الترجيح برواية صاحب القصة بين المحدثين والفقهاء دراسة تطبيقية

د. سليمان بن عبد الله السيف1 أ.الطيب حسن الماحي2

1 أستاذ الحديث المشارك بقسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة حائل

2 المحاضر بقسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة حائل

بريد الكتروني: elt.elmahi@gmail.com

HNSJ, 2021, 2(12); https://doi.org/10.53796/hnsj21227

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/12/2021م تاريخ القبول: 24/11/2021م

المستخلص

هذا البحث يختص بدراسة مسلك مهم من مسالك الترجيح المعتبرة عند المحدثين والأصوليين، والتي كان لها أثرٌ بالغٌ في اختلاف الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية، وهو الترجيح برواية صاحب القصة.

يهتم البحث بالدراسة الموجزة لطريقة تعامل المحدثين والفقهاء مع الأخبار المشكلة، والأحاديث المتعارضة في الظاهر، وكيف كانوا يلجؤون إلى الترجيح بينها، مع بيان حقيقة الترجيح وأركانه وشروطه ومسالكه التي تزيد على المائة مسلك عند العلماء، مع بيان منزلة الترجيح برواية صاحب القصة والملابس لها عند المحدثين والفقهاء، وكيف كان هذا المسلك معتبرا عند العلماء منهم، مع التعقيب بذكر جملة من أشهر المسائل الفقهية التي سلك فيها الفقهاء مسلك الترجيح بهذه القاعدة.

الكلمات المفتاحية: التعارض – الترجيح – مختلف الحديث – المرجِّحات – صاحب الواقعة – المباشر للواقعة.

Research title

Weighting by narration of the author of the story among scholars of hadith and jurisprudence

Dr. Suleiman bin Abdullah Al-Saif1 Mr. Al-Tayeb Hassan Al-Mahi2

1 Associate Professor, College of Education, University of Hail

2 Lecturer, Department of Islamic Culture, College of Education, University of Hail

Email: elt.elmahi@gmail.com

HNSJ, 2021, 2(12); https://doi.org/10.53796/hnsj21227

Published at 01/12/2021 Accepted at 24/11/2021

Abstract

This research is concerned with studying an important course of weighting considered by scholars, which had a great impact on the difference in many jurisprudential issues, which is the weighting of the narration of the author of the story.

The research is concerned with the brief study of the way scholars dealt with apparently contradictory hadiths, and how they favored them, with an explanation of the meaning of weighting, its pillars, conditions, and paths, with an indication of the weighting status of the narration of the author of the story among scholars, with a set of jurisprudential issues for this rule.

Key Words: Conflict – weighting – weighting methods – story owner.

المقدمـــــــــــــة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وآله وصحابته أجمعين، وبعد.

فإن المعتقَدَ أن الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي-ﷺ-تجلُّ عن التناقض، وتُنَزَّه عن التعارض، وأن كلَّ تعارضٍ ظهر للمجتهدين بين نصَّيْنِ صحيحين، فهو محمولٌ على التعارض في الأفهام لا في الكلام؛ على اعتبار جهلِ المجتهدِ بأمرٍ من الأمور، أو خفائه عليه، أو عجزه عن فهم مراد الشارع من هذه النصوص.

قال ابن القيم-رحمه الله-(ت751هـ): “لا تعارض بحمد الله -تعالى-بين أحاديثه ﷺ الصحيحة، فإذا وقع التعارض فإما أن يكون أحدُ الحديثين ليس من كلامهﷺ وقد غلط فيه بعضُ الرواةِ مع كونه ثقةً ثبتا؛ فالثقةُ يغلط، أو يكون أحدُ الحديثين ناسخًا للآخر…، أو يكون التعارض في فهم السامع لا في نفس كلامه ﷺ، فلابدَّ من وجهS من هذه الوجوه الثلاثة، وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجهٍ ليس أحدهما ناسخًا للآخر، فهذا لا يوجد أصلا، ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق ﷺ الذي لا يخرج من شفتيه إلا الحق، والآفةُ من التقصير في معرفةِ المنقول، والتمييز بين صحيحه ومعلوله، أو من القصور في فهم مراده ﷺ”([1]).

وقال الإمام السرخسي-رحمه الله-(ت483هـ) في “أصوله”: “الحججُ الشرعيةُ من الكتاب والسنة لا يقع بينهما التعارضُ والتناقضُ وَضْعًا؛ لأن ذلك من أمارات العجز، والله يتعالى عن أن يوصف به، وإنما يقع التعارضُ لجهلنا بالتاريخ، فإنه يتعذر به علينا التمييز بين الناسخ والمنسوخ، ألا ترى أن عند العلم بالتاريخ لا تقع المعارضةُ بوجهٍ، ولكن المتأخر ناسخٌ للمتقدم، فعرفنا أن الواجب في الأصلِ طلبُ التاريخ؛ ليعلم به الناسخ من المنسوخ، وإذا لم يوجد ذلك يقع التعارضُ بينهما في حقِّنا من غير أن يتمكن التعارضُ فيما هو حكم الله تعالى في الحادثة”([2]).

ونقل عن أبي بكر الخلال-رحمه الله-(ت311هـ) وهو من أئمة الحنابلة المتقدمين-أنه قال: “لا يجوز أن يوجد في الشرعِ خبران متعارضان ليس مع أحدهما ترجيحٌ يُقَدم، فأحد المتعارضين باطلٌ، إما لكذب الناقل، أو خطأ بوجهٍ مَا من النقليات، أو خطأِ الناظرٍ في النظريات، أو لبطلانِ حكمه بالنسخ”([3]).

من أجل هذا أرسى علماءُ المسلمين-رحمهم الله-منذ زمنٍ بعيدٍ مبادئَ علمِ “مختلِف الحديث ومشكله”؛ ليوفقوا به بين النصوص التي بدت للسامعين متعارضة، ويجمعوا فيه بين الأحاديث التي ظهرت للأفهام مختلفةً ومتناقضة، وقد أجمل ابن الصلاح-رحمه الله-(ت643هـ) مبادئَ هذا العلم في النوع السادس والثلاثين من أنواع علوم الحديث التي عدَّدها في “مقدمته”([4])، وذكر أنه علمٌ لا يقوى عليه إلا الأئمةُ الجامعون بين صناعتي الحديث والفقه، وأن مبادئه تقوم على طريقين اثنين لا ثالث لهما:

الطريق الأول: طريق الجمع والتأليف بين الحديثين المتعارضين في الظاهر، على وجهٍ يُمْكِنُ معه العملُ بالحديثين معًا، وهي طريقةٌ تنافس العلماءُ فيها بالتصنيف والتأليف، حتى أُثِر عن الحافظ ابن حزيمة-رحمه الله-(ت311هـ) أنه قال: “لا أعرف أنه رُوِي عن النبي ﷺ حديثان بإسنادين صحيحين متضادين، فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما”([5]).

الطريق الثاني: وهو طريق الترجيح عند تعذر الجمع والتأليف، بحيث يترجَّحُ في نظر المجتهدِ العملُ بأحد الحديثين دون الآخر؛ لسببٍ من الأسباب المقتضيةِ لذلك، إما لكون أحدهما ناسخًا والآخر منسوخًا، وهو الأَوْلى إن أمكن ذلك، وإمَّا لترجح أحدِهما في نظر المجتهد بوجهٍ من وجوه الترجيحات المتعدِّدة عند تعذر النسخ.

وعلى هذا المنهج-أيضا-نصَّ النووي-رحمه الله-(ت676هـ) في “التقريب”، فقال: “النوع السادس والثلاثون-يعني من أنواع علوم الحديث-: معرفةُ مختلِف الحديث وحكمه، وهذا من أهم الأنواع، ويضطر إلى معرفته جميع العلماء من الطوائف، وهو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهراً فيوفق بينهما، أو يرجِّح أحدهما، وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه، والأصوليون الغواصون على المعاني… والمختلف قسمان: أحدهما يمكن الجمع بينهما، فيتعيَّن، ويجعل العمل بهما، والثاني: لا يمكن بوجهٍ، فإن علمنا أحدهما ناسخاً قدمناه، وإلا عملنا بالراجح؛ كالترجيح بصفات الرواةِ وكثرتهم في خمسين وجهاً”([6]).

وقد جمع الحافظُ العراقي-رحمه الله-(806هـ) ذلك المنهجَ المتَّبع في ثلاثة أبياتٍ من “ألفيته”، فقال:

والمتنُ إن نافاهُ متنٌ آخر … وأمكن الجمعُ، فَلَا تنافُرْ

كمتنِ “لا يُورَدُ” معْ “لا عدْوى” … فالنَّفْيُ للطبعِ، وَفِرَّ عَدْوَا ([7])

أوْ لَا، فإنْ نسخٌ بَدَا، فاعملْ به … أوْ لَا، فرجِّحْ ([8]) واعملنْ بالأشبهِ ([9])

فهكذا كان منهج المحدثين-رحمهم الله- في دفع التعارض الظاهر بين الأخبار، جمعٌ وتوفيقٌ، وإلا بحثٌ في ناسخٍ ومنسوخ، وإلا فترجيحُ أحدهما للعمل به دون الآخر، قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله- (ت 852هـ): “فصار ما ظاهره التعارض واقعًا على هذا الترتيب:1- الجمع إن أمكن. 2- فاعتبار الناسخ والمنسوخ. 3- فالترجيح إن تعين.4- ثم التوقف عن العمل بأحد الحديثين”([10]).

وعلى مثل هذا المنهج نص عامةُ الفقهاء والأصوليين، ورأوا ضرورةَ البدء بالجمع والتوفيق بين الأخبار المتعارضة أوَّلًا، فإن تعذر صِرْنا إلى النسخ إن أمكن، وإلا فللترجيح، فقال الباجي-رحمه الله-(ت 474هـ) من أئمة المالكية: “الترجيح يقع في الأخبار التي تتعارض ولا يمكن الجمع بينها، ولا يعرف المتأخّر منها، فيحمل على أنه ناسخ”([11]).

وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي (ت 476هـ)-وهو من أئمة الشافعية الكبار-: “إذا تعارض خبران وأمكن الجمع بينهما وترتيب أحدهما على الآخر في الاستعمال، فُعِل، وإن لم يكن ذلك وأمكن نسخُ أحدهما بالآخر، فُعِل… فإن لم يكن ذلك رُجِّحَ أحدهما على الآخر بوجهٍ من وجوه الترجيح”([12])، وبقريبٍ من عبارته أتت عبارة ابن السمعاني-رحمه الله-(ت489هـ) في “القواطع”، فقال: “اعلم أنه إذا تعارض خبران، فلا يخلوا: إما أن يمكن الجمع بينهما، أو يمكن ترتيبُ أحدهما على الآخر فى الاستعمال، فإنه يُفْعَل أيضا، فإن لم يُمْكِن وأمكن نسخُ أحدهما بالآخر، فإنه يفعل، فإن لم يمكن، رُجِّحَ أحدُهما على الآخر بوجهٍ من وجوه الترجيح”([13])،

في ضوء هذه المبادئ المتفق عليها بين جمهور المحدِّثين والفقهاء سَبَرَ العلماءُ-رحمهم الله- أحاديثَ النبي ﷺ المتعارضة في الأفهام، وألَّفوا بينها على وجهٍ مكَّن من العمل بها جميعِها دون تعارضٍ أو تضاد، وبقت بعد ذلك بقيةٌ من الأحاديث الصحيحةِ تقابلت في وقتٍ واحدٍ أو في حالةٍ واحدةٍ -في أنظار المجتهدين-تقابلًا على سبيل الممانعة تعذَّر معه الجمع والتوفيق، وتعذَّر معه-أيضا- معرفة الناسخ من المنسوخ، في الوقت الذي أوجب فيه الحديثُ الواحدُ ضدَّ ما أوجبَه الآخرُ من أحكام، إما حِلًّا وحرمةً، أو نفيًا وإثباتا، وهو ما عُرِف عند الأصوليين-رحمهم الله- باسم: “التعارض”([14])، أو:”المعارضة”([15]) أو: “التعادل”([16])، وعُرِف عند المحدِّثين باسم: “مختلِف الحديث”([17]).

وإزاء هذه المعارضةِ الظاهرةِ، والممانعة المشكِلة، وضع الأصوليون والمحدِّثون مجموعةً من القواعد الأصولية الحاكمة؛ تمكنوا بها من الترجيح بين تلك النصوص التي بدت متعارضةً في أنظارهم، كلٌّ منهم على حسب أصله الذي بناه، ورأيه الذي ارتآه، حتى أثرت تلك القواعد في الفقه الإسلامي تأثيرًا بالغا، وكانت سببًا رئيسًا من الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين الفقهاء في كثيرٍ من الأحكام.

من بين تلك الوجوه التي سلكها المحدثون والأصوليون في الترجيح، “الترجيح برواية صاحب القصة أو الواقعة”، وهو من وجوه الترجيحات المعتبرة عند عامة المحدثين والفقهاء، وله أثره البالغ في الفقه الإسلامي في كثيرٍ من المسائل والفروع، الأمر الذي دفعنا إلى وضع هذه الدراسة التفصيلية لإلقاء الضوء على هذه القاعدة وأثرها في الفقه الإسلامي.

أهداف الدراسة:

تهدف الدراسة إلى إلقاء الضوء على عدة أمور، منها ما يلي:

أولا: إلقاء الضوء على وجوه الترجيحات المعتبرة عند العلماء وتقسيماتها المختلفة.

ثانيا: بيان مذاهب العلماء في قاعدة الترجيح رواية صاحب القصة.

ثالثا: بيان أثر تلك القاعدة في الفقه الإسلامي.

رابعا: عرض مجموعة من المسائل الفقهية التي سلك فيها الفقهاء مسلك الترجيح برواية صاحب القصة.

منهج الدراسة:

تعتمد الدراسة على المنهج الوصفي والتطبيقي، بحيث تبدأ بعرض تأصيلي لحقيقة الترجيح واختلاف العلماء فيها، وبيان أركانه وشروطه المعتبرة عند العلماء، ثم تأصيل الكلام في مسالك العلماء في تقسيم وجوه الترجيحات المختلفة باعتبارات مختلفة، مفصلين القول في قاعدة الترجيح برواية صاحب القصة واختلاف العلماء فيها، ثم التطبيق على جملة من المسائل الفقهية التي اعتمد الفقهاء فيها الترجيح برواية صاحب القصة، مع بيان أقوال الفقهاء واختلافهم في كل مسألة.

خطة الدراسة:

قسمنا هذه الدراسة إلى مقدمة وفصلين وخاتمة، أما المقدمة ففيها الحديث عن أهمية الموضوع وأهدافه وأسباب اختياره، وأما الفصلان فقد جاءا على النحو التالي:

الفصل الأول: قاعدة “الترجيح بصاحب القصة” ومدى اعتبارها عند العلماء.

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: التعريف بالترجيح وأركانه وشروطه.

المبحث الثاني: وجوه الترجيح وطرقه عند العلماء.

المبحث الثالث: الترجيح بصاحب القصة وآراء العلماء فيه.

الفصل الثاني: التطبيقات الفقهية لقاعدة “الترجيح بصاحب القصة”.

وفيه خمسة مباحث:

المبحث الأول: تطبيق قاعدة الترجيح بصاحب القصة على مسألة نكاح المحرم.

المبحث الثاني: تطبيق قاعدة الترجيح بصاحب القصة على مسألة الغسل من الجماع مع الإكسال.

المبحث الثالث: تطبيق قاعدة الترجيح بصاحب القصة على مسألة القود في القتل بالمثقَّل.

المبحث الرابع: تطبيق قاعدة الترجيح بصاحب القصة على مسألة نوع الخلع فسخٌ أو طلاق.

المبحث الخامس: تطبيق قاعدة الترجيح بصاحب القصة على مسألة صوم الجنب.

ثم جاءت بعد ذلك الخاتمة، وتحدثنا فيها عن أهم النتائج والتوصيات، ومراجع البحث ومصادره، والله -تعالى- نسأل أن يضع فيها النفع والقبول.

الفصل الأول

قاعدة “الترجيح بصاحب القصة” ومدى اعتبارها عند العلماء

المبحث الأول

التعريف بالترجيح وأركانه وشروطه

الترجيح في اللغة:

الترجيح في اللغة هو التغليب، مأخوذٌ من قولهم: “رجح الميزان”، إذا وزن وثقل، يقال: أرجحتُ الميزانَ: إذا أثقلته حتى مال، ويقال: رجح الشيءُ رجحانًا ورجوحًا، إذا رزن وصار راجحًا ([18]).

الترجيح في اصطلاح العلماء:

اختلف الأصوليون-رحمهم الله-في تعريف الترجيح، على أساس اختلافهم في كونه عملًا من أعمالِ المجتهد وفعلًا من أفعال المرجِّح الناظرِ في الدليل، أو هو صفةٌ مقارنةٌ للدليل ترجِّحُه على غيره دون عملٍ من المجتهد، فمن رأى من الأصوليين أنه فعلٌ من أفعال المجتهدِ الناظرِ في الدليل-وهو الاتجاه الأغلب عند الأصوليين-عرفه بما يفيد ذلك، فعرفه-على سبيل المثال-أبو الحسين البصري (ت436هـ) في “المعتمد” بأنه: “الشروعُ في تقويةِ أحد الطريقين على الآخر”([19])، وعرَّفه إمام الحرمين الجويني-رحمه الله- (ت 478هـ) بأنه: “تغليبُ بعضِ الأمارات على بعضٍ في سبيل الظن”([20])، وعرفه الإمامُ الرازي-رحمه الله- في “محصوله”، بما يفيد ذلك-أيضا-، فقال: هو “تقوية طريقٍ على آخر؛ ليعلم الأقوى، فيعمل به، ويطرح الآخر”([21])، وبقريبٍ منه عرفه البيضاوي-رحمه الله-(ت785هـ) في “المنهاج”، فقال: هو “تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى ليعمل بها”([22])، وإلى هذا الاتجاه ذهب أكثر الأصوليين([23]).

قال الإسنوي-رحمه الله-(ت772هـ): “إنما خص الترجيح بالأمارتين، أي: بالدليلين الظنيين؛ لأن الترجيح لا يجري بين القطعيات، ولا بين القطعي والظني كما ستعرفه، وقوله: ليعمل بها، احتراز عن تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى لا ليعمل بها، بل لبيان إحداهما أفصح من الأخرى، فإنه ليس من الترجيح المصطلح عليه”([24]).

ومال الآمدي (ت 631هـ) وابن الحاجب (ت 646هـ) إلى تعريفه باعتباره وصفًا قائمًا بالدليل لا عمَلَ للمجتهدِ فيه، فقال الآمدي في حدِّه: هو “اقترانُ أحدُ الصَّالِحَيْن للدلالة على المطلوب، مع تعارضهما بما يوجب العمل به وإهمال الآخر”([25])، وحدَّه ابن الحاجب-رحمه الله-بقوله: “هو اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضها”([26]).

هذا، وقد اعترض الإسنوي على هذا الاتجاه الثاني، ورأى أن التعريف فيه ما هو إلا حدٌّ للرجحان لا الترجيح الذي هو من أفعال الأشخاص ([27])، وعاب الصفي الهندي-رحمه الله-(ت 715هـ) التعريفَ وفق الاتجاه الأول، باعتبار أنه قصر الترجيح على “التقوية” فقط، وأغفل الكلامَ عما يحصل به الترجيح، ورأى أنه من الأولى أن يعرَّف بأنه: “عبارةٌ عما يحصل به تقويةُ أحدِ الطريقين المتعارضين على الآخر، فيظن أو يعلم الأقوى فيعمل به”([28])، وهو اتجاهٌ جامعٌ بين الاتجاهين السابقين، أشار إلى مجموعِ ما يحصل به الترجيح والتقوية، سواء حصل ذلك بعمل المجتهد، أو باقتران الدليل بما يفيد رجحانه، فكلا الأمرين معتبرٌ في الترجيح، وقد أتى التعريفُ مشتملًا على الأمرين معا.

أركان الترجيح:

بان لنا من التعريفات السابقة أن للترجيح أركانًا يعتمد عليها، ويقوم على أساسها، وهي وجود طرفي الترجيح، وهما الدليلان أو الخبران المرجَّح بينهما، ووجود مرجِّح وهو المجتهد القائم بعملية الترجيح، ووجود خصوصيةٍ في أحد الحديثين تكسبُه قوةً يصير بها راجحا على الدليلِ المعارِض، ويمكن لنا إجمالُ تلك الأركان في ثلاثة:

أولا: الدليلان المتعارضان المرجَّح بينهما.

ثانيا: المرجِّح، وهو المجتهد القائم بعملية الترجيح.

ثالثا: المرجَّح به، وهو اقتران أحد الدليلين بمزيةٍ تقتضي ترجيحه على الآخر ([29]).

شروط الترجيح:

أما الركن الأول: وهو الدليلان المرجَّح بينهما، فيشترط فيه عند العلماء مجموعةٌ من الشروط المهمة، وهي:

1-الشرط الأول:

أن يكون الدليلين ظنِّيَّيْن؛ إذ لا يجوز عند جمهور العلماء من المحدِّثين والفقهاء وقوعُ الترجيحِ بين الأدلة القطعية؛ لأن الترجيح مبنيٌّ على وجود التعارض، والتعارض بين القطعيات محال، ولأن الترجيح فرع التفاوت في العلم بالشيء، والمعلوم المقطوعُ به لا تفاوت فيه ([30])، وعلى هذا نصَّ أكثر العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ([31])، وحكى المرداوي (ت 885هـ) في “التحرير” الاتفاق عليه ([32]).

قال الغزالي -رحمه الله- (ت 505هـ): “اعلم أن الترجيح إنما يجري بين ظنِّيَيْن؛ لأن الظنون تتفاوت في القوة، ولا يتصور ذلك في معلومين؛ إذ ليس بعض المعلوم أقوى وأغلب من بعض، وإن كان بعضها أجلى وأقرب حصولًا وأشد استغناء عن التأمل، بل بعضها يستغني عن أصل التأمل، وهو البديهي، وبعضها غير بديهي يحتاج إلى تأمل، لكنه بعد الحصول محققٌ يقيني لا يتفاوت في كونه محققا، فلا ترجيح لعلمٍ على علم، ولذلك قلنا: إذا تعارض نصان قاطعان فلا سبيل إلى الترجيح، بل إن كانا متواترين، حُكِم بأن المتأخر ناسخٌ، ولا بد أن يكون أحدهما ناسخا، وإن كانا من أخبار الآحاد وعرفنا التاريخ أيضا حكمنا بالمتأخر، وإن لم نعرف، فصدقُ الراوي مظنونٌ، فنقدم الأقوى في نفوسنا”([33]).

2-الشرط الثاني:

يشترط في الدليلين المتعارضين تساويهما في الثبوت والقوة، فلا تعارض بين المتواتر والآحاد، ولا بين الظني والقطعي؛ لأن الضعيف لا يعارض القوي؛ لتقدم العمل بالقطعي جزما ([34]).

3-الشرط الثالث:

يشترط فيهما-أيضا-تساويهما في المنافاة بين حكميهما مع اتحاد الوقت والمحلِّ والجهة، وهو ما يسمى عند الأصوليين بالمعارضة على جهة الممانعة، أي: أن الدليلان تقابلا في وقتٍ واحدٍ وفي محلٍّ واحدٍ بطريقة تمنع من العمل بهما معًا؛ وتلك هي حقيقة التعارض والتضادّ؛ إذ المضادة والتعارض لا يتحقق بين الشيئين في وقتين ولا في محلَّين مختلفين ([35]).

وعليه فلا تعارض بين النهي عن البيع بعد نداء الجمعة الوارد في الآية القرآنية، وبين الأدلة المقتضية لعموم الجواز؛ لاختلاف الزمان في الدليلين ([36]).

4-الشرط الرابع:

ألا يمكن الجمع والتوفيق بين الدليلين المتعارضين بحال، بحيث لو أمكن الجمعُ، تعيَّن، ولا يُلْجَأ إلى الترجيح إلا بعد تعذّره؛ لأن العمل بكلٍّ من الدليلين من وجهٍ، أولى من العمل بأحدهما مع ترك الآخر، وهذا شرطٌ مهمٌّ في الترجيح، متفق عليه بين المحدثين ([37])، وجمهور الفقهاء والأصوليين ([38]).

وأما الركن الثاني، وهو المرجِّح، فيشترط فيه أن يكون مجتهدًا؛ لأن العامي لا مدخل له في عملية الاستنباط والنظر في الأدلة.

وأما الركن الثالث: وهو المرجَّح به، فمن شروطه المتفق عليه بين العلماء أن يكون صفةً أو مزيَّةً مقترنةً بأحد الدليلين تجعله راجحًا ومقدَّما على معارِضِه، وهذه المزية قد تكون في سند الحديث، وقد تكون في متنه، وتقع في صورٍ ووجوهٍ عدة، نجملها في المبحث التالي.

المبحث الثاني

وجوه الترجيح بين الأخبار وطرقه عند العلماء

تنوعت مسالك العلماء وتعددت طرقهم في الترجيح بين الأحاديث المتعارضة في الظاهر، وطبقوا في ذلك قواعد عدَّة، منها ما هو متفقٌ عليه بينهم، ومنها ما هو مختلف فيه عندهم.

وقد ذكر الحازمي-رحمه الله-(584هـ) في “الناسخ والمنسوخ” من هذه الوجوه خمسين قاعدةً يمكن للمجتهد أن يسلكها في الترجيح بين الأخبار المتعارضة ([39])، وقد خرج ذلك منه مخرج التمثيل لا الحصر، وإلَّا فوجوه الترجيح تزيد على الخمسين، كما صرَّح به ابن الصلاح-رحمه الله-في “المقدمة” ([40])، وقد أشار إلى ذلك الحازمي-رحمه الله-، فقال بعد انتهائه من تعداد الخمسين: “هذا القدر كافٍ في موضوع الترجيحات، وثَمَّ وجوهٌ كثيرةٌ أضربنا عن ذكرها كي لا يطول به هذا المختصر”([41]).

وقد علَّق الحافظ العراقي-رحمه الله-(ت 806هـ) في “شرحه على ألفيته” على صنيع الحازمي هذا، فقال: “اقتصر الحازميُّ على ذكر هذه الخمسين وجهًا … وقد خالفه بعضُ الأصوليين في بعضِ ما ذكره من وجوهِ الترجيحات، فرجَّح مقابله، أو نفى الترجيح، وقد زاد الأصوليون كالإمام فخر الدين الرازي، والسيف الآمدي، وأتباعهما وجوهًا أخرى للترجيح، إذا انضمت إلى هذه زادت على المائة، وقد جمعتها فيما جمعته على كلام ابن الصلاح، فلتراجع من هناك، وقد اقتصرت هنا على ما أودعه المحدثون كتبهم، والله أعلم”([42])، ثم توسَّع الحافظُ-رحمه الله-في “شرحه على مقدمة ابن الصلاح” في سرد تلك الوجوه الزائدة على الخمسين، فقال: “وجوه الترجيحات تزيد على المائة، وقد رأيت عدَّها مختصرا، فأبدأ بالخمسين التي عدها الحازمى ثم أسرد بقيتها على الولاء”([43])، وظلَّ يعدِّد تلك المرجِّحات حتى وصل بها إلى مائةِ وجهٍ وعشرة، وبعد أن انتهى من تعدادها، قال: “وثَمَّ وجوهٌ أُخَر للترجيح في بعضها نظر”([44])، مما يفيد أن وجوه الترجيحات تزيد على العدد المذكور عنده أيضا، ومن أجل ذلك ردَّ العلماءُ الأمرَ في ذلك إلى غلبةِ ظنِّ الناظر في الأدلة، ومدى انقداح المزيَّة المرجَّح بها في ذهنه، فكلُّ ما كان من ذلك مطابقا للمسالك الشرعية، كان معتبرًا في الترجيح ، من غير انحصارٍ في عددٍ بعينه، حتى قال السيوطي-رحمه الله- (ت 911هـ): “وثَمَّ مرجحاتٌ أُخَر لا تنحصر، ومثارها غلبةُ الظن”([45])، وقال الحافظ ابن حجر-رحمه الله- (852هـ): “وجوهُ الترجيح كثيرةٌ لا تنحصر، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كلُّ حديثٍ يقوم به ترجيحٌ خاصٌّ، وإنما ينهض بذلك الممارسُ الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكمٍ كليٍّ يشمل القاعدة، بل يختلف نظرُهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده”([46]).

وبمثل ذلك نصَّ الفقهاء والأصوليون، فقال الغزالي-رحمه الله- (ت 505هـ) في “المستصفى” عقب ذكره لجملة من وجوه الترجيات المتعلقة بسند الحديث ومتنه- قال: “الاعتماد في ذلك على ما غلب على ظن المجتهد”([47])، وقال الشوكاني-رحمه الله- (ت 1250هـ): “مدار الترجيح على ما يزيد الناظر قوة في نظره على وجه صحيح مطابق للمسالك الشرعية، فما كان منها منحصلا لذلك، فهو معتبر”([48]).

هذا، وقد سلك المتحدثون والفقهاء والأصوليون في تقسيم تلك الوجوه طرقًا مختلفة، فمنهم من قسَّم المرجحات الخاصة بالأحاديث والأخبار إلى سبعة أقسام رئيسة، كلُّ قسمٍ منها يندرج تحته جملة من الوجوه التي يمكن أن يحصل الترجيحُ بها، بغض النظر عن كونها متفقًا عليها أو مختلفا فيها بين أهل العلم، وجاءت هذه الأقسام السبعة كالتالي:

القسم الأول: الترجيحُ بحال الراوي، وعدُّوا تحته جملةً كبيرةً من الوجوه، كالترجيح بكثرة الرواة، وبفقه الراوي، وعلمه بالنحو واللغة، وحفظه وزيادة ضبطه، وشهرته، ومنها كونه صاحب القصة أو مباشرا لها…. الخ.

القسم الثاني: الترجيح بالتحمُّل، وله وجوهٌ عدة؛ كالترجيح باعتبار وقت التحمل، بحيث يرجح منهم من لم يتحمل الحديث إلا بعد البلوغ على من كان بعضُ تحمله قبله، أو بعضُه بعده، وكترجيح حديث من تحمَّل بـ: “حدَّثنا” على من تحمَّل عَرْضًا، وترجيح من تحمَّل عرضا على من تحمَّل كتابة… الخ.

القسم الثالث: الترجيح بكيفية الرواية، وذلك بوجوه عديدة؛ كتقديم المحكي بلفظه على المحكي بمعناه، وترجيح ما ذكر فيه سبب وروده على ما لم يذكر فيه… الخ.

القسم الرابع: الترجيح بوقت الورود، وفيه وجوهٌ عدَّة، كترجيح المدني على المكي، وترجيح غير المؤرخ على المؤرخ بتاريخ متقدم، وترجيح المؤرخ بمقارب بوفاته ﷺ على غير المؤرخ…. الخ.

القسم الخامس: الترجيح بلفظ الخبر، وتحته وجوهٌ كثيرة، منها ترجيح الخاص على العام، والحقيقة على المجاز، وكترجيح الحقيقة الشرعية على اللغوية والعرفية، والعرفية على اللغوية…. الخ.

القسم السادس: الترجيح بالحكم، كتقديم الناقل على البراءة الأصلية على المقرِّر لها، وقيل: عكسه، وكتقديم الدالِّ على التحريم على الدالِّ على الإباحة والوجوب، وتقديم الأحوط…. الخ.

وأما القسم السابع: فهو الترجيح بأمرٍ خارجي؛ كتقديم ما وافقه ظاهرُ القرآن أو سنة أخرى، أو ما اتفق على إخراجه الشيخان…. الخ ([49]).

وقد جمع الإمام-رحمه الله-في “المحصول” هذه الأقسام السبعةَ في خمسةٍ فقط، فقال: “ترجيحُ الخبر إما أن يكون بكيفية إسناده، أو بوقت وروده، أو بلفظه، أو بحكمه، أو بأمر خارج عن ذلك…”، ثم بدأ يعدِّد جملةً من الوجوه المندرجة تحت كل قسم ([50]).

ومن العلماء من قسم جملة هذه الوجوه إلى قسمين رئيسين فقط:

القسم الأول: الترجيح بالإسناد، وأدرجوا تحته الوجوهَ المتعلقة بحال الراوي؛ كالترجيح بكون راوي أحد الخبرين أحفظ وأضبط، وراوي الذي يعارضه دون ذلك، أو بكون رواة أحد الخَبرين أكثر من رواة الخبر الآخر، أو أن يكون راوي أحد الخبرين هو صاحب القصة الذي تَلَبَّسَ بها، وراوي الخبر الآخر أجنبيًّا، فيقدم خبر صاحب القصَّة…. الخ تلك الوجوه، كما أدرجوا تحت هذا القسم –أيضا-الوجوه المتعلقة بكيفية الرواية، كأن يقول راوي أحد الخبرين: سمعت رسول اللَّه ﷺ ويقول الآخر يقول: كُتِبَ إلى النبي ﷺ -فيقدم خبر من سمع النبي؛ لأن السماع من العَالِم أقوى من الأخْذ بالكتابة، أو أن يكون أحدُ الخبرين متفقًا على رفعه إلى رسول اللَّه ﷺ والآخر مختلفًا فيه…. الخ.

القسم الثاني: الترجيح بالمتون، وأدرجوا تحته جملة المرجحات التي تعود إلى متن الحديث؛ كالترجيح بوقت الحديث، والترجيح بلفظه، أو بحكمه، كتقديم المنطوق الصريح على المحتمل، وتقديم المستقل بنفسه على غيره، وتقديم الحديث المثبِت على النافي، أو كون أحد الخبرين ينفي النقص عن أصحاب رسول اللَّه ﷺ، والآخر يضيقه إِليهم، فيكون النافي أولى؛ لأنه أشبه بفضلهم ودينهم… الخ ([51]).

واختلف أصحاب هذا التقسيم في إدراج وجوه الترجيح المعتمدة على أمرٍ خارجي لا يتعلق بالسند ولا بالمتن، ككون أحد الخبرين موافقًا لظاهر الكتاب، والآخر مخالفا له، أو كون أحد الخبرين قد عمل به الأئمة دون الآخر، أو نحو ذلك من المرجِّحات بأمر خارجي، فمنهم من أدرجه تحت الترجيح بالإسناد-كما هو صنيع الباجي-رحمه الله-(ت 474هـ) في “الإشارة” ([52])، ومنهم من أدرجه تحت قسم الترجيح بالمتن-كما هو صنيع ابن السمعاني-رحمه الله- في “القواطع”([53]).

ومن العلماء من جعل الأقسام الرئيسة أربعة، ووضع تحتها جملة الوجوه المذكورة على النحو التالي:

القسم الأول: الترجيح باعتبار الإسناد، ووضعوا تحته الوجوه المتعلقة بذلك، كالترجيح بكثرة الرواة، وبكبر الراوي، وبفقهه، وبحفظه، وبمباشرته للقصة…. الخ.

القسم الثاني: الترجيح باعتبار المتن، كتقديم الحقيقة على المجاز، والمقيَّد على المطلق، والخاص على العام…. الخ.

والقسم الثالث: الترجيح باعتبار المدلول، أي باعتبار الحكم الوارد في الحديث؛ كتقديم ما كان مقررًا لحكم الأصل والبراءة على ما كان ناقلًا، وتقديم المثبت على النافي، وما كان حكمه أخف على ما كان حكمه أثقل… الخ.

والقسم الرابع: الترجيح باعتبار أمور خارجة، كتقديم ما عضده دليلٌ آخر على ما لم يعضده دليل آخر، وتقديم ما عمل عليه أكثر السلف على ما ليس كذلك، وتقديم ما كان موافقًا لعمل الخلفاء الأربعة دون الآخروتقديم ما كان أشبه بظاهر القرآن على غيره… الخ ([54]).

وبالجملة، فإن للمحدثين والأصوليين مناهج مختلفة في تقسيم جملة الوجوه التي يحصل بها الترجيح، وإدراج آحاد هذه الوجوه تحت أقسامها الرئيسة، لكن المتفق عليه عند جمهورهم هو اعتبار الترجيح برواية صاحب القصة وجهًا من الوجوه المندرجة تحت عموم الترجيح بالسند، وبالخصوص تحت قسم الترجيح بحال الراوي.

المبحث الثالث

الترجيح بصاحب القصة وآراء العلماء فيه

ظهر لنا من خلال العرض السابق أن الترجيح برواية صاحب القصة يعدُّ وجهًا من وجوه الترجيح التي تعود إلى الترجيح بحال الراوي أو الترجيح بالإسناد –بحسب تقسيمات العلماء المختلفة-، ويعني العلماء-رحمهم الله-بهذا الوجه: أنه إذا ورد خبران عن النبي ﷺ وثبت تعارضهما في نظر المجتهد تعارضًا يفضي إلى الممانعة، وكان راوي أحد الحديثين هو من باشر القصة أو وقعت له الواقعة مع رسول الله ﷺ -فإن خبره يقدَّم على حديث الراوي الأجنبي.

ويمثِّل العلماءُ في مصنفاتهم لهذا الوجهِ بحديث السيدة ميمونة-رضي الله عنها- “أن رسول الله ﷺ تزوجها وهو حلالٌ”([55])، مع حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-: “تزوج النبي ﷺ ميمونة وهو محرمٌ “([56])؛ حيث تقابل الحديثان على جهة الممانعة؛ إذ أحدُهما يوجب في وقتٍ ومحلٍّ واحدٍ غير ما يوجبه الثاني، لأنا- على حدِّ قول الجصاص- رحمه الله- (ت 370هـ)- “قد علمنا أنه لم يتزوجها إلا مرة واحدة، وغير جائز أن يكون محرمًا وغير محرم في حالة واحدة”([57])، ومقتضى هذا الوجه أن نرجح الحديث الأول على الثاني؛ لأنه مرويٌّ من جهة صاحبة الواقعة نفسها، وهي السيدة ميمونة-رضي الله عنها-، وصاحب الواقعة أعرف بها من غيره… وعلى هذا فقسْ.

قال القاضي أبو يعلى (ت 458هـ) في “العدة”: “ميمونةُ هي المعقودُ عليها، فهي أعرفُ بوقتِ عقدِها من غيرها؛ لاهتمامها به ومراعاتها لوقته”([58]).

ومصطلح “صاحب الواقعة”: يشمل عند العلماء كلَّ من كان طرفًا في الواقعة مع رسول الله ﷺ، كميمونة-رضي الله عنها-في قصة زواجها برسول الله ﷺ، وكنسائه ﷺ فيما يقع لهن مع رسول الله ﷺ من أمور الزوجية، وكغير نسائه ﷺ من عموم الصحابة ممن كانت له واقعةٌ أو مسألةٌ، وقضى له فيها النبي ﷺ له بقضاء، فهؤلاء جميعا يمكن أن يطلق عليهم “أصحاب واقعة”.

مذاهب العلماء في الترجيح برواية صاحب القصة:

اختلف العلماء في الترجيح برواية صاحب القصة على مذهبين:

المذهب الأول:

القول بأن الترجيح برواية صاحب القصة يعدُّ وجهًا من وجوه الترجيح المعتبرة، التي يجوز للمجتهد أن يعتمد عليها في الترجيح بين الأخبار المتعارضة، وهذا المذهب هو اتفاق جميع المحدِّثين ([59]) ومذهبُ جمهورِ الفقهاء والأصوليين ([60]).

أدلة الجمهور:

استدلَّ الجمهور على مذهبهم بأدلة كثيرة من المعقول، منها:

  1. أن صاحب القصة أعرف بحاله، وأكثر اهتماما من غيره، وهو الأولى بالمعرفة من الأجنبي ([61]).
  2. أن كون أحد الراويين أشدَّ ملابسةٍ لما ورد الخبرُ فيه، يبعد معه الالتباس والاشتباه ([62]).
  3. أن صاحب القصة أعلم بظاهرها وباطنها، وأشد إتقانًا بحفظ حكمها ([63]).

المذهب الثاني:

وهو مذهبٌ لبعضِ مشايخ الحنفية كأبي عبد الله الجرجاني-رحمه الله-(ت 398هـ)، الذي نفى أن يكون لصاحب القصة مزيةٌ في الترجيح مطلقا([64]).

دليل المذهب الثاني:

استدل الجرجاني-رحمه الله-على مذهبه من المعقول بأن غير الملابس للواقعة قد يكون أعرفَ حال رسول الله ﷺ وأقرب إليه من صاحب الواقعة، فلم يجز أن يكون لصاحب الواقعة مزيةً في الترجيح؛ لأن الأمر يعود إلى النبي ﷺ لا إلى صاحب القصة ([65]).

مناقشة الاستدلال:

ونوقش هذا الاستدلال من جهة الجمهور، بأنه استدلال مبني على النادر الشاذ؛ لأن الغالب أن صاحب القصة أعرف بها من غيره، وقد جرت العادة بأن البُعْد عن القصة يُبْعِدُ عن فهمها وفهم حال ملابسها، إلا فيما ندر، والنادر لا عبرة به ([66]).

المذهب المختار:

والمختار في المسألة عندنا هو ما ذهب إليه جمهورُ الفقهاء والمحدِّثين من اعتبار روايةِ صاحبِ القصةِ وجهًا من وجوه الترجيح المعتبرة؛ لأنه الأدرى-دون شك-بحالِ القصة وملابساتها من الأجنبي، وعلى هذا سار عمل جمهور الفقهاء-رحمهم الله-في النظر في الأدلة واستنباط الأحكام، كما سيتضح من التطبيقات الفقهية التي سنعرضها في الفصل التالي.

* * *

الفصل الثاني

التطبيقات الفقهية لقاعدة “الترجيح بصاحب القصة”

المبحث الأول

تطبيق قاعدة الترجيح بصاحب القصة على مسألة نكاح المحرم

اختلف الفقهاء-رحمهم الله-في جواز عقد النكاح للمحرم على قولين:

القول الأول:

وهو قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، ويرى أصحاب هذا القول أن المحرِم لا يجوز له أن يعقد النكاح لنفسه ولا لغيره، وإن خالف وفعل، فنكاحه باطل ([67]).

القول الثاني:

وهو قول فقهاء الحنفية-رحمهم الله-ومقتضاه: أنه يجوز للمحرم أن يعقد نكاحه حال إحرامه، ويقع منه صحيحًا إن فعله، ويؤجَّلُ الدخولُ لما بعد التحلُّل ([68])، قال الطحاوي-رحمه الله-(ت321هـ) في “مختصره”: “لا بأس بنكاح المحرم، ولا يطأ”([69]).

سبب الاختلاف في المسألة:

وسبب الاختلاف في هذه المسألة يرجع إلى تعارض الأحاديث الواردة في هذا الباب، ففي الصحيح عن ميمونة-رضي الله عنها- “أن رسول الله ﷺ تزوجها وهو حلالٌ”([70])، وفي الصحيح-أيضا- عن أبي رافع أنه قال: “تزوج رسول الله ﷺ ميمونة وهو حلالٌ، وبنى بها وهو حلالٌ، وكنت السفير بينهما”([71])، بينما ورد في الصحيح- أيضا- ما يعارض ذلك من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: “تزوج النبي ﷺ ميمونة وهو محرمٌ “([72]).

فمن رأى من الفقهاء ههنا ضرورة الترجيح برواية صاحب القصة وبرواية من باشرها على رواية الأجنبي -لزمه تقديم حديث ميمونة في الاحتجاج، وتأويل حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-، وهو مذهب الجمهور.

ومن رأى من الفقهاء أن قاعدة الترجيح برواية صاحب القصة لا تقوى على الرجحان ههنا؛ لتعارضها مع قاعدة أخرى من قواعد الترجيح المعتبرة وهي علم الراوي وحفظه -قال بتقديم رواية ابن عباس؛ لعلمه وحفظه، وتأوَّل رواية ميمونة-رضي الله عنها-، وهو مسلك الحنفية في المسألة ([73]).

أدلة المذاهب في المسألة:

أولا: دليل الجمهور:

استدل جمهور الفقهاء-رحمهم الله-لقولهم بحديثي ميمونة وأبي رافع -رضي الله عنهما-، على اعتبار ميمونة-رضي الله عنها-هي صاحبة الواقعة وهي الأدرى بوقتها من غيرها، ولكون أبي رافع-رضي الله عنه-هو من باشر القصة كما في قوله: “وكنت السفير بينهما”، فهما الأعلم بالواقعة من ابن عباس، ولذا كانت روايتهما هي الأولى بالتقديم ([74]).

وتأوَّل الجمهور حديث ابن عباسٍ وصرفوه عن ظاهره بتأويلاتٍ عدة، منها ما يلي:

أولا: أن قوله: “مُحْرِمٌ” تعني أنه محرِمٌ بالحرم لا بالإحرام، على غرار قولهم: مُتْهِمٌ، لمن كان بتهامة، وقولهم: مُنْجِدٌ، لمن كان بنجد، ومن ذلك-أيضا-ما أنشدوه في قصة مقتل الخليفة عثمان بن عفان-رضي الله عنه-وكان بحرم المدينة حين مقتله-فقالوا:

قتلوا ابنَ عفان الخيفةَ مُحْرِمًا … وَدَعَا، فلم يُرَ مثلُه مخذولا

فقوله في البيت: “مُحْرِمًا” يعني بالحرم ([75]).

ثانيا: أنه من المحتمل أن يكون من مذهب ابن عباس أن الإنسان يكون محرماً بمجرد تقليد الهدى وإشعاره؛ وجائزٌ أن يكون رأي النبي ﷺ قلَّد هدية وقت تزويج ميمونة، فروى أنه كان مُحْرِماً على اعتقاده أن من فعل ذلك كان محرماً([76]).

ثالثا: أن ابن عباس وَهِم في ذلك، ويؤيده أن هذه القصة كانت في سنة ست من الهجرة؛ وكان ابن عباس إذ ذاك ابن ست سنين، وما يعلم أن أحداً من الصحابة روى أن رسول الله ﷺ نكح ميمونة وهو محرمٌ إلا عبد الله بن عباس([77]).

ثانيا: دليل الحنفية:

تمسك الحنفية- رحمهم الله- بترجيح رواية ابن عباس- رضي الله عنهما- “أن رسول الله ﷺ تزوج ميمونة وهو محرِمٌ”، ورجَّحُوها على روايتي ميمونة وأبي رافع؛ بحجة أنها اجتمعت فيها مجموعةٌ من المرجِّحات التي غلبت الترجيح برواية صاحب القصة ورواية من باشرها، وهي الترجيح بحفظ الراوي وفقهه، وابن عباس لا يقاوَمُ حفظا وفقهًا([78])، والترجيح بكون رواية ابن عباس تثبت أمرًا عارضًا، وهو الإحرام، لأن الحِلَّ أصلٌ، والإحرامَ عارضٌ، فكان راوي الإحرام معتمدًا على حقيقة الحال، وراوي الحلّ بانيًا الأمرَ على الظاهر، ورواية من اعتمد حقيقة الحال أولى([79]).

ومن الجدير بالذكر ههنا أنه لا ينبغي أن يفهم من مذهب الحنفية في هذه المسألة، عدمُ اعتبارهم للترجيح برواية صاحب القصة مطلقا، وعدمُ الاعتدادِ به عندهم كوجهٍ من وجوه الترجيح، فواقعُ الأمرأنه من المرجحات المعتبرة، لكنه في هذه المسألة عورض بمرجِّحٍ آخر أقوى منه-من وجهة نظرهم-، وهو الترجيح بفقه الراوي وحفظه وضبطه، والترجيح بتقديم الحديث المثبت لأمرٍ عارضٍ على الحديث النافي له؛ لما في الأول من زيادة علمٍ ليست عند الثاني، وهي مرجِّحاتٌ مقدمةٌ عندهم في هذه المسألة على الترجيح برواية صاحب الواقعة والمباشر لها([80]).

المبحث الثاني

تطبيق قاعدة الترجيح بصاحب القصة على مسألة الغسل من الجماع مع الإكسال

اختلف الصحابة -رضوان الله عليهم- في بداية أمرهم في مسألة وجوب الاغتسال على من جامع زوجته وأكسل فلم ينزل، هل يجب عليه الاغتسال أو لا؟- على مذهبين:

المذهب الأول:

وهو قول الأنصار، كأبي سعيد الخدري وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت-رضوان الله عليهم-وغيرهم، وكانوا يرون أنه لا غسل إلا من الإنزال ([81])، وبه أخذ سليمان الأعمش -رضي الله تعالى عنه-([82])، ونسب الماوردي-رحمه الله- (ت 450ه،) هذا القول إلى داود بن علي الظاهري- رحمه الله-([83]).

المذهب الثاني:

وهو قول المهاجرين من الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود -رضي الله عنهم- وقد قالوا: إذا التقى الختانان، وغابت الحشفةُ، فقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل([84])، وإلى هذا القول ذهب عامة فقهاء المذاهب-رحمهم الله-([85]).

سبب الخلاف في المسألة:

وقد كان سبب اختلاف الصحابة -رضوان الله عليهم- في هذه المسألة،، تعارضُ الأحاديثِ المرويةِ عن النبي ﷺ في هذا الباب، ففي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ أنه قال: “إنما الماءُ من الماء”([86])، أي: إنما يجب الاغتسال من الإنزال، بينما ورد في الباب حديث السيدة عائشة-رضي الله عنها-: “إذا جاوز الختانُ الختانَ، فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله ﷺ واغتسلنا”([87]).

فمن تمسك بالحديث الأول قال بعدم وجوب الغسل من الجماع مع الإكسال، ومن تمسك بحديث عائشة -رضي الله عنه- قال بوجوبه.

والراجح في المسألة وما عليه العمل عند عامة أهل العلم هو القولُ بوجوب الغسل بمجرد الجماع حتى وإن لم يحدث معه إنزال؛ عملا بحديث عائشة- رضي الله عنها-؛ لأنها صاحبة القصة وهي الأدرى بحالها مع رسول الله ﷺ من غيرها، وقد حكى العلماء رجوع الأنصار إلى قول عائشة-رضي الله عنها- وإجماعهم عليه؛ لكونها أعرف بذلك منهم، حتى قال الجصاص-رحمه الله-: “وأجمع السلفُ عليه بعد اختلافٍ كان بينهم فيه، فسقط-أي قول المخالف- باتفاقهم بعده”([88])، وروي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: “اختلف في ذلك رهطٌ من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الماء الدافق أو من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط، فقد وجب الغسل، فقال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة، فقلت: يا أماه، أو يا أم المؤمنين، إني أريد أن أسألك عن شيء، وأنا أستحييك، فقالت: لا تستحيي أن تسألني عن شيء كنت سائلًا عنه أمَّك التي ولدتك، فإنما أنا أمُّك، قلت: فما يوجب الغسل، قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله ﷺ: إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختانُ الختانَ، فقد وجب الغسل”([89]).

ويفهم من رجوع الصحابة-رضوان الله عليهم-إلى قول عائشة، إجماعهم على تقديم الراجح المقترن بوجهٍ من وجوه الترجيح القوية، وهو علم صاحب القصة بحالها من غيره، حتى قال الإسنوي (ت772هـ): “إنهم رجَّحوا خبر عائشة في التقاء الختانين، وهو قولها: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله ﷺ فاغتسلنا، على خبر أبي هريرة، وهو قوله ﷺ: “إنما الماء من الماء”، وذلك لأن أزواج النبي ﷺ وخصوصا عائشة أعلم بفعله في هذه الأمور من الرجال الأجانب”([90]).

وقال ابن النجار(ت972هـ) في “شرح مختصر التحرير”: ” وقد رجحت الصحابة قولَ عائشة-رضي الله تعالى عنها- في التقاء الختانين: فعلته أنا ورسول الله ﷺ، على ما رواه الجماعة عن النبي ﷺ: “إنما الماء من الماء”؛ لكونها أعرف بذلك منهم”([91]).

المبحث الثالث

تطبيق قاعدة الترجيح بصاحب القصة على مسألة القود في القتل بالمثقَّل

اختلف الفقهاء في مسألة القتل بالمثقل، كما لو قتل رجلٌ آخر بمثقّل غير السلاح الذي له حدٌّ يجرح، كالقتل بالحجر أو العصا أو نحوهما، هل يعد من باب القتل العمد الموجب للقصاص، أو يعدُّ من قبيل القتل شبه العمد الموجب للدية دون القود؟!. اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول:

وهو قول الإمام أبي حنيفة -رحمه الله-، ويرى أن القاتل لو تعمَّد ضرب المقتول بغير سلاحٍ مما له حدٌّ قاطعٌ وجارح، كقتله بالحجر والعصا وغيرهما من الأمور الثقيلة، سواء كانت مما يقتل مثلها أو لا – فإنه لا قود ولا قصاص على القاتل في هذه الحالة، وإنما يجب عليه الدية المغلظة؛ لأن القصاص عنده لا يجب إلا في القتل بالسلاح([92]).

المذهب الثاني:

وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية([93]) والشافعية([94]) والحنابلة([95])، وقول الصاحبين من الحنفية- أبي يوسف ومحمد بن الحسن([96])– ويرون وجوب القصاص على القاتل في تلك الحالة إذا كان المثقل المستخدم في القتل مما يقتل غالبا.

سبب الخلاف في المسألة:

وكان مما أحدث الخلاف في تلك المسألة تعارض الأحاديث الواردة في هذا الباب في قصة اقتتال امرأتين من هذيلٍ وضَرْبِ إحداهما للأخرى بحجرٍ، وقتلتها إياها به، وتعارض قضاء النبي ﷺ في تلك الواقعة.

ففي حديث مسلم عن المغيرة بن شعبة-رضي الله عنه- أنه قال: “ضربت امرأةٌ ضَرَّتها بعمودِ فسطاط وهي حبلى، فقتلتها، قال: وإحداهما لحيانية، قال: فجعل رسول الله ﷺ ديةَ المقتولة على عصبة القاتلة، وغُرَّةً لما في بطنها”([97])، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال: “اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجرٍ، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي ﷺ، فقضى أن دية جنينها غُرَّة، عبدٍ أو وليدة، وقضى أن ديةَ المرأة على عاقلتها”([98])، فمن تمسك بهذه الأحاديث قال: إنها تخبر أن النبي ﷺ لم يقتل المرأة القاتلة بالحجر ولا بعمود الفسطاط، وعمود الفسطاط يقتل مثلُه، فدلَّ ذلك على أنه لا قود على من قتل بخشبةٍ، وإن كان مثلُها يقتل([99]).

بينما ورد في أحاديث أخرى في نفس الواقعة ما يقضي بخلاف ذلك، فروى عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن “عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-نشد الناسَ قضاءَ رسول الله ﷺ في الجنين، فقام حَمَل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين امرأتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها، وقتلت جنينها، فقضى رسول الله ﷺ في الجنين بغرة عبدٍ، وأن تقتل بها”([100])، فقوله: “وأن تقتل”، يفيد وجوب القود على المرأة القاتلة، وقد روى ذلك صاحب القصة ومباشرها، وهو حَمَل بن مالك -رضي الله عنه-وكان زوجًا للمرأتين.

فتمسك الجمهور برواية حَمَل ورجحوها على رواية أبي هريرة والمغيرة؛ لأنه أعرف بالواقعة منهم؛ لأنه باشرها، قال الماوردي في “الحاوي” مستدلًّا لمذهب الشافعي والجمهور في المسألة، ومرجِّحًا لحديث حمل بن مالك على حديث المغيرة: “ولا يعارض حديث المغيرة؛ لأنه أجنبي من المرأتين، وحَمَل بن مالك زوجُ الضرتين، فكان بحالهما أعرف”([101]).

بينما رجَّح الحنفية حديثي أي هريرة والمغيرة بمرجحات خارجية، وتأولوا حديث حمل بأمور عدة، منها القول باختلاف الواقعتين، فواقعة المغيرة وأبي هريرة كانت بعمود خشبٍ لا قود فيه، وقصة حمل بن مالك كانت بعمود محدَّد يشبه السلاح، فقضى النبي فيه بالقود ([102])، قالوا: “وإن كان الخبران وردا في قصة واحدة، فجائز أن يكونوا أخبروا النبي ﷺ أنها قتلتها بالعمود ضربًا، فلم يوجب فيه قودًا، ثم أخبر أنها بعجتها به، فأوجب فيه القود، فكان جواب النبي ﷺ على حسب ما ظهر من سؤال القوم”([103]).

المبحث الرابع

تطبيق قاعدة الترجيح بصاحب القصة على مسألة نوع الخلع فسخٌ أو طلاق

اختلف الفقهاء رحمهم الله في اعتبار الخلع فسخًا أو طلاقًا، ويترتب على هذا الاختلاف عندهم مدى احتساب الخلع في عدد التطليقات من عدمه، قال ابن رشد-رحمه الله-: “فائدة الفرق -أي بين القولين-: هل يعتدُّ به في التطليقات أم لا؟”([104])، فمن رأى أنه فسخٌ فلا أثر له في عدد التطليقات عنده، بحيث يجوز عنده تجديد النكاح بعده من غير حصرٍ، ومن رأى أنه طلاقٌ، فلا بدّ من احتسابه في العدد، بحيث لو خالعها ثلاث مرات، لم ينكحها إلا بمحلِّل، ولو خالعها مرة واحدة لا تعود إليه إلا بنكاحٍ جديد.

أقوال الفقهاء في المسألة:

اختلف فقهاء المذاهب الأربعة في نوع الخلع على مذهبين:

المذهب الأول:

وهو مذهب الحنفية ([105]) والمالكية ([106])، والشافعية –في الجديد- وهو اختيار المزني- رحمه الله- منهم([107]) – رحمهم الله-، ويرون فيه أن الخلع طلاقٌ وليس فسخا، ويقع عندهم طلقةً واحدةً بائنةً، لا رجعية؛ لأنه لو كان للزوج الحقّ في مراجعتها أثناء عدتها، لم يكن لافتدائها منه بالمال معنى([108])، فكان بائنا لا رجعيا، وحكوا أن ذلك مذهب علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعثمان بن عفان- رضي الله عنهم- من الصحابة، قالوا: وبه قال الحسن، وإبراهيم النخعي، وعطاء، وسعيد بن المسيب، وشريح، والشعبي، ومجاهد، ومكحول، وسفيان الثوري، وغيرهم ([109]).

المذهب الثاني:

والمذهب الثاني في المسألة هو مذهب الشافعي- في القديم- والمعتمد في المذهب عند الحنابلة([110])-رحمهم الله-، ويرون فيه أن الخلع فسخٌ لا طلاقٌ، وحكوا ذلك عن عبد الله بن عمر، وابن عباس- رضي الله عنهم- من الصحابة([111])، وعن طاوس وعكرمة وإسحاق وأبي ثور- رضوان الله عليهم- من التابعين([112])، وإلى نصرة هذا القول ذهب الشيخ أبو حامد المروزي- رحمه الله- من الشافعية، وذهب أبو مخلد البصري- رحمه الله- من الشافعية أيضا إلى القول بأن الفتوى عليه([113]).

سبب الخلاف في المسألة:

وسبب اختلاف الفقهاء رحمهم الله في تلك المسألة هو تعارض الأحاديث الواردة في الباب في قصة خلع امرأة ثابت بن قيس، وقد كان أوَّل خلعٍ في الإسلام، واختلفت الروايات فيه.

ففي الصحيح من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما-: “أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي ﷺ، فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: أترُدِّين عليه حديقته؟، قالت: نعم، قال رسول الله ﷺ: اقبل الحديقةَ، وطلِّقها تطليقة”([114]).

فتمسك أصحاب القول الأول القائلون بأن الفسخ طلاق، برواية ابن عباس في هذا الحديث، وبقول النبي ﷺ فيها: “اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقة”، وقالوا: إن أمر النبي ﷺ له بتطليقها يدلُّ على أن الخلع طلاقٌ([115]).

بينما ورد في القصة ما يعارض ذلك، كحديث ابن عباس- رضي الله عنهما- عند الترمذي وغيره: “أن امرأة ثابت بن قيسٍ اختلعت من زوجها على عهد النبي ﷺ، فأمرها النبي ﷺ أن تعتدَّ بحيضة”([116]).

والحديث يدلّ على أن الخلع فسخٌ لا طلاقٌ؛ لأنه لو كان طلاقًا، لوجب عليها أن تعتدَّ عدة المطلقات بثلاثة أقراء، لا بحيضة واحدة، قال الخطابي- رحمه الله- (ت 388هـ): “هذا أدلُّ شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق، وذلك أن الله تعالى قال: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ) [البقرة: 228]، فلو كانت مطلقةً لم يقتصر لها على قرءٍ واحد”([117]).

كما ورد-أيضا- من حديث حبيبة بنت سهل الأنصاري- وهي صاحبة القصة وزوجة ثابت بن قيس- “أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله ﷺ خرج إلى الصبح، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول الله: من هذه؟، فقالت: أنا حبيبة بنت سهل يا رسول الله، قال: ما شأنك؟، قالت: لا أنا، ولا ثابت بن قيس، لزوجها، فلما جاء زوجها ثابت بن قيس، قال له رسول الله ﷺ: هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر، فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي، فقال رسول الله ﷺ لثابت بن قيس: خذ منها، فأخذ منها، وجلست في أهلها”([118])، والحديث يدلُّ على كون الخلع فسخًا لا طلاقا؛ لأن النبي ﷺ لم يذكر فيه لفظ الطلاق، ولم يراعِ فيه شروطه، وغاية ما في الأمر أنه أمرها بفراقه والجلوس عند أهلها، مما يدلّ على أنه فسخٌ.

قال الخطابي- رحمه الله- معلقا على هذا الحديث: “في هذا الحديث دليلٌ على أن الخلعَ فسخٌ وليس بطلاق، ولو كان طلاقا لاقتضي فيه شرائط الطلاق، من وقوعه في طهرٍ لم تمس فيه المطلقة، ومن كونه صادراً من قبل الزوج وحده من غير مرضاة المرأة، فلما لم يتعرف النبي ﷺ الحالَ في ذلك، فأذن له في مخالعتها في مجلسه ذلك، دلَّ على أن الخلع فسخٌ وليس بطلاق، ألا ترى أنه لما طلق ابن عمر زوجته وهي حائض، أنكر عليه ذلك وأمر بمراجعتها وإمساكها حتى تطهر فيطلقها طاهراً قبل أن يمسها”([119]).

ولحديث حبيبة هذا لفظٌ آخر عند الدارمي وغيره أن النبي ﷺ قال لثابت: «خذ منها، وخلِّ سبيلها» فقالت: يا رسول الله، عندي كل شيء أعطانيه، فأخذ منها، وقعدت عند أهلها”([120])، فقوله ﷺ: “خلِّ سبيلها” دليلٌ على أنه فسخٌ أيضا.

مسلك الترجيح برواية صاحب القصة في هذه المسألة:

سلك بعض العلماء-رحمهم الله-في هذه المسألة مسلك الترجيح برواية صاحب القصة، وهي هنا حبيبة بنت سهل الأنصاري، وقد كانت زوجة ثابت بن قيس، والقصة لها، وهي الأدرى بحالها، فتعين ترجيح خبرها، قال الشوكاني- رحمه الله-: “احتج القائلون بأنه طلاقٌ بما وقع في حديث ابن عباس المذكور من أمره ﷺ لثابت بالطلاق. وأجيب بأنه ثبت من حديث المرأة صاحبة القصة عند أبي داود والنسائي ومالك في الموطأ بلفظ: «وخلِّ سبيلها»، وصاحب القصة أعرف بها”([121]).

المبحث الخامس

تطبيق قاعدة الترجيح بصاحب القصة على مسألة صوم الجنب

تعارضت الأحاديث والأخبار في مسألة صيام من أجنب بالجماع وطلع عليه الفجر قبل أن يغتسل، هل يصح صومه أو لا؟!..

ففي الحديث عن أبي هريرة-رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله ﷺ: “إذا نودي للصلاةِ صلاةِ الصبحِ وأحدُكم جنب فلا يصم يومئذ”([122])، وهو صريحٌ في عدم صحة صوم من أصح جنبا.

بينما روي عن عائشة وأم سلمة زوجي النبي ﷺ أنهما قالتا: “إن كان رسول الله ﷺ ليصبح جنبًا من جماعٍ غير احتلام في رمضان، ثم يصوم”([123])، وهو صريحٌ في صحة صومه.

أقوال العلماء في المسألة:

ذهب عامة فقهاء الأمصار وأئمة المذاهب- رحمهم الله-إلى القول بصحة صوم من أفطر جنبا ولم يغتسل، وحكى ابن بطال- رحمه الله- (ت 449) الإجماعَ فيه، فقال: “وأجمع فقهاء الأمصار على الأخذ بحديث عائشة وأم سلمة في من أصبح جنبا، أنه يغتسل ويتم صومه”([124])، وقال ابن عبد البر- رحمه الله- (ت 463هـ): “الذي عليه فقه جماعة الأمصار بالعراق والحجاز، القولُ بحديث عائشة وأم سلمة عن النبي ﷺ أنه كان يصبح جنبا ويصوم ذلك اليوم، وهو قول علي وبن مسعود وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي ذر وعبد الله بن عمر وابن عباس، ومن الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي والليث وأصحابهم، وأحمد وأبو ثور وإسحاق وبن علية وأبو عبيد وداود والطبري وجماعة أهل الحديث”([125]).

ولم يخالف في هذا إلا قلةٌ من العلماء، كأبي هريرة-رضي الله عنه- قبل علمه برواية عائشة، وروي عن إبراهيم النخعي وعروة بن الزبير وطاوس أن الجنب في رمضان إذا علم بجنابته، فلم يغتسل حتى يصبح، فهو مفطرٌ، وإن لم يعلم حين يصبح فهو صائم([126])، وروي عن الحسن البصري وسالم بن عبد الله أنهما قالا: يتمّ صومَه في ذلك اليوم ويقضيه([127])، وروي عن بعض العلماء كإبراهيم النخعي وغيره التفرقة بين صوم التطوع والفريضة، فصححوه في التطوع وأبطلوه في الفرض([128]).

والراجح في المسألة صحة صومه مطلقا كما هو مذهب العامة من أهل العلم.

مسالك العلماء في الرد على حديث أبي هريرة:

بعد أن مال عامة أهل العلم إلى رواية السيدة عائشة وأم سلمة-رضي الله عنهما- وقالوا بصحة صوم من أصبح جنبا على الإطلاق- لزمهم الرد على حديث أبي هريرة- رضي الله عنها-، وقد سلكوا في ذلك مسالك عدة:

المسلك الأول:

القول بأن حديث أبي هريرة حديثٌ مرجوحٌ، قد عورض بما هو أرجح منه، وهو حديث عائشة وأم سلمة -رضي الله عنهما-، وهما من زوجات النبي ﷺ والأعلم بحاله، فلزم المصير إلى روايتهما، وهذا المسلك محكي عن الإمامين البخاري والشافعي، كما أفاده العراقي في “شرح التقريب”، فقال:

“(وثانيها)-أي ثاني المسالك في الرد على حديث أبي هريرة-: أنه مرجوح قد عارضه ما هو أصح منه، فيقدم عليه، ذهب إلى هذا البخاري… وذهب إليه الشافعي فقال: فأخذنا بحديث عائشة وأم سلمة زوجتي النبي ﷺ دون ما روى أبو هريرة عن رجلٍ عن رسول الله ﷺ لمعان:

(منها) أنهما زوجتاه، وزوجتاه أعلم بهذا من رجل إنما يعرفه سماعا أو خبرا.

(ومنها) أن عائشة مقدمةٌ في الحفظ، وأن أم سلمة حافظةٌ، ورواية اثنين أكثر من رواية واحد… الخ”([129]).

وقد ورد في السنة ما يفيد برجوع أبي هريرة نفسه إلى قولهما؛ لأنهما أزواج النبي ﷺ وهن الأعلم بحاله، قال الخطابي: “كان أبوهريرة يفتي بأن من أصبح جنبا فلا صوم له، وكان يرويه عن رسول الله ﷺ، فلما بلغه حديث عائشة وأم سلمة قال: هما أعلم بذلك، إنما أخبرنيه الفضل بن العباس عن النبي ﷺ”([130]).

ففي الصحيح عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أنه أخبر مروان، أن عائشة، وأم سلمة أخبرتاه أن رسول الله ﷺ كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل، ويصوم، وقال مروان لعبد الرحمن بن الحارث: أقسم بالله لتقرعَنَّ بها أبا هريرة، ومروان يومئذ على المدينة، فقال أبو بكر: فكره ذلك عبد الرحمن، ثم قدر لنا أن نجتمع بذي الحليفة، وكانت لأبي هريرة هنالك أرض، فقال عبد الرحمن لأبي هريرة: إني ذاكرٌ لك أمرا، ولولا مروان أقسم عليَّ فيه لم أذكره لك، فذكر قول عائشة، وأم سلمة، فقال: كذلك حدثني الفضل بن عباس، وهنَّ أعلم”([131]).

المسلك الثاني:

ومن العلماء من سلك مسلك النسخ ورأى أن حديث أبي هريرة منسوخٌ بحديث عائشة وأم سلمة، ومال إلى هذا الخطابي- رحمه الله-، فقال: “أحسن ما سمعت في تأويل ما رواه أبو هريرة في هذا، أن يكون ذلك محمولا على النسخ، وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرما على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر، جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم لارتفاع الحظر المتقدم، فيكون تأويل قول من أصبح جنبا فلا يصوم، أي: من جامع في الصوم بعد النوم، فلا يجزئه صوم غده؛ لأنه لا يصبح جنبا إلاّ وله أن يطأ قبل الفجر بطرفة عين، فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن العباس على الأمرالأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة صار إليه”([132]).

المسلك الثالث:

وهو مسلك الجمع والتوفيق بين الأخبار، بحيث يحمل حديث أبي هريرة على أن المقصود به من أصبح مجامعًا، فلا صوم له، وهو مسلك حكاه الخطابي بقوله: “وقد يتأول ذلك -أيضاً- على وجهٍ آخر من حيث لا يقع فيه النسخ ، وهو أن يكون معناه” من أصبح مجامعا فلا صوم له، والشيء قد يسمى باسم غيره إذا كان مآله في العاقبة إليه”([133]).

الخاتمة:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

ففي ختام تلك الدراسة ينغي التأكيد على مجموعة من النتائج الهامة، منها ما يلي:

أولا: لا تعارض بين أخبار النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة في واقع الأمر وحقيقته، وما يلحظ من تعارض بينها في ظاهر الأمر، فمردُّ باتفاق العلماء إلى أفهام المجتهدين وأنظارهم.

ثانيا: ينشأ التعارض الظاهري بين الأخار الصحيحة لأسبابٍ عدة، أبرزها جهل الناظر في الأحاديث بالناسخ والمنسوخ وعدم علمه بتاريخ الأحاديث، أو قصورٌ في فهمه بحيث لا يستطيع معه التوفيق بين الأحاديث المشكلة، أو غياب أمرٍ من الأمور المتعلقة بالحديث عنه، أدى إلى ظهور التعارض في نظره.

ثالثا: منهج المحدثين وعامة الفقهاء في التعامل مع الأحاديث المتعارضة ينبني على محاولة الجمع والتوفيق إن أمكن، وإلا فالنظر في إمكانية النسخ، فإن تعذر فالمنهج المتبع هو الترجيح بينها.

رابعا: عملية الترجيح بين الأحاديث المتعارضة في الظاهر لا يقوم بها إلا المجتهدون من الفقهاء والعلماء.

خامسا: سلك المحدثون والفقهاء في الترجيح بين الأخبار المتعارضة مسالك عدَّة، منها ما يتعلق بالأسانيد، ومنها ما يتعلق بالمتون، ومنها ما يتعلق بأمور خارجة عن الأحاديث محل التعارض.

سادسا: زادت وجوه الترجيح عند الفقهاء والمحدثين على المائة وجهٍ من الوجوه المعتبرة عندهم، وإن كان ثمت خلاف بينهم في آحادها.

سابعا: يعدّ الترجيح برواية صاحب القصة والمباشر لها من أهم وجوه الترجيح المعتبرة عند المحدثين وجمهور الفقهاء والأصوليين.

ثامنا: يعد الترجيح برواية صاحب القصة من وجوه الترجيح المتعلقة بحال الراوي والمتعلقة بالأسانيد.

تاسعا: أثرت قاعدة الترجيح برواية صاحب القصة في الفقه الإسلامي تأثيرا بالغا؛ وأحدثت اختلافا ملحوظا بين الفقهاء في العديد من الفروع الفقهية.

وأخيرا، فإن هذه الدراسة تؤكد لنا مدى انضباط عملية الاجتهاد والاستدلال عند الفقهاء-رحمهم الله-، وكيف كانت تبنى عندهم على قواعد معتبرة، وأصول ممهدة، وكيف كان لكل مذهب دليله وأصله الذي اعتمده في المسألة، فما ترك أحدهم حديثا إلا بحديث، وما ترك أحدهم دليلا إلا بدليل، وهكذا كان الدليل هو المبتغى عند الجميع، والكل في الفروع مصيبٌ، ولا ينكر أمرٌ مختلفٌ فيه في الفروع بينهم.

شكر:

وفي ختام هذه الدراسة، فإننا نتوجه بالشكر والتقدير إلى عمادة البحث العلمي بجامعة حائل بالمملكة العربية السعودية على دعمها لهذه الدراسة ضمن المشروع البحثي رقم (0150417).

المراجع:

– الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، د.ت.

– الاختيار لتعليل المختار، للموصلي، بتعليقات الشيخ محمود أبو دقيقة، ط. مطبعة الحلبي، القاهرة، 1356هـ 1937م.

– إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، الشوكاني، تحقيق: الشيخ أحمد عزو عناية، ط. دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 1419هـ 1999م.

– الاستذكار، لابن عبد البر، تحقيق: سالم محمد عطا، محمد علي معوض، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1421هـ 2000م.

– الإشارة في أصول الفقه، لأبي الوليد الباجي، تحقيق: محمد حسن إسماعيل، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1424هـ 2003م.

– أصول السرخسي، شمس الأئمة السرخسي، ط. دار المعرفة، بيروت، د.ت.

– الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، لأبي بكر الحازمي، ط. دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الطبعة الثانية، سنة 1359هـ.

– ألفية العراقي المسماة بـ: التبصرة والتذكرة في علوم الحديث”، زين الدين العراقي، ط. مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الثانية 428 هـ.

– الأم، للإمام الشافعي، ط. دار المعرفة، بيروت، سنة 1410هـ 1990م.

– البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي (8/119) ط. دار الكتبي، الطبعة الأولى، 1414هـ -1994م.

– بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد، ط. دار الحديث، القاهرة، د.ط.، سنة 1425هـ 2004م.

– بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الكاساني، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ 1986م.

– البرهان في أصول الفقه، للجويني، تحقيق: صلاح عويضة، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1418 هـ1997م.

– البناية على الهداية، لبدر الدين العيني، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1420هـ 2000م.

– بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب، لأبي الثناء الأصفهاني، تحقيق: محمد مظهر بقا، ط. دار المدني، السعودية، الطبعة الأولى 1406هـ 1986م.

– التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، علاء الدين المرداوي، تحقيق: د. عبد الرحمن الجبرين، د. عوض القرني، د. أحمد السراح، ط. مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1421هـ 2000م.

– تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول، علاء الدين المرداوي، تحقيق: عبد الله عبد العزيز عقيل، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، الطبعة الأولى 1434 هـ2013م.

– تحفة الفقهاء، لعلاء الدين السمرقندي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1414هـ 1994م.

– تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، السيوطي، تحقيق: نظر محمد الفاريابي، ط. دار طيبة، د.ت

– التعارض والترجيح عند الأصوليين وأثرهما في الفقه الإسلامي، د. إبراهيم الحفناوي، ط. دار الوفاء، المنصورة، مصر، الطبعة الثانية 1408هـ 1987م.

– التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث، النووي، تحقيق: محمد عثمان الخشت، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ 1985م.

– التقرير والتحبير لابن أمير الحاج على تحرير كمال الدين ابن الهمام، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ 1983م.

– تقويم الأدلة في أصول الفقه، أبو زيد الدبوسي، تحقيق: خليل الميس، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1421هـ 2001م.

– التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، زين الدين العراقي، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، ط. محمد عبد المحسن الكتبي صاحب المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1389هـ1969م.

– الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، للشيخ صالح الآبي، ط. المكتبة الثقافية، بيروت، د.ت.

– الحاوي الكبير للماوردي، تحقيق: علي معوض، وعادل عبد الموجود، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1419هـ 1999م.

– الخلاصة في معرفة الحديث، شرف الدين الطيبي، ط. المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، سنة 1430 هـ2009م.

– روضة الناظر وجُنَّة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ابن قدامة، ط. مؤسسة الريّان للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1423هـ-2002م.

– زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، ط. مؤسسة الرسالة-بيروت-الطبعة السابعة والعشرون سنة 1415هـ 1994م.

– الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح، أبو إسحاق الأبناسي، تحقيق: صلاح فتحي هلل، ط. مكتبة الرشد، الطبعة الأولى 1418هـ 1998م.

– شرح الرسالة، لأبي محمد عبد الوهاب بن نصر الثعلبي، ط. دار ابن حزم، الطبعة الأولى 1428هـ 2007م.

– شرح ألفية العراقي، لأبي الفضل العراقي، تحقيق: عبد اللطيف الهميم، ماهر ياسين فحل، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1423هـ 2002م.

– شرح الكوكب المنير، لابن النجار الفتوحي، تحقيق: محمد الزحيلي، ونزيه حماد، ط. مكتبة العبيكان، الطبعة الثانية 1418هـ 1997م.

– شرح صحيح البخاري، لابن بطال، تحقيق: ياسر بن إبراهيم، ط. مكتبة الرشد، السعودية، الطبعة الثانية 1423هـ 2003م.

– شرح مختصر الطحاوي، للجصاص، تحقيق: د. عصمت الله عنايت الله محمد، وآخرون، ط. دار البشائر الإسلامية، الطبعة الأولى 1431هـ 2010م.

– شرح معاني الآثار، للطحاوي، تحقيق: محمد زهري النجار، ومحمد سيد جاد الحق، ط. عالم الكتب، الطبعة الأولى 1414هـ 1994م.

– طرح التثريب شرح التقريب، للعراقي (4/124) ط. دار إحياء التراث العربي، د.ت.

– العدة في أصول الفقه، أبو يعلى الفراء، تحقيق: د أحمد بن علي المباركي، د.ط.، الطبعة الثانية 1410هـ 1990م.

– العزيز شرح الوجيز، للرافعي، تحقيق: علي محمد عوض، عادل عبد الموجود، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ 1997م،

– الفصول في الأصول، الجصاص، ط. وزارة الأوقاف الكويتية، الطبعة الثانية، سنة 1414هـ 1994م.

– قواطع الأدلة في الأصول، ابن السمعاني، تحقيق: محمد حسن إسماعيل، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1418هـ1999م.

– قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، جمال الدين القاسمي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت.

– قواعد الترجيح عند الأصوليين وأثرها في الفقه الإسلامي، د. إسماعيل محمد عبد الرحمن، بحث منشور بمجلة البحوث القانونية والاقتصادية، كلية الحقوق، جامعة المنصورة، ع 45، سنة 2009.

– كفاية النبيه في شرح التنبيه، لابن الرفعة، تحقيق: مجدي محمد سرور باسلوم، ط. دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، سنة 2009م.

– اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، علي بن أبي يحيى الخزرجي، تحقيق: د. محمد فضل عبد العزيز المراد، ط. دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية، 1414هـ 1994م.

– اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 2003م-1424هـ.

– المبسوط، للسرخسي، ط. دار المعرفة، بيروت، سنة 1414هـ 1993م، المغني لابن قدامة (1/150).

– المحصول، لفخر الدين الرازي، تحقيق: د. طه جابر العلواني، ط. مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1418هـ 1997م.

– المختصر الفقهي، لابن عرفة، تحقيق: حافظ عبد الرحمن محمد، ط. مؤسسة خلف أحمد الخبتور للأعمال الخيرية، الطبعة الأولى 1435هـ 2014م.

– المستصفى، للغزالي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1413هـ 1993م.

– المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط. دار الكتاب العربي، د.ت.

– معالم السنن، للخطابي، ط. المطبعة العلمية، حلب، الطبعة الأولى 1351هـ 1932م

– المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين البَصْري، تحقيق: خليل الميس، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى سنة1403هـ.

– معجم العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، ط. دار الهلال، د.ت.

– معرفة أنواع علوم الحديث أو مقدمة ابن الصلاح، ابن الصلاح عثمان بن عبد الرحمن، تحقيق: نور الدين عتر، ط. دار الفكر-سوريا-سنة 1406هـ -1986م.

– المعونة على مذهب عالم المدينة، للقاضي عبد الوهاب، تحقيق: حميش عبد الحقّ، ط. المكتبة التجارية، مصطفى أحمد الباز، مكة المكرمة، د.ت.

– المغني شرح مختصر الخرقي، ابن قدامة، ط. مكتبة القاهرة، سنة 1388هـ 1968م.

– منهاج الوصول إلي علم الأصول، للقاضي البيضاوي، مع شرح الإبهاج في شرح المنهاج، لتقي الدين السبكي وولده تاج الدين ابن السبكي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1416هـ1995م.

– المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي، لابن جماعة، تحقيق: د. محيي الدين عبد الرحمن رمضان، ط. دار الفكر-دمشق-الطبعة الثانية 1406هـ.

– المهذب في علم أصول الفقه المقارن، د. عبد الكريم النملة، ط. مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1420هـ 1999م.

– نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: عبد الله بن ضيف الله الرحيلي، ط. مطبعة سفير بالرياض، الطبعة الأولى، 1422هـ.

– نفائس الأصول في شرح المحصول، للقرافي، تحقيق: عادل عبد الموجود، وعلي معوض، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة الأولى 1416هـ 1995م.

– النكت على كتاب ابن الصلاح، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: ربيع بن هادي المدخلي، ط. عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى 1404هـ1984م.

– نهاية السول شرح منهاج الوصول، جمال الدين الإسنوي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1420هـ1999م.

– نهاية الوصول في دراية الأصول، صفي الدين الأرموي، تحقيق: د. صالح بن سليمان اليوسف، د. سعد بن سالم السويح، ط. المكتبة التجارية بمكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1416 هـ1996م.

– نيل الأوطار، للشوكاني، تحقيق: عصام الدين الصبابطي، ط. دار الحديث، مصر، الطبعة الأولى 1413هـ 1993م.

– الواضح في أصول الفقه، أبو الوفاء ابن عقيل، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1420هـ 1999م.

الهوامش:

  1. () زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية (4/138).
  2. () أصول السرخسي، شمس الأئمة السرخسي (2/12).
  3. () التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، علاء الدين المرداوي (8/4141).
  4. () معرفة أنواع علوم الحديث أو مقدمة ابن الصلاح، لابن الصلاح (ص 284-286).
  5. () المصدر السابق (ص 285).
  6. () التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث، للنووي (ص 90).
  7. () يقصد الشيخ: أننا إذا وجدنا حديثين مختلفي الظاهر، وأمكن الجمعُ بينهما بوجهٍ ينفي الاختلاف بينهما، صار الجمعُ حينئذٍ متعيَّنا، وضرب مثالا لحديث النبي ﷺ: “لا يُورَدُ ممرضٌ على مُصِحٍّ” وحديث: “فِرّ من المجذومِ فرارَك من الأسد”، حيث بدا في الظاهر تعارضهما مع قوله ﷺ: “لَا َعْدوى ولا طِيَرة”، لكن منهج التوفيق يقتضي حمل حديث نفي العدوى، على ما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها، وهو أمرٌ منفيٌّ شرعا، لأن الله-تعالى- هو الخالق لذلك بسببٍ وغير سبب، وأن قوله: “لا يورد ممرض على مصح”، وقوله: “فر من المجذوم”، بيانٌ لما يخلقه الله من الأسباب عند المخالطة للمريض، فلا تعارض (شرح ألفية العراقي، لأبي الفضل العراقي (2/109)).
  8. () يعني: أنه إن لم يكن التوفيق والجمع بين الحديث، وبدا نسخٌ، فالمصير إليه أولى، وإن لم يبدُ نسخٌ صار اللجوء إلى الترجيح والعمل بالأشبه متعيَّنًا.
  9. () ألفية العراقي المسماة بـ: التبصرة والتذكرة في علوم الحديث”، زين الدين العراقي (ص 163) ط. مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الثانية 428 هـ.
  10. () نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، لابن حجر العسقلاني (ص 97) ـ.
  11. () الإشارة في أصول الفقه، لأبي الوليد الباجي (ص 83).
  12. () اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي (ص 83)ـ.
  13. () قواطع الأدلة في الأصول، لابن السمعاني (1/404).
  14. () عرف الأصوليون التعارضَ بتعريفات كثيرة، منها أنه “تقابل الدليلين على سبيل الممانعة ” (تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول، علاء الدين المرداوي (ص 348)، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني (2/258).
  15. () عبر بهذا المصطلح بعضُ متقدمي الأصوليين من الحنفية، كأبي زيد الدبوسي والسرخسي-رحمهما الله-، وفسروا المعارضة بأنها: الممانعة بين الحجج على سبيل المقابلة، قالوا: وسميت المعارضة بين الحجج معارضةً؛ لأنها تقوم متقابلة متمانعة لا يمكن الجمع بينهما (ينظر: تقويم الأدلة في أصول الفقه، أبو زيد الدبوسي (ص214).
  16. () التعادل هو مصطلح الإمام الرازي في المحصول [5/377]، وتبعه فيه جماعةٌ، وعرفه الشوكاني بقوله: “التعادل هو التساوي، وفي الشرع استواء الأمارتين” (إرشاد الفحول 2/257).
  17. () عرف المحدِّثون مصطلح “مختلِف الحديث”-بكسر اللام-بأنه: “أن يُوجد حديثان متضادان في المعنى في الظَّاهِر، فَيجمع أَو يرجح أَحدهما” (المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي، لابن جماعة (ص 60)، الخلاصة في معرفة الحديث، شرف الدين الطيبي، (ص 65).
  18. () معجم العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، مادة (ر ج ح) (3/78).
  19. () المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين البَصْري (2/299).
  20. () البرهان في أصول الفقه، للجويني (2/175).
  21. () المحصول، لفخر الدين الرازي (5/397).
  22. () منهاج الوصول إلي علم الأصول، للقاضي البيضاوي، مع شرح الإبهاج في شرح المنهاج، لتقي الدين السبكي وولده تاج الدين ابن السبكي (3/208).
  23. () ينظر: التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج على تحرير كمال الدين ابن الهمام (3/17)، نفائس الأصول في شرح المحصول، للقرافي (8/3667)، البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي (8/145)، تحرير المنقول وتهذيب الأصول، للمرداوي (ص 347).
  24. () نهاية السول شرح منهاج الوصول، جمال الدين الإسنوي (ص 374).
  25. () الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي (4/239).
  26. () ينظر: بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب، لأبي الثناء الأصفهاني (3/371).
  27. () نهاية السول 375.
  28. () نهاية الوصول في دراية الأصول، صفي الدين الأرموي (8/3647 وما بعدها).
  29. () المهذب في علم أصول الفقه المقارن، د. عبد الكريم النملة (5/2423)، قواعد الترجيح عند الأصوليين وأثرها في الفقه الإسلامي، د. إسماعيل محمد عبد الرحمن، بحث منشور بمجلة البحوث القانونية والاقتصادية، كلية الحقوق، جامعة المنصورة، ع 45، سنة 2009، ص 463.
  30. () التعارض والترجيح عند الأصوليين وأثرهما في الفقه الإسلامي، د. إبراهيم الحفناوي (ص 288).
  31. () نهاية الوصول في دراية الأصول (8/3654)، نفائس الأصول في شرح المحصول، للقرافي (8/3688)، بيان المختصر، للأصفهاني (3/373)، الإحكام للآمدي 4/241، الإبهاج في شرح المنهاج (3/199)، البحر المحيط (8/147)، نهاية السول (ص 374)، المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية (ص 448).
  32. () قال المرداوي في “التحرير” (ص 347): “تعادل قطعيين محال اتفاقا، فلا ترجيح”.
  33. () المستصفى، للغزالي (ص 375).
  34. () تقويم الأدلة للدبوسي (214)، الإحكام للآمدي (4/241)، البحر المحيط (8/120)، التحبير شرح التحرير، لعلاء الدين المرداوي (8/4130).
  35. () أصول السرخسي (2/12)، البحر المحيط (8/121)،
  36. () البحر المحيط (8/121)، التعارض والترجيح للحفناوي (ص 296).
  37. () مقدمة ابن الصلاح (ص 285)، التقريب للنووي (ص 90).
  38. () الإشارة في أصول الفقه، لأبي الوليد الباجي (ص 83)، قواطع الأدلة (1/404)، اللمع للشيرازي (ص 83)، روضة الناظر (2/390، 391).
  39. () ينظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، لأبي بكر الحازمي (ص 9 وما بعدها).
  40. () ينظر: مقدمة ابن الصلاح (ص 286).
  41. () الاعتبار في الناسخ والمنسوخ (ص 22).
  42. () شرح ألفية العراقي 2/113.
  43. () التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، زين الدين العراقي (ص 286).
  44. () المرجع السابق (ص 289).
  45. () تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، السيوطي، (2/659).
  46. () النكت على كتاب ابن الصلاح، لابن حجر العسقلاني (2/712).
  47. () المستصفى (ص 377).
  48. () نيل الأوطار (2/282).
  49. () تدريب الراوي للسيوطي (2/655 وما بعدها)، الإبهاج في شرح المنهاج (3/219 وما بعدها)، نهاية السول للإسنوي (379 وما بعدها)، التعارض والترجيح للحفناوي (ص 307 وما بعدها).
  50. () المحصول للرازي (5/414 وما بعدها).
  51. () الإشارة للباجي (83 وما بعدها)، قواطع الأدلة لابن السمعاني (1/404 وما بعدها)، البحر المحيط (8/168 وما بعدها)، الواضح في أصول الفقه، أبو الوفاء ابن عقيل (5/76 وما بعدها).
  52. () الإشاراة (ص 84).
  53. () قواطع الأدلة (1/407).
  54. () قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، جمال الدين القاسمي (ص 313 وما بعدها)، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/242 وما بعدها)، بيان المختصر للأصفهاني (3/374 وما بعدها).
  55. () أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: النكاح، باب: باب تحريم نكاح المحرم، وكراهة خطبته، ح رقم (1411).
  56. () أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: المغازي، باب: عمرة القضاء، ح رقم (4258)، ومسلم في صحيحه، كتاب: النكاح، باب: باب تحريم نكاح المحرم، وكراهة خطبته، ح رقم (1410).
  57. () الفصول في الأصول، الجصاص (3/161).
  58. () العدة في أصول الفقه، أبو يعلى الفراء (3/1025).
  59. () الاعتبار في الناسخ والمنسوخ (ص 11)، التقييد والإيضاح (ص 286)، الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح، أبو إسحاق الأبناسي (2/473)، تدريب الراوي (2/656).
  60. () المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين البصري (2/179)، الإشارات للباجي ( ص 84)، بيان المختصر (3/371)، المستصفى (ص 377)، الإحكام للآمدي (4/244)، نهاية السول (ص 380)، البحر المحيط (8/174)، الواضح لابن عقيل (5/82)، العدة لأبي يعلى (3/1025)، روضة الناظر (2/394،393).
  61. () الاعتبار في الناسخ والمنسوخ (ص 11)، المستصفى (ص 377)، الإحكام للآمدي (4/244)، الواضح في أصول الفقه (5/82)، العدة في أصول الفقه (3/1026).
  62. () المعتمد (2/180).
  63. () الإشارات للباجي (ص 84).
  64. () الإحكام للآمدي 4/244، البحر المحيط (8/174)، العدة لأبي يعلى (3/1025)، الواضح لابن عقيل (5/82).
  65. () العدة لأبي يعلى (3/1026،1025)، الواضح لابن عقيل (5/82).
  66. () المصدران السابقان.
  67. () شرح الرسالة، لأبي محمد عبد الوهاب بن نصر الثعلبي (2/214)، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد (3/69)، الأم، للإمام الشافعي (5/84)، المغني شرح مختصر الخرقي، لابن قدامة (3/307).
  68. () بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني (2/310).
  69. () شرح مختصر الطحاوي، للجصاص (4/369).
  70. () سبق تخريجه.
  71. () أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي ح رقم (4259)، ومسلم في كتاب النكاح ح رقم (1410).
  72. () سبق تخريجه.
  73. () ينظر: بداية المجتهد (3/69).
  74. () المغني لابن قدامة (3/307).
  75. () ينظر: الواضح لابن عقيل (2/177)، كفاية النبيه في شرح التنبيه، لابن الرفعة (7/203).
  76. () شرح الرسالة للثعلبي (2/215)، كفاية النبيه (7/203).
  77. () كفاية النبيه (7/203).
  78. () التقرير والتحبير (3/31).
  79. () بدائع الصنائع (2/310).
  80. () ينظر: التقرير والتحبير (3/11،10).
  81. () شرح مختصر الطحاوي للجصاص (1/406)، المبسوط للسرخسي (1/،69،68)، المغني لابن قدامة (1/150).
  82. () المبسوط للسرخسي (1/69).
  83. () الحاوي الكبير للماوردي (1/208).
  84. () المبسوط (1/68).
  85. () ينظر: تحفة الفقهاء، لعلاء الدين السمرقندي (1/127)، الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، للشيخ صالح الآبي (ص 32)، الحاوي للماوردي (1/208)، المغني لابن قدامة (1/149).
  86. () أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الحيض، باب إنما الماء من الماء، ح رقم (343).
  87. () أخرجه أحمد في مسنده من حديث عائشة، ح رقم (25281)، والترمذي في سننه، أبواب الطهارة / باب ما جاء إذا التقى الختانان وجب الغسل، ح رقم (109) وقال: حسن صحيح.
  88. () شرح مختصر الطحاوي للجصاص (1/405).
  89. () أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين ح رقم (349).
  90. () نهاية السول (ص 375).
  91. () شرح الكوكب المنير، لابن النجار الفتوحي (4/620).

  92. () شرح مختصر الطحاوي للجصاص (5/419،418)، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، علي بن أبي يحيى الخزرجي (2/712).
  93. () المختصر الفقهي، لابن عرفة (9/527).
  94. () الحاوي للماوردي (12/73،72).
  95. () المغني لابن قدامة (8/260 وما بعدها).
  96. () شرح مختصر الطحاوي (5/419).
  97. () أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب دية الجنين، ووجوب الدية في قتل الخطإ، وشبه العمد على عاقلة الجاني ح رقم (1682).
  98. () أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الديات، باب جنين المرأة، وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد، لا على الولد ح رقم (6910)، ومسلم في الصحيح، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب دية الجنين، ووجوب الدية في قتل الخطإ، وشبه العمد على عاقلة الجاني، ح رقم (1681).
  99. () شرح معاني الآثار، للطحاوي (3/188).
  100. () أخرجه أحمد في مسنده، ح رقم (3439)، وأبو داود في السنن، كتاب: الديات، باب دية الجنين، ح رقم (4572).
  101. () الحاوي (12/73).
  102. () شرح مختصر الطحاوي (5/419).
  103. () المرجع السابق.
  104. () بداية المجتهد (3/91).
  105. () الاختيار لتعليل المختار، للموصلي، بتعليقات الشيخ محمود أبو دقيقة (3/156)، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب (2/684).
  106. () المعونة على مذهب عالم المدينة، للقاضي عبد الوهاب (ص 870).
  107. () العزيز شرح الوجيز، للرافعي (8/397).
  108. () بداية المجتهد (3/91).
  109. () اللباب في الجمع بين السنة والكتاب (2/684)، العزيز للرافعي (8/397).
  110. () المغني لابن قدامة (7/328)، شرح مختصر الخرقي للزركشي (5/360).
  111. () العزيز للرافعي (8/397).
  112. () المغني لابن قدامة (7/328).
  113. () العزيز للرافعي (8/397).
  114. () أخرجه الخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب الخلع وكيف الطلاق فيه، ح رقم (5273).
  115. () البناية على الهداية، لبدر الدين العيني (5/509).
  116. () أخرجه الترمذي في السنن، كتاب: الطلاق، باب في الخلع ح رقم (1185).
  117. () معالم السنن للخطابي (3/256).
  118. () أخرجه مالك في الموطأ، في باب ما جاء في الخلع ح رقم (2082)، والشافعي في مسنده ح رقم (163)، وأبو داود في سننه، كتاب: الطلاق، باب في الخلع ح رقم (2227).
  119. () معالم السنن للخطابي (3/254).
  120. () أخرجه الدارمي، في سننه، كتاب الطلاق، باب في الخلع ح رقم (2451).
  121. () نيل الأوطار، للشوكاني (6/295).
  122. () الحديث في مسند أحمد من حديث همام عن أبي هريرة، ح رقم (8130) قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: “الحديث صحيح…… إنما أشار إليه البخاري تعليقا، فقال: “وقال همام وابن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة: كان النبي يأمر بالفطر” -يعني فيمن أصبح جنبا في الصيام، وهذا التعليق خرجه الحافظ، فقال: “أما رواية همام، فوصلها أحمد وابن حبان، من طريق معمر عنه، بلفظ: قال ﷺ: “إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب، فلا يصم يومئذ”.
  123. () أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، ح رقم (1109).
  124. () شرح صحيح البخاري، لابن بطال (4/49).
  125. () الاستذكار، لابن عبد البر (3/290).
  126. () المرجع السابق.
  127. () شرح صحيح الخاري لابن طال (4/49)، الاستذكار (3/290).
  128. () طرح التثريب شرح التقريب، للعراقي (4/124).
  129. () طرح التثريب (4/125).
  130. () معالم السنن (2/115).
  131. () أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الصوم، باب: الصائم يصبح جنبا، ح رقم (1926)، ومسلم في كتاب الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، ح رقم (1109).
  132. () معالم السنن (2/115).
  133. () المرجع السابق (2/116،115).