استراتيجيات الإقناع في قصيدة الجواهري (ياسيدي أسعف فمي)

م. د. حمزة عبيس عبد السادة1 أ.م.د كاظم جاسم منصور2

1 كلية المستقبل الجامعة، العراق

بريد الكتروني: hamza.obais@uomus.edu.iq

2 كلية الآداب/ جامعة بابل، العراق.

بريد الكتروني: art.kadhim.jassim@uobabylon.edu.iq

تنزيل الملف

HNSJ, 2022, 3(10); https://doi.org/10.53796/hnsj31035

تاريخ النشر: 01/10/2022م تاريخ القبول: 24/09/2022م

المستخلص

يهدف هذا البحث الى بيان الاستراتيجيات الإقناعية بوصفها تقنيات تؤديها اللغة فضلا عن وظيفة التبليغ والتواصل في قصيدة الجواهري (أسعف فمي)، لغرض حمل المخاطب (الملك الحسين بن طلال) على التسليم بما يعرض عليه من أفكار. وعلى وفق هذا الفهم سيتكفل هذا البحث بيان تلك الاستراتيجيات الإقناعية في القصيدة التي أنشدها أمام الملك الحسين بن طلال بمناسبة مولده عام 1995 في عمان، ولأهمية هذه القصيدة وقيمتها الفنية والاجتماعية وقع الاختيار عليها لغرض دراستها وبيان بنيتها الإقناعية بشيء من التفصيل. فالمقام مقام احتفالي ينماز بالشفاهية؛ يستدعي لفت انتباه السامعين ولا سيما المحتفى به (الملك)، والمحافظة على هذا الانتباه أكبر قدر ممكن لغرض الإقناع من خلال تلك الاستراتيجيات الإقناعية.

الكلمات المفتاحية: الجواهري، أسعف، استراتيجيات، الإقناع

Research title

Persuasion strategies in Al-Jawahiri’s poem

Sir, help my mouth

M.Dr. Hamza Obeis Abdel Sada1 Ass. Prof. Dr. Kazem Jassem Mansour2

1 Future University College, Iraq

Email: hamza.obais@uomus.edu.iq

2 College of Arts/ University of Babylon, Iraq.

Email: art.kadhim.jassim@uobabylon.edu.iq

HNSJ, 2022, 3(10); https://doi.org/10.53796/hnsj31035

Published at 01/10/2022 Accepted at 24/09/2021

Abstract

This research aims to clarify persuasive strategies as techniques performed by language as well as the function of communication and communication in Al-Jawahiri’s poem (Assaaf my mouth), for the purpose of getting the addressee (King Hussein bin Talal) to accept the ideas presented to him. According to this understanding, this research will explain those persuasive strategies in the poem that he sang before King Hussein bin Talal on the occasion of his birth in 1995 in Amman. The maqam is a ceremonial shrine marked by orality; It calls for drawing the attention of the listeners, especially the celebrated (the king), and maintaining this attention as much as possible for the purpose of persuasion through these persuasive strategies.

Key Words: jeweler, paramedic, strategies, persuasion

المقدمة:

تعد قصيدة الجواهري (ياسيدي أسعف فمي) من عيون الشعر الحديث، التي ألقاها عام 1995م في حفل عيد ميلاد الملك الحسين بن طلال ملك المملكة الأردنية الهاشمية، وهي قصيدة تفوح بالصور التي رسمها الجواهري للملك وأسرته. ولما كان السياق الذي قيلت فيه واضحا؛ فالمتكلم معروف والمخاطب معروف والمناسبة معروفة وزمان إلقائها ومكانه معروفان، وغاية الجواهري منها إرضاء الملك، وبذلك تحققت البنية التداولية فيها، وصارت تستجيب للتحليل التداولي، ومن هنا جاءت فكرة البحث في بيان استراتيجيات الإقناع التي استعملها الشاعر في قصيدته.

وقدم الجواهري رائعة من روائع الشعر العربي الحديث بين يدي الملك الحسين بن طلال نالت إعجابه وإعجاب الحاضرين، من خلال قدرته على الإقناع، ولذلك جاء البحث ليفك رموزها ويستجلي الوسائل الإقناعية التي استعملها الشاعر في قصيدته، لبيان الأمور الآتية:

  1. قدرة الجواهري على الإقناع
  2. الاستراتيجيات الإقناعية التي سخرها الجواهري لغرض الإقناع
  3. الأساليب اللغوية التي استعملها الجواهري في كل استراتيجية لتحقيق غرض الإقناع

أولا: مفهوم الاستراتيجية

الاستراتيجية عمل عقلي مبني على افتراضات مسبقة، من خلال أدوات ووسائل تناسب سياق استعمالها، وعلى وفق ذلك لا يُنتِج المتكلم خطابه من دون أن يأخذ بالحسبان السياق؛ فلا خطاب إلا وينخرط في سياق معين([1]). فالتواصل بين المتكلم والمخاطب لا يتوقف على اللغة فحسب، وإنما يتطلب استعمالها في الفعل التواصلي بكيفيات منظمة ومتناسقة، تتناسب مع مقتضيات السياق. ويتجلى ذلك عند التلفظ بالخطاب في ما يسمى بـ (استراتيجية) الخطاب، بوصفها “كل فعل قصدي منسّق للوصول الى هدف معين”([2]).

فالخطاب المنجز يكون مخطط له، وهذا الأمر يتطلب من المتكلم أن يختار الاستراتيجية المناسبة للظروف السياقية التي يُنتَج فيها خطابه، لتعبر عن قصده الإقناعي بأتم وجه([3]) . وتتدخل عناصر السياق الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية في تحديد الاستراتيجية المناسبة، وفي استعمال استراتيجية وانحسار أخرى. وعلى وفق ذلك لا يتم الإقناع إلا باستحضار السياق الذي يتيح للمتكلم إنتاج خطابه بتوظيف استراتيجية معينة أو مجموعة استراتيجيات. ومن أبرز الاستراتيجيات التي يستعملها المتكلمون في خطاباتهم، هي:

  1. الاستراتيجية التوجيهية
  2. الاستراتيجية التوضيحية
  3. الاستراتيجية التلميحية
  4. الاستراتيجية الحجاجية الإقناعية

واستعمال كل استراتيجية من هذه الاستراتيجيات تفرضه أهداف ومقاصد المتكلم، وهذا ما يميز مفهوم الاستراتيجية في حد ذاته([4]).

ثانيا: مفهوم الإقناع

إن غاية المتكلم التي يرمي إليها من خطابه إقناع المخاطب، أي “إحداث تغيير في الموقف الفكري أو العاطفي”([5]) لديه. وينبغي فعل الإقناع وتوجيهه على افتراضات سابقة بشأن عناصر السياق، ولا سيما المخاطب. وتستعمل استراتيجيات الإقناع من أجل تحقيق أهداف المتكلم في توصيل مقاصده الى المخاطب وإقناعه بأسلوب حجاجي. إذ إن غاية كل حجاج هي تحصيل الإقناع؛ وذلك بحسب ما يرى بيرلمان من أن ” إذعان العقول بالتصديق لما يطرحه المرسل، أو العمل على زيادة الإذعان هو الغاية من كل حجاج؛ فأنجع حجة هي تلك التي تنجح في تقوية حدة الإذعان عند من يسمعها وبطريقة تدفعه الى المبادرة، سواء بالإقدام على العمل أو الإحجام عنه” ([6])

أولا: الاستراتيجية التوجيهية

تعنى هذه الاستراتيجية باستعمال الأفعال الكلامية التي تندرج تحت ما يسمى بالتوجيهيات([7]) ، في خطابات النصح والتحذير، لغرض توجيه المخاطب لمصلحته بالنفع من جهة، ودفع الضرر من جهة أخرى، ولذلك تتضمن هذه الاستراتيجية ضغطا ولو بدرجات متفاوتة على المخاطب وتوجيهه لفعل مستقبلي([8]) ؛ من حيث إن التوجيه يأتي في صور متعددة منها السؤال والأمر والنهي، وغير ذلك. وتتطلب هذه الاستراتيجية أن يكون المخاطب معروفا حاضرا عند التلفظ بالخطاب،؛ إذ تتدخل فيه سمات المتلقي الشخصية والمعرفة المشتركة بين الطرفين: المتكلم والمخاطب، فيمكن أن يتحدث المتكلم ليجعل شخصا يتصرف كما في حالة الأمر والنصيحة والرجاء أو الرفض أو المنع، وهذه المقاصد هي التي يريد المتكلم إنجازها باستراتيجية توجيهية تقوم على مبدأين: سلطة المتكلم واتجاه المنفعة([9]) ، وقد تتجه المنفعة الى أحد الطرفين أو كليهما.

النداء:

يعد النداء توجيها؛ لأنه يحفز المخاطب لاتخاذ موقف ما من المتكلم([10]) ، وقد استهل الجواهري قصيدته بأسلوب النداء في مطلع قصيده في قوله([11])

يا سيّدي أَسْعِفْ فَمِي لِيَقُــولا

في عيدِ مولدِكَ الجميلِ جميلا

أَسْعِفْ فَمِي يُطْلِعْكَ حُـرّاً ناطِفَـاً

عَسَلاً، وليسَ مُدَاهِنَاً مَعْسُولا

وقد تكرر النداء بشكل لافت في مقاطع متعددة، كقوله([12]):

يا أيّـها المَلِـكُ الأَجَلُّ مكانـةً

بين الملوكِ، ويا أَعَزُّ قَبِيلا

يا ابنَ الهواشِمِ من قُرَيشٍ أَسْلَفُـوا

جِيلاً بِمَدْرَجَةِ الفَخَارِ، فَجِيلا

نَسَلُوكَ فَحْلاً عَنْ فُحُـولٍ قَدَّمـوا

أَبَدَاً شَهِيدَ كَرَامَةٍ وقَتِيلا

وقوله أيضا([13]):

يا مُلْهَمَاً جَابَ الحيـاةَ مُسَائِـلاً

عَنْها، وعَمَّا أَلْهَمَتْ مَسْؤُولا

وقوله([14]):

يا مُبْرِئَ العِلَلَ الجِسَـامَ بطِبّـهِ

تَأْبَى المروءةُ أنْ تَكُونَ عَلِيلا

وقوله([15]):

يا سَيِّدي ومِنَ الضَّمِيـرِ رِسَالَـةٌ

يَمْشِي إليكَ بها الضَّمِيرُ عَجُولا

حُجَـجٌ مَضَتْ، وأُعِيدُهُ في هَاشِمٍ

قَوْلاً نَبِيلاً، يَسْتَمِيحُ نَبِيلا

يا ابنَ الذينَ تَنَزَّلَتْ بِبُيُوتِـهِمْ

سوَرُ الكِتَابِ، ورُتّلَتْ تَرْتِيلا

الحَامِلِينَ مِنَ الأَمَانَةِ ثِقْلَـهَـا

لا مُصْعِرِينَ ولا أَصَاغِرَ مِيلا

والطَّامِسِينَ من الجهالَـةِ غَيْهَبَـاً

والمُطْلِعِينَ مِنَ النُّهَـى قِنْدِيلا

والجَاعِلينَ بُيوتَـهُمْ وقُبورَهُـمْ

للسَّائِلينَ عَنِ الكِـرَامِ دِلِيلا

وقوله([16]):

يا ابنَ النَبِيّ، وللمُلُـوكِ رِسَالَـةٌ،

مَنْ حَقَّهَا بالعَدْلِ كَانَ رَسُولا

قَسَمَاً بِمَنْ أَوْلاكَ أوْفَـى نِعْمَـةٍ

مِنْ شَعْبِكَ التَّمْجِيدَ والتأهِيلا

أَني شَفَيْتُ بِقُرْبِ مَجْدِكَ سَاعَـةً

من لَهْفَةِ القَلْبِ المَشُوقِ غَلِيلا

لقد تكرر النداء في القصيدة خمس مرات متبوعا بفعل أمر (يا سيدي)، أو متبوعا بصفة للمنادى (الملك حسين بن طلال)، فهو: الملك، وابن الهواشم، والملهم، والمبرئ، وابن النبي، والأعز، لغرض استمالة أسماع المنادى / الملك وحمله على الإصغاء لما سيقوله الشاعر بحقه، وتوجيهه بصورة غير مباشر للقيام بفعل ما يخدم الشاعر.

الأمر:

يعد الأمر من الأفعال التوجيهية لكونه يجعل من التلفظ بالصيغة الأمرية دلالة على الوجوب، باتفاق الصيغة مع سلطة المتكلم ([17]). وقد ورد هذا الأسلوب في قصيدة الجواهري في البيتين السابقين:

يا سيّدي أَسْعِفْ فَمِي لِيَقُــولا

في عيدِ مولدِكَ الجميلِ جميلا

أَسْعِفْ فَمِي يُطْلِعْكَ حُـرّاً ناطِفَـاً

عَسَلاً، وليسَ مُدَاهِنَاً مَعْسُولا

إذ كرر الأمر (أسعف فمي) مرتين، وهو هنا، أي الأمر، ليس أمرا على الحقيقة، وإنما يخرج في هذا السياق الى معنى الطلب، لأن المخاطب هو الملك، والشاعر لا يأمر الملك وإنما يطلب منه أن يسعف فمه ليقول فيه جميلا. ولهذا استهل الجواهري قصيدته مخاطبا الملك الحسين بن طلال بصيغه النداء “يا سيدي” متبوعة بطلب “أسعف” ليتناسب التعبير مع الحالة الشعورية للنص، وهي العرفان بالجميل. وقد كرر الشاعر صيغة الطلب (أسعف فمي) مرتين لتأكيد معنى طلب الإذن من الملك ليقول فيه جميلا بمناسبة عيد مولده.

ثانيا: الاستراتيجية التوضيحية

وبعد أن استوثق الجواهري من توجيه الملك وشدّ انتباهه لما سيقول فيه من كلام جميل انتقل الى الاستراتيجية التوضيحية، وقد تسمى بالاستراتيجية الإخبارية، فالإخبار لا يعدو أن يكون إلا إحدى غايات التوضيح، وكلاهما يؤدي غاية الإقناع([18]) ومن متطلبات التوضيح رغبة المتكلم في أن يكون كلامه محيطا وشاملا، وهذا ما تحقق في قصيدة الجواهري، فبعد أن نجح في لفت انتباه الملك بصيغ النداء المارة الذكر في الاستراتيجية التوجيهية، راح يوضح جملة أمور: فهو، أي الملك، أجل مكانة بين الملوك، وهو من أعز قبائل العرب من قريش، وهو من فحولها الذين قدّموا الشهداء، وهو السائل والمسؤول، وهو صاحب المروءة، وهو الذي ينحدر من بيت النبوة ومن حاملي الرسالة من بني هاشم وهو حاملها اليوم بالعدل.

ومن أساليب التوضيح الأخرى التي استعملها الجواهري في قصيدته ما يطلق عليه في الأدبيات التداولية (الأفعال الكلامية) الإنجازية ذات الصلة الوثيقة بالتوضيح، وهي الأفعال الإنجازية التقريرية، والتقرير في العربية يمكن أن يؤدى في أسلوب خبري بسيط أو في أسلوب إنشائي([19]) . ومن أساليب التقرير لغرض إنجاز فعل كلامي توضيحي في قصيدة الجواهري:

التأكيد بالقسم: وهو غرض تواصلي يلجأ إليه المتكلم لتثبيت الشيء في نفس المخاطب([20]) ومما ورد في قصيدة الجواهري إنجاز فعل التأكيد بالقسم الإخباري([21]) في قوله([22]):

قَسَمَاً بِمَنْ أَوْلاكَ أوْفَـى نِعْمَـةٍ

مِنْ شَعْبِكَ التَّمْجِيدَ والتأهِيلا

أَني شَفَيْتُ بِقُرْبِ مَجْدِكَ سَاعَـةً

من لَهْفَةِ القَلْبِ المَشُوقِ غَلِيلا

وأَبَيْتَ شَأْنَ ذَوِيـكَ إلاّ مِنَّـةً

لَيْسَتْ تُبَارِحُ رَبْعَكَ المَأْهُولا

فوَسَمْتَني شَرَفَاً وكَيْـدَ حَوَاسِـدٍ

بِهِمَا أَعَزَّ الفَاضِـلُ المَفْضُولا

ولسوفَ تَعْرِفُ بعـدَها يا سيّـدي

أَنِّي أُجَازِي بالجَمِيلِ جَمِيلا

ففي هذا المقطع أنجز الجواهري فعلا كلاميا هو فعل التأكيد لتوضيح جملة أمور من خلال القسم؛ فهو يقسم ليؤكد ما يريد أن يوضحه للملك من أنه شفى قلبه المتلهف للقاء الملك بهذا اللقاء، ويبيت بقرب الملك كأحد أفراد عائلته ولا يميزه عنهم إلا المنة وهي من طباع الملك، وأنه نال وسام الشرف وكيد حسّاده، وأنه أي الجواهري، بعد كل هذا الجميل الذي حصل عليه بقرب الملك سيجازيه جميلا.

وفي كل ما جرى من أساليب توضيحية كان الجواهري متضامنا مع الملك ومتعاونا معه بحسب مفهوم مبدأ التعاون الغرايسي([23]) فهو لم يأت بأمر أو معلومة لم يكن صادقا فيها أو لم يملك الدليل على صحتها، , وكل ما قاله بحق الملك في هذه الاستراتيجية جاء مناسبا للمقام، فالمقام مقام مدح، وأخيرا جاء كلامه واضحا لا لبس فيه ولا غموض، وبذلك احترم الجواهري مبادي التعاون: الكيف :لا تقل ما تعتقد بطلانه، أو بما يعوزك الدليل عليه ، والجهة : كن واضحا وموجزا ومرتبا، والطريقة : كن ملائما([24]) وعلى ما يبدو أن الجواهري قد خرق مبدأ الكم : لتكن مشاركتك مفيدة بالقدر المطلوب من دون زيادة او نقصان([25])، فأسهب في التوضيح ليقول للملك بطريقة غير مباشرة أنه يجل الملك وله مكانة سامية في نفسه.

ثالثا:الاستراتيجية التلمحية

وتظهر في عدم التصريح بالقصد أو الاكتفاء بالتلميح والإشارة له، ومن أدواتها المجاز والاستعارة والتشبيه والكناية، وأفعال الكلام غير المباشره ،واتخاذ القرار، وإعطاء الوعود، وإبرام العقود التي تؤدى بعبارات لغوية صرفت عن معناها الأصلي الى معنى أخر يفهم واسطة القرائن السياقية وغير السياقية. وبذلك يصبح التلميح في بعض السياقات التواصلية أنجع وسيلة لأداء مقاصد المتكلم في ضمن ما يسمى بمتضمنات القول([26]). وإذا كان التوضيح جزءا من مفهوم البيان فإن التلميح هو جزء من هذا المفهوم أيضا([27]). ومما ورد في ضمن استراتيجية التلميح في قصيدة الجواهري قوله:

للهِ دَرُّكَ من مَهِيـبٍ وَادِعٍ

نَسْرٍ يُطَارِحُهُ الحَمَامُ هَدِيلا

شبه الجواهري الملك حسين بالنسر الذي يطرحه الحمام بهديله، ولعله من الصعب أن يجمع الإنسان بين المهابة والوداع في وقت واحد، فقد وفق الجواهري في هذا الاستعمال الدقيق لكلمة هديل، صوت الحمام؛ وذلك لأن مطارحة الحمام تحتاج إلى صوت، أي إلقاء، وهكذا يتم المعنى تلميحا لا صراحة، فالملك يقصده الناس ليقضي حوائجهم. فاستعمال الجواهري لهذه الاستعارة في سياق القصيدة يؤدي معنى تحلي الملك بصفتي القوة مع والوداعة،

وفي قوله([28]):

يُهْدِيهِ ضَوْءُ العبقـريِّ كأنَّــهُ

يَسْتَلُّ منها سِرَّهَا المجهـولا

استعمل الجواهري الاستراتيجية التلميحية، فكأن الملك يستل من الحياة السر المجهول، فقد شبه الشاعر الملك حسين بالفارس والسر بالسيف والحياة بغمده بطريقة تلميحية، فكما الفارس يستل السيف من غمده، فإن الملك يستل السر من الحياة. والمعنى المضمر المستفاد من هذا التلميح هو وصف الملك بأنه فارس وشجاع ومقدام.

وعلى ما يبدو أن الجواهري في هذين المثالين خرق مبادي التعاون ولاسيما مبدأ الجهة، من خلال التلميح، إذ إن استعمال هذه الاستراتيجية يستلزم فهم هذا الاستعمال للوصول الى المقصود منها عن طريق الاستدلال([29]).

رابعا: الاستراتيجية الحجاجية الإقناعية

يحتل الحجاج أهمية كبيره في الدراسات اللغوية المعاصرة نظرا لكونه على علاقة مباشره بما يسمى بنظريه القول الحديث او أفعال الكلام، كون الحجاج يتبني أطروحة معينة، تميزها القرائن اللغوية مثل أنا آنت هنا الآن، فهدف المحاججة هو محاوله التأثير في المتلقي وتغيير رأيه. ويعد الحجاج الركيزة الأساسية للنصوص الموجهة المتضمنة للمقصدية والنقاش في النقد والجد لغرض إقناع المتلقي([30]) .

إن الخاصية الأساسية لهذه الاستراتيجية هي عدم الإكراه لبنائها على الحقيقة العقلية والتي تقتضي مجموعة من الاستدلالات تجر المخاطب جرّا الى الاقتناع، فإن اقتنع به صار كالقائل، وإذا لم يقتنع ردّه على قائله. وقد تمتزج أساليب الإقناع بأساليب الإمتاع فتون بذلك أقدر على التأثير في المخاطب لما يمنحه الإمتاع من قوة في استحضار الأشياء في الذهن، فتصبح وكأنه يراها رأي العين([31]) .

لقد استعمل الجواهري في قصيدته استراتيجية إقناعية تقوم على ظاهرة السلّم الحجاجي بوصفه مجموعة من الأقوال التراتبية بحيث تلزم عن القول الموجود في الطرف الأعلى جميع الأقوال التي تقع دونه، والقول الأعلى دليل على صحة ما يقع دونه([32]) ، وهذا السلّم الحجاجي يتكفل بتنظيم الحجج الإقناعية وترتيبها من حيث قوتها وقيمتها الحجاجية في السياق([33]) وذلك يتجلى في قوله([34]):

يا أيّـها المَلِـكُ الأَجَلُّ مكانـةً

بين الملوكِ، ويا أَعَزُّ قَبِيلا

يا ابنَ الهواشِمِ من قُرَيشٍ أَسْلَفُـوا

جِيلاً بِمَدْرَجَةِ الفَخَارِ، فَجِيلا

نَسَلُوكَ فَحْلاً عَنْ فُحُـولٍ قَدَّمـوا

أَبَدَاً شَهِيدَ كَرَامَةٍ وقَتِيلا

فقد بنى الجواهري هذا المقطع على سلّم حجاجي يضع في قمته النتيجة، وهي أن الملك أجل الملوك وأشرفهم نسبا، ثم يتدرج بالحج من الأعلى: أنه قرشي، هاشمي، فحل، آباؤه شهداء، ومن يمتلك هكذا صفات لا بد أن يكون أجل الملوك وأشرفهم نسبا.

ويمضي الجواهري في سلّم حجاجي آخر، ليثبت أن الملك ينحدر عن بيت النبوة، ففي قوله([35]):

يا ابنَ الذينَ تَنَزَّلَتْ بِبُيُوتِـهِمْ

سوَرُ الكِتَابِ، ورُتّلَتْ تَرْتِيلا

الحَامِلِينَ مِنَ الأَمَانَةِ ثِقْلَـهَـا

لا مُصْعِرِينَ ولا أَصَاغِرَ مِيلا

والطَّامِسِينَ من الجهالَـةِ غَيْهَبَـاً

والمُطْلِعِينَ مِنَ النُّهَـى قِنْدِيلا

والجَاعِلينَ بُيوتَـهُمْ وقُبورَهُـمْ

للسَّائِلينَ عَنِ الكِـرَامِ دِلِيلا

شَدَّتْ عُرُوقَكَ من كَرَائِمِ هاشِـمٍ

بِيضٌ نَمَيْنَ خَديجـةً وبَتُولا

وحَنَتْ عَلَيْكَ من الجُدُودِ ذُؤابَـةٌ

رَعَتِ الحُسَيْنَ وجَعْفَراً وعَقِيلا

يضع النتيجة في مقدمة المقطع وهي أن الملك ينتمي الى بيت النبوة، ومن ثم، يعرض الحجج بشكل تراتبي، إذ ينحدر عن أجداد يتصفون بــ: الأمانة، البشاشة، العلم، العقل، الكرم، أمه البتول وخديجة، وجده علي. ومن تكون هذه صفات أجداه لابد أن يكون مثلم يتصف بما اتصفوا به.

الخاتمة:

وفي ختام البحث لابد من أن نشير الى أن الجواهري استعمل الاستراتيجيات الإقناعية متداخلة فيما بينها: التوجيه والتوضيح والتلميح مع الحجاج، إذ يضبطها ضابط الغاية وهو الإقناع، وهي غاية تسللت الى جميع أبيات القصيدة. ومن خلال البحث بدا لنا أن استعماله للاستراتيجيات الإقناعية جاء متفاوتا من حيث المساحة، فالاستراتيجية التوضيحية تحتل المرتبة الأولى من بينها، ومن ثم التلميحية فالحجاجية، وأقلها التوجيهية التي بدأ بها قصيدته. وقد أثبت الجواهري براعته في استثمار تلك الاستراتيجيات.

المصادر:

– استراتيجيات الخطاب الاعلاني التلفزيوني لدى شركات هاتف النقال في الجزائر، خديجه بن فطوم ،رساله ماجستير، اكلي محمد الحاج -البويرة، ٢٠١٢.

– استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية، عبدالهادي بن ظافر الشهري ، دار الكتاب الجديدة المتحدة، ط1 ،٢٠٠٤.

– الأعمال الشعرية الكاملة لمحمد مهدي الجواهري- شاعر الرفض والإباء، عصام عبد الفتاح، مكتبة جزيرة الورد، ط1، القاهرة، 2011 .

  • البلاغة والأسلوبية، هنريش بليث، تر: محمد العمري، أفريقيا الشرق، ط2، بيروت،1989 .
  • تداولية الخطاب السردي، محمد طلحة ، عالم الكتاب الحديث، ط1، ٢٠١٢.
  • التداولية عند العلماء العرب، د. مسعود صحراوي، دار الطليعة، ط1، بيروت،2005.
  • التداولية في الفكر النقدي (أطروحة دكتوراه)، د. كاظم جاسم منصور العزاوي، جامعة بابل، 2012.
  • شرح الكافية في النحو لابن الحاجب، رضي الدين الاستراباذي، تح: د. رحاب عكاوي،دار الفكر العربي، 2000.
  • في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، ط2، المغرب، 2000.
  • مبادئ اللسانيات البنوية دراسة تحليلية ابستمولوجية، دار القصبة للنشر، ط1، الجزائر، 2001.
  • النظرية القصدية في المعنى عند جرايس، د. صلاح اسماعيل، حوليات الاداب والعلوم الاجتماعية، مجلس البحث العلمي، الحولية25، 2005.

ترجمة المصادر:

  • Television Advertising Discourse Strategies for Mobile Phone Companies in Algeria, Khadija Ben Fattoum, Master Thesis, Akley Mohamed El Hajj – Bouira, 2012.
  • Discourse Strategies: A Pragmatic Linguistic Approach, Abdulhadi bin Dhafer Al-Shehri, New United Book House, 1, 2004.
  • The complete poetic works of Muhammad Mahdi Al-Jawahiri – The Poet of Rejection and Ibaa, Issam Abdel-Fattah, Jazirat Al-Ward Library, 1st Edition, Cairo, 2011.
  • Rhetoric and Stylistics, Heinrich Blythe, : Muhammad Al-Omari, East Africa, 2nd Edition, Beirut, 1989.
  • The Pragmatics of Narrative Discourse, Muhammad Talha, The Modern Book World, 1, 2012.
  • Deliberative among Arab scholars, d. Masoud Sahrawi, Dar Al-Tali`a, 1st Edition, Beirut, 2005.
  • Pragmatics in Critical Thought (PhD thesis), d. Kazem Jassem Mansour Al-Azzawi, University of Babylon, 2012.
  • Explanation of al-Kafia fi al-Nahwiyah by Ibn al-Hajeb, Radhi al-Din al-Istrabadi, edited by: Dr. Rehab Akkawi, Arab Thought House, 2000.
  • On the Origins of Dialogue and the Renewal of Theology, Taha Abdel Rahman, The Arab Cultural Center, 2nd Edition, Morocco, 2000.
  • Principles of Structural Linguistics: An Analytical Epistemological Study, Dar Al Kasbah Publishing, 1st Edition, Algeria, 2001.
  • Intentional theory of meaning according to Grace, d. Salah Ismail, Annals of Arts and Social Sciences, Scientific Research Council, Yearbook 25, 2005.

الهوامش:

  1. () استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية: 55.
  2. () تداولية الخطاب السردي: 139.
  3. () م. ن: 56.
  4. () تداولية الخطاب السردي: 141.
  5. () البلاغة والأسلوبية1989: 64.
  6. () استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية: 356.
  7. () تداولية الخطاب السردي: 151.
  8. () استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية: 322.
  9. () م.ن:324.
  10. () م. ن: 358.
  11. () الأعمال الشعرية الكاملة لمحمد مهدي الجواهري- شاعر الرفض والإباء: 519.
  12. () الأعمال الشعرية الكاملة لمحمد مهدي الجواهري- شاعر الرفض والإباء: 519.
  13. () الأعمال الشعرية الكاملة لمحمد مهدي الجواهري- شاعر الرفض والإباء: 520.
  14. () م. ن: 520.
  15. () م. ن: 520.
  16. () الأعمال الشعرية الكاملة لمحمد مهدي الجواهري- شاعر الرفض والإباء: 520.
  17. () استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية: 342.
  18. () تداولية الخطاب السردي: 141.
  19. () التداولية عند العلماء العرب: 203.
  20. () م. ن: 206).
  21. () شرح الكافية في النحو لابن الحاجب: 217.
  22. () الأعمال الشعرية الكاملة لمحمد مهدي الجواهري- شاعر الرفض والإباء: 521.
  23. () النظرية القصدية في المعنى عند جرايس: 87.
  24. () التداولية في الفكر النقدي: 64.
  25. () م. ن: 64.
  26. () التداولية عند العلماء العرب: 146.
  27. () تداولية الخطاب السردي: 147.
  28. () الأعمال الشعرية الكاملة لمحمد مهدي الجواهري- شاعر الرفض والإباء: 520.
  29. () تداولية الخطاب السردي: 151.
  30. () استراتيجيات الخطاب الاعلاني التلفزيوني لدى شركات هاتف النقال في الجزائر: 123.
  31. () في أصول الحوار وتجديد علم الكلام: 38.
  32. () في أصول الحوار وتجديد علم الكلام: 277-278)،
  33. () تداولية الخطاب السردي: 160).
  34. ()الأعمال الشعرية الكاملة لمحمد مهدي الجواهري- شاعر الرفض والإباء: 519.
  35. () م. ن: 520.