الأسلوب البلاغي وأثره النفسي على المخاطب التمثيل نموذجا

د. النذير العجيبة أحمد البلة1 د. عباس الشريف عبدالله إبراهيم2

1 أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية – كلية التربية ـ جامعة الضعين ـ السودان. بريد الكتروني: Alnazeermfrh@gmail.com

أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية – كلية التربية ـ جامعة الضعين ـ السودان. بريد الكتروني: Abbsharif11@gmail.com

HNSJ, 2022, 3(11); https://doi.org/10.53796/hnsj31135

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/11/2022م تاريخ القبول: 23/10/2022م

المستخلص

تتناول هذه الدراسة الأسلوب البلاغي وأثره على المتلقي واتخذت من أسلوب التمثيل نموذجا للدراسة، حيث عرضت لمفهوم الأسلوب وأنواعه وعوامل تشكله بجانب شروط فصاحته وأثره النفسي على المتلقي، كما تناولت الدراسة مفهوم التمثيل ومواقعه وخصائصه الفنية في القرآن الكريم وآراء و أقوال العلماء والفصحاء، والأدباء في ما يتعلق بالأسلوب والتمثيل، واتبعت الدراسة المنهج الوصفي التحليلي وأخيراً خلصت إلى نتائج تم إدارجها بنهاية الدراسة.

الكلمات المفتاحية: الأسلوب البلاغي ، التمثيل ، الأثر النفسي ، المتلقي .

Research title

Rhetorical style and its psychological impact on the addressee

Representation as a model

Dr. Elnazir El Agiba Ahmed Al-Bella 1 Abbas Sharif Abdullah Ibrahim2

1 Assistant Professor, Department of Arabic Language – College of Education – El Daein University – Sudan. Email: Alnazeermfrh@gmail.com

2 Assistant Professor, Department of Arabic Language – College of Education – El Daein University – Sudan. Email: Abbsharif11@gmail.com

HNSJ, 2022, 3(11); https://doi.org/10.53796/hnsj31135

Published at 01/11/2022 Accepted at 23/10/2021

Abstract

This study deals with the rhetorical style and its impact on the recipient , and took the representation style as a model for the study ; it presented the concept of style, its types and factors that form it, in addition to the conditions of its eloquence and its psychological impact on the recipient , the study also dealt with the concept of representation, its locations and technical characteristics in the Holy Qur’an , and the opinions and sayings of scholars, eloquent, and writers with regard to style and representation.

Key Words: rhetorical style, representation, psychological impact, recipient

المحور الأول: الإطار المنهجي

المقدمة:

الحمد لله الذى أنزل القران، وكرم بنى آدم بعلم البيان، والصلاة والسلام على خير بنى عدنان، أفضل الحقيقة لا المجاز، وأعلمهم بأسرار الكتابة وحقيقة الاعجاز.

أعلم أن البلاغة فى وضع اللغة، هى الوصول إلى الشيء والانتهاء إليه فيقال، بلغت البلد البعيد أبلغ بلوغاً، وسمي الكلام بليغاً لأنه قد يبلغ به جميع المحاسن كلها فى ألفاظه ومعانيه، وهو فى مصطلح النظار من علماء البيان عبارة عن الوصول إلى المعانٍ والبديعة بالألفاظ الحسنة، وإن شئت قلت هى عبارة عن حسن السبك مع جودة المعانٍ والمقصود من البلاغة هو وصول الإنسان بعبارته كنه مافى قلبه مع الاحتراز عن الإيجاز المخل بالمعاني وعن الإطالة المملة للخواطر.[1]

  • مشكلة الدراسة

ترتكز مشكلة الدراسة حول الإجابة على الأسئلة التالية :

ما الأسلوب البلاغي ؟ وما الأثر الذي يحدثه الأسلوب البلاغي في نفس المتلقي ؟

ما أثر أسلوب التمثيل على نفس السامع ؟

  • أسباب اختيار الدراسة :
  • السعى فى هذه الدراسة إلى إضاءة هذا الجانب.
  • عرض الاتجاه النفسى فى الدرس البلاغي.
  • أهداف الدراسة :
  • كشف أحوال المتكلم وأثرها في نفس المتلقي ومراعاته لحال المخاطب.
  • الوقوف علي حال المتكلم والمخاطب في التراث البلاغى والنقدى.
  • رصد حال المتكلم والمخاطب عند المحدثين ومناهجهم النقدية الحديثة.
  • أهمية الدراسة ؟

تنبع أهمية الدراسة في أنها تتناول نوعا مهما من أنواع الأساليب وهو الأسلوب البلاغي الذي يعتمد عليه حسن تركيب الجملة التي يتلقاها المتكلم عند استماعه أو قراءته للنصوص ، وبيان الأثر النفسي الذي يحدثه في نفس السامع أو المتلقي ، إضافة إلى روعة الجمال والتصوير الدقيق الذي يبرزه هذا النوع .

منهج الدراسة :

اتبعت هذه الدراسة المنهج التاريخي والتحليلي.

المحور الثاني : الإطار النظري

أولا : مفهوم الأسلوب وأنواعه وعوامل تشكيله

  1. مفهوم الأسلوب :

تتنوع مفاهيم الأسلوب تبعا لنوعه ، ويمكن تعريف الأسلوب على أنه :

لغة : الطريف ، أو الفن من القول أو العمل [2]

اصطلاحا: الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه واختيار ألفاظه [3]

وفي البلاغة : هو المعنى الموضوع في ألفاظ مؤلفه على صورة تكون أقرب لنيل المقصود من الكلام والأفعال في نفوس سامعيه [4]

2ـ أقسام الأسلوب البلاغة :

  1. علم المعاني : أصول وقواعد يعرف بها أحوال الكلام العربي التي يكون بها مطابقا لمقتضى الحال بحيث يكون وفق الغرض الذي سبق له [5]

أو هو علم تعرف به أصول مراعاة الكلام لمقتضى الحال وتأديته وقت ما يطلبه المقام [6]

  1. علم البيان : أصول وقواعد يعرف بها إيراد المعنى الواحد بطرق يختلف بعضها عن بعض في وضوح الدلالة العقلية على نفس ذلك المعنى [7]
  2. علم البديع : هو علم يعرف به الوجوه والمزايا التي تزيد الكلام حسنا وطلاوة وتكسوه بهاء ورونقا بعد مطابقته لمقتضى الحال [8]
  3. عوامل تشكيل الأسلوب
  4. الأسلوب والفرد “المبدع” :

إن المؤلف هو مبدع الأسلوب وهو صاحبه ، والأسلوب من علامات عبقريته وتميّزه، وهو – في أحد وجوهه- ظاهرة فردية تمثل القائل وتدلٌ عليه.

  1. الأسلوب والنص “الرسالة”

شخصية القائل الفردية ليست وحدها مشكلة للأسلوب بل يخضع لعوامل أخرى منها النصّ نفسه ‏ المتمثّل في طبيعة الرسالة أو الغرض الذي يراد التعبير عنه .

يشير ابن الأثير إلى ارتباط الألفاظ المفردة التي ينتقيها المتكلّم بالغرض أو الموضوع ، فيقول : تنقسم الألفاظ في الاستعمال إلى جزلة ورقيقة ولكل منها موضع يحسّن استعمالها فيه؛ فالجزل منها يستعمل في مواقف الحروب وفي قوارع التهديد والتخويف وأشباه ذلك . وأما الرقيق منها فإنه يستعمل في وصف الأشواق ، وذكر أيام البعاد، وفي استجلاب المودّات ، وملاينات الاستعطاف وأشباه ذلك” [9]

ويقول ابن قتيبة متحدثا عن ارتباط أسلوبي الإيجاز والإطناب بالموضوع :”ليس يجوز لمن قام مقاما في تحضيض على حرب ، أو حمالة بدم أو صلح بين العشائر أن يقلّل الكلام ويختصره ولا من كتب إلى عامّة كتابا في فتح أو استصلاح أن يوجز” [10]

ج. الأسلوب والمقام :

والمقام أو ” مقتضى الحال” هو عمدة البلاغة العربية ، وقد ارتبطت به حتى صار جزءا من تعريفها ؛ فبلاغة الكلام هي ” مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته

ومقتضي الحال أو المقام يعني شيئين :

أ- السياق الخارجي

ب-المخاطب (المتلقي)

والسياق الخارجي هو الظر ف أو الموقف أو الحال التي يقال فيها الكلام كأن يكون مقام فرح أو عزاء ، أو تهنئة ، أو نكاح ، أو ما شابه ذلك من أحوال ومقامات.

وتدعو البلاغة العربية القائل أن يراعي ذلك في اختيار ألفاظه وعباراته لتشكيل أسلوبه المناسب لهذا المقتضى [11]

يقول السكاكي :”لا يخفى عليك أنْ مقامات الكلام متفاوتة؛ فمقام الشكر يباين مقام الشكاية؛ ومقام التهنئة يباين مقام التعزية، ومقام المدح يباين مقام الذمّ ، ومقام الترهيب يباين مقام الترغيب، ومقام المجدٌ في جميع الاستخبار أو الإنكار، ومقام البناء على السؤال يغاير مقام البناء علىالإنكار. وجميع ذلك معلوم لكل لبيب[12]

وهكذا يبدو الأسلوب حصيلة مجموعة من العناصر؛ هى الفرد القائل والنصٌ والمقام والمتلقي. وهو لا يتشكل من واحد من هذه العناصر فحسب بل منها جميعا، وإِنَّ إهمال الباحث في الأسلوب لأىّ واحد منها هو تفريط لا يعين على إيفاء الظاهرة الأدبية حقها . ويبقى قاصرا عنالإحاطة بها .

ثانيا: شروط فصاحة الأسلوب :

حتى يكون هنالك أثر نفسى لدى المخاطب هناك شروط لابد من توفرها في الأسلوب :

  1. ألا تكون الألفاظ غريبة ووحشية.

قال الجاحظ: ينبغى ألا تكون الألفاظ غريبة ووحشية إلا أن يكون المتكلم بدوياً أعرابياً، فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس كما يفهم السوقى رطانة السوقى.[13]

  1. ألا تكون الألفاظ متكلفة ووعرة.

قال أبو هلال: والتكلف طلب الشيء بصعوبة، للجمل بطرائق طلبه بالسهولة، فالكلام إذا اجتمع وطلب بتعب وجهد وقولت ألفاظه من بعد فهو متكلف.[14]

3. أن يعبر اللفظ عن المعنى بدقة ووضوح.

وذلك بأن يختار المنشئ اللفظة التى يضمن بها تجسيد الصورة ونقل الإحساس والتعبير عن الفكرة تعبيراً دقيقاً واضحاً، فالشاعر الموفق الذى يهتدي إلى أن تكون شديدة الإبانة عما يريد[15]

4. إفادة المعنى فلا يكون حشواً زائداً.

والمقصود بالإفادة هنا أن تكون اللفظة قد أدت معنىً جديداً ولم يفده غيرها فيكون لها دور في تأدية المعنى وتكون ذات قيمة فى الكلام الذى سلكت فيه، لذلك كان النقاد يأخذون على الشاعر حشوية بألفاظ لا لتأدية معنى جديد بل يدخلها في قافية الوزن لا غير[16].

كما في قول قدامة بن أبي عدى:

نحن الرؤوس والرؤوس إذا سمعت فى المجد للأقوام كالأذناب

الأثر النفسى للفظ الذى يحدثه المتكلم :

ينظر النقاد من خلاله إلى ما يتركه اللفظ المستعمل من أثر في نفس المتلقي حيث يتم على ضوء ذلك التمييز بين الألفاظ ، فيقومون اللفظ على غيره بناءً على مدى تأثيره فى نفوس المتلقيين، أما إذا كان اللفظ ذا أثر سلبي فإنه بلا شك مما يحذر من استعماله ومما يشترط فى اللفظ عن هذا الأساس.

وحتى يترك المتكلم فى نفس المتلقي أثراً لابد أن ألا يأتي بمعانٍ يكرهها المستمع ويتطير منها.

فبعض الألفاظ قد توحي بعدة معانٍ ، وفى هذه المعاني ما يثير غضب المتلقي وسخطه، فيكون أثر هذه الألفاظ سلباً لا إيجاباً مثل ما كان من الحجاج عندما أنشدته ليلى الأخيلية قصيدتها التى تقول فيها:

إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة ** تتبع أقصى دائها فشافاها

فشلفها من الداء العضال الذى بها ** غلامُ إذا هز الفتاة سقاها

قال لها لا تقولى غلامُ، قولي همامُ، وذلك لما توحي به لفظة غلام في نفوس السامعين من معانٍ الطيش والجهل والصبوة.[17]

وفي ذلك يقول ابن طبا طبا: “ينبغى للشاعر أن يحترز فى أشعاره ومفتتح أقواله مما يُتطير منه، أو يستجفى من الكلام، والمخاطبات كذكر البكاء ووصف إقفار الديار فإن الكلام إذا كان مؤسساً على هذا المثال تطير منه سامعه” .[18]

5ـ أن تكون اللفظة مستعذبة.

أوصى علماء البلاغة والنقد باستعمال الألفاظ الخفيفة لأن المعانٍ إذا كسبت الألفاظ الكريمة وألبست الأوصاف الرفيعة، تحولت في العيون عن مقادير صورها وكشفت عن حقائق بقدر ما زينتها وحسب ما زخرفت.[19]

6ـ استخدام الكلمة المفردة فى النص

تعد اللظفة المفردة أصغر وحدات اللفظة فهي اللفظ الموضوع لمعنى مفرد ، فهي الإشارة إلى شيء معين يكون دالاً على عليه، فبهذه الألفاظ يعبر الناس عن المعانٍ القائمة فى صدورهم المقصودة فى أذهانهم والمختلجة فى نفوسهم والمتصلة بخواطرهم والحادثة عن فكرهم.[20]

وأيضاً قال أبوهلال لبعسكرى: مراد البلاغة على تخير اللفظ، وتخيره أصعب من جمعه ونظمه، فاختيار اللفظة المناسبة أولى المقومات التى تتحقق بها بلاغة الكلام.[21]

وفى ساحة المرئيات، نشاهد الأبصار مرئيات جميلة فيما يحظى به من نسب الجمال تفاوتاً كبيراً، و قد نشاهد مرئيات قبيحة تتفاوت فيما بينها في نسبة القبح تفاوتاً كبيراً.

وفى ساحة الأصوات يسمع السامعون أصواتاً جميلة تتفاوت فيما تحظى به من نسب الجمال تفاوتاً كبيراً، ويسمعون أصواتاً قبيحة تتفاوت فيما بينها في نسبة القبح تفاوتاً كبيراً ونسمع أصواتاً فاترة لا تجذب بجمال ولا تنفر بقبح.

وفى المشاعر الوجدانية تدرك أن لدينا مشاعر وجدانية جميلة لذيذة كمشاعر الحب، ومشاعر الأحاسيس بفعل الخير، ومشاعر الابوة والأمومة ونشعر أن لدنيا مشاعر قبيحة كالشعور بالذلة والصغار والحقد والحسد.[22]

وباستطاعة الباحث المتفكر اكتشاف أن مقادير الإرتقاء فى درجات سلم البلاغة العالية فى الآدب الرفيع فى اللسان العربى تعتمد على نصيب الكلام من عناصر ثلاثة:

  • العنصر الأول: الجمال المؤثر فى النفس الإنسانية، المفطورة على الميل أي الأسماء الجميلة، والارتياح لها، والتأثر والانفعال بمؤثراتها.
  • العنصر الثانى: كون الكلام بليغاً، أى مطابقاً لمقتضى حال المخاطب به فرداً كان أو جماعة وبالغاً التأثير المرجو نفسه، ولا يخلو هذا من مؤثرات جمالية.[23]

الجمال فى الكلام:

حب الجمال فطرة فى النفس الإنسانية فهى بقوة فطرية تميل إليه، وتنجذب نحوه، وليس بمستطاع النفوس أن تغير فطرتها التى فطرها البارئ المصور عليها.

والجمال يصعب تحديده، ولكن باستطاعة النفوس أن تحس به وتتذوقه متى أدركته، وعندئذ تميل إليه وتجذب نحوه وتأنس به، وترتاح إليه، وتسعد بالاستمتاع بلذة إحساس المشاعر به ولو تخيلاً، وتتفاوت الناس فى قدراتهم على تذوق الجمال والاحساس بدقائقه كشأن تفاوتهم فى سائر قدراتهم المادية والمعنوية مثل القوة الجسمية، وفكرة الذكاء، وقوى الابصار والسمع والشم والذوق واللمس، والجمال قد يكون فى كل المجالات التى تدركها الحواس الظاهرة والباطنة.

الغرض من الكلام:

والغرض من الكلام التعبير عما فى الفكر ومشاعر النفس وأحاسيسها بألفاظ دالة على ما يريد المتكلم التعبير عنه.

والكلمات رموز اصطلاحية فى الأوضاع اللغوية الأولى، وفى الاستعمالات اللاحقة للأوضاع اللغوية والناتجة عن استخدام الناس لمختلف الأساليب والحيل الكلامية القائمة على التوسع فى دلالات الألفاظ، والانتقال بها من الحسيات الي ما وراءها حتى الفعليات المجردة.[24] ، والمتكلم الذى يكون كلامه من هذا القبيل يقال له متكلم بليغ.

ويرتقي الكلام البليغ بأساليبه فى سلم ذى درجات متفاوتة ، فيكون بعضه أبلغ من بعض، ضمن الطبقة التى هو فيها، والملائمة للمتلقي الذى تعجبه، وتهز مشاعره وتستأثر بجوانب فكره و نفسه من الداخل والخارج.

فيختلف الإعجاب بالكلام البليغ من كلام بيلغ الي كلام بليغ آخر بحسب نسبة ما فيه من من مرضيات للفكر والمشاعر، والأحاسيس، وهنا تبرز بلاغة المتكلم ومستويات درجات هذه البلاغة صعوداً ونزولاً.

ولا يكون الكلام بليغاً فى اللسان العربى لدى علماء البلاغة ما لم يكن من تأثيره فى المخاطب له تأثيراً بالغاً، وكلام فصيحاً فى مفرداته وجمله.[25]

ومن خلال حديث المتكلم البارع فى البلاغة يمكننا اكتشاف عناصر الجمال الأدبى خلال فنون البلاغة الثلاثة المعانٍ والبيان زالبديع وسائر الفنون الأدبية التي نبه عليها أدباء العرب، وكذلك سائر المذاهب الأدبية المستوردة من الشعوب غير العربية ليست إلا بحوثاً وتتبعات لاكتشاف عناصر الجمال الأدبى في الكلام، أو استقصائها واكتشاف كل وجوهها.

فالجمال كثيراً ما يتذوقه الحس الظاهر والشعور الباطن دون أن يستطيع الفكر تحديد كل العناصر التي تكون قد امتلكت استحسانه وإعجابه، وإن عرف منها الكثير، واستطاع أن يفرزها ويحدد معالمها.

إن آفاق الجمال أوسع من أن تحده أو تحصره بأُطر ومقاييس، ولكن يمكن اكتشاف بعض عناصر الجمال وكلياته العامة وطائفة من ملامحه.

والغرض من عرض الباحثين لفنون البلاغة وعلومها، وللمذاهب الأدبية المختلفة، وللأمثلة الأدبية الراقية المقرونة بالتحليل الأدبى والبلاغى، تربية القدرة على الإحساس مقابل الجمال الأدبى فى الكلام الأدبى الرفيع، وتربية القدرة على فهم النصوص الجميلة الراقية، والقدرة على محاكاة بعضها فى إنشاء الكلام والقدرة على الابداع والابتكار لدى الذين يملكون فى فكرهم الاستعداد لشيء من ذلك.[26]

المحور الثالث : مفهوم التمثيل ومواقعه وخصائصه

1ـ مفهوم التمثيل في اللغة والاصْطِلاح:

التمثيل لغة: الشّبه، والمساواة، والنظير، والتَّصَوُّر، والتقدير، فقد عدّه الأصمعي أعَمُّ الألفاظ الموضوعة للمُشابَهة، ونلمح هذا من قوله: ” المَثلُ عبارة عن المُشابَهة لغيْره في معنى مِن المعاني أيّ معنى كان، وهو

أَعَمُّ الألفاظ الموضوعة للمُشابهة، وذلك أنّ النّد يُقال فيما يشارك في الجَوْهر فقط، والشَّبَه يقال فيما يشارك في الكناية فقط، والمساوي فيما يشارك في الكميَّة فقط، والشكل فيما يشارك في القَدَر والمساحة فقط ” [27]

وفي لسان العرب، جاء بمعنى التشبيه والتسوية، يقال: هذا مِثْلُه ومَثَلُه، كما يقال: شبيهُهُ وشبَهُه، فإذا قيل: هو مِثْله على الإطلاق فمعناه أنه يسدّ مسدّه، وإذا قيل: هو مَثَلُهُ في كذا وكذا فهو مساو له في وجهة دون وجهة والمَثلُ والمثيلُ كالمثل، والجمع أمثال. وتَمثَّل فلانٌ بالشيء ضَربَه مثلا ” [28]

أمّا التمثيل –في الاصطلاح البلاغي– فقد تعددت آراء الأدباء والبلاغيين القدامى في تحديد مفهومه، ولَمْ يجعلوا له حدودا فاصلة، فمنهم من عدّه في باب التشبيه، ومنهم جعله في باب الكناية، وآخرون خصَّصُوه بالاستعارة التمثيلية، أو التشبيه التمثيلي، ومن تلك التعريفات :

  • التمثيل هو : أنْ يريد الشاعر إشارة إلى معنى، فيضع كلاما يدل على معنى آخر، وذلك المعنى

الآخر والكلام مُنبئان عمّا أراد أن يشير إليه. [29] مثال ذلك ، قول الرماح بن عبادة:

ألم تك في يُمنى يديك جعلتني فلا تجعلني بعدها في شمالكا

ولو أني أذنبتُ ما كنت هالكاً على خصلةٍ من صالحات خصالكا

فهو بهذا المثال يقصد التمثيل، ففي الشطر الأول من البيت الأول تمثيل لحال القرب والمحبة بحال الأشياء التي توضع في اليد اليمنى؛ فاليد اليمنى هي التي يَعْتمِد عليها الإنسان كما أنّ استخدامها يكون في الأعمال الشريفة، مثل تناول الطعام، والكتابة والمصافحة، وبها يُؤْتى المؤمن كتابه يوم القيامة، وأما الشطر الثاني من البيت نفسِه؛ فهو تمثيل لحال البُعد والإهمال الذي أصبَحتْ عليه علاقة الشاعر مع من يخاطبه، بحال الأشياء التي توضع في اليد اليسرى ، فاليد اليسرى لا يُعْتَمد عليها إلا في أمور ثانوية، مِن مثْلِ الاستبراءِ من النجاسة، وغير ذلك، كما أنها رمز لسوء العاقبة، فبها يستلم الكافر كتابه يوم القيامة، كما جعله فَرْعا من ائتلاف اللفظ مع المعنى ومثَّل له بأمثلة تشمل كثيرا من الألوان البلاغية .[30]

وقد عدّه ابن رشيق من التشبيه، فهو يقول “: والتمثيل والاستعارة من التشبيه، إلا أنهما بغير أداته وعلى غيْر أسلوبه” ، وييُعرّفه السكاكي بأنه: ” تعْدية الحُكم من جزئي إلى آخر لمشابهة بينهما، وأنه أيضا مما لا يفيد اليقين إلا إذا علم بالقطع أنّ وجه الشَّبه هو علّة الحُكم ” [31]

2ـ مواقع التمثيل وأثرها على نفس المتلقي :

إن لأسلوب التمثيل موقعان هما:

الموقع الأول هو أن يكون في بداية الكلام ، وهنا يكون مرفقاً بالبرهان حتى يقنع السامع فيبعث المعنى إلى النفس بشكل واضح وجلي ، ونجد أنه ممكن أن يأتي بعد استيفاء المعنى ففي هذه الحالة يكون:

  1. إما دليلاً على إمكانها مثل قول المتنبي:

وما أنا منهم بالعيش فيهم …. ولكن معدن الذهب الرغام

وهنا نجد أن التمثيل يتجسد في ادعاء الشاعر أنه ليس منهم على الرغم من إقامته معهم، وضرب لذلك المثل بالذهب فإن مقامه كان في التراب وهو أشرف منه.

  1. وإما أن يكون تأييداً للمعنى الثابت مثل قول أبي العتاهية:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

فيقول هنا الشاعر أن النفس تأنس إذا تم إخراجها من الخفي إلى الجلي ومما تجهله إلى ما هي به أعلم

ويكثر هذا النوع الأول في آيات القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: “مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة”.( البقرة:261)

فهذا مثل ضربه اللّه تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ، وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها اللّه عزّ وجلّ لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة.

وبهذا يكون الأثر في النفس أبلغ من إيراد الكلام من غير تمثيل .

وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة :5).

يتجسد جمال التمثيل هنا في  تشبيه حال أحبار اليهود وقد حملوا التوراة وقرأوها، وحفظوا ما فيها، ولم يعملوا بها ولا انتفعوا بآياتها بحال حمار يحمل أسفارا هي أوعية العلوم ومستودع ثمر العقول وهو جاهل بما فيها ولا حظ له منها إلا ما يكده ويتعبه.

ويكمن مضمون التمثيل  في شقاء كل باستصحاب ما يتضمن المنافع العظيمة والفوائد الشريفة من غير أن يحصل على شيء من تلك المنافع أو يعود عليه بعض تلك الفوائد[32]

  1. الموقع الثاني الذي يأتي بعد تمام المعاني والذي يقوم على إيضاحها وتقريرها فيشبه البرهان الذي يقوم على إثبات الدعوى مثل قول الشاعر لبيد:

وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع .

يقول عبد القاهر الجرجاني : “واعلم أن مما اتفق عليه العقلاء أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفا.[33]

فإن كان مدحا كان أبهى وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهز للعطف وأسرع للإلف، وأجلب للفرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى له بغر المواهب والمنائح، وأسير على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر. وإن كان ذما كان مسه من أوجع وميسمه ألذع، ووقعه أشد، وحده أحد ؛ وإن كان حجاجاً كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر. وإن كان افتخاراً كان شأوه أبعد وشرفه أجد ولسانه ألد. وإن كان اعتذاراً كان إلى القبول أقرب، وللقبول أخلب، وللسخائم أسل، ولغرب الغضب أفل، وفي عقد العقود أنفث، وعلى حسن الرجوع أبعث وإن كان وعظا كان أشفى للصدر، وأدعى للفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر وأجدر بأن يجلي الغيابة، ويبصر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفى الغليل [34]

ويمكن حصر أهم جماليات التمثيل فيما يلي :

  1. قوة التأثير
  2. إبراز المعقول في صورة مجسمة.
  3. إلباس المعنوي ثوب المحسوس.
  4. الإيجاز..
  5. الإيضاح..
  6. إصابة المعنى..
  7. رفع الأستار عن الحقائق..
  8. تقريب المراد للعقل وعرضه في صورة مشوقة.

ولنأخذ بعض الأمثلة التي توضح هذه الأسرار والجماليات وتجليها:

قال ابن الرومي يصور وعد رجل مخلاف بشجر الخِلاف:

بذل الوعد للأخاء سمحا وأبى بعد ذلك بذل العطاء

فغدا كالخِلاف يورق للعيـ ـن ويأبى الإثمار كل الإباء

مثل حال من يبذل الوعود السخية ثم لا يتبعها بالتنفيذ، بشجر الخِلاف يورق الأوراق الكثيرة، ثم يأبى أن يجود بالثمر، ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من حسن المنظر مع سوء المخبر .

قال ابن التلميذ:

أشكو إلى الله صاحبا شكا تسعفه النفس وهو يعسفها

فنحن كالشمس والهلال معا تكسبه النور وهو يكسفها

يمثل حاله يحسن إليه فيقابل إحسانه بالإساءة بحال الشمس مع الهلال تمده بالنور وهو يكسفها، ومضمون التمثيل هنا هو الهيئة الحاصلة من مقابلة الإحسان بالإساءة.

قال الطغرائي:

وإن علاني من دوني فلا عجب لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل

يتجسد التمثيل هنا في تشبيه حاله وقد علاه من دونه في الفضل والمنزلة بحال الشمس مع زحل يعلوها وهي أسمى منه منزلة، وأرفع مكانة، ومضمون التمثيل هنا : الهيئة الحاصلة من شيء يعلوه شيء آخر أقل منه نفعا وأدنى مرتبة

وقال عمر بن لجا التميمي في مدح آل المهلب بن أبي صفرة:

آل المهلب قوم خولوا شرفا ما حازه عربي لا، ولا كادا

لو قيل للمجد حد عنهم وخلهم بما احتكمت من الدنيا لما حادا .

مثل المكارم تحل في آل المهلب لا تعدل عنهم بالأرواح تحل في الأجساد، لا غنى لها عنها. ومضمون التمثيل هو الهيئة الحاصلة من حلول شيء في شيء لا غنى له عنه.

3ـ خصائص التمثيل في القرآن

إن المتتبع لأسلوب التمثيل في القرآن الكريم يجد العديد من الخصائص التي يتميز بها هذا الأسلوب ، ومن هذه الخصائص الفنية:

  1. تماسك الصور التمثيلية في القرآن تماسكاً شديداً يجعلها بحيث لو حاولنا فصل أحد الأجزاء لا نفرط عقد الصورة، وانتثرت معالم الجمال فيها، ومن هنا نرى القوة البيانية متمثلة في إعطاء الفكرة عن طريق الصورة التمثيلية مركبة الأجزاء، والعجيب في ذلك أن التمثيل نفسه لم يأت عبثاً، ولكننا نراه يجيء عقب فكرة يراد توضيحها، وتمكينها في ذهن السامع، هذا لما نعلمه من أن الحجة لا تقام إلا بعد طرح الدعوى وبسط الفكرة.

ويمكن أن لاحظ ذلك من خلال التأمل في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة :5).

فقد يتوهم أن المعنى يفهم لو اقتصر في التشبيه على قوله : مثلهم كمثل الحمار الذي لا يعقل. ولكن الصورة تزداد قوة والتصاقاً حين يقرن بقية أجزائها إليها من حمل الأسفار، وعدم الفقه بما فيها، واعتقاد أنها كبقية الأحمال التي تثقل الكاهل وتجهد القوي، وذلك في جميع أبعاده يطابق حال اليهود وقد منحوا التوراة لتكون لهم نبعا يستقون منه الحكمة والهداية، ولكنهم يحملونها بإثقال سواعدهم بها دون أن يتدبروها، كأن على قلوبهم الأقفال[35]

فتمام الصورة لا يحصل إلا بتجميع كل هذه الأجزاء، وإلصاق كل تلك القيود ومن هنا تبرز الصورة قوية التعبير صادقة الأداء

  1. انتقاء ألفاظ التمثيل في القرآن، واختيارها اختياراً مناسباً للمعنى، معطياً كل ما يتطلبه المقام ومن هنا كان التمثيل في القرآن موحياً مشعاً لا يكاد ينقر حبات القلوب حتى يؤثر فيها بطريقة فنية ونفسية عجيبة.

ولننظر إلى القرآن العظيم حينما يستخدم أسلوب التمثيل في تصوير فناء هذا العالم، ودمار تلك الحياة التي يظن أصحابها أنها باقية خالدة لا شيء بعدها.

قال تعالى (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس 24)

ويقول تعالى( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}

ويقول كذلك : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} (الحديد: 20)

فهذه آيات ثلاث ترمي إلى هدف واحد، وهو عدم الثقة في الحياة الدنيا إلى حد اعتبارها خالدة، وأنه لا حياة بعدها، ولكن الأسلوب تجده قد اختلف بعضه عن بعض في درجات متفاوتة ولكنها تمثل جميعاً قمة التعبير الأدبي عن هذا المعنى الخالد.

يقول الدكتور أحمد بدوي عن بلاغة هذه الآيات الثلاث : “ولجأ القرآن إلى التشبيه يصور به فناء هذا العالم الذي نراه مزدهراً أمامنا عامراً بألوان الجمال، فيخيل إلينا استمراره وخلوده، فيجد القرآن في الزرع يرتوي من الماء، فيصبح بهيجاً نضراً يعجب رائيه، ولكنه لا يلبث أن يذبل ويصفر، ويصبح هشيماً تذروه الرياح – يجد القرآن في ذلك شبهاً لهذه الحياة، ولقد أوجز القرآن مرة في هذا التشبيه، وأطنب أخرى ليستقر معناه في النفس، ويحدث أثره في القلب. [36]

3ـ استمداد عناصر التمثيل في القرآن الكريم من الطبيعة :

إنّ الطبيعة هي ميدان التمثيلات القرآنية منها استمدت حيويتها وتجددها الدائمين دوام الإنسان والطبيعة ، والتمثيل عند ما يستمد عناصره من الطبيعة التي تختلف من مكان إلى مكان وفي زمان عن زمان يهدف إلى أن يكون مؤثراً في كل وجدان مسيطراً على كل تفكير فالقرآن عندما يوضح أعمال الكفار في هذه الآية {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} (النور:39).

ندرك من هذا أن أعمال الكفار لا قيمة لها ولا غناء فيها مهما كلفت أصحابها من جهد ومشقة ومهما بلغت من الخير، فمثلها كمثل السراب وهو ظاهرة من ظواهر الطبيعة، يغري منظرها الظامئ فيسرع نحوها متكلفا في ذلك جهداً حتى يصل إلى مرمى البصر لاهث الأنفاس خائر القوى.. ثم لا يجد شيئا، فتصور هنا كيف تكون نفسه بعد أن قطع مرحلة من المسير ولم يبل صداه، وكذلك الكافر،

ويمكن أن ننظر إلى الآية الثانية {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ..} (النور:40) ، كلما هالك تمثيل في موقف وانتقلت إلى غيره وجدت الموقف أشد هولا ًوهل هناك أشد رهبة وظلمة من أمواج بحر لجي بعضها فوق بعض يكتنفها سحاب مظلم؟ إن موقف الكفار الذين لم يؤمنوا باللّه ورسوله رهيب أرهب من أي شيء، وأعمالهم مظلمة بل أشد ظلاماً من الليل، وليس أمامهم بصيص من النور يهتدون به إلى سواء السبيل.

وهذا الانسجام في التنسيق بين الكلمات “ظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض” ينتقل بك إلى خضم لا تكاد تدرك فيه نفسك فتغمرك الخشية من جانب، وتمثل هؤلاء الضالين متخبطين في عالم أسود لا ينبلج له صبح ولا تطلع فيه الشمس، كما أن كلمات المشبه به المتسقة المترابطة توحي بالنهاية المحتومة التي تحيط بهؤلاء، وبقلوبهم الكالحة التي لا تنبض بالرحمة، ولا تلين للحق.

ثم تأمل هذه الآية {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} (إبراهيم :18). إنها تمثل أعمال الكفار في ضياعها وذهابها إلى غير عودة بالرماد الهش الذي تذروه الرياح وتذهب به بددا إلى حيث لا يتجمع أبداً. إن القرآن يتخذ من الرماد وهو عنصر من عناصر الطبيعة مثلاً لأعمال الكفار الضائعة، ثم يبلغ قمة التأثير حينما يضم إلى الرماد الريح الشديدة العاتية، إن الرماد لا يقوى على الصمود أمام قوى الرياح العاتية العارمة، إنه يتحلل وتتفتت ذراته، ويصبح لا شيء في دنيا العدم وأعمال الكفار مهما جلت وكثرت كهذا الرماد الذي انعدم وتلاشى في جوف الريح الهادرة. أرأيت أجمل من هذا التصوير الخالد ولا أعجب من هذا التمثيل المعجز؟.. إن في هذا التمثيل من قوة التأثير وجمال التعبير ما يعجز عن إدراكه أساطين البيان. وعن بلاغة التمثيل في الآية الكريمة يقول الأستاذ سيد قطب رحمه اللّه: “ومشهد الرماد تشد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود، يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى، لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها، ولا الانتفاع به أصلا، يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك؛ فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا.

وتأمل هذه الآية الكريمة {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاع..} (محمد: ). إن الآية الكريمة تمثل حال الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه- رضي اللّه عنهم- في ترقيهم في الزيادة إلى أن قووا واستحكموا بزرع أثمر وأينع ثم قوى وغلظ ثم استوى واستقام حتى أعجب الخاصة من الزراع والعامة من الناظرين. إنه تمثيل عجيب، وتصوير فني بديع، يستمد عناصره من الطبيعة فيصل إلى نهاية الإبداع وقوة التأثير إنه يجعلك كأنك أمام مشهد يفيض بالحركة والحياة يجعل الغائب مشاهدا والخفي واضحا جليا، ويقرب المراد من العقل ويرفع الأستار عن الحقائق، ويعرض المعنى في أسلوب مشوق موح مؤثر. [37]

النتائج:

  1. يخضع الأسلوب لعدة عوامل بجانب شخصية الفرد ، منها نص الرسالة والمقام.
  2. ترتبط الألفاظ المفردة بالغرض أو الموضوع الذي يقصده المتكلم .
  3. يؤثر الأسلوب الرصين الجزل على نفس المتلقي بمجرد سماعه ، كما تميل النفوس إلى الأسلوب الجميل وتحس به وتتذوقه متى أدركته .
  4. وقوع التمثيل في بداية الكلام يكون مصحوبا بالبرهان حتى يقنع السامع فيبعث المعنى إلى النفس بشكل واضح وجلي .
  5. وقوع التمثيل بعد تمام المعاني يقوم على إيضاحها وتقريرها ، فيشبه البرهان الذي يقوم على إثبات الدعوى .
  6. تتجلى جماليات التمثيل في قوة التأثير وإصابة المعنى وتقرير المراد في صورة مشوقة.

المصادر المراجع:

القران الكريم.

أسرار البلاغة . عبدالقاهر الجرجاني ، تحقيق : محمود شاكر ،الطبعة السادسة – مطبعة محمد على صبيح ١٣٧٩ هـ ١٩٥٩م.

  1. أسس النقد الآدبى عند العرب ، بدوي أحمد أحمد ، مكتبة نهضة مصر ، القاهرة ، 1964م
  2. الإعجاز فى نظم القرآن ،محمد السيد شيخون ، مكتبة الكليات الأزهرية ، القاهرة 1978م
  3. البلاغة العربية ، مصطفى الصاوي الجويني ، منشأة المعارف بالإسكندرية

بلاغة القرآن ، د. أحمد بدوي ، طبعة القاهرة 1950 م

  1. البيان والتبيين ، الجاحظ ، عمرو بن بحر ، تحقيق : عبدالسلام هارون ، مكتبة الخانجي 1418 -1998م
  2. التعريفات ، على بن محمد الشريف الجرجانى – تحقيق د:عبدالمنعم الحنفى – دار الرشاد د ت.
  3. الصناعتين الكتابة والشعر: هلال الحسن فى سهل العسكرى – تحقيق على البجاوي – ومحمد ابو الفضل ابراهيم – دار الفكر العربي ط2/ت50.
  4. الطراز لأسرار البلاغة – يحي بن حمزة بن على بن ابراهيم الحسن العلوى الطالسى الملقب بالمؤيد بالله – المتوفى 745هـ – الناشر المكتبة العصرية ببيروت ط1: 1423هـ.
  5. ظلال القران سيد قطب.
  6. عيار الشعر ، محمد أحمد بن طباطبا العلوي ،تحقيق : عباس عبدالستار، دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان الطبعة الثانية 2005م .

لسان العرب ، ابن منظور ، ج1 ، دار صادر – بيروت ، مادة : مثل

مصطلح التمثيل عند عبدالقاهر الجرجاني ، أ.د. محمود سيلم محمد، جامعة شقراء 1441هـ ، 2020م

نظرات في التمثيل البلاغي ، د. محمود السيد شيخون ، رابط : https://ketabonline.com/ar/books/27158/read%3Fpart%3D1%26page%3D1%26index%3D4816632

نقد الشعر ، أبو الفرج قدامه بن جعفر ، تحقيق : محمد عيسى منون ظن مكتبة الاسكندرية القاهرة ، الطبعة الأولى ، 1934

الهوامش:

  1. الطراز لأسرار البلاغة ، يحي بن حمزة بن علي بن إبراهيم الحسن العلوي الطالبي – الملقب بالمؤيد بالله المتوفي 745هـ – الناشر المكتبة العصرية ببيروت ط1: 1423 هـ ج1 ص66
  2. ـ المنجد في اللغة والإعلام ، لويس معلوف ، المطبعة الكاثوليكية ، بيروت 1973، ص: 343.
  3. ـ مناهل العرفان في علوم القرآن ، محمد عبدالعظيم الزرقاني ، مطبعة عيس لبياني الحلبي ، ص: 302ـ 303
  4. ـ البلاغة الواضحة ، على الجارم ، مصطفى أمين ، دار المعارف ، ص: 12
  5. ـ جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع ، أحمد الرميم ، الطبعة الثانية عشر ، مطبعة لعادة ، مصر 1960 ، ص: 46
  6. ـ كتاب البلاغة والمعاني والبديع ، عبدالقدوس أبو صالح ، أحمد توفيق كليب ، المطابعة الأهلية ،لأوقة ، 1299هـ ــ 1979م .
  7. ـ السباق ،
  8. ـ جواهر البلاغة في المعاني والبيا والبديع ، السيد أحمد الهاشمي ، المكتبة العصرية ـ صيدا – بيروت : ص: 36
  9. ـ المثل السائر ، 1/168 ، : ‏تحقيق: أحمد الحوفي ، وبدوي طبانة، دار نهضة مصر، القاهرة 1381هـ ـــ1962م
  10. ـ أدب الكاتب ، تحقيق محمد الدالي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت 1995م
  11. ـ أثر المتلقي في التشكيل الأسلوبي في البلاغة العربية ، أ.د . وليد إبراهيم القصاب ، ندوة الدراسات البلاغية ، الواقع والمأمول ، 1432هـ. ص: 11
  12. ـ مفتاح العلوم ، ضبطه وشرحه نعيم زرزور , دار الكتب العلمية , بيروت : ١٩٨٣ ، ص: ٩٥
  13. البيان والتبيين -ج1- ص103.
  14. الصناعتين الكتابة والشعر: لأبي هلال الحسن بن سهل العكرى – تحقيق على البجاوى – ومحمد أبو الفضل إبراهيم – دار الفكر العربى ط2/ت -5
  15. أسس النقد الأدبي – ص452.
  16. أسس النقد الأدبي – ص465
  17. أسس النقد الأدبى – ص456
  18. عيار الشعر – ص 126
  19. البيان والتبيين ص 174
  20. التعريفات: لعلى بن محمد الشريف الجرجانى – تحقيق د/ عبدالمنعم الحنفى – دار الرشاد د/ت 212.
  21. البيان والتبيين – ج1 ص60.
  22. البلاغة العربية – ص22
  23. البلاغة العربية – ص 20
  24. البلاغة العربية – ص13
  25. البلاغة العربية – ص18
  26. البلاغة العربية، ص 11
  27. ـ مصطلح التمثيل عند عبدالقاهر الجرجاني ، أ.د. محمود سيلم محمد، جامعة شقراء 1441هـ ، 2020م ،ص: 11
  28. ـ لسان العرب ، ابن منظور ، ج1 ، دار صادر – بيروت ، مادة : مثل
  29. ـ نقد الشعر ، أبو الفرج قدامه بن جعفر ، تحقيق : محمد عيسى منون ظن مكتبة الاسكندرية القاهرة ، ط1 ، 1934 ، ص:181
  30. ـ السابق ، ص: 85
  31. ـ مصطلح التمثيل ، ص: 13
  32. ـ أسرار البلاغة . عبدالقاهر الجرجاني ، الطبعة السادسة – مطبعة محمد على صبيح ١٣٧٩ هـ ١٩٥٩م.  ص: 81
  33. ـ السابق : ص: ص :٨٤ – ٨٧
  34. ـ نظرات في التمثيل البلاغي ، د. محمود السيد شيخون ، ص: 10 رابط : https://ketabonline.com/ar/books/27158/read%3Fpart%3D1%26page%3D1%26index%3D4816632
  35. ـ أسرار البلاغة ، ص: 73 -74
  36. ـ بلاغة القرآن ، د. أحمد بدوي ، طبعة القاهرة 1950 ، ص: 209
  37. ـ نظرات في التمثيل البلاغي ، ص: 28