عالم الجنة والخلود في معتقدات بلاد الرافدين ومصر القديمة

مصطفى بوجناح1

1 جامعة ابن طفيل _ كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية. المغرب

بريد الكتروني: mostafaboujnahe.nv@gmail.com

HNSJ, 2021, 2(11); https://doi.org/10.53796/hnsj21126

تاريخ النشر: 01/11/2021م تاريخ القبول: 23/10/2021م

المستخلص

يجمع هذا البحث بين الأسطورة والتاريخ وبين الواقع وعالم الغيب، وهو دراسة إبستيمولوجية لمفهوم ظهر في الفكر الإنساني منذ أول يوم علم فيه أنه إنسان فان ولا حظ له في الخلود الأبدي. وقد أبدعت المخيلة السومرية الفذة في ابتكار مفاهيم وتصورات خاصة عن عالم الفردوس، وسار على نهجهم البابليون لكن بفكر متطور نوعا ما. فكانت دلمون هي أرض الميعاد الأبدي والفردوس المفقود الذي طالما تغنى به سكان الشرق القديم. وتبنى المصريون القدماء تصوراتهم الخاصة عن الجنة، واعتقدوا أن الممجدين يصعدون إلى السماء ليستقروا في جزر بين النجوم، حيث الفردوس الخالد والنعيم المثالي برفقة الآلهة. وقد كان هذا البحث فرصة لمناقشة مختلف القضايا اللاهوتية والفلسفية التي تتعلق بمفهوم الجنة في مدونات الشرق القديم، والكشف عن بعض مكامن الغموض التي ترتبط بهذا المفهوم في بعده الأخروي.

Research Article

The World of Heaven and Eternity in the Beliefs of Mesopotamia and Ancient Egypt

Mostafa Boujnahe1

1 Ibn Tufail University – Faculty of Humanities and Social Sciences

Email: mostafaboujnahe.nv@gmail.com

HNSJ, 2021, 2(11); https://doi.org/10.53796/hnsj21126

Published at 01/11/2021 Accepted at 23/10/2021

Abstract

This study combines between myth with history, and reality with the unseen world. It is an epistemological study of a consept that appeared in humans origin thought the first day he knew he was a man with no eternity in our world. The brilliant Sumerian imagination created an innovative consept of Paradise, and this was followed by the Babylonian approach, but with some other developed thoughts. Dilmun was the eternal land and the lost paradise that the inhabitants of the Ancint East looked for. The Ancient Egyptians adopted their own perceptions of Paradise, and believed that the glorified can fly high to heavens in order to settle in interstellar islands, where the eternal Paradise, and the ideal bliss accompanied by the gods.

Also, this study was an apportunity to discuss various theological and philosophical issues related to the consept of Paradise in the books of Ancient East, and to reveal some of the ambiguities that are related to this consept in the dimension of the last day.

Key Words: Paradise – Immortality – Iraq – Egypt – Dilmun – Gods

مقدمة

ظل موضوع البحث عن الفردوس السومري والبابلي المفقود ولعقود طويلة، مثار جدل ونقاش كبيرين في الأوساط الأكاديمية وبين العلماء الذين يدرسون الشرق القديم؛ ذلك أن الدراسات والأبحاث الجيولوجية التي كشفت عنها الألواح الطينية المستخرجة من مواقع التنقيب في بلاد ما بين النهرين في أواخر القرن التاسع عشر، وضعت مادة علمية غزيرة وجديرة بالتأمل وإعادة النظر في كثير من المسلمات التي تناقلتها المصادر التاريخية المتعلقة بالشرق القديم. فنصوص الملاحم التي تم ترجمتها عن الكتابة المسمارية والقصائد الشعرية التي تصف مخيال الإنسان الشرقي القديم _ خصوصا الحكماء منهم _ تجاه الموت وما بعده، أبرزت عمق الأفكار والمعتقدات المرتبطة بعالم ما بعد الموت وفكرة البعث والجزاء والعقاب التي كانت سائدة في فكر بلاد الرافدين القديم.

فقد كان يعتقد أن الروح بعد مفارقتها للجسد تنزل إلى العالم السفلي لطلب الاستقرار والسكينة، مع أن هذه الروح كانت تبقى حاملة لملامح صاحبها مهما كانت حالة الجسد، مع الاستقلال التام عنه بعد الموت. أما حين تتحدث النصوص المسمارية القديمة عن عودتها إلى الأحياء فإنها تقصد عودتها بهيئة أشباح مستقلة عن الجسد. (مبيض، 1992، ص 46). أما مسألة النعيم أو العقاب الذي كان يتعرض له الميت في العالم الآخر، فلم يكن لها ذلك الوضوح الذي تبلور وتطور فيما بعد في عقائد الديانات التوحيدية الثلاث، حيث لم يثبت دليل قاطع من النصوص المسمارية المترجمة، أن العراقيين القدماء كانوا يعتقدون بقيامتهم أو بعثهم من الموت على الشكل السائد في عقائد الرسالات السماوية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن سكان وادي الرافدين كانوا يعتقدون أن النعيم الذي يتعرض له الميت في العالم الآخر، يميز فيه بين الناس العاديين كالفلاحين والعبيد، وبين الملوك والحكام ورجال الدين وذوي النفود والسلطة في رحلتهم إلى دلمون Dilmun أرض السعادة والقداسة الدائمين.

أما المصريون القدماء فقد كان لهم تصور أكثر وضوحا مما هو عليه الحال عند سكان وادي الرافدين، حيث كانوا يعتقدون أن موتاهم يحظون بعد موتهم إما بالنعيم المقيم أو يذهبون إلى جحيم العالم السفلي، حسب ما كان يصدر منهم من عمل الخير أو الشر أثناء حياتهم على الأرض. ولذلك نجد أنهم كانوا يعتنون عناية شديدة بدفن موتاهم وتقديم الهدايا والقرابين والأشياء الثمينة عند قبورهم حتى يستفيدوا منها في العالم الآخر، كما شيدوا بنايات ضخمة لدفن موتاهم كما هو الحال مع الأهرامات[1] التي مازالت قائمة حتى يومنا هذا. فما هو الدافع وراء وجود تفكير فلسفي شرقي في عالم مثالي لا يشبه العالم المعروف على الأرض ولا يصيب الإنسان فيه شقاء أو نصب أو تعب؟ وما أهم القضايا التي ترتبط بعالم الجنة لدى الشعوب الشرقية القديمة؟ وكيف تجلى هذا التفكير في أدب الملاحم والأساطير والرسوم الجدارية وغيرها من تراث الشرق القديم؟

أولا: مفهوم الجنة في معتقدات بلاد الرافدين

قبل الحديث عن هذا التصور الميثولوجي الفلسفي، لابد من الإشارة إلى عقيدة الحساب والثواب لدى سكان بلاد الرافدين، فقد اعتقد العلماء في البدايات الأولى لاكتشاف حضارة العراق القديم، أن الغاية من وجود العالم السفلي في معتقدات تلك الأزمنة هو ليكون مستقرا أخيرا للأرواح بعد الموت، ولم تكن لديهم أدلة كافية تثبت تعرض الروح لحساب يؤدي بها إلى الثواب أو العقاب، هذا مع العلم أن العالم السفلي كان مليئا بالآلهة التي تستقبل الأرواح وتقودها إلى مكانها المخصص لاستقرارها النهائي. (حنون، 1986، ص 135 ـ 138). وقد كان للحكام وكبار الكهنة والشخصيات المهمة في المجتمع مكانة مهمة يحتلونها في العالم السفلي بخلاف أرواح الموتى العاديين ـ والذين كانوا بدورهم يقدمون الهدايا والقرابين للآلهة هناك ـ كامتياز خاص كانوا يحظون به استمرارا لما كان لديهم من امتيازاتهم في عالم الأحياء. وهذا ما يبدو واضحا من ملحمة جلجامش Gilgamesh وقصة نزول إنكيدو Enkidu إلى العالم الأسفل، وقصة (أور ـ نامو Our Nammu) الذي أصيب بجروح بليغة أثناء معركته ضد الكوتيين Kouthanians ، ولفظ أنفاسه الأخيرة على إثرها. ورغم أن جسده أصابه هذا الأذى البالغ، إلا أن روحه نزلت سليمة تماما إلى العالم الأسفل، وقدمت الهدايا والقرابين إلى آلهة ذلك العالم لتحظى بالاستقرار في الموضع المخصص لها. (حنون، 1986، ص 11).

إلا أن صمويل كريمر Krimer Samuel افترض وجود حساب للأموات في العالم السفلي، استنادا إلى إشارة وردت في لوح طين سومري يحوي قصيدة كتبها شخص يدعى لودنكرا Ludankara يرثي فيها أباه المدعو نانا Nana، إذ ورد فيها ما يشير إلى نزول الإلهين (شماش Shamash ـ وإنانا Inana) إلى العالم السفلي بطريقة توحي بقيامهما بتقرير مصير الموتى فيه، وفيما يلي نص القصيدة:

» يا نانا عسى أن تسر روحك ويستقر قلبك

عسى الإله أوتو سيد العالم السفلي العظيم، بعد أن ينور الأماكن المظلمة، أن يحكم قضيتك بعطف

عسى الإله نانا أن يقرر مصيرك برحمته في يوم النوم

عسى الموكلون بالطعام أن ينادوا اسمك

عسى السقاة أن يرووا ظمأك بالماء المنعش

عسى نيدوا وإبتانا أن يكونا شفيعيك

عسى آلهة العالم الأسفل أن يرفعوا الدعوات لك

عسى أن يقول إلهك (الشخصي) كفى، عسى أن يقرر مصيرك برحمته

عسى أن يغفر إثم العائلة من الحساب

عسى الأرواح الصالحة أن يحموك

عسى ألا تنقطع الجعة والشراب وكل الأشياء الطيبة عنك. « (الخفاجي، 2009، ص 5).

وهذا أيضا ما يمكن أن نستشفه من الحوار الذي دار بين البطل أوتنابشتيم Utnaphishtim وجلجامش في ملحمته حين قصده ليسأله عن سر حصوله على الخلود الأبدي على الرغم من أنه من البشر الفانين فقال:

» إن الموت قاس لا يرحم

هل بنينا بيتا يقوم إلى الأبد؟

وهل ختمنا عهدا يدوم إلى الأبد؟

وهل يقسم الإخوة ميراثهم ليبقى إلى آخر الدهر؟

وهل يرتفع النهر ويأتي بالفيضان على الدوام؟ « (الخفاجي، 2009، ص 11).

إذن من خلال ما سبق يتبين أن سكان بلاد الرافدين القدامى كانوا يعتقدون بحياة أخرى بعد الموت وحصول ثواب للموتى في العالم الآخر، خلافا لمن أنكر ذلك من العلماء_ مع الاعتراف بمدى الغموض الذي يلف هذا الموضوع _ والدليل على ذلك ما كان يقوم به أهل الميت السومريين من عناية جيدة بدفن موتاهم وإرفاقهم بقوارب تحوي أواني فخارية مليئة بمتطلبات الحياة التي يحتاجها الميت في رحلته إلى العالم السفلي. (مظهر، 1995، ص 70).

وقد كان الحاكم يدفن في تابوت ويوضع في قبو مبني من الحجر ويحاط بعدد من رجالاته وخدمه، وحرص أهل سومر على تزويد الملك الميت بحاجياته الشخصية سواء بلفها مع الجثة، أو وضعها بجواره داخل التابوت، وكانوا يضعون خارج التابوت قاربا صغيرا مملوء بأواني فخارية مختلفة الأحجام، تحوي أنواعا كثيرة من القرابين، واعتقدوا بأن الميت سوف يضطر في رحلته إلى العالم السفلي إلى استخدام قارب مزود بأنواع المآكل والمشارب. (مظهر، 1995، ص 71).

الجـنة الـسومريـة « Sumerian paradise » 

من المعلوم أن جميع الحضارات القديمة التي تعاقبت على جغرافيا الشرق القديم، كانت مهووسة بفكرة البحث عن جنة الخلود التي فقدها الإنسان الأول الذي كان يعيش فيما يسمى بالعصر الذهبي. إلى درجة أن الوعي الجمعي لساكنة تلك المنطقة وقتها، بنى تصورا فلسفيا خاصا عن هذه الجنة وألف حولها الأساطير. وعندما نقول أساطير؛ فهذا لا يعني أن ذلك كان من قبيل الخرافة التي لا معنى لها في واقع الإنسان المعيش، بل إن المخيال الأسطوري والأدبي القديم الذي تكون تجاه الفردوس المفقود، قد احتل مساحة كبيرة من هذا المخيال، تماما كما وقع فيما بعد في الخطاب اللاهوتي للديانات السماوية المعروفة الآن. (الخفاجي، 2009، ص 5).

إن فكرة الجنة والحصول عليها كثواب للأعمال الصالحة، ومآل للإنسان يلجأ إليه بعد موته طلبا للسعادة والخلود الأبديين، لهو جوهر فكرة الخلود التي كونها المخيال الأسطوري للحضارات القديمة. ثم إن هذا التفكير الفلسفي حول الجنة كان محملا بأبعاد ومعاني ذات طابع اجتماعي فرضته طبيعة الحياة ومتاعبها ومشاقها، والتي كان يعاني منها الإنسان البسيط في الشرق القديم. وهو أمر حثه على التفكير في عالم مثالي يكون خاليا من صور المعاناة والاضطهاد والظلم المفروض عليه، عالم أشبه ما يكون بحلم جميل لا يريد الحالم أن يفارقه، مما أدى بهذا التفكير مع مرور الزمن إلى أن يطرح نفسه على شكل أسئلة تناسلت فيما بعد في أدب الأساطير في الحضارات الشرقية القديمة. (الخفاجي، 2009، ص 5).

وقد عبر السومريون عن ذلك الحلم في نص جميل يصف العصر الذهبي للإنسان قبل هبوطه إلى دنيا العبودية والعمل المغترب، حيث كان سيدا لنفسه وسيدا للطبيعة هناك:

» في تلك الأيام لم يكن هناك حية ولا عقرب ولا ضبع

لم يكن هناك أسد ولا كلب شرس ولا ذئب

لم يكن هناك خوف ولا رعب

لم يكن للإنسان من منافس

في تلك الأيام كانت شوبرا أرض المشرق، أرض الوفرة وشرائع العدل

وسومر أرض الجنوب ذات اللسان الواحد، أرض الشرائع الملكية

وأور أرض الشمال، الأرض التي يجد فيها كل حاجته

ومارتو أرض الغرب أرض الدعة والأمن

وكان العالم أجمع يعيش في انسجام تام

وبلسان واحد يسبح الكل بحمد إنليل « (السواح، ص 237 ـ 238).

تصور هذه القصيدة السومرية تلك السعادة المثالية التي كان يعيشها الإنسان الأول قبل سقوطه؛ مكان مقدس وطاهر لا تعب فيه ولا نصب، ولا منافس للإنسان هناك ولا يعرف فيه معنى الشقاء، خضرة دائمة وخصوبة وفيرة تجعل من تلك الأرض مكانا مثاليا ونموذجيا، والمخلوقات فيه لا تقتتل ولا تؤذي أحدا، وليس هناك خوف ولا رعب، وكان الجميع يمجد إنليل Enlil ويسبح بحمده. وهناك ملاحظة دقيقة في هذا النص السومري، وهي أن تلك الأرض كانت أرض حكم وملك وربما حتى قتال عليه ــ لتعدد الآلهة هناك ــ أرض كان الناس يخضعون فيها لحكم وشرائع ملكية، وكانت مقسمة إلى أربع جهات: شرق وغرب وشمال وجنوب. (Jourdan, 2007, p15)

ولا توجد لحد الساعة أسطورة سومرية تصف سبب فقدان الإنسان الأول لعصره الذهبي ونزوله إلى الأرض. وهو أول تصور للإنسان جاء مدونا في لوح من الطين في قصة الملحمة المعنونة بـ  »إن ـ ميركار « Enmerkar وأرض أرتا. إلا أن صمويل كريمر، يفترض استنادا لأسطورة العصر الذهبي التي تصف وضع الإنسان السابق على السقوط ـ أن مرد ذلك إلى الغيرة والتحاسد الذي تسرب بين الآلهة، مما ولد الصراع بينها، وهو بذلك يقصد ما جرى للإله إنكي Enki إله العالم السفلي، الذي أعجزه سلطان الإله إنليل أو أنه غار منه، فعمد إلى تقويضه بأن أوقع النزاع والصراع بين شعوب الأرض وسبب بلبلة الألسن، وقضى بذلك على عصر الإنسان الذهبي. (الجوراني، 1998، ص 63 ـ 64). والمثير للاهتمام في هذه الأسطورة أن السومريين هم أول من تحدث عن الجنة التي عاش فيها الإنسان زمنا قبل سقوطه نتيجة لغضب الآلهة عليه.

أسطورة دلمون «Dilmun» (الجذر السومري للجنة)

يعتقد العلماء أن مساحات شاسعة من أرض الجزيرة العربية وتحديدا منطقة الخليج العربي المعروفة اليوم، وكذلك مدينتي أور Our/ ur وإريدو Eridou التاريخيتين، قد غمرتهما المياه بعد ارتفاع منسوب مياه البحار في العصر الجليدي الأخير الذي عرفته الأرض، وذلك راجع إلى ذوبان كتل جليدية ضخمة في القطبين الشمالي والجنوبي، جراء الارتفاع المهول لدرجات الحرارة عن معدلاتها الطبيعية في ذلك الوقت. مما أدى إلى استمرار مياه البحار في الارتفاع إلى أوائل الألف الرابع قبل الميلاد، فابتلعت بذلك المناطق المنخفضة لتلك البلاد، الشيء الذي نجم عنه حدوث هجرات متتالية للسكان في اتجاه منطقة وادي الرافدين، كما التجأ قسم كبير منهم إلى سواحل الجزيرة العربية الغربية وجزرها البارزة كالبحرين وقطر. وبالتالي يظهر جليا أن أصل السومريين الذين ظهروا في منطقة ما بين النهرين كانوا هم الوافدون من شبه الجزيرة العربية بعد أن غمرت المياه أراضيهم. (داود، 1991، ص 50).

إلا أن المثير للاهتمام هنا هو أنه قبل ارتفاع درجة حرارة الأرض وطغيان مياه البحر على قسم كبير من غرب شبه الجزيرة العربية، كان مناخ تلك المنطقة مناخا معتدلا لطيفا غزير الأمطار، وكان يكسوها غطاء نباتي كثيف من الأعشاب وتغطي مرتفعاتها الغابات الملتفة. مما يجيب بشكل ملفت للنظر عن سبب فقدان السومريين لجنتهم الخضراء أو فردوسهم الأرضي، والذي تحول بمرور الزمن إلى ذكرى غامضة في أرض مفقودة ابتلعتها مياه البحر. (عرابي، 2004، ص 25 ـ 26). وأنظر أيضا (الخفاجي، 2009، ص 25)

وبالرجوع إلى أسطورة دلمون السومرية نجد أنها ترسم لنا تصورا واضحا عن النعيم والفردوس الذي تغنى به السومريون في قصائدهم والذي طالما انتظروه وحنوا إليه. مكان مثالي أشبه ما يكون بجنة عدن التوراتية، التي تعد واحدة من أهم المواضيع والقضايا التي فتحت مجالا رحبا للتساؤل والنقاش حول مدى التشابه الموجود بينها وبين أسطورة دلمون السومرية. (السواح، ص 238).

وقد نشر نص هذه الأسطورة عام (1951م)، ولكن محتوياته بقيت غير واضحة حتى عام (1954م) حين نشرت نشرة مفصلة عن النص، ونعرف الآن أن القصيدة السومرية كانت مؤلفة من مائتين وثمان وسبعين (278) سطرا منقوشة في لوح مؤلف من ستة حقول. وهو محفوظ الآن في متحف جامعة بنسلفانيا، ويوجد نص صغير مكرر للنص الأول في متحف اللوفر. (كريمر، ص 240). ويعود النص إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد، ويحتمل أن يشير إلى حوادث واقعية وعلاقات اقتصادية بين سومر ودلمون تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد. (الشواف، 1996، ص 26). وفيما يلي نص الأسطورة:

» أرض دلمون مكان طاهر، أرض دلمون مكان نظيف

أرض دلمون مكان نظيف أرض دلمون مكان مضيء

في أرض دلمون لا تنعق الغربان

ولا تصرخ الشوحة صراخها المعروف

حيث الأسد لا يفترس أحدا

ولا الذئب ينقض على الحمل

ولا الكلب المتوحش على الجدي

ولا الخنزير البري يلتهم الزرع

والطير في الأعالي [مقطع ضائع] صغارها

والحمامة لا [مقطع ضائع] رأسها

حيث لا أحد يعرف رمد العين

ولا أحد يعرف آلام الرأس

حيث لا يشتكي الرجل من الشيخوخة

ولا تشتكي المرأة من العجز

حيث لا وجود لمنشد ينوح

ولا لجوال يعول. « (السواح، ص 238 ـ 239).

وقد ترجم صمويل كريمر نصا آخر عن الكتابة المسمارية نشر عام (1915م) جاء فيه ما يأتي:

» مقدسة هي المدينة التي منحت لكم، ومقدس بلد دلمون النقي مقدس سومر، بلد دلمون نقي بلد دلمون مغمور بالنور متميز بالإشعاع، يوم أقيم الأول في دلمون، حيث استقر إنكي مع زوجته. أصبح المكان هذا نقيا ومشعا بالنور، الغراب لا يصيح في دلمون والحجل لا يوصوص والأسود لا تقتل أحدا. والذئب لا يلتهم الحمل الوديع، لم يكن الكلب يتقن إخضاع الغزلان، ولم يكن الخنزير البري يأكل الحبوب. لم تكن طيور السماء تأتي لتنقر شعير الأرملة وهو يجف على السطح، ولم تكن الحمامة تحني رأسها، ولم يكن مريض العينين يشكو من مرض عينيه، ولا مريض الرأس كان يشكو من مرض رأسه، لم تكن أي امرأة عجوز تقول إنني عجوز «. (الخفاجي، 2009، ص 30 ـ 31).

تقول الأسطورة إن دلمون أرض مقدسة وطاهرة ومثالية من حيث كونها توفر كل ألوان الراحة والسعادة اللتين يحتاجهما ساكنوها، مكان لا وجود فيه للظلم والاعتداء، ولا وجود فيه للمرض والألم الذي يصيب الإنسان في أحد أعضائه، ولا يشيخ فيه الإنسان أبدا، بمعنى أنه يبقى خالدا هناك. وجميع الناس متساوون في الحقوق والكرامة. كانت الحيوانات فيه مسالمة لا يفترس القوي منها الضعيف، وكلها مسخرة لخدمة من يسكن هذه الأرض من الإنسان. لا صراخ في تلك الأرض ولا عويل، هدوء وسكينة تبعث على الراحة والدعة والأمن والاطمئنان. وفيها إله الماء السومري إنكي يأمر إله الشمس أوتو Outou أن يملأها بالمياه العذبة ويغمر كل جوانبها به، حتى تتمكن النباتات من النمو وتتحول دلمون إلى جنة إلهية خضراء مليئة بالحقول والبساتين والمروج، وأشجارها مثمرة تسر الناظرين. وفي أرض دلمون جعلت الإلهة ننهرساج Ninhursag ثمانية أنواع من النباتات تنمو وتزدهر، لكنها لم تفلح في أن تظهر هذه النباتات إلى الوجود إلا بعد عملية معقدة شملت ثلاثة أجيال من الإلهات ولدن كلهن من إله الماء، وقد أكدت القصيدة أن ولادتهن قد تمت بدون أدنى ألم عند المخاض. ولكن إنكي أراد أن يذوق طعم تلك النباتات فأمر رسوله المسمى إيسمند _ وهو الإله الذي يمثل بوجهين _ أن يقتطف له تلك النباتات العجيبة حيث قدمها لسيده الذي أكل كلا منها وأتى عليها كلها بالترتيب. ولما علمت ننهرساج بالأمر غضبت ونطقت بلعنة الموت على الإله إنكي، ولكيلا تغير في قرارها اختفت من بين الآلهة. (كريمر، ص 242).

وفيما يلي نص العبارات التي تصف ولادة الإلهات تلك الولادة الخالية من الألم والجهد، والتي تمت بعد حمل تسعة أيام بدلا من تسعة أشهر:

» خرجت الإلهة ننمو إلى شاطئ النهر

وتطلع إنكي في الأهوار ونظر حواليه

وقال لرسوله إيسمند:

ألا أقبل تلك الفتاة المليحة؟

فأجابه إيسمند: قبل الفتاة المليحة!

لقد عانقها وقبلها إنكي

لقد أودع البذرة في رحمها

ومضى يوم واحد فكان شهرها الأول

ومضى يومين كانا بمثابة شهرين من أشهرها

وتسعة أيام صارت أشهرها التسعة أشهر الأمومة «. (Kramer, 1963, p122)

ولعل أهم نقطة يمكن ملاحظتها في هذه القصة هي أن الزمن في أرض دلمون لا يماثل الزمن الأرضي المعروف، حيث إن يوما واحدا هناك يعادل شهرا كاملا على الأرض. وهو ما نجده بشكل أقل اختلافا في القرآن الذي يؤمن به المسلمون؛ حيث إن يوما واحدا في السماء السابعة يساوي ألف سنة على الأرض. وتطول القصيدة أكثر وتذكر قصة أكل إنكي من النباتات التي زرعتها ننهرساج في جنة دلمون، ولما علمت بصنيعه غضبت عليه ولعنته ورمته بلعنتها التي غيرت طبيعته الجسدية فمرض مرضا شديدا، ثم تعود لمعالجته بعد ذلك:

» ولما علمت ننهرساج لعنت اسم إنكي وقالت:

لن أنظر إليه بعين الحياة حتى تحين وفاته.

يا أخي ما يؤلمك؟

إن ضلعي هي التي تؤلمني

لقد أوجدت من أجلك الإلهة (نن ـ تي) أي سيدة الضلع أو السيدة التي تحيي. « (كريمر، ص 242 ـ 247). وانظر أيضا: (Witzel, 1946, p239)

وفي هذا النص مرة أخرى تشابه واضح مع قصة الخلق التوراتية ومسألة الأكل من شجرة المعرفة، وغضب الرب الإله على آدم في الجنة. وتشير المعتقدات السومرية إلى أن الهدف من خلق الإنسان هو تخفيف العبء على الآلهة وإراحتهم من العمل الشاق، بحيث يكون كل ما هو مدعاة للشقاء والتعب والمعاناة من نصيب البشر الذي صنعته الآلهة، بينما يبقى الآلهة الكبار في عالم مثالي متعال عن النقص ومظاهر الشقاء التي على الأرض، ومن ثم كان لزاما على الآلهة أن توجد مكانا في الأرض تتوفر فيه كل مظاهر السعادة ورغد العيش التي يجب أن تكون من نصيبها فقط. وهكذا وقع الاختيار على مكان من الأرض سمي فيما بعد باسم دلمون، لتأسيس هذا العالم الفردوسي الخالد. وقد كان هذا الموقع أرضا جافة وقاحلة لا ماء فيها ولا كلأ، مما جعل إنكي يخلق المياه ويغمر المنطقة بها، لتتمكن النباتات وكل المخلوقات التي خلقها من العيش في هذا المكان الذي سيوفر السعادة للآلهة. (Katz, P579-580)

يعود سبب نشوء فكرة الجنة في الأصل إلى حنين الإنسان القديم واشتياقه للفردوس الأول الذي كان فيه قبل نزوله إلى الأرض، عالم مثالي فيه الحرية والمساواة المطلقة، حيث كل أسباب السعادة والراحة متوفرة. وهذا لعله انعكاس لما آل إليه وضع الإنسان بعد سقوطه المزعوم، من حيث إنه أصبح يعاني من مشقة العمل المضني المفروض عليه، حياة تحول فيها العمل من متعة وتحقيق للذات إلى جهد واغتراب. فصار الإنسان يتطلع إلى عالمه المفقود ويتغنى بسحره، وربما حلم طويلا بعودته يوما حتى صار ذلك الحلم أساس الخيال الأسطوري الذي نما وترعرع حول فكرة الجنة لديه. (Hubert, 1963, p200)

لذلك كانت أساطير الجنة لدى كل الشعوب تعبيرا سلبيا عن رغبة للتغير لم تخرج إلى حيز الفعل، أو فعل تم إحباطه فصار حلما ينتظر. ثم إن قصة التوراة التي تؤكد على أن الفلاحة كانت كلعنة على الإنسان بسبب عصيان حواء أوامر الله، إنما تلقي الضوء على الموقف من العمل اليدوي في الشرق الأوسط _ الذي تم التعبير عنه بحراثة الأرض _ حيث يعتبر جهدا كريها مضنيا رغم أنه ضرورة لابد منها. )الجوراني، 1898، ص 65 ـ 66). وهذا ما دعا إلى القول بأن ظهور فكرة الجنة أيضا عند الإنسان العبري القديم كان انعكاسا لانبهاره بخضرة وادي الرافدين وحقوله الواسعة البهية، وعمل الفلاحة والحراثة الذي يوفر له المؤن والكلأ والمرعى لحيواناته، بالإضافة إلى ما كان يتعرض له أيضا من استيلاب وحرمان جراء اضطهاده من قبل من هم أعلى منه مرتبة، فكانت أراضيه تسلب وأمواله تنهب ولا يملك للخلاص من ذلك حيلة سوى تطلعه لعالم مثالي سيأتي يوما (Jestin, 1946, p151-152).

أما صمويل كريمر فيرى أن هذا التعبير عن الجنة خاص جدا وواحد من أقدم التعبيرات في العالم، وهو ناتج عن انبعاثات متتالية لمجموعة من الأفكار الفلسفية والدينية التي ألهمت مؤلف القصيدة وجعلته يجسد فكرة الجنة في قالب جيد وفريد في مادته، كما أعطى تصورا واضحا إلى حد بعيد عن الطريقة التي كان يرى بها الإنسان القديم الموت وعالم ما بعد الموت، وكيف أن الهدف من التفكير في الخلود والجنة هو ضمان حياة سهلة وسعيدة للآلهة في العصر الذهبي لدلمون. (Jestin, 1946, p151-152)

جغرافـيـا دلمون الأسطورية

سبقت الإشارة في مطلع الفقرة السابقة بشكل سريع لموقع دلمون الجغرافي، الذي ما يزال قيد الدراسة والبحث إلى اليوم، وقد اختلفت حوله الأقوال وتضاربت في تقرير هذا الموقع الآراء، غير أن جماع الكلام في المسألة لا يخرج عن أمرين محتملين: إما أن يكون موقع دلمون في أقصى الجنوب الغربي من بلاد فارس، والقول الثاني أنها كانت في المنطقة الواقعة في أقصى الشمال الشرقي من الجزيرة العربية. وكلا الموقعين في الحقيقة له من المميزات الجغرافية والأدلة التاريخية ما يرجح أنه هو المكان المقصود. كما أن الإشارة المذكورة في التوراة من أن الرب غرس جنة في الناحية الشرقية في عدن، وهو الموضع الذي تنبع من مياهه أنهار العالم الأربعة التي من ضمنها دجلة والفرات، يرجح أن يكون مطابقا في الأصل لموضع دلمون مكان الفردوس السومري. (كريمر، ص 242)

يقول رجا عبد الحميد عرابي: »والأرجح في رأينا أن هذا الفردوس الإلهي كان في مكان الخليج وليس في أطرافه الشرقية ولا الغربية، وقد غرق الفردوس المفقود _ جنة عدن _ بعد طغيان البحر عليه في بداية العصر الدفيء الرابع. « (عرابي، 2004، ص 38) وذلك في إشارة منه إلى أن السواحل المنخفضة لتلك المنطقة قد غمرتها المياه بعد ارتفاع مياه البحر على إثر ذوبان الكتل الجليدية في كل من القطبين الشمالي والجنوبي في أوائل الألف الرابع قبل الميلاد، فاختفت بذلك الأراضي الخضراء التي كانت مسكن العرب القدامى الذين استوطنوا تلك المنطقة منذ فجر التاريخ، وقد كان مناخ تلك المنطقة مناخا رطبا معتدلا غزير الأمطار، مما انعكس بطبيعة الحال على خصوبة تلك الأرض وغناها الطبيعي بكل ما تجود به الطبيعة عند توفر الشروط الملائمة. يقول قاسم الشواف: »إن دلمون هي التسمية السومرية للمنطقة الواقعة في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة العربية، والتي تشمل جزر البحرين وفيلكا والشواطئ المجاورة لهما. «  (الشواف، 1996، ص 26).

C:\كتب البحث 2019\بي دي اف\مراجع التقرير\أوريجين\مراجع ذات صلة\dilmun.jpg

وأثناء البحث في هذه المسألة تبين أن أدبيات الإسلام تحتوي على نص غريب نوعا ما، ويشهد بصحة الطرح المذكور أعلاه. وذلك أن السنة النبوية الصحيحة قد نقلت لنا خبرا مفاده أن جزيرة العرب ستعود قبيل آخر الزمان أو نهاية العالم جنات وأنهارا وحقولا خضراء وبساتين مزهرة. والدليل على هذا الكلام ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: »لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل زكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها، وحتى تعود أرض العرب جنات وأنهارا. « (التبريزي، 1961، ص 1498)

وعودتها جنات وأنهارا إما بسبب ما يقوم به أهلها من حفر الآبار وزراعة الأرض ونحو ذلك مما هو حاصل في زماننا، وإما بسبب تغير المناخ؛ فيتحول مناخها الحار إلى جو لطيف جميل، وتعود الأمطار إلى الهطول بغزارتها التي كانت عليها في الزمن القديم، ويفجر الله فيها من الأنهار والعيون ما يحول جدبها وجفافها رطوبة وخصوبة، ويحول سهولها الجرداء إلى سهول مخضرة فيحاء، وهذا هو الأظهر، فإنه يحكي حالة ترجع فيها الجزيرة إلى ما كانت عليه من قبل. (الأشقر، 2000، ص 195) وهذا دليل واضح على أن مكان دلمون الجغرافي إنما هو في منطقة الخليج العربي المغمورة حاليا بمياه البحر، بالإضافة إلى المناطق الممتدة قبالة هذا الخليج والتي هي صحراء قاحلة الآن.

ولا يهم كيف سيحدث ذلك، لأنه من المعروف عند علماء الجيولوجيا وعلماء المناخ، أن الأرض قد مرت في تاريخها الطويل بفترات من التغير المناخي الذي كان له تأثير كبير على تغير التركيبة الجيولوجية للأرض. وقد كان الخليج العربي قبل آلاف السنين أرضا يابسة تكسوها الأشجار الكثيفة والغابات الممتدة، وتعيش فيها الحيوانات المتنوعة. وكان الإنسان القديم يعيش في تلك المنطقة لأنها كانت توفر له الملجأ الآمن من الوحوش المفترسة وقساوة المناخ، بالإضافة إلى أنه كان يجد هناك كل ما يحتاجه من متطلبات الحياة والطرائد الوفيرة لأنه كان يعيش صيادا. (عرابي، 2004، ص 32).

لكن، وفي المقابل، لم يتم التمييز بين جنة سماوية وجنة أرضية عند بعض الباحثين، وذهب البعض الآخر إلى أن موضع جنة السومريين هو في السماء من قبيل الرمزية فقط. بمعنى أن الإنسان البدائي دائما ما كان فكره وخياله مشدودا إلى الأعلى حيث يوجد الخلاص في نظره، فكان يستخدم الرمز في أعلى تجلياته للحصول على ذلك الخلاص. ولذلك جعل السومريون مكانة عالية جدا للإله آنو Anu في أساطيرهم باعتباره أهم قوة في الكون، فحيثما وجد الإنسان جلالا وسلطانا أدرك أنهما قوى السماء _ أي آنو _ والتي كانت موضع دهشة الإنسان البدائي. (الجوراني، 1989، ص 66).

وقد تولد عن هذا التفكير الفلسفي والخيال الأسطوري فكرة السقوط والنزول من مكان مثالي أعلى إلى مكان أدنى منه، عقابا للإنسان على الخطيئة التي ارتكبها. (Jestin, 1946, p151) ولهذا أصدر آنو أمره بأن يعاد أدبا Adappa من السماء إلى الأرض جزاء له على معصيته؛ حيث إنه لم يطع أمر آنو عندما أمره أن يأكل ويشرب من الوليمة التي أقيمت على شرفه، تماما كما هو الحال في التوراة في قصة طرد آدم من الجنة في القصة التوراتية. ثم إن السومريين كانوا يشيدون أبنية ضخمة تسمى الزقورات أو الأبراج، وهو مكان خاص بالعبادة وتقديم القرابين للآلهة، وربما يشير علو هذه الزقورات الملحوظ إلى تطلع سكان وادي الرافدين وبابل إلى السماء دائما، في أمل مكسور بالعودة أو الصعود إلى السماء مرة أخرى. (الجوراني، 1989، ص 66).

وتجدر الإشارة هنا إلى أن فكرة السقوط في جوهرها تنطوي على مسألة عميقة وهي أن السقوط في حد ذاته يستوجب النزول والهبوط من مكان عال إلى مكان أدنى منه، وهذا يشير من جهة إلى أن الجنة المقصودة في المخيال الأسطوري السومري إنما هي جنة في السماء يحلم السومريون بالرجوع إليها. ثم من جهة أخرى يقودنا إلى ذلك الاختلاف الموجود في العقيدة الإسلامية حول مكان الجنة التي أسكنها الله آدم، هل كانت جنة في الأرض في مكان عال منه؟ ـ ودائما فكرة العلو تبقى حاضرة ـ أم كانت جنة المأوى المذكورة في القرآن غير ما مرة؟

يميز بعض الباحثين ـ وفقا لما سبق ـ بين فردوس دنيوي وفردوس سماوي، والفردوس الدنيوي يرمز إلى شوق أبناء المدن المنهكين لمباهج الريف البسيطة، أو حنين الكادحين ذوي الهمة المحبطة لبراءة الأطفال أكلة الفاكهة. وقد رأى بعض الباحثين أن قصة إنكيدو Enkidu أقدم مثال على سقوط الإنسان، حيث اعتبر إنكيدو رجل الطبيعة الذي تربى مع ضواري الحيوان وكانت له سرعة الغزال، لكن بغيا من بغايا المدينة لم تلبث أن أغوت إنكيدو، وقد كانت هذه فكرة جلجامش المتوحش الذي اشتكى إليه الناس مما كان يقوم به إنكيدو؛ حيث إنه كان يصطاد حيوانات الناس التي كانوا يدجنونها، وكان يلتهم محاصيلهم الزراعية. وكان في فقدان إنكيدو براءته خطوة لا رحمة فيها، لأنه تعلق كثيرا بتلك الفتاة ووقع في حبها، فأجبرته على أن يقيم معها في المدينة بين الناس ويغير من مظهره وسلوكه، ولم يلتفت إنكيدو ثانية إلى الوراء نحو حياته القديمة الصاخبة إلى أن رقد على فراش الموت، وعندئذ تملكته غصة فصب لعنته على كل معلميه، وتلك هي سقطة أدبا السومري. (الجوراني، 1989، ص 67).

الجنة الـبابلية « Babylonian Paradise »

يمكن القول إن فكرة الجنة البابلية هي امتداد للفكر السومري الأسطوري عن الخلود والفردوس المفقود، لكن مع اختلاف بسيط وهو أن الجنة البابلية لم تعد حكرا على الآلهة لوحدهم كما هو الحال عند أسلافهم السومريين، بل صار بإمكان بعض البشر الفانين التطلع إلى الجنة وإيجاد موطئ قدم لهم فيها بعد أن يتبين إخلاصهم وولاؤهم للآلهة وحسن خدمتهم.

ورغم التنقيبات الأثرية المتواصلة في المواقع الأركيولوجية في العراق، إلا أنه لم يتم العثور حتى الآن على أسطورة بابلية مشابهة لأسطورة دلمون السومرية. لكن قصة الطوفان البابلية تركت لنا دليلا واضحا على أن دلمون هي مكان الخالدين. وذلك كما جاء في الأسطورة أن أوتنابشتيم وزوجته بعد أن أنقذا الحياة على سطح الأرض من الطوفان، لأنهما علما بقرار الآلهة القاضي بإغراق الأرض وتدمير البشر، فكافأهما إنليل بجعلهما من الخالدين، وكانا قبلا من البشر الفانين، وأسكنهما في دلمون حيث منابع الأنهار. (السواح، ص 241) حيث إن أوتنابشتيم كان ابنا للملك  »أوبارـ أوتو «من سلالة شوروباك، مثله مثل زيوسودرا Ziusudra الذي كان ولي عهد الملك وخليفته المباشر. فبعد سجوده للإله آن An وإنليل، وبعد ما رأوا من صلاحه وتقواه وخشيته للآلهة وتلهفه الدائم للاتصال بالوحي الإلهي عبر الأحلام والتعاويذ، بعد كل ذلك قرروا منحه الخلود المنشود والحياة الدائمة، وزود عند ذلك بالنفس الخالد ونقل إلى دلمون حيث مطلع الشمس، كما وهبت الآلهة الكبار أوتنابشتيم الخلود السومري جزاء له على خدماته الجليلة التي قدمها في رعاية البشر الفانين، وذلك قبل أن تقرر الآلهة هذا الأمر في مجمعها الذي عقدته لتقرر مصير العالم، الذي طغى فيه بنو البشر وأفسدوه بأعمالهم الخاطئة. (الجوراني، 1989، ص 80).

وقد تحدثت ألواح أوغاريت Ougarit عن جنة مماثلة للجنة البابلية السومرية، والتي صارت مرتعا للآلهة الخالدين ومسكنا لبني الإنسان الذين أسبغت عليهم نعمة الخلود، ويسكن الإله  »إيل «  عند منبع الأنهار كما هو الحال في دلمون. وتحدثنا أسطورة أدبا عن قصة الإنسان الأول الذي خسر الخلود بسبب غلطة ارتكبها. حيث قام الإله آيا Aya بخلق أدبا لخدمة معبده وصيد السمك للآلهة، وجعله عاقلا وأسبغ عليه الحكمة الكاملة، غير أنه لم يهبه الحياة الأبدية. وفي أحد الأيام بينما كان أدبا يصطاد على شاطئ الخليج العربي، هبت رياح الجنوب وقلبت قاربه ورمت به في الماء، فغضب لذلك ولعنها على ما فعلت، فانكسر أحد جناحيها ولم تستطع الهروب مرة أخرى. وبعد سبعة أيام من اختفاء ريح الجنوب، دعي أدبا للمثول أمام آنو كبير الآلهة لاستجوابه على ما فعله. وقبل صعوده زوده خالقه آيا بعدد من النصائح، وأشار عليه أن يطيل شعره ويلبس ثياب الحداد للتأثير على الإلهين تموز Tammuz وجيزيدا Giszida حارسا بوابة السماء، عندما يسألان عن سبب حداده، فيجيب أنه حزين على تموز وجيزيدا اللذين كانا يعيشان على الأرض ثم اختفيا، فذلك سيسرهما وسيسمحان له بالمرور، كما قال له إن طعام الموت وماء الموت سيقدمان له في السماء وعليه ألا يأخذ منهما شيئا. (السواح، ص 241).

وعندما مثل أدبا أمام آنو واستجوبه، قام تموز وجيزيدا بالوقوف إلى جانبه، ويبدو أن المسألة سارت في صالحه، فلم يكتف آنو بالعفو عنه بل قرر مكافأته بضمه إلى صف الخالدين، طالما أنه دعي للمحكمة واطلع على أسرار السماء. فأمر له بطعام الحياة ليأكل، إلا أن أدبا التزم بوصية آيا ولم يمد يده إلى الطعام. وعندما أمر له بشراب الحياة امتنع عن الشرب، فدعاه آنو للاقتراب منه ضاحكا وقال له: لماذا فعلت ذلك يا أدبا؟ لماذا لم تأكل ولم تشرب؟ أليست صحتك على ما يرام؟ ثم التفت إلى حاشيته وقال: خذوه وعودوا به إلى الأرض. فخسر أدبا الحياة الأبدية لأنه لم يأكل ولم يشرب مما قدم له، فأعيد إلى الأرض الفانية يعمل ويتعذب هو وذريته من بعده. (السواح، ص 241 ـ 242).

وقد تم الكشف عن رسم جداري من قصر الملك »زمري ـ ليم «  LimـZimri في مدينة ماري البابلية، وهي لوحة فنية تدعوا للتأمل فيها وإمعان النظر في شكلها الغريب. حيث يوجد في وسط المشهد إفريز مستطيل الشكل بداخله رسم للملك زمري ـ ليم وهو يتسلم شارات الحكم من الإلهة عشتار أو إشتار Ishtar، وبجانبه رسم لإلهتين تقف كل منهما مقابل الأخرى، وكل منهما تحمل في يدها وعاء يتدفق منه الماء على شكل جداول أربعة تفترق وتتشعب، ومن ثم تلتقي مع بعضها فيما بعد، وفي طرف هذا الرسم الجداري نشاهد شجرة عالية وأربعة حيوانات مجنحة على شكل أبي الهول، اثنين على كل جانب، وتقف لحراسة تلك الشجرة العالية. وهذا الاكتشاف يدعو الباحث للوقوف قليلا والتأمل في مسألة الأنهار الأربعة التي ذكرتها التوراة والتي كانت في جنة عدن، وحراسها الكاروبيم الذين خلقهم الرب لحراسة طريق شجرة الحياة. (فاضل 1996، ص 203). كما هو مبين في هذا اللوح الطيني:

C:\Users\pc\Desktop\téléchargement (1).jpg

ثانيا: مفهوم الجنة في الديانة المصرية الـقديمة

لا شك أن الحضارة المصرية بدأت في تشييد أولى معالم ظهورها في وقت مبكر جدا سابق حتى على ظهور النشاط الإنساني في بلاد ما بين النهرين، وكانت مصر أرضا واسعة مترامية الأطراف مقسمة إلى أقاليم وولايات متعددة يحكم كلا منها حاكمها الخاص، كما كان لكل إقليم آلهته التي تميزه عن الإقليم الآخر. وبعد صراعات دامية وعنيفة بين هذه الأقاليم توحدت البلاد في النهاية تحت حكم إمبراطورية واحدة متماسكة القوى، لكن احتفظ كل إقليم بآلهته التي كان يمجدها. فمن بين أهم الملامح التي ميزت الديانة المصرية القديمة هو تعدد آلهتها، وكان الإله رع Ra/Re إله الشمس والإله أوزيريس Osiris إله الخصب والنيل، هما أهم وأكبر الآلهة عندهم على الإطلاق.

وكان المصريون القدماء متأثرين جدا بمظاهر الطبيعة التي تحيط بهم وتخالط وجدانهم، مثلهم في ذلك مثل سكان وادي الرافدين القدماء؛ وفرة المياه على شواطئ النيل وخضرة الحقول التي يسقيها بمائه، وخصوبة التربة التي كانت تدر عليهم الخير الوفير، وكانت الشمس أهم ظواهر الطبيعة التي أثرت في حياتهم على الإطلاق. لذلك كان الدين في مصر القديمة أهم عامل يحرك السكان ويقوم سلوكهم وينظم العلاقات فيما بينهم. (باشا، 1940، ص 90) يقول مصطفى عبد الرحيم: »فلا نجد في دراسة تاريخ العالم القديم أمة تأصلت فيها الديانة وامتزجت بحياة أهلها امتزاجا كبيرا كالأمة المصرية، حتى لنرى الدين هو الحافز الأكبر لما نشأ في مصر القديمة من علوم وفنون، وبه اصطبغت آدابها وفلسفتها. «  (مصطفى ومبارك، 1949، ص 62).

وقد اعتقد المصريون أيضا أن الإنسان كائن مكون من مادة وروح، وأن هذه الروح تبقى حية بعد موت الجسد وتحيا حياة أخرى في عالم آخر تنتقل إليه صعودا إلى السماء، ولذلك نجد المصريين القدماء كانوا يعتنون عناية بالغة بموتاهم ويشيدون لقبورهم أبنية ضخمة كالأهرامات المعروفة في مصر إلى اليوم، والمقبرة الواسعة المكتشفة في وادي الملوك والتي كان يدفن فيها علية القوم وذوو النفود منهم. وكان المصريون يحنطون جثة الميت ويضعون بجانبها التماثيل الحجرية ظنا منهم أن الروح تعود بين الفينة والأخرى لتفقد الجسد، فإذا ما تعفنت الجثة فإن التماثيل تقوم مقامها وتستأنس الروح بها. وأهم عضو كان المصريون يعتنون بتحنيطه هو القلب، لأنهم كانوا يعتقدون أن بقاء الروح سليمة متعلقة بسلامة القلب في القبر، لذلك كانوا يضعونه بعد نزعه من الجثة وتحنيطه في آنية فخارية خاصة توضع فيها الجثة، وكانوا يضعون بجانب التابوت أواني فخارية مملوءة بكل ما تحتاجه الروح في العالم السفلي من متطلبات الحياة المعاشة. (باشا، 1940، ص 93).

وقد ذكرت موسوعة الحضارة المصرية أن فكرة الحياة الأبدية بعد الموت لعبت دورا أساسيا عند المصريين القدماء وملأت عليهم تفكيرهم، إلى درجة أن الإعداد لهذه الحياة كان يبدأ والإنسان في شرخ شبابه. (أديب، 2004، ص 832) ثم إن المصريين القدماء اعتقدوا عقيدة جازمة بأنه لابد للميت من حياة أخرى بعد الموت يحاسب فيها وتوزن أعماله، فإما إلى جنة ونعيم وإما إلى نار وجحيم. فكان لابد للميت أن يجتاز مرحلة الحساب أولا ليتبين بعد ذلك موضعه ومآله. وأهم مصدر تركه المصريون نستقي منه كيفية هذه المحاسبة هو »كتاب الموتى الفرعوني « ، الذي كانوا يجسدون فيه وفي الرسوم التي كانوا يضعونها على التابوت رسما واضحا لمحاكمة ومحكمة وميزان، تتألف هذه المحكمة من اثنين وأربعين قاضيا من الآلهة يرأسها أوزيريس نفسه، جالسا على عرشه حاملا عصاه.

وتتكون المحكمة من بهو كبير زين سقفه بلهب النيران وعلامات الحق، وتبدأ المحاكمة بوزن قلب الميت حيث يوضع في الكفة اليسرى من ميزان العدالة وريشة» ماعت «في الكفة اليمنى، ويقوم »أنوبيس» الذي له رأس ابن آوى بعملية الوزن ويسجل »تحوت» النتيجة. وفي حالة كون القلب أثقل من الريشة فهذا يعني وجود خطايا كثيرة، ويخبر الإله تحوت النتيجة للقضاة الاثنين وأربعين، ثم يقوم بمخاطبتهم واحدا واحدا وعليه أن يعترف عليهم، وكان هؤلاء القضاة على ما يبدو يشربون دم المخطئين. (الماجدي، 1999،ص 212).

وفي بعض الرسوم تضاف نيران إلى المحكمة في مكان خاص منها ليلقى فيها المذنبون، والصورة المجسدة للقلب في الميزان كانت ترمز للأعمال التي عملها الميت في حياته من خير وشر ويشهد عليه بذلك، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته نجى ودخل الجنة، ومن غلبت سيئاته حسناته خسر ودخل النار، ومن تعادلت حسناته وسيئاته يتم تعيينه لخدمة الآلهة. (مبيض، 1992، ص 31) وقد ورد شرح مفصل لهذه المحاكمة في كتاب الموتى الفرعوني على الشكل الآتي:

  • أوزريس الجالس على عرشه باعتباره قاضي المحكمة.
  • أبناء حورس ورموزهم المعروفة يقفون على زهرة لوتس
  • آكل الموتى وهو حيوان خرافي على شكل تمساح من الأمام وأسد من الوسط وفرس نهر من الخلف، ويسمى (عمبعم) أو (باباي) وربما (بعبع) ويدل على »ست»
  • اثنين وأربعين قاضيا
  • »أنوبيس» يمسك ميزان العدالة
  • الإله »تحوت» وهو يسجل نتائج وزن القلب والحساب
  • »ماعت» (إلهة العدالة) وهي تستقبل المتوفي. (الماجدي، 1999، ص 212)

الجنة المصرية « Egyptian paradise »

كان الذين يصعدون إلى السماء للإقامة فيها كآخر مستقر لهم بعد الموت والمثول أمام محكمة الحساب، يمرون برحلة طويلة تحفها المخاطر انتقالا بين أبواب السماء الاثني عشر. وكان هؤلاء الصاعدون إلى السماء يسمون الخالدين أو الممجدين، ويذهبون للإقامة في السماء مع إله الشمس رع في سفينته. وقد لاحظ المصريون القدماء نجوما ثابتة لا تتغير في طرف السماء الشرقي والشرقي البحري منها، فأطلقوا عليها اسم النجوم الخالدة اعتقادا منهم أنها مكان النعيم الخالد الذي ينتهي إليه الصالحون من الناس بعد موتهم. وتقول نصوص الأهرام المصرية إن الممجدين أو الخالدين يقيمون في جزر مستقلة عن بعضها البعض في السماء، وفي كل جزيرة منها يوجد حقل خاص يسمى حقل الطعام، منه يأكل الممجدون مع الآلهة أطعمة شهية ولذيذة دائمة التجدد ولا تنفد أبدا. واعتقدوا أن هناك حقلا آخر يسمى حقل يارو _ هذه الكلمة تعني في اللغة المصرية القديمة نبات الخيزران _ وفي هذا الحقل توجد شجرة جميز عالية تسمى شجرة الحياة، كان الآلهة يستريحون تحت ظلها ويجالسون الممجدين عندها ويأكلون منها جميعا ويتناولون عندها ألوان الخبز وأنواع الخمر وهم سعداء. (باشا 1940، ص 108)

وقد تصور المصريون أن الملك يدخل مقر الممجدين في حقل يارو حيث يزدهر الزرع وينمو القمح والشعير إلى ارتفاع سبعة أذرع، فيجلس على عرش كبير تكرمه رعيته، ويقضي بينها على نحو ما كان يفعل في الأرض. ومن ثم لم يكن دخول جنة »الآسل «  مقصورا على الملك وحده، وإنما كان يدخلها كذلك أتباعه وحاشيته والأبرار من شعبه. (أديب، 2004، ص 610) وتقول نصوص الأهرام المصرية إن إله السماء »نوت» والثعبان الذي كان يحرس الشمس، يعطيان الصاعد إلى السماء ثدييهما ليرضع منه فيصير صبيا بعد ذلك لا تصيبه الشيخوخة والهرم، ومع مرور الأيام تزداد صحته تحسنا ويكتسب نشاطا وحيوية خالدين. (باشا، 1940، ص 108)

وكما في معتقدات وادي الرافدين القديمة، كان المصريون القدماء متأثرين إلى درجة كبيرة بمظاهر الطبيعة التي كانت تحيط بهم؛ مياه النيل الفياضة وخضرة الحقول المبهجة وحرارة الشمس التي أنزلوها منزلة الإله في معتقداتهم، بالإضافة إلى سطوع ضوء القمر في الليالي المصرية المقمرة. كل هذا أضفى على المخيلة الشعبية المصرية طابعا خاصا تجلى في نقل كل المظاهر المادية التي كان يعيشها المصري القديم إلى عالم ما بعد الموت، من أجل ضمان أن روح الميت ستتمتع بكل ما تحتاجه وتشتهيه في ذلك العالم، تماما كما كان عليه الحال في العالم الطبيعي. (Erman, 1997, p86-87)

ولذلك اعتقد المصريون أن عالم النعيم الذي يصعد إليه المباركون من طرف الآلهة، هو عالم طبق الأصل لوادي النيل بحقوله الخضراء المترامية الأطراف، ومروجه الزاهية بألوان وأشكال الأشجار والنباتات البهية، تحيط بها سلسلة من جبال الصحراء الحمراء المعروفة عندهم وقتئذ. ووراء تلك الجبال يوجد عالم مرعب غير مألوف ولا مأهول يذهب إليه المذنبون المعاقبون، وأن النهر الذي يجري فيه ليس بنهر النيل، وأن الشمس لا تصل ذلك المكان بل تنزل بعده بمسافة طويلة.

وقد جاء في بعض النصوص أن المسافة الفاصلة بين الجنة التي كان يؤمن بها المصريون وبين العالم الحقيقي أكبر من طول وادي النيل بثلاثة أضعاف، واعتقدوا أن الشمس كانت تقطع ملايين الأميال في رحلتها اليومية بين السماوات والأرض، كما كان للزمن أبعاد خاصة لا تشبه أبعاده المعروفة على الأرض، بالإضافة إلى فقدان الحس بالاتجاهات في ذلك العالم، فليس هناك شرق ولا غرب ولا شمال ولا جنوب. (الخفاجي، 2009، ص 71 ـ 72)

وفي العالم الآخر، ينادي الإله قاطني ذلك العالم قائلا:

» أرشدني إلى طريق الغرب

كي أوقظ الموتى هناك

كي تستقر أرواحهم وتتنفس

كي أنير لهم الظلمات

إن أبدانكم سوف تقوم من أجلكم

إن أعضاءكم سوف تلتئم من أجلكم

إن أعضاءكم سوف تتجمع من أجلكم

إن أجسادكم سوف تعود من أجلكم

إن أنوفكم سوف تتنفس النسيم العذب

سوف تخلعون عنكم أكفان المومياء

سيدخل ضوء الشمس عيونكم المقدسة

كي تروا بها الضياء

تحرروا من ضجركم

كي تتمتعوا بحقول الجنة.« (الخفاجي، 2009، ص 73)

C:\Users\pc\Desktop\egypt.jpg

رسم جداري لحقل يارو الذي في السماء المصرية

إذن يتبين من خلال هذا النص أن الموتى الذين ينتقلون إلى العالم الآخر، تتغير طبيعة أجسادهم الإنسانية وتتجدد أعضاؤهم، بحيث يصيرون وكأنهم ولدوا من جديد. وهذا يشير إلى أن المكان الذي انتقلوا إليه مكان مقدس وطاهر، وكل من دخله يجب أن يكون طاهرا على قدر ما في ذلك المكان من طهارة. ثم إن أرواح الموتى هناك تتمتع بالحرية المطلقة ولا تشعر بالملل أو الضجر، وهي تتنعم في مكان مشرق مليء بالضياء والنور، وتتمتع فيه بحقول الجنة.

وتوجد في متحف اللوفر لوحة عليها اسم أحد المصريين ويسمى »ناحت ـ مين» كتب عليها ما يتمناه من ضروب السعادة والنعيم في العالم الآخر بعد موته: فذكر أنه يتمنى أن يدخل قبره ويخرج منه وأن يشرب كل يوم من ماء بحيرة كانت له، وأن تطير روحه فوق الأشجار التي زرعها، وأن يستنشق النسيم العليل تحت شجر الجميز الذي زرعه وأن يأكل من ثمر هذا الشجر، وأن يكون له فم يتكلم به وأن يصعد إلى السماء وينزل إلى الأرض من غير أن يقف في سبيله عائق، وأن لا تسجن روحه وأن يكون من المكرمين الممدوحين، وأن يحرث أرضه في حقل يارو وأن يصل إلى حقل الطعام، وأن يأتيه الخدم بأنواع الخبز والشراب وجميع المأكولات التي يأكل منها رب الأبدية، وأن يأكل من اللحم الذي على مائدة الإله العظيم. وفي تمنيات أخرى يتمنى الميت أن تكون له حقول وقطعان وعبيد من الرجال والنساء، وأن يبعث في الحياة الأخرى شابا موفور القوة والصحة. (باشا، 1940، ص 109)

الجنة السياسية والانتقال الديمقـراطي

رأينا في الفقرة السابقة ما كان لدى المصريين القدماء من تصور عن عالم ما بعد الموت، والرحلة التي يقطعها الميت في انتقاله إلى السماء حيث الجنة والخلود الأبدي. لكن هناك من الباحثين من رأى أن مصر القديمة لم تعرف هذا التصور الواضح عن الجنة والفردوس الخالد إلا بعد قرابة قرن من الزمان بعد تأسيس الدولة المصرية القديمة؛ وبيان ذلك أن عالم ما بعد الموت كان ينقسم إلى قسمين أساسين في ذلك الوقت: عالم الموتى الذي يكون فيه الموتى ميتين فعلا، وعالم الجنة والنعيم الذي كان من نصيب الملك وحاشيته وعلية القوم الذين باركتهم الآلهة وأسبغت عليهم نعمت الخلود. وهو تقريبا نفس المعتقد الذي كان سائدا في بلاد ما بين النهرين في عصر الدولة البابلية، إلا أن المصريين بهذا المعتقد كانوا قد سبقوا بزمن طويل البابليين وحتى الآشوريين الذين انتقلت إليهم نفس هذه العقيدة.

ويقول العلماء إن نصوص الموتى المصرية التي تؤرخ لزمن الدولة المصرية القديمة، رسمت تصورا فريدا لعالم الجنة ومستحقيه، استولى فيه الملك على حصة الأسد، ورسم له طريقا خاصا في نعيمه، فكان بذلك عالم الملك مكانا أخرويا للجنة. وقد ساد هذا الاعتقاد كما رأينا لمدة قرن ونصف القرن تقريبا، لينتقل هذا التصور فجأة مع بداية الدولة الحديثة حين توحدت مصر العليا والسفلى على يد الملك مينا، حيث نشأت أول دولة كبيرة متحضرة في العالم، والتي دامت أكثر من أربعة آلاف سنة حتى قضى عليها الإسكندر المقدوني Alexander Ⅲ the Great عام (332 قبل الميلاد). وهكذا تم الانتقال إلى مرحلة جديدة يمكن أن نسميها بالانتقال الديمقراطي للجنة، وقد عبر خزعل الماجدي عن هذا الانتقال بقوله: »مع متون التوابيت وبرديات كتاب الموتى ندخل إلى لاهوت جديد يحتفي بالعالم السفلي ويترك السماء التي احتفت بها نصوص الأهرام. وقد كان السبب المباشر في هذا شيوع مفاهيم الديمقراطية الدينية وكسر احتكار الفراعنة للبعث والقيامة، وشمول أفراد الشعب بامتيازات ما بعد الموت. «(الماجدي، 1999، ص 212) معنى أن الجنة لم تعد فكرة سياسية وحكرا على الملك وذوي النفود لوحدهم، بل تساوت حقوق جميع الناس في الحصول عليها ودخولها والاستمتاع بنعيمها، والأكثر من هذا أصبح الناس العاديون يجتمعون بالآلهة في الجنة دون تمييز بينهم، وأصبحت أعمال الناس الصالحة وعدالتهم هي التي تدخلهم الجنة وليس نفودهم أو سلطانهم. (أسمان، 2017، ص 373 ـ 374)

خاتمة

من خلال كل ما سبق، يتبين بجلاء أن التفكير المتعلق بحياة ما بعد الموت والمصير الذي تلقاه الروح بعد مفارقتها للجسد، كان سائدا وحاضرا بقوة في عقيدة الإنسان الشرقي القديم. وإن كان هذا التفكير الفلسفي إلى حد بعيد يختلف من بيئة لأخرى ومن ثقافة إلى ثقافة ثانية؛ كما هو الحال بين العراق القديم ومصر القديمة. حيث إن فكرة العقاب والثواب في العقائد السومرية القديمة لم تكن ذات وضوح كبير يجعلها تنعكس على السلوك الإنساني في بلاد سومر؛ فالثواب عندهم كان ثوابا دنيويا محضا يتمثل في السعادة التي يعيشها الإنسان الصالح في الأرض قبل موته، بالإضافة إلى مباركة الآلهة له وخلو حياته من كل مظاهر الشقاء والتعب التي قد تصيب الإنسان، حتى إذا مات وانتقل إلى العالم السفلي كان قد استوفى كل حقه من الجزاء العادل الذي منحته له الآلهة في الدنيا.

وأما العقاب عندهم فكان أيضا عقابا دنيويا خالصا يتجلى في سخط الآلهة على الإنسان الشرير وإلقاء لعنتها عليه، فيصيبه النصب والتعب الدائمين في حياته على الأرض، وتتسلط عليه الأمراض والهموم والمشاكل، ويكون أشقى إنسان بقدر ما عمل وارتكب من السيئات والعمل الفاسد. حتى إذا ما انتقل إلى العالم السفلي بعد موته، كان قد لقي ما يستحقه من جزاء عادل له أيضا ويبقى ميتا في عالم الموتى إلى الأبد.

أما حياة النعيم والخلود والفردوس فكانت من نصيب الآلهة فقط، ولا حظ منها للبشر الفانين إلا أولئك الذين باركتهم الآلهة بإرادتها وأسبغت عليهم نعمة الخلود، فإنهم ينتقلون أيضا للعيش في دلمون أرض الخلود والفردوس السومري. وبقي هذا التصور سائدا عندهم إلى أن جاء عصر الدولة البابلية، والتي عرف خلالها مفهوم الجنة تطورا فلسفيا ملحوظا؛ وذلك أن الجنة أصبحت متاحة لجميع الناس دون استثناء، لكن على تفاوت في الدرجات بينهم طبعا، وأصبح البشر يتمتعون بنعيم الجنة والخلود الأبدي فيها رفقة الآلهة.

أما حياة ما بعد الموت في الفكر المصري القديم، فلم يكن لها مثل ذلك الغموض الموجود عند سكان وادي الرافدين القدماء؛ فالثواب والعقاب عندهم كان يتحقق في الحياة الآخرة بعد انتقال الميت إلى العالم السفلي، حيث كانت تتم محاكمة الميت من قبل الإله أوزيريس، فمن كانت حسناته أوفى حظا من سيئاته وكان صالحا في الدنيا، فإنه ينتقل صعودا إلى السماء بعد مباركة الآلهة له، ويدخل الجنة ويستمتع بكل ما فيها من نعيم خالد، وكان يأكل الخبز اللذيذ ويشرب الخمر مع الآلهة، وكلهم جالسون تحت ظل شجرة الحياة. وفي مقابل ذلك كان الإنسان الشرير الذي ارتكب من السيئات والظلم ما جعله يستحق العذاب، ينتهي به المطاف في أرض الرعب والأهوال الموجودة وراء السماء بعيدا عن جنة الممجدين. وهو مكان لا تصله الشمس وفيه مستقر الأشرار من بني البشر الفاسدين.

ويمكن تلخيص هذه النتائج المتوصل إليها في الجدول الآتي:

العراق القديم مصر القديمة
الحســـاب والجــزاء عالم ما بعد الموت نزول الروح إلى العالم الأسفل للاستقرار فيه إلى الأبد نزول الروح إلى العالم الأسفل بانتظار المحاكمة
الحساب والثواب محاسبة الأرواح في العالم الأسفل والعيش فيه كأشباح في نعيم أو جحيم مثول الأرواح أمام محكمة أوزيريس للمحاسبة على الأعمال السيئة والحسنة
مراسيم الدفن اعتناء ملحوظ بدفن الموتى اعتناء كبير جدا بدفن الموتى
مفهـوم الجنـــة فكرة الجنة ـ مسكن الآلهة فقط (السومريون)

ـ متاحة للبشر (البابليون)

مسكن المباركين من الناس في السماء برفقة الآلهة
الخلود ـ حكر على الآلهة لوحدهم (السومريون)

ـ متاح لجميع البشر (البابليون)

حصوله للبشر في السماء حيث النعيم الأبدي الذي لا يفنى ولا يزول
موقع الجنة عدم إشارة الألواح الطينية المترجمة إلى موقع بعينه الجنة في السماء موزعة على جزر مستقلة

لائحة المراجع والمصادر

  1. أحمد داود، العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود، دمشق، دار المستقبل، (1991).
  2. حمزة باشا عبد القادر، على هامش التاريخ المصري القديم، القاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، (1940م).
  3. حنون نائل، عقائد ما بعد الموت في حضارة بابل ووادي الرافدين القديمة، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، (1986م).
  4. خزعل الماجدي، الدين المصري، عمان، دار الشروق، (1999م).
  5. الخطيب التبريزي، مشكاة المصابيح، دمشق، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، (1961م).
  6. رجا عبد الحميد عرابي، سفر التاريخ اليهودي، دمشق، الأوائل للنشر والتوزيع، (2004م).
  7. سليمان الأشقر، اليوم الآخر، الأردن، دار النفائس، (2000م).
  8. سليمان مظهر، قصة الديانات، القاهرة، مكتبة مدبولي، (1995م).
  9. سمير، أديب، موسوعة الحضارة المصرية القديمة. القاهرة، العربي للنشر والتوزيع، (2004م).
  10. فاضل عبد الواحد علي، من سومر إلى التوراة، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، (1996م).

11. فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، بيروت، دار الكلمة.

12. قاسم الشواف، ديوان الأساطير، بيروت، دار الساقي، (1996م).

13. كريمر صموئيل، من ألوح سومر، ترجمة طه باقر، بغداد، مكتبة المثنى.

14. مزهر الخفاجي، البحث عن جنة الفردوس، القاهرة، مكتبة مدبولي، (2009م).

15. مصطفى عبد الرحيم ومبارك عبد العزيز، في تاريخ مصر القديم، القاهرة، المطبعة الأميرية، (1949م).

16. وداد الجوراني، الرحلة إلى الفردوس والجحيم في أساطير العراق القديم، بغداد، درا الشؤون الثقافية العامة، (1998م).

17. يان أسمان، الموت والعالم الآخر في مصر القديمة، القاهرة، المركز القومي للترجمة، (2017م).

18. يسر محمد سعيد مبيض، اليوم الآخر في الأديان السماوية والديانات القديمة، الدوحة، دار الثقافة، (1992م).

لائحة المراجع الأجنبية

  1. Adolf Erman. A Handbook Of Egyptian Religion. Archibald Constable. London 1997.
  2. Dina, Katz: Enki and Ninhursag. Part One. Story Of Dilmun.

3- Henry, Archibald Sayce : The Religions of Ancient Egypt and Babylonia, Ebook 35856, Aberdeen, 2011.

  1. J. D, Hubert: André Breton et le paradis perdu. The French Review. Vol. 37, No. 2 (Dec1963) Jstor, Paris.
  2. Jestin Raymond-R. Samuel N. Kramer. Enki and Ninhursag. A Sumerian « paradise » In Sirya. Tome 25 fascicule1. 1946.
  3. Maurus, Witzel : Ninchursag und Enki (Ein Dilmun-Mythus). Orientalia. NOVA SERIES, Vol. 15 (1946). Jstor.
  4. Sabine Jourdan. Les Mythologies. Groupe Eyrolles 2007. ISBN10 : 2-7081-3597-X.
  5. Samuel, Noah Kramer : The Sumerians, Ther History, Culture, And Character. The University of Chicago Press,Ltd London, 1963.

الهوامش:

  1. هناك من العلماء من ينكر إمكانية أن تكون الأهرامات قد بنيت فقط لتكون قبورا للملوك وحكام مصر القديمة، وذلك أن التصميم الهندسي العجيب في البناء والعدد الهائل من العمال الذين شاركوا فيه، بالإضافة إلى الوقت الطويل الذي يستغرقه بناء الهرم الواحد؛ كل هذا لا يمكن أن يكون فقط لجعل الهرم مستقرا للميت وقبرا له بعد موته. وعلى أية حال فإن موسوعة المعارف المصرية تقر بأن الأهرام بنيت لتكون قبورا للموتى المصريين خصوصا الملوك منهم.

    (سمير أديب، 2004، ص 330)