علم الكلام في فضاء الشناقطة في القرون 17م – 19م

المختار/ أحمد الأمين1

1 أستاذ مدرس مادة العقيدة، والفكر، والفرق الإسلامية، بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية بنواكشوط موريتانيا.

HNSJ, 2022, 3(1); https://doi.org/10.53796/hnsj3130

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/01/2022م تاريخ القبول: 22/12/2021م

المستخلص

تطمح هذه الدراسة إلى تتبع المسار التاريخي الذي سلكه التيار العقلاني ممثلا بفكر المعتزلة في المباحث العقدية والجدلية في الحضارة العربية الإسلامية.

فرصدنا نشأته ومنطلقاته وأعلامه، وأوجه الرفض والقبول الذي استقبله به تيار أهل السنة، المنحازون للقول بالمأثور والعمل بالمنقول.

وتتبعنا كذلك عبوره نحو الغرب الإسلامي، وكيف تفاعل معه هذا الإقليم انطلاقا من معطياته الجيو- ثقافية، وصولا إلى حضوره في الفضاء الشنقيطي الذي هو بؤرة هذا البحث.

الكلمات المفتاحية: علم الكلام – الدرس العقدي في شنقيط – المعقول – المنقول

Research title

The science of theology in the space of Al-Shanakateh in the 17th – 19th centuries

Elmoctar/Ahmed Elemin1

1 Professor of Creed, Thought, and Islamic Sects, Professor at the Higher Institute of Islamic Studies and Research in Nouakchott, Mauritania.

HNSJ, 2022, 3(1); https://doi.org/10.53796/hnsj3130

Published at 01/01/2022 Accepted at 22/12/2021

Abstract

This study aspires to trace the historical path taken by the rationalist current, represented by the Mu’tazila thought in the doctrinal and dialectical investigations in the Arab-Islamic civilization. We enumerated its upbringing, its starting points, its flags, and the aspects of rejection and acceptance with which it was received by the Ahl al-Sunnah movement, who were aligned with the sayings of the aphorism and the work of what was transmitted. We also traced its passage to the Islamic West, and how this region interacted with it, based on its geo-cultural data, up to its presence in the Chinguetti space, which is the focus of this research.

Key Words: Theology – the doctrinal lesson in Chinguetti – the reasonable – the transmitted

الدلالة والاصطلاح

الدلالة:

لعله من نافلة القول أن علم الكلام قد خلق تيارا عاصفا في التفكير العقلاني في مستهل يزوغ الحضارة العربية الإسلامية، فشكل حاضنة لنشأة العلوم المختلفة، وفتح الباب واسعا لارتياد آفاق جديدة في المعرفة البشرية، لكن اقتحامه للقضايا الدينية جره إلى مواجهة مريرة وطويلة مع أهل السنة المتمسكين بالنص، فكانت مجابهة بين المعقول والمنقول. واشتدت حدة الصراع بين الطرفين، فكان لا مناص من إلغاء أحدهما للآخر، وهكذا سقط المعتزلة تاركين وراءهم إرثا هائلا طال مختلف ميادين المعرفة.

وعودة إلى موضوع البحث، وولوجا من عتبة الدراسة إلى صميم هذا البحث، يتكون هذا الأخير من شقين “علم الكلام في فضاء الشناقطة في القرون 17م – 19م”، يتعلق الأول منهما ” علم الكلام ” بمحور المساءلة للبحث، أما الشق الثاني ” فضاء الشناقطة في القرون 17م – 19م ” فيهتم برسم حدود زمكانية لهذه المقاربة.

ومن أجل فهم الأبعاد الاصطلاحية لهذه النواة الإسنادية “علم الكلام” فلا مناص من تفكيك دوال هذا التركيب وفق علاقاته الركنية والإبدالية:

  • العلم:

معرفة إحدى التقنيات أو المقدرة على إتقان فن من الفنون، التعريفات: هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، وقال الحكماء: هو حصول صورة الشيء في العقل، والأول أخص من الثاني، وقيل: العلم هو إدراك الشيء على ما هو به، وقيل: زوال الخفاء من المعلوم، والجهل، المعجم الوسيط

(الْعلم) إِدْرَاك الشَّيْء بحقيقته وَالْيَقِين وَنور يقذفه الله فِي قلب من يحب والمعرفة وَقيل الْعلم يُقَال لإدراك الْكُلِّي والمركب والمعرفة تقال لإدراك الجزئي أَو الْبَسِيط وَمن هُنَا يُقَال عرفت الله دون عَلمته وَيُطلق الْعلم على مَجْمُوع مسَائِل وأصول كُلية تجمعها جِهَة وَاحِدَة كعلم الْكَلَام وَعلم النَّحْو وَعلم الأَرْض وَعلم الكونيات وَعلم الْآثَار، عُلُوم وعلوم الْعَرَبيَّة الْعُلُوم الْمُتَعَلّقَة باللغة الْعَرَبيَّة كالنحو وَالصرْف والمعاني وَالْبَيَان والبديع وَالشعر والخطابة وَتسَمى بِعلم الْأَدَب وَيُطلق الْعلم حَدِيثا على الْعُلُوم الطبيعية الَّتِي تحْتَاج إِلَى تجربة ومشاهدة.

وبذلك يتقاطع مفهوم العلم مع معنى المعرفة، لكنه يتميز بأنه يشمل النظري والعملي، تحويل المعارف إلى مهارات وكفايات تسمح لمالكها بالتصرف عن دراية وتحكم بتطبيق معارفه على موضوع معين.

  • الكلام:

يعتبر الكلام من أبرز محددات الكائن البشري، المتضمن لوجود تواصل بين طرفين بمنظومة علامات تواضعية، ويحيل على الخطاب في ارتباطه بالسياق والشفرة وطرفي الرسالة حسب خطاطة رومان جاكبسون.

و يطلق الكلام على كل تركيب إسنادي، وأقله وحدة الجملة، فكل سلسلة من الألفاظ المترابطة نحويا ودلاليا ولها مقصد إفهامي يسمى كلاما، وكل كلام يستمد خصوصيته من طبيعة الموضوع المتخاطب حوله، ويدخل لفظ الكلام في علاقات غيابية استبدالية واسعة مثل: الخطاب، والمحاورة، والبيان، والجدل.

حين نبني علاقة إسنادية بين الدالين: العلم/الكلام تتولد دلالات ركنية تضع هذه المركبة الإسنادية في علاقات تقابلية مثل: علم الحديث، علم البلاغة، علم العروض ..الخ.

الاصطلاح:

وتأسيسا على ما تقدم، فعند الجمع بين طرفي الإسناد يتم تعريف علم الكلام على النحو التالي:

  • علم الكلام علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته، وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام، والقيد الأخير لإخراج العلم الإلهي للفلاسفة. وفي اصطلاح النحويين: هو المعنى المركب الذي فيه الإسناد التام.
  • إنه علم باحث عن أمور يعلم منها المعاد، وما يتعلق به من الجنة والنار، والصراط والميزان، والثواب والعقاب، وقيل: الكلام هو العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسبة عن الأدلة.

ومن أقوال العلماء في ذلك:

قال سعد الدين التفتزان علم: الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية[1] ، وقال عضد الدين الإيجي المتوفى سنة 756 هـ: هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه[2] ، وقد عرفه الفارابى أيضا بأنه: ملكة أو صناعه يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال التي صرح بها واضع الملة (الدين)وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل.

ويستنتج من التعريفات السابقة أن علم الكلام هو علم يبحث من خلاله في الأمور العقدية، مثل الذات والصفات، ، وما يتعلق بالجنة والنار، وبالصراط والميزان، وبالثواب والعقاب ..، وذلك بفضل علم المتكلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسبة من الأدلة الشرعية. إنه سلاح منطقي يستخدم للدفاع عن العقيدة الإسلامية في وجه أهل البدع والمشككين والمجادلين من أصحاب الملل والنحل المختلفة. فهو إذن آلة لإنتاج المعرفة بقضايا العقيدة والشرع، ومهارة في إظهار بطلان مزاعم أعداء الإسلام وتناقض أقوالهم وادعاءاتهم.

فغاية هذا العلم تتلخص في معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ،تقوية اليقين بالدين الإسلامي عن طريق إثبات العقائد الدينية بالبراهين القطعية وردّ الشبه عنها.

وقد تعددت أسباب تسمية هذا العلم بهذا الاسم، منها:

– أنه أشهر المباحث الكلامية وأكثرها نزاعا بين الباحثين في المسائل الاعتقادية هي مسألة “كلام الله”.؛

– أنه لا يتم تحقيقه في النفس غالبا إلا بالكلام.؛

– أنه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات وإلزام الخصوم.؛

– وقيل أيضا لأن الكلام مشتق من “الكلم” وهو الجرح، حيث أن الكلام في مباحث علم الكلام يتنهى بتأثير جارح في النفس.

وكل هذا ينسجم مع تعريف صديق خان بأنه: “باب من الاعتبار في أصول الدين يدور النظر منه على محض العقل في التحسين, والتقبيح, والإحالة, والتصحيح, والإيجاب, والتجويز, والاقتدار, والتعديل, والتحوير, والتوحيد, والتفكير” .[3]

ونعتقد أن تدبر ظهور علم الكلام يحيلنا على فترة تدوين المعارف في بداية ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، حيث حاول القوم أن يضعوا لكل شيء علما: علم النحو، علم الحديث، علم البلاغة ..الخ.

ولما كان الكلام الأداة الرئيسة في الجدل فقد كانت هناك حاجة ملحة لوضع قواعد لنجاعة الكلام وتناسقه ولتوجيهه منطقيا نحو هدفه الحجاجي المتمثل في دحض آراء الخصم وإظهار تناقضه وبطلان أدلته، فهو يذكرنا بازدهار فن الخطابة عند اليونان في فترة هيمنة الجدل السفسطائي.

النشأة والسياق التاريخي

  • الحضارة الإسلامية العالمية

بعد الفتوحات الإسلامية شرقا وغربا احتضنت الدولة الإسلامية حضارات وطوائف دينية وفلسفية متعددة الملل والنحل، فهناك الديانة المجوسية (الزراديشتية) التي خسرت لتوها الحكم بعد الفتح الإسلامي، بالإضافة إلى الديانة المانوية التي سطعت تعاليمها في بلاد فارس ومزج معتنقوها بين المسيحية والغنوصية والزرادشتية والبوذية، فصنفت على أنها واحدة من آخر ديانات الأسرار وأقواها، كما توجد طوائف مسيحية في بلاد فارس فرت من سطوة الملك البيزنطي الذي عمل على توحيد الديانة المسيحية بالسيف والقهر، وفي جندي سابور والرها ونصيبين كانت

توجد مراكز علمية وثقافية تملك مكتبات زاخرة بالتراث اليوناني بما فيه الفلسفة الإغريقية، وبهذه التعددية الدينية والثقافية تكون الحضارة العربية الإسلامية قد دخلت طور الحضارة العالمية.

وهكذا ما إن وضعت حرب الفتوحات أوزارها حتى شبت نيران معركة جديدة، سلاحها قرع الحجة بالحجة وقوة المحاججة المنطقية، فانطلق الجدل الفكري والعقائدي واسعا ومعقدا بين الطوائف المختلفة والديانات المتعايشة تحت مظلة الدولة الإسلامية، ليتولد من ذلك علم الكلام كنتاج أصيل للعبقرية العربية الإسلامية، وظفه علماء الإسلام لمجادلة أهل الملل والنحل الأخرى وللرد على شبهات أعداء الإسلام.

وبذلك يكون علم الكلام لوغوس الخطاب الإسلامي، ويشبه إلى حد بعيد منطق الفيلسوف الإغريقي أرسطو طاليس. ورغم هذا التشابه فهناك فرق ابستومولوجي بينهما، فعلم الكلام يحاول آراء المتكلم عقلا ونقلا وينحاز مسبقا إلى حكم يتعصب له، فهو إذن بفتقر للتجرد والموضوعية في تقرير الحقائق، بينما ينطلق المنطق الأرسطي من مقدمات مسلم بها: “كل إنسان فان، وسقراط إنسان”، ليرتب عليها حكما قياسيا منطقيا: ” سقراط إذن فان”، فالغاية من المنطق الأرسطي هو توليد الحقائق والأحكام بأسلوب عقلي مجرد ومحايد.

نشأته:

لقد نشأ علم الكلام في بوتقة الجدل في المسائل العقدية، يقول البغدادي: ثم حدث في أيام الحسن البصري خلاف واصل بن عطاء الغزالي، في القدر وفي المنزلة  بين المنزلتين, وانضم إليه عمر بن عبيد بن باب في بدعته, فطردهما الحسن من مجلسه, فاعتزلا إلى سارية من سواري مسجد البصرة, فقيل لهما ولأتباعهما “معتزلة” لاعتزالهم قول الأمة في دعواهم أن الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر .

وقال الشهرستاني في معرض الحديث عن البدع والمحدثات التي كانت في أواخر عصر الصحابة أولها بدعة القدر كما مر معنا قال: “ونسج على منوالهم واصل بن عطاء الغزال, وكان تلميذ الحسن البصري، وتلمذ له عمر بن عبيد، وزاد عليه في مسائل القدر… والوعيدية من الخوارج، والمرجئة من الجبرية، والقدرية، ابتدءوا بدعتهم في زمان الحسن, واعتزل واصل عنهم، وعن أستاذه بالقول منه بالمنزلة بين المنزلتين، فسمي هو وأصحابه معتزلة، وقد تلمذ له زيد بن علي, وأخذ الأصول, فلذلك صارت الزيدية كلهم معتزلة”[4].

وهكذا بدأ الكلام في مسائل الاعتقاد لينتقل علم الكلام إلى طور جديد أكثر تطوراً وأكثر فاعلية ووضوح، على يد الجهم بن صفوان الذي جمع شتات الأقوال السابقة، وأخرجها من مخرج واحد، وصبها في بوتقة واحدة.

أبرز علماء الكلام

واصل بن عطاء (80 131 ه – 699 748 م ) الذي يعتبر أشهر و أقدم شخصيات المعتزلة، وعمرو بن عبيد (144 ه – 761 م)، وأبو الهذيل العلاف (135 226 ه – 752 840 م)، وإبراهيم النظّام (221 ه – 835 836 م) .

ومن علماء أهل السنة أبو الحسن الأشعري (260 324 ه873 935 م)، وأبو بكر الباقلاني 403 ه 1012 1013 م)، و أبو المعالي الجويني المشهور بإمام الحرمين (478 ه 1085 1086 م)، وأبو حامد الغزالي (450 505 ه -1058 1111 م) …

من أهم مصادر علم الكلام:

  • شرح الكبرى، شرح الجزائريّة، للسّنوسي.
  • تهذيب الكلام في المنطق والكلام، للتّفتازاني.
  • غاية المرام في علم الكلام، أبكار الأفكار، للآمدي.
  • نهاية الإقدام في علم الكلام، للشّهرستاني.
  • أصول الدّين للغزنوي.
  • أصول الدّين للبزدوي.
  • تبصرة الأدلّة، للنّسفي.
  • التّمهيد، بحر الكلام، للنّسفي.

محاور الجدل في علم الكلام

لقد انقسمت الساحة الإسلامية إلى مجموعة من الاتجاهات والتيارات السياسية-الدينية المتجادلة في مسائل لها صلة وثيقة بتفسير القرآن الكريم والكلام حول الذات والصفات، وخلق القرآن ..الخ.

وبرز في هذه الساحة قطبان رئيسان هما أهل السنة المتشبثين بالأثر الديني (الأدلة المستخلصة من الكتاب والسنة)، مقابل المعتزلة المنحازين إلى الأدلة العقلية وتخريج الأحكام والآراء عن كريق المحاججة المنطقية التي وجدت في علم الكلام ضالتها المنشودة.

في البداية لم يكن الخطاب الإسلامي يملك نسقا فكريا أصوليا يسيج العقيدة الإسلامية في وجه البدع وحملات التشكيك من قبل طوائف دينية وفلسفية تؤمن بتفوقها الفكري نظرا لما لديهم من رصيد تاريخي، ورثوه عن حضارات قديمة، فوجد رجال الإسلام في علم الكلام أداة للرد على هؤلاء المجادلين من الديانات الأخرى.

وتأسيسا على ما تقدم، يمكن الحديث عن جبهتين لتوظيف سلاح علم الكلام:

  • جدل داخلي: إسلامي – إسلامي بين أهل السنة والمعتزلة في استنباط الأحكام وتقرير حقائق متعلقة بمتشابه القرآن والقضايا العقدية؛
  • جدل خارجي: بين علماء الإسلام والملل الأخرى، للرد على شبهاتهم، وما يبثه الزنادقة والحركات السرية المعادية للإسلام من تشكيك وتلبيس في أسس العقيدة الإسلامية وتعاليمها.

موقف أهل السنة من علم الكلام

في البداية قد يكون من المفيد بسط الكلام في نظرة علماء الكلام إلى المبررات النقلية والعقلية إلى مشروعية علم الكلام قبل عرض موقف أهل السنة من هذاه الأداة المنطقية الحجاجية.

وفي هذا السياق، يقول علماء الكلام إن علمهم هذا يستمدونه من الأدلة اليقينية، النقلية والعقلية حسب المنطلقات التالية:

  • الأدلة العقلية: وهي استخدام العقل عن طريق النّظر في العالم الخارجيّ، للتعرّف على وجود الله وعلى ما يجب له من الصفات وما يستحيل، وما يجوز عليه من الأفعال. وكذا ما يجب للأنبياء من الصفات وما يستحيل وما يجوز. وأهل السنة لم يختلفوا في الإقرار بأن العقل يمكنه معرفة بعض الأحكام العقائدية، وعلماء الكلام يقرون بأن العقل له حدودا وجهات لا يمكنه أن يغوصَ فيها، فجعلوها له حدودا لا يتعداها، وهذا التحديد منهم جار على موازين العقل نفسه.
  • الأدلة النقلية: وهي ما ورد من صحيح الأحاديث عن نبي الإسلام محمد.
    ويقول علماء الكلام بأن كلا المصدرين اليقينيين (النقلي والعقلي) يستخدمان في إثبات العقائد بلا تقديم أحدهما على الآخر، يقول الأستاذ سعيد فودة: ولا يجوز القول بأنّنا -علماء الكلام- نقدّم العقل على النّقل، ولا بأنّنا نقدّم النّقل على العقل، لأنّ كلاّ من القولين إنّما يُبْنَى على تسليم أمر ممنوع، وهو: وجود تعارض بين العقل والنّقل، وهذا باطل قطعا كما يفهمه النّبيه. وإذ لا تعارض فلا تقديم.

أما موقف أهل السنة فقد مر بمرحلتين تتأرجحان بين العداء والقبول حسب قولهم بعلم الكلام الممدوح وعلم الكلام المذموم. ويرجع هذا الاختلاف إلى أن أهل السنة استهجنوا في البداية إقحام المعتزلة علم الكلام في تأويل وتقريرالقضايا العقدية البالغة الحساسية، ولكنهم استحسنوا استخدام المعتزلة لعلم الكلام في الرد على أعداء الإسلام وتفنيد مزاعمهم بالحجة الدامغة والأدلة المنطقية الصلبة، خصوصا بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية وانخراط أطراف متعددة في دائرة الحوار الحضاري الشامل.

وقد تمثل الموقف السني الرافض في ردود فعل مختلفة نستعرضها في الأقوال:

يقول الإمام مالك: “إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبدالله ما البدع؟، قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته، وكلامه، وعلمه، وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة وتابعيهم” [5].

وقال أبو يوسف – من الحنفية : “من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق” .. [6]وقال أبو محمد البربهاري: “واعلم أنها لم تكن زندقة، ولا كفر، ولا شكوك، ولا بدعة، ولا ضلالة، ولا حيرة في الدين، إلا من الكلام، وأهل الكلام”[7]. وقال أيضاً: “وإذا أردت الاستقامة على الحق، وطريق السنة قبلك، فاحذر الكلام، وأصحاب الكلام”[8].

ترينا هذه الأقوال مدى نفور علماء السنة في البداية من علم الكلام ومعاداتهم له، وكلامهم في التحذير من علم الكلام والاشتغال به.

وهناك فريق آخر من أهل السنة مال إلى علم الكلام إلى حد القول بتعلمه فرض كفاية للدفاع عن العقيدة، وفي هذا المساق، يقول النووي: البدعة خمسة أقسام واجبة ‏ومندوبة ‏ومحرمة ومكروهة ومباحة، فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين ‏وشبه ذلك. ويقول ابن حجر الهيتمي: الذي صرّح به أئمتنا أنه ‏يجب ‏على كل أحد وجوباً عينيّاً أن يعرف صحيح الاعتقاد من فاسده، ولا يشترط فيه علمه بقوانين ‏أهل ‏الكلام لأن المدار على الاعتقاد الجازم ولو بالتقليد على الأصح. وأما تعليم الحجج الكلامية ‏والقيام بها ‏للرد على المخالفين فهو فرض كفاية، اللهم إلا إن وقعت حادثة وتوقف دفع المخالف فيها ‏على تعلم ما ‏يتعلق بها من علم الكلام، فيجب على من تأهل لذلك تعلمه للرد على ‏المخالفين، ويقرر شمس الدين الرملي الشافعي أن: التوغل في علم الكلام بحيث ‏‏يتمكن من إقامة الأدلة وإزالة الشبه فرض كفاية على جميع المكلفين الذين يمكن كلاًّ منهم فعله، فكل ‏‏منهم مخاطب بفعله لكن إذا فعله البعض سقط الحرج عن الباقين، فإن امتنع جميعهم من فعله أثم كل ‏من ‏لا عذر له ممن علم ذلك وأمكنه القيام به.
وذهب أبو حامد الغزالي المتوفى )505هـ( إلى تفسير موقف أهل السنة المحبذ لعلم الكلام بقوله: “ولم يكن شيء منه – علم الكلام- مألوفاً في العصر الأول وكان الخوض فيه بالكلية من البدع ولكن تغير الآن حكمه إذ حدثت البدعة الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة ونجت جماعة لفقهوا لها شبهاً ورتبوا فيها كلاماً مؤلفاً فصار ذلك المحذور بحكم الضرورة مأذوناً فيه بل صار من فروض الكفايات وهو القدر الذي يقابل به المبتدع إذا قصد الدعوة إلى البدعة. وقال أيضا: فإذن علم الكلام صار من جملة الصناعات الواجبة على الكفاية حراسة لقلوب العوام عن تخيلات المبتدعة”[9].

وهناك تقسيم آخر يقترحه ابن خلدون يميز فيه بين طريقتين من طرائق المتكلمين؛ أولاهما: طريقة المتقدمين، وتضم أبا الحسن الأشعري (توفي324ﻫ)، وتلميذه ابن مجاهد الطائي، وأبا بكر الباقلاني (توفي 403ﻫ)، وإمام الحرمين أبا المعالي الجويني (توفي 478ﻫ). وقد «جملت هذه الطريقة، وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية. إلا أن صور الأدلة فيها جاءت بعض الأحيان على غير الوجه القناعي لسذاجة القوم ولأن صناعة المنطق التي تسيربها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذٍ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء لم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة، فكانت مهجورة عندهم لذلك».

وثانيهما: طريقة المتأخرين، وتبدأ مع أبي حامد الغزالي الذي يعد أول من كتب في الكلام على هذه الطريقة، وتبعه فيها جماعة من المتكلمين؛ منهم الإمام فخر الدين الرازي (توفي 606ﻫ). وهذه الطريقة مباينة للطريقة الأولى في المصطلح وفي البراهين، كما أن أصحابها «أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم… ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما». [10]

لكن علاقة أهل السنة بالمعتزلة ساءت كثيرا في عهد الخليفة العباسي المامون وخلفه، فقد استغلوا تموقعهم في مراكز الدولة الحساسة في فرض آرائهم بالقوة على الجمهور خصوصا في القول بخلق القرآن، وكان من أبرز ضحاياهم الإمام أحمد بن حنبل.

يضاف إلى ذلك انفتاحهم على الفلسفة، يقول الشهرستاني: “ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين نشرت أيام المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج علم الكلام، وأفردتها فناً من فنون العلم، وسمتها علم الكلام، إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام، فسمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فناً من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان” .[11]

ولعل هذا الاستخدام المتطرف للقوة ضد مخالفيهم من أهل السنة ومزج علم الكلام بآراء الفلاسفة كان من أبرز الأسباب التي أدت إلى اضمحلال فرقة المعتزلة وإلى معاداة أهل السنة لكل ما يمت بصلة لهم، وفي مقدمة ذلك علم الكلام.

علم الكلام في الغرب الإسلامي

لم يعرف الغرب الإسلامي حوارا فكريا وفلسفيا مثل ما عرفه الشرق الإسلامي بعد أن وصلت فيه المدينة العباسية إلى الحاضرة العالمية الكسموبوليتكية، نظرا لتعددية ونوعية الأطراف المشاركة في هذا الحوار الحضاري الشامل.

يمكن القول إن الشخصية الثقافية والدينية للغرب الإسلامي قد امتلكت ملامحها الخاصة، بمذهبها المالكي، وتبني المذهب الأشعري، والطرق السنية كالشاذلية والقادرية والنقشبندية.. لقد حافظ هذا الكيان الجغرافي على وحدته الحضارية رغم الظاهرة الموحدية والدولة العبيدية التي حاولت إقحام الفكر الشيعي في نسيجه الديني.

وبدا الفضاء المغاربي بشماله وجنوبه تستقطبه حواضر علمية مثل مدينة فاس بجامع قروييها، وتونس بجامع الزيتونة، وتومبكتو وشنقيط في جنوب الصحراء.

لقد كان هذا الحيز الجغرافي خاضعا لهيمنة سنية أحادية مالكية، استمد من الأشعري وحدته العقدية التي تولى ابن عاشر صياغتها في نظمه المشهور”المرشد المعين على الضروري من علوم الدين”:

وبعد فالعون من الله المجيد في نظم أبيات للأمي تفيد

في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك

…….

وخلقه لخلقه بلا مثال ووحدة الذات ووصف والفعال

وقدرة إرادة علم حياة سمع كلام بصر ذي واجبات …[12]

لقد ظل الغرب الإسلامي بيئة شبه مغلقة دينيا وثقافيا رغم محاولة الدولة الموحدية إحداث تحول في وجهتها العقائدية مع مؤسسها ابن تومرت الذي لقي أبا حامد الغزالي، وأحضر معه بعض كتبه التي تعرضت للحرق، كما ألف رسائل في العقيدة، شرح فيها عقيدة “الموحِّدين” لأتباعه، وأُلزمهم بحفظها والعمل بمقتضاها، فكان هذا العملُ إيذاناً بترسيم المذهب الأشعري منهجاً في العقيدة للمغاربة، وسار على نهجه الخلفاء الأوائل من هذه الدولة بتبني المذهب الشيعي والانفتاح على التفكير الفلسفي، ولكن الوضعية الأحادية المذهبية المالكية رجعت من جديد وتحكمت في كل أقاليم الغرب الإسلامي.

يعرف المذهب المالكي بنزعته المحافظة وتمسكه بالنقل والمنهج السني، فقد نقل عن مالك بن أنس قوله عند كلامه علي الآية الكريمة “الرحمن علي العرش استوي”: “الاستواء معلوم، و الكيفية مجهولة، و الإيمان به واجب، و السؤال عنه بدعة”. وقال أيضا: “إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبدالله ما البدع؟، قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته، وكلامه، وعلمه، وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة وتابعيهم” ، وقال أيضاً: “كلما جاءنا رجل أجدل من رجل، تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله” .[13]

وهناك أحاديث عديدة تذم الجدل كالحديث الذي أورده الآجري في كتابه “الشريعة”: ” وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَيُّوبَ السَّقَطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْفُوظُ [ص:431] بْنُ أَبِي تَوْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُتُوا الْجَدَلَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58][14]“.

لقد أسفر الصراع المرير بين أهل السنة والمعتزلة عن نفور أهل السنة من الجدل ومن علم الكلام، فاقتصر المغاربة على تبني النسق العقدي الذي استخلصه أبو الحسن الأشعري بعد انشقاقه عن شيخه المعتزلي أبي علي الجبائي[15].

وقد ألف عدة علماء مغاربة في شرح وترسيخ المذهب الأشعري، مثل “التنبيه والإرشاد ” لأبي الحجَّاج يوسف الضَّرير، و” المتوسط في الاعتقاد” وكتاب ” الأفعال ” كلاهما لأبي بكر بن العربي، و” العقيدة البرهانية ” لأبي عمرو السَّلالجي. وقد تضمن كتاب “كشف مناهج الأدلة ” لأبي الوليد ابن رشد نقدا للمذهب الأشعري، إذ كان يشتمل حسب رأيه على الكثير من آراء الإمام الجويني المناصر لاستخدام علم الكلام.

وقد أكد الإمام الشاطبي على تبعية النظر العقلي للشرع كما يتضح من قوله: “”فإنا إذا دلنا الشرع على أن إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه معتبر،وأنه من الأمور التي قصدها الشارع، وأمر بها ونبه النبي على العمل بها، فأين استقلال العقل بذلك، بل هو مهتد فيه بالأدلة الشرعية يجرى بمقدار ما أجرته، ويقف حيث وقفته.”[16] وفي نص آخر نسب المعتزلة لأهل الابتداع لتحكيمهم مقتضى أهواء عقولهم فاعتبر من الضلال والابتداع “رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين، فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع، وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين، بحيث إن الشرع إن وافق آراءهم قبلوه، وإلا ردوه”[17].

ومن ما سبق، يتضح أن أهل الغرب الإسلامي قد رفضوا علم الكلام في نسخته المعتزلية، وتقبلوه في صياغته الأشعرية.

علم الكلام في الفضاء الشنقيطي

تشبه البيئة الثقافية الدينية في بلاد شنقيط نظيرتها في أقاليم بلاد الغرب الإسلامي، كبيئة شبه منغلقة ومسيجة بمذهب ديني أحادي، فقد كان التفاعل العلمي والثقافي على أشده بين هذه الأقاليم عن طريق المثاقفة، وذلك بفضل هجرات العلماء داخل فضائها، باثين علوم العصر بالكتاب والتدريس، فقد ازدهرت الثقافة المغاربية في القرن السادس الهجري. ويلاحظ أنه في نهاية هذا العصر أخذت هذه الثقافة تميل للركود والتوسع عبر الهوامش والشروح والتلخيص والأنظام، وهو ما يدمغها بتهمة الاجترار والتكرار العقيم.

ويتفق معظم المؤرخين الإمام أبا بكر المرادي الحضرمي قاضي المرابطين (ت489هـ )، أول من أدخل العقيدة الأشعرية إلى الصحراء، وهو مؤلف كتاب : ” الإشارة في تدبير الإمارة”.

ولد أبو بكر المرادي الحضرمي بالقيروان وارتحل إلى الأندلس، ثم انتقل بعد ذلك إلى أغمات حيث أُلحِقَ بحاشية أمير المرابطين أبي بكر بن عمر اللمتوني التي كانت تضم فقهاء وعلماء، وكان المرادي أول من أدخل علوم الاعتقادات بالمغرب الأقصى، وله مؤلف مطبوع، يعتبر أول مؤلف كامل عن العقيدة الأشعرية ألف في عهد الأمير المرابطي أبي بكر بن عمر اللمتوني (تـ 480هـ)، ومن شأن دراسة هذا المؤلف أن يفتح أمام المختصين بابا واسعا لمراجعة الكثير من الأحكام والمواقف المتعلقة بتاريخ دخول المذهب الأشعري إلى المغرب، وتتبع مسار تطوره.

لقد كانت بلاد شنقيط المستقر النهائي للعلماء المهاجرين من الشرق إلى الغرب اللإسلامي كما يتضح من النص التالي:

” وأول عقيدة أشعرية من تأليف أهل الغرب الإسلامي ظهرت في تونس على يد أبي الطيب سعيد بن أحمد بن سعيد السفاقصي (تـ 501هـ) وعرفت باسمه، كما عرفت باسم العقيدة السنية. وقد أدى الصدام بين العقيدتين التسليمية والأشعرية بالخليفة المرابطي أبي الحسن علي بن يوسف ابن تاشفين أن يطلب من ابن رشد الجد (تـ 520هـ) فتوى في شأن هذا المذهب الجديد وأعلامه كالأشعري واليإسفرايني والباقلاني، ومع أن ابن رشد الجد لم يكن أشعريا فإن إجابته كانت انتصارا لأقطاب المذهب الأشعري واعتبرهم أئمة خير وهدى وممن يجب بهم الاقتداء لأنهم قاموا بنصرة الشريعة وأبطلوا شبه الزيغ والضلالة. إلا أنه رفض تعليم العامة من الناس المعتقد الأشعري الذي يرى أن النظر العقلي شرط أساسي في الإيمان؛ لأنه فرض عين على كل مسلم عالما كان أو جاهلا قادرا على الفهم والإدراك أم لا”.[18]

إن الناظر في مصادر المحظرة الموريتانية سيخلص لا محالة إلى تقرير حكم تاريخي، مفاده أن بلاد شنقيط عرفت مبكرا بعض مصنفات علم الكلام الأشعري مثل كتب السنوسي ، وإضاءة الدجنة لأحمد المقري التلمساني التي وصلت إلى هذه البلاد بعد تأليفها بأقل من نصف قرن على يد عبد الله بن أحمد بن عيسى الحسني الذي كان حيا سنة 1077هـ.

ويتحدث البعض عن وجود ثلاثة اتجاهات عقدية في بلاد شنقيط، يمكن اختصارها في ما يلي:

  • اتجاه أشعري عقلاني متوسع في مذهبه يؤمن بالمنطق الصوري وعلم الكلام المنطقي وتمثله مدرسة المختار بن بونة؛
  • واتجاه سلفي نصاني يعادي علم الكلام والمنطق اليوناني متأثرا بالظاهرية والوهابية يمثله المجيدري اليعقوبي،
  • والاتجاه الثالث اتجاه صوفي قوامه التبحر في العلم والاستقامة في السلوك يمثله الشيخ سيدي المختار الكنتي[19]

ومن أشهر أعلام المذهب الأشعري الذي تأثر بهم الشناقطة:

  1. . محمود بن عمر بن محمد ﺍﮔﻴﺕْ: (868-955هـ) قاضي تنبكتو كان يدرس بها ومن أهم الكتب التي كان يدرس عقيدة السلالجي.
  2. الحاج أحمد بن أحمد بن عمر ﺍﮔﻴﺕْ: (929-991هـ) حج والتقى بجماعة منهم الناصر اللقاني ويوسف تلميذ السيوطي والأجهوري وغيرهم، له تعليق على صغرى السنوسي، وشرح منظومة المغيلي في المنطق.
  3. أحمد باب التنبكتي )ت1036هـ) له عدة تآليف منها شرح البرهانية للسلالجي وشرح الصغرى للسنوسي، وكتاب المأرب والمطلب في أعظم أسماء الرب.
  4. محمد بن أحمد بن القاضي محمد بن أبي بكر بَغَيُغُ الونكري (ت1040هـ) له نظم أم البراهين.
  5. سيدي محمد بن أحمد بن يحي الحساني الدليمي: (ت1048هـ) له شرح على صغرى السنوسي.
  6. عبد الله بن أحمد بن عيسى البوحسني: كان حيا 1077هـ أول من أدخل إضاءة الدجنة للمقري إلى القطر الموريتاني، عند عودته من حجه حيث أخذها إجازة عن مفتي الحرمين أبي مهدي.
  7. عمر الخطاط بن محمد نَضَّ: (1028-1107هـ) من مشاهر المتكلمين، حكي عنه أنه قال: لو علمت عقيدة في علم الكلام لا أعرفها وفي مصر من يعلمها لرحلت إليها حتى أتعلمها، كان هو شيخ علم الكلام في زمنه يقرئ كتب السنوسي والجزائرية وإضاءة الدجنة.
  8. الطالب محمد بن المختار بن الأعمش العلوي الشنقيطي (1037-1107هـ) مفتي شنقيط له شرح على إضاءة الدجنة لأحمد المقري التلمساني التي أهداها له صديقه عبد الله بن أحمد البوحسني لما قدم بها من الحج، ويعتبر هذا هو أول شرح لها في هذا القطر.
  9. نور الدين محمد بن المبارك بن حبيب الله بن الفالل بن محمد بن أشفغ يديمان، من أهل القرن الحادي عشر له نظم السبعة المطالب في استحالة قدم العالم.
  10. أشفغ الأمين بن الفالل ت 1101هـ. عم المتقدم اختصر نظم ابن أخيه المتقدم.
  11. أبو محمد عبد الله بن عمر الْيِزَيْگِذِي ت 1110هـ، له نظم السبعة المطالب..
  12. أبو محمد عبد السلام بن الطيب القادري الحسني الفاسي المتوفى 1116 هـ – 1704م: نظم الطيبة في المنطق، من أبرز المقررات المتداولة في المحظرة الموريتانية، كما تلقت شروحا وطررا عديدة من العلماء الشناقطة (محنض باب بن اعبيد الديماني، العلامة خديجة بنت العاقل، عبد الرحمن بن محمذفال بن متالي ..).
  13. محمد اليدالي ألف عقيدته المشهورة ووضع عليها شرحا سماه: “فرائد الفوائد في شرح قواعد العقائد”. (ت 1166هـ

لقد ساهم هؤلاء العلماء في إغناء المكتبة الشنقيطية بعدة مؤلفات في العقيدة تأليفا وشرحا واختصارا، كشرح الصغرى للسنوسي، وكتاب المأرب والمطلب في أعظم أسماء الرب، ونظم أم البراهين، وإدخال المدونة المحورية في الاعتقاد: “إضاءة الدجنة” لأحمد المقري التلمساني مع الاشتغال عليها شرحا وتعليقا، وكذلك نظم ابن عاشر، وأنتج الشناقطة بعض المؤلفات مثل:

  • نظم السبعة المطالب لنور الدين محمد بن المبارك
  • فرائد الفوائد في شرح قواعد العقائد نور الدين محمد بن المبارك

الدرس العقدي في المحظرة الشنقيطية

تتميز الساحة الشنقيطية بالانسجام والانبناء على بنيات معرفية تعليمية متماثلة، تحكمها مدونات تربوية شائعة، تشكل منهاجا متكاملا لتكوين المتعلمين في المؤسسات البدوية المكفية لاقتصاد الصحراء وحالة التنقل والترحال لهذه المؤسسات التربوية.

لم تكن هذه الساحة مهيأة لظهور علم الكلام، فقد كانت محافظة ومحكومة بمدونات تعمل على تنميط فضائها الثقافي وفق توجه أحادي، تعمل النخبة العالمةحمايته ووأد الآراء الناشزة المخالفة، بينما يحتاج علم الكلام إلى حاضنة تتمتع بقدر كاف من الحرية وتعدد الاتجاهات وإمكانية الاجتهاد والقدرة على إعادة تأويل النصوص وفق قراءة جديدة.

بعد انتصار تيار السنة في الساحة الدينية المشرقية بدأت ظاهرة المعتزلة في الاختفاء والانسحاب من واجهة الحوار الفكري، فكان هذا الانكسار في علاقة القوة بين طرفي الثنائية السنة/المعتزلة انتصارا للمنقول على المعقول، فهينمت ثقافة المتون المحكومة بقالب فقهي صارم، وأخذت الممارسة الصوفية تعمق هذا الاتجاه المضاد للعقلانية.

وكانت ثمرة ذلك وصم الإرث الفكري الاعتزالي بالزيغ والضلال، وهو ما خلق حساسية شديدة ضد الانفتاح عليه لدى الأجيال اللاحقة من المؤلفين.

وتأسيسا على ما تقدم، لم يكن الفضاء الشنقيطي مهيئا لتقبل علم الكلام بنسخته الأصلية، وإنما كان يتناص معه عبر العقيدة الأشعرية، مثله في ذلك مثل بقية الأقطار المغاربية.

وقد اعتمد أئمة المحاطر في المنطق على مؤلفات كـ”السلم المرونق” للأخضري، و”الطيبية في المنطق” لأبي محمد عبد السلام بن الطيب القادري الحسني الفاسي. وقد ذاع في هذا النطاق صيت نظم “مراقي السعود”، وشرحه “نشر البنود ” للعلامة سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم، وأصبح معتمدا في هذا الفن، إضافة إلى كتب أخرى للتوسع والتخصص والمطالعة مثل جمع الجوامع للسبكي.

فقد كان علماء شنقيط يستخدمون علم الكلام بالصياغة الأشعرية في درس العقيدة، بينما يوظفون علم المنطق الأرسطي في تخريج الأحكام الفقهية والعلل النحوية.

الخاتمة

من كل ما تقدم، يتضح أن المباحث العقدية عند العلماء الشناقطة كانت امتدادا للسياق الثقافي المغاربي العام الذي تأسس بعد نهاية العقود الفكرية الساخنة في المشرق الإسلامي، وبعبارة أخرى، فقد تأسست المنظومة العقدية المغاربية بعد انحسار الفكر المعتزلي واختفاء أطروحاته العقلية الجريئة.

تميز الدرس العقدي في بلاد شنقيط باستناده إلى مدونة شبه ثابتة يتساند فيه التأليف الفقهي مع المنظومات العقدية، وتحكمه مباحث أصولية تمنحه تماسكه المنطقي وقوته الحجاجية.

لقد تأسست المنظومة المعرفية والعقدية على أساس هجرات مجموعة من العلماء القادمين من الشرق أو الشمال الإفريقي، تاركين يعدهم مدونات تعمل على استمرارية مذاهبهم وآرائهم، ومن أبرز هذه المدونات كتب السنوسي إضاءة الدجنة للمقري التلمساني، ومؤلفات أبي بكر المرادي الحضرمي، لكن علماء شنقيط ما لبثوا أن بدؤوا التأليف في مجال العقيدة مقدمين عطاء ينسجم مع البيئة الشنقيطية البدوية، وذلك مع نور الدين محمد بن المبارك بن حبيب الله أشفغ الأمين بن الفالل ومحمد اليدالي …

امتاز السياق العقدي في شنقيط بالاستقرار والتقليد ولم يعرف هزات قوية إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.

المصادر والمراجع

  1. ابن الحسين الآجري، محمد: الشريعة. دار الوطن ط1 1997
  2. ابن حسن الحسيني البخاري القِنَّوجي، محمد صديق خان: أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم. دار الكتب العلمية – بيروت
  3. ابن خلدون، عبد الرحمن : المقدمة . تحقيق: علي عبد الواحد وافي، مصر: شركة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2004، ج3
  4. ابن عاشر، عبد الواحد: المرشد المعين على الضروري من علوم الدين. مكتبة القاهرة ب ت، القاهرة
  5. ابن عبد الكريم الشهرستاني، محمد: الْملَل والنحل. تَحْقِيق مُحَمَّد كيلاني، ج1
  6. ابن عمر التفتازاني، سعد الدين مسعود: تهذيب الكلام، مكتبة صبيح بمصر

الطبعة: بدون طبعة وبدون تاريخ

  1. ابن محمد الغزالي الطوسي، محمد: إحياء علوم الدين. دار المعرفة – بيروت
  2. ابن محمد بن علي الأنصاري الهروي، عبد الله: ذم الكلام وأهله. الناشر: مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة الطبعة: الأولى، 1418هـ -1998م
  3. الإيجي، عضد الدين: المواقف في علم الكلام، دار الجيل ـ بيروت، الطبعة الأولى، 1997م
  4. النحوي، الخليل: بلاد شنقيط المنارة والرباط،، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
  5. الشاطبي، أبو إسحاق: الاعتصام. نشر بعناية مكتب تحقيق التراث، وفهرسة رياض عبد الله عبد الهادي، ط1،1417/1997

الشاطبي، أبو إسحاق: الموافقات في أصول الشريعة. تحقيق عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان،1414/1994

ولد سيدي محمد، محمدن: المدرسة الأشعرية في السياق الإفريقي وأثرها في تعزيز التسامح والسلام، مجلة العلماء الأفارقة السنة الأولى العدد 1 – 2019

الهوامش:

  1. ابن عمر التفتازاني، سعد الدين مسعود: تهذيب الكلام، مكتبة صبيح بمصر

    الطبعة: بدون طبعة وبدون تاريخ، ص: 8

  2. الإيجي، عضد الدين: المواقف في علم الكلام، دار الجيل ـ بيروت، الطبعة الأولى، 1997م.. 1/34
  3. ابن حسن الحسيني البخاري القِنَّوجي، محمد صديق خان: أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم. دار الكتب العلمية – بيروت، 1978 ، 2/589
  4. ابن عبد الكريم الشهرستاني، محمد: الْملَل والنحل. تَحْقِيق مُحَمَّد كيلاني، ج1/ 30
  5. ابن محمد بن علي الأنصاري الهروي، عبد الله: ذم الكلام وأهله. الناشر: مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة الطبعة: الأولى، 1418هـ -1998م، 70/5
  6. نفس لبمصدر
  7. نفس لبمصدر
  8. نفس لبمصدر
  9. ابن محمد الغزالي الطوسي، محمد: إحياء علوم الدين. دار المعرفة – بيروت, ص: 111
  10. ابن خلدون، عبد الرحمن : المقدمة . تحقيق: علي عبد الواحد وافي، مصر: شركة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2004، ج3، ص: 975-976.
  11. ابن عبد الكريم الشهرستاني، محمد: الْملَل والنحل. تَحْقِيق مُحَمَّد كيلاني، ج1/ 30.
  12. ابن عاشر، عبد الواحد: المرشد المعين على الضروري من علوم الدين. مكتبة القاهرة ب ت، القاهرة، ص:1، 3
  13. ابن محمد بن علي الأنصاري الهروي، عبد الله: ذم الكلام وأهله. مصدر سابق
  14. ابن الحسين الآجري، محمد: الشريعة، دار الوطن ط1 1997 ص: 110
  15. هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي، المعروف بأبي علي الجبائي. شيخ المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره، مؤسس فرقة الجبائية. ولد سنة 235 هـ\849م في مدينة جُبّى في خوزستان، وتوفي في البصرة سنة 303 هـ\916م.
  16. الشاطبي، أبي إسحاق، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان،1414/1994، 1/62-63
  17. الشاطبي، أبو إسحاق، الاعتصام، عناية مكتب تحقيق التراث، وفهرسة رياض عبد الله عبد الهادي، ط1،1417/1997، 2/487
  18. ولد سيدي محمد، محمدن: المدرسة الأشعرية في السياق الإفريقي وأثرها في تعزيز التسامح والسلام، مجلة العلماء الأفارقة السنة الأولى العدد 1 – 2019
  19. النحوي، الخليل: بلاد شنقيط المنارة والرباط،، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1987، ص: 196