغلق) في (1966-1967)[25]. وقد اهتمت بكيفية بناء النص انطلاقا من نصوص موجودة من قبل، من منطلق أن المؤلفين لا يبتدعون نصوصهم من تلقاء أنفسهم بل يجمعونها من نصوص موجودة مسبقًا. تقول:

«يتطابق المحور الأفقي (الموضوع-المتلقي) والمحور العمودي (النص-السياق) ليكشفا حقيقة رئيسية: الكلمة (النص) عبارة عن تقاطع للكلمات (للنصوص) حيث يمكن أن نقرأ كلمة (نصا) أخرى على الأقل. علاوة على ذلك، عند باختين، لم يتم تمييز هذين المحورين اللذين يسميهما الحوار والتناقض على التوالي. لكن هذا الافتقار إلى الدقة هو بالأحرى اكتشاف كان باختين أول من أدخله في النظرية الأدبية: أي نص مبني على شكل فسيفساء من الاقتباسات، أي نص هو امتصاص وتحويل لنص آخر. فبدلاً من مفهوم البَيْذاتية، نجعل مفهوم التناص.»[26] (Kristeva, 1969, pp. 145–146)

وهنا أستعمل التناص بمعناه الأعم، فيدخل فيه جميع الصور التي نجد فيها نصا يحيل على آخر، حيث يميز روبرت ميولا بين أنواع من التناصات موزعة على ثلاثة أصناف: يتناول الصنف الأول نصوصا توسط من خلالها مؤلفها (منتجها) لنصوص أخرى بشكل مباشر، فيدخل فيها المراجعات والترجمات والاقتباسات والمصادر، أم الصنف الثاني فيدخل فيه ما يدعوه بالتقاليد (Traditions) من خلال طرق غير مباشرة، ويجعل فيه الأجناس الأدبية، وكيف تأخذ النصوص ممَّا سبقها في هذا الجانب. في حين يندرج في الصنف الثالث ما يأتي به الجمهور إلى النص وليس ما يضعه المؤلف، فهو يتناول تداول الخطابات الثقافية، ويدخل في هذا الصنف المتماثلات (Paralogues) التي تحيل إلى نصوص أخرى اجتماعيا أو سياسيا أو دينيا (Miola, 2004, pp. 13–25)، فاعتماد التناص في التحليل يرجع إلى مدى ظهور هذا التناص، وما يريد أن يستخرج من نصه ذلك.

ومن أجل هذا فعلى المحلل أن ينظر في نصه ليحدد إذا ما كان نصه في حاجة إلى النظر في تناصه أم أنه يكتفي بالوقوف على ما جاء في هذا النص، ولا يعني وقوفه عليه أنه ليس له علاقة بنصوص أخرى، فالنص لا يوجد إلا من خلال علاقته بنصوص أخرى، إذ هو ليس مادة معزولة وإنما تركيب ثقافي من النصوص السابقة، فالنص المفرد (الذي يحلله) والنص الثقافي (الذي يجمع النصوص التي كونت نصه) كلاهما يتكون من نفس المادة النصية، ولا يمكن الفصل بينهما.

فيقوم في هذه المرحلة بتتبُّع النصوص التي سيرجع إليها في تحليله ولو مبدئيا، من خلال تحديد العناصر المشكلة (وفي أي مستوى أو إلى أي وحدة نصية تنتمي)، وكذا ماهي النصوص الخارجية التي يمكن أن يستعين بها لكشف هذا اللبس.

الرابع. أطراف التواصل :

إن اعتماد اللسانيات النصية على نظرية التلفظ ـ التي أرسى قواعدها إميل بنفنيست (Émile Benvenist)، والذي انطلق من التفريق الشهير الذي أقامه سوسير بين اللغة والكلام ـ يعني أن الصورة التي يمكن أن تصدر عليها اللغة هو الاستعمال الحي الموجود في الواقع، فالنص لكي يُنتج لا بد له من قائل حقيقي ومتلق حقيقي في مكان حقيقي، هذا يعني أن اللسانيات النصية لا تتعامل مع أمثلة مصنوعة لأغراض التمثيل لقاعدة ما كما نجده في النحو مثلا، بل تحلل نصوصا أصلية، ويعني كونها أصلية أن لها أصلا ترجع إليه، يتمثل في قائل وزمان ومكان، وإذا تعلق الزمان والمكان بمقام التواصل الذي يعد أحد مكونات النص، ويبقى هنا على المحلل أن يحدد مدى اعتماده في تحليله على أطراف التواصل.

ويدخل في أطراف التواصل المتلفظ، وهو الذي يقوم بعملية إنتاج النص، والمتلقي، وهو الذي يقوم بإعادة بناء النص ليفهمه ويبني ردة فعله بحسب هذا الفهم، ولما كان الهدف من النص هو تحقيق التواصل، فإن التواصل لا يتحقق إلا عندما يفك المتلقي شيفرة النص لذا سُمي هذا المتلقي متلفظا مشاركا (مانغونو, 2008, p. 17)، ﻷنه يشارك المتلفظ في بناء النص، فالأول يقوم بإنتاجه والآخر يقوم بفهمه.

كما تظهر آثار المتلفظ والمتلفظ المشارك في النص من خلال الإحالات الخارجية عن النص، والتي تؤديها عناصر اتساقية، تأتي على شكل ضمائر أو معجمات، وبقدر وجود هذه الإحالات بقدر ما يترسخ النص في المقام، ونعرف من خلالها المسافة التي بين هذا النص والمقام (انظر في مفهوم المسافة: Fossion & Laurent, 1981)، فنقول أن المسافة قريبة إذا أكثر من استعمال هذه الإحالات، سواء ما تعلق منها بأطراف التواصل أو تلك التي تدل على زمان ومكان التكلم، ونقول أنها بعيدة إذا ما قلَّ استعمالها في النص أو لم نجد لها أثرا، وبحسب قرب المسافة أو بعدها يفرق بنفنيست بين مستويين من التلفظ، يسمي الأول خطابا والآخر قصة (Benveniste, 1966).

وعلى المحلل إذا أراد أن يدرس أي مستوى من مستويات التلفظ في النص أن يضم إلى جهازه دراسة مدى ظهور المشاركين في عملية التلفظ في النص، ويدرسهم هنا من خلال الإشاريات التي جاءت في النص، والتي أحالت عليهما، فالمنطلق في تحديدهما هنا يكون النص، ومنه إلى المتلفظَين المشاركَين، إذ إن هذا النوع من الإشاريات يسمى ذاتيا، ولا يمكن فهمه إلا من خلال الرجوع إلى مقام التواصل (قاسمي, 2019)، والنظر في الأشخاص التي تمت الإحالة إليهم، وهنا لو غيِّب عنا القائل أو المستمع لما تمكن من تحليل النص ومعرفة المراد بهذه الإحالات.

كما يضيف دراسة المتلفظ إلى جهازه إذا قصد دراسة حال صاحب النص، من فكره ومواقفه، لكي يتهيأ له الجمع بينها وبين ما جاء في النص، ورجوعه إلى المتلفظ هنا لا يقتصر فقط عند مقام التكلم، حيث قد يلزمنا النظر في سيرته، أو استدعاء التناص.

خلاصة:

حتى وإن اعترفَتْ أكثر الدراسات اليوم أن المكون اللغوي ليس سوى جزء من النص، ولا يمكن الوقوف عليه، بقيت رغم ذلك اللسانيات النصية حبيسة النماذج التي سبقتها، والتي اشتهرت في تحليل الجملة، ورغم ما تعرضت له الدراسات المهتمة بالبنية العميقة للنص أو خطاطته من الانتقاد والتشكيك في قدرتها على وصف النص، ما ترتب عنه محاولات من أجل الخروج عن الحدود الشكلية للنص إلى إعمال العناصر المقامية؛ إلا أنها بقيت منصبة على دراسة الظواهر النصية، ملقية اهتمامها على البنية النصية، وإن بصفة أوسع من محاولات نحو النص الأولى، أما التوجه الذي دعا إليه هذا البحث فهو صرف الدراسة إلى تحليل النص تحليلا يشمل ظواهره اللغوية وغير اللغوية، بما يمكننا من تأويله وفهمه، فلا يقف عند حدود بنيته بل يشملها، ثم إذا كان تحليل الخطاب يعنى بمدونة تتكون من عدة نصوص لدراسة ظاهرة ما، بحيث تكون النصوص المشكلة لمدونتها وسيلة إلى تأويل تلك الظاهرة، لا تزال اللسانيات تفتقد علما يؤوِّل النص ويدرسه من كل جوانبه،يسمح لنا بتحليل نص من خلال منهجية علمية سليمة، إذ إن اهتمام البحوث المنضوية تحت مظلة اللسانيات النصية لا يتجه إلى هذا المسعى، فلعل هذا يفتح بابا إلى ميدان جديد يعنى بتحليل النصوص.

وإذا كان الهدف هو دراسة النصوص في تنوعها واختلافاتها، كان لزاما على النموذج الذي نعتمده في التحليل أن يكون قابلا للتكيف مع الاختلافات التي نقابلها مع النصوص، لذا اقترح هذا البحث أن يمهد لمرحلة تحليل النص بمرحلتين سابقتين، تتمثل الأولى في تحديد جنس النص، وهذا ما يسمح لنا بالتعرف على أهم الخصائص التي يتمتع بها النص، فيكون كالتحليل الأوليّ للنص، أما المرحلة الأخرى فتتمثل في بناء الجهاز الذي سنحلل النص بحسبه، وقد تعرَّض هذا البحث إلى أربعة معايير من أجل بناء هذا الجهاز، يتعلق الأول بمكونات النص، حيث يحدد المحلل المكونات التي سيعتمدها في تحليلها، أما المعيار الثاني فيتعلق بوحدات النص، ويحدد النطاق الذي سيقف عنده في تحليله، وذلك لأن هذه الوحدات تختلف من حيث طريقة تحليلها، كما عليه أن يحدد مدى حاجته إلى استدعاء نصوص أخرى، وهو ما أشرت إليه في معيار التناص، أما المعيار الأخير فيتعلق بأطراف التواصل.

المراجع:

Adam, J.-M. (2015a). La linguistique textuelle (3eme ed.). Armand Colin.

Adam, J.-M. (2015b, March 31). Le paragraphe: Unité transphrastique et palier d’analyse textuelle,. UNILausanne.

Agricola, E. (1970). Textstruktur aus linguistischer Sicht. Wissensch. Zeitschrift Der Padago- Gischen Hochschule Erfurt/Muhlhausen, 2, 85–88.

Agricola, E. (1976). Vom Text zum Thema. In F. DANE & D. Viehweger, Probleme der Textgrammatik I. Als: Studia grammatic. Akademie Verlag.

Benveniste, É. (1966). Problèmes de linguistique générale: Vol. Tome I. Gallimard.

Boost, K. (1955). Neue Untersuchungen zum Wesen und zur Struktur des deutschen. Satzes.

Brinker, K. (1973). Zum Textbegriff in der heutigen Linguistik.

Brinker, K. (1991). Aspekte der Textlinguistik (Vol. 106). Olms.

Bronckart, J.-P. (1996). Activité langagière, textes et discours. Delachaux et Niestlé.

Charolles, M. (1988). Les palns d’organisation textuelle: Périodes, chaines, portées et séquences. Pratique, 5.

Daneš, F. (1974). Functional sentence perspective and the organization of the text. Papers on Functional Sentence Perspective, 23, 106–128.

De Beaugrande, R., & Dressler, W. U. (1981). Einführung in die Textlinguistik. Niemeyer.

Dressler, W. U. (1978). Textlinguistik Darmstadt: Wissenschaftliche Buchgesellschaft.

Dressler, W. U. (2016). Einführung in die Textlinguistik. Max Niemeyer Verlag.

Fossion, A., & Laurent, J.-P. (1981). Linguistique et pratique textuelles, Langages nouveaux, pratique nouvelles, pour les classe de langue française (2nd ed.). Éditions Duculot.

Gülich, E. (1986). Textsorten in der Kommunikationspraxis. In W. Kallmeyer, Kommunikationstypologie: Handlungsmuster, Textsorten, Situationstypen: Jahrbuch 1985 des Instituts für deutsche Sprache. Fakultät für Linguistik und Literaturwissenschaft.

Halliday, M. A. K., & Hasan, R. (1976). Cohesion in English. Longman.

Harris, Z. (1952). Discourse analyses. Language, Linguistic Society of America, 28(1).

Hartmann, P. (1971). Texte als linguistisches Objekt. In S. WOLF-DIETER, Beiträge zur Textlinguistik. Fink.

Heinemann, W., & Viehweger, D. (1991). Textlinguistik. Eine Einfiihrung. Tiibingen: Niemeyer.

Helbig, G. (2013). Entwicklung der Sprachwissenschaft seit 1970. Springer-Verlag.

Isenberg, H. (1976). Einige Grundbegriffe für eine linguistische Texttheorie. Probleme Der Textgrammatik.

Isenberg, H., & Gegenwartssprache, A. S. G. der D. (1968). Überlegungen zur Texttheorie. Deutsche Akademie der Wissenschaften.

Kristeva, J. (1969). Séméiôtiké. Recherches pour une sémanalyse. Seuil.

Miola, R. S. (2004). Seven types of intertextuality. na.

Pfütze, M. (1970). Grundgedanken zu einer funktionalen Textiinguistik. Müler.

Pike, K. L. (1954). Language in relation to a unified theory of the structure of human behavior. Summer Institute of Linguistics.

Powers, P. (2001). The methodology of discourse analysis (Issue 14). Jones & Bartlett Learning.

Sacks, H., & Schegloff, E. A. (1979). Two preferences in the organization ofreference to persons in conversation and their interaction. Everyday Language: Studies in Ethnomethodology. New York.

Sacks, H., Schegloff, E. A., & Jefferson, G. (1974). A simplest systematics for the organization of turn-taking for conversation. Language, 50, 696–735. https://doi.org/10.17323/1728-192X-2015-1-142-202

Van Dijk, T. A. (1995). On macrostructures, mental models, and other inventions: A brief personal history of the Kintsch-van Dijk theory. Discourse Comprehension: Essays in Honor of Walter Kintsch, 383–410.

Van Dijk, T. A., & Kintsch, W. (1983). Strategies of Discourse Comprehension. Academic Press.

Viehweger, D. (1976). Semantische Merkmale und Textstruktur. F. Danes, F. y D. Viehweger (Hrsg.), Probleme Der Textgrammatik, Berlin, Akademie, 195–206.

Werlich, E. (1975). Typologie der Texte: Entwurf eines textlinguistischen Modells zur Grundlegung einer Textgrammatik. Quelle & Meyer,.

Yule, G., & Brown, G. R. (1986). Discourse analysis. Cambridge University Press.

باختين, م. (1986). شعرية دوستويفسكي (ج. ن. التكريتي, Trans.). دار توبقال – دار الشرؤون الثقافية العامة.

بن عروس, م. (2018). الإتساق والإنسجام في القرآن الكريم. نور حوران للدراسات والنشر والترجمة.

بيتوفي, ج. س. (2000). اللغة وسيلة مكتوبة: النص. In م. ا. حميدي & ع. ا. الحميدان (Trans.), الموسوعة اللغوية: Vol. ج1. جامعة الملك سعود.

قاسمي, ع. ا. (2019). المنظِّمات التعديدية في النصوص الوصفية. نور للنشر.

قاسمي, ع. ا. (2020). أجناس النصوص. كوكب العلوم.

قاسمي, ع. ا. (2021). ماكروبنية النص—الخطوات المنهجية للتحليل. اللسانيات, 27(1), 157–198.

مانغونو, د. (2008). المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب (م. يحياتن, Trans.). الدار العربية للعلوم ناشرون- منشورات اختلاف.

الهوامش:

  1. يُعد دانيش (František Daneš) أحد أبرز أعضاء حلقة پراغ، وقد قام بتوسيع مفهوم الموضوع (Theme) وهو العنصر الذي نتحدث عنه؛ والمحمول (Rheme) وهو العنصر الذي يأتي بمعلومة جديدة، ليشمل النص دراسا بذلك العلاقات التي بين الجمل، مصنفا التدرج النصي بحسبهما إلى ثلاثة أنواع يأتي عليها ترتيب النص. انظر للتفصيل في هذه المسألة مقاله المشهور: (Daneš, 1974)

  2. نجد هذا ظاهرا في التصور الذي اشتغل عليه هارتمان، انظر على سبيل المثال : (Hartmann, 1971)

    Hartmann, P.: Texte als linguistisches Objekt. In: Beitrage zur Textlinguistik. Hrsg.W.·D. STEMPEL. Miinchen 1971. S.9ff.

  3. انظر بعض النماذج التي حاولت تصنيف النصوص عند الألمان في مقال غوليش: (Gülich, 1986)

    Gülich, Elisabeth, ‘Textsorten in Der Kommunikationspraxis’, in Kommunikationstypologie : Handlungsmuster, Textsorten, Situationstypen : Jahrbuch 1985 Des Instituts Für Deutsche Sprache, by Werner Kallmeyer,Fakultät für Linguistik und Literaturwissenschaft, 1986.

  4. . يجعل ج. م. آدم طريقته ـ بناءً على هذا ـ امتدادا لأعمال سلاكتا، من خلال الربط بين ميدان اللسانيات النصية (على أن تكون متخلِّصة من نحو النص)، وتحليل خطاب (على أن يتحرر من تحليل الخطاب الفرنسي)، حيث يجعل اللسانيات النصية ميدانا فرعيا عن ميدان أوسع يُعنى بتحليل الممارسات الخطابية.
  5. ذكر هذه الفروع دريسلر، ومن أجل التوسع فيها انظر ما ذكره في: (Dressler, 2016, p. 4)
  6. «Das originäre saprache Zeichen» (Hartmann, 1971, p. 10)
  7. Harris, Zellig, S, Discourse analyses, Language, Linguistic Society of America Vol. 28, No. 1, Jan. – Mar, 1952, 1952,
  8. أو على الصورة التي هما عليها في أوروبا، حيث إن اللسانيات النصية لم تلق انتشارا في الولايات المتحدة، ولم تزل مسائلها تدرس تحت مظلة تحليل الخطاب هناك.
  9. كتعريف إيزنبرغ : «النص هو “سلسلة من الجمل” مرتبط بعضها ببعض عن طريق النص»، في: (Isenberg & Gegenwartssprache, 1968)
  10. كتعريف فُوتْسَه : «النص عبارة عن مجموعة جمل مرتبة ذات معنى (دلاليات) وملائم (تداولية) توجد بينها علاقات مع المعاني والوظائف، وهو بهذا وحدة لغوية كلية منظمة قائمة بذاتها نسبيًا، تعكس حالة معقدة من الأمور في الوعي.» في: (Pfütze, 1970, p. 7)
  11. كتعريف أغريكولا : «النص عبارة عن تسلسل خطي للجمل اللغوية المرتبطة بمعان معينة ومرتبة بطريقة معينة. فهو سلسلة من الجمل اللغوية، بعض عناصره مرتبطة نحويًا، ولكنها مرتبطة في جميع الحالات عن طريق التكافؤ الدلالي والصلات المنطقية العامة الضمنية» في: (Agricola, 1970)
  12. كقولهم «النص عبارة عن تسلسل خطي للنصوص يقصدها المرسل أن تكون وحدة موضوعية ويتم تمييزها على أنها وحدة من خلال الإنتاج المستمر، كما يتم ربطه نحويًا و / أو عن طريق شبكة من المعادلات الدلالية الصريحة والروابط المنطقية الضمنية ووفقًا للقواعد غير اللغوية ليتم ترتيب التعامل مع الموضوع (انظر Goretzki et al ، 1971 ، 165)» نقلا عن: هلبيغ
  13. انظر: قاسمي، عبد الحق، ماكروبنية النص، الخطوات المنهجية للتحليل، مجلة اللسانيات، ع.28، 2021.
  14. للاستزادة انظر الفصل الثاني من كتاب أجناس النصوص.
  15. انظر على سبيل المثال محاولات تحديد النصية في أعمال: (De Beaugrande & Dressler, 1981; Heinemann & Viehweger, 1991; Isenberg, 1976, p. 48)
  16. يفصل في هذا غِرهارد هالبيغ في (Helbig, 2013, pp. 13–147)
  17. للتوسع أكثر في هذا الموضوع انظر الفصل الأول من كتاب: (قاسمي, 2020).
  18. كان ((Werlich, 1975)) السبَّاق إلى تناول وظائف النص، ويمكن إلحاق البحوث المتعلقة بالأفعال الكلامية الكلامية (الماكروأفعال الكلامية) بها.
  19. لفهم الفرق بين الماكروبنية والميكروبنية طالع مقال (قاسمي, 2021).
  20. المراجع المتعلقة بمسائل الاتساق والانسجام منتشرة حتى باللغة العربية، ويكفي هنا أن أحيل إلى (Yule & Brown, 1986; بن عروس, 2018)
  21. انتبهت إلى هذا پيني پاورز في :

    (Powers, 2001, p. V)

  22. وقد تناولت هذا المفهوم (أعني مكونات النص) من قبلُ في كتاب أجناس النصوص وبنيت عليه معيار التصنيف النصي، للتوسع أكثر انظر: ص.ص. 162-174.
  23. أستعمل هنا أجزاء النص بمعناها الشكلي الذي تظهر عليه في سطح النص، ووحدات النص بمعناها الوظيفي أي الزاوية التي ندرس هذه الأجزاء منها.
  24. بيتوفي، جانوس، س.، اللغة وسلية مكتوبة: النص، في: الموسوعة اللغوية، تحرير: ن. ي. كولنج، ترجمة: محي الدين حميدي، وعبد الله الحميدان، نشر جامعة الملك سعود، الرياض، ب ط، 1999، ج. 1، ص. 222.
  25. أعيد نشر المقالين في (Kristeva, 1969)
  26. l’axe horizontal (sujet-destinataire) et l’axe vertical (texte-contexte) coïncident pour dévoiler un fait majeur : le mot (le texte) est un croisement de mots (de textes) où on lit au moins un autre mot (texte). Chez Bakhtine d’ailleurs, ces deux axes, qu’il appelle respectivement dialogue et ambivalence, ne sont pas clairement distingués. Mais ce manque de rigueur est plutôt une découverte que Bakhtine est le premier à introduire dans la théorie littéraire : tout texte se construit comme une mosaïque de citations, tout texte est absorption et transformation d’un autre texte. À la place de la notion d’intersubjectivité s’installe celle d’intertextualité.