جوانب من النزاع على الماء بالمغرب قبل الحماية

يونس القوط1

1 كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية ابن طفيل القنيطرة المغرب

بريد الكتروني: younesskaout@gmail.com

HNSJ, 2022, 3(3); https://doi.org/10.53796/hnsj3311

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/03/2022م تاريخ القبول: 16/02/2022م

المستخلص

“إذا رأيت قوما يتخاصمون وعلا بينهم الكلام فاعلم أنه في أمر الماء” قول ظل متواترا في المجتمع المغربي، فقد اعتبر البعض أن الماء هو المشكلة الاقتصادية الأولى بالمغرب وبالغرب الإسلامي، لذلك فقد تعددت حالات النزاع على الماء، والأمثلة كثيرة على ذلك سنقف عند بعضها في هذا المقال الذي نتوخى من خلاله تناول مشكلة النزاع على الماء بالمغرب قبل فرض الحماية وذلك انطلاقا من عنصرين: أسباب النزاعات التي كانت تقع على الماء؟ وكيف كان يتم حل تلك النزاعات وآثار ذلك؟، معتمدين في ذلك على مصادر ومراجع ووثائق سواء منها العربية أو الأجنبية، ومتبعين منهج وصفي وتحليلي.

تقديم

“إذا رأيت قوما يتخاصمون وعلا بينهم الكلام فاعلم أنه في أمر الماء” قول ظل متواترا في المجتمع المغربي، فقد اعتبر البعض أن الماء هو المشكلة الاقتصادية الأولى بالمغرب وبالغرب الإسلامي، لذلك فقد تعددت حالات النزاع على الماء، والأمثلة كثيرة على ذلك سنقف عند بعضها في هذا المقال الذي نتوخى من خلاله تناول مشكلة النزاع على الماء بالمغرب قبل فرض الحماية وذلك انطلاقا من عنصرين: أسباب النزاعات التي كانت تقع على الماء؟ وكيف كان يتم حل تلك النزاعات وآثار ذلك؟، معتمدين في ذلك على مصادر ومراجع ووثائق سواء منها العربية أو الأجنبية، ومتبعين منهج وصفي وتحليلي.

  1. أسباب النزاع على الماء

اعتبر الماء أساس الازدهار الحضاري وفي المقابل كانت له حساسية كبيرة في تهديد السلم الاجتماعي خصوصا في المجال القروي، لذلك فقد عزا البعض النزاعات التي تقوم بسبب الماء إلى العامل البشري، وقد ذكر في هذا السياق محمد بن الطيب القادري انه قد وقع قتال بين أهل فاس البالي والجديد حيث “استهلت سنة 1061هـ/1650م بالحرب بين أهل فاس البالي وأهل فاس الجديد، وقد قام أهل فاس الجديد بقطع الماء ووقع بسبب ذلك قتال عظيم مات فيه عبد الكريم الليبري ومحمد بن سليمان..”[1]

كما أشار روجي لوطورنو إلى أن حكمة مؤسسي فاس الجديد دفعتهم إلى أن يتفادوا على الأقل عنصرا من عناصر النزاع المتعلق بالماء فعلى الرغم من كون هذه المدينة مشيدة على جانب النهر فإنها لا تأخذ منه ولو قطرة واحدة وذهبت تبحث عما تحتاج إليه من ماء من عين عمير البعيدة بعدة كيلومترات لأنه من مس ماء الفاسيين يدفعه بجد إلى الدخول في ثورة دائمة وذلك ما أدركه المرينيون جيدا[2]، وقد عرفت مدينة فاس نزاعات كثيرة حول الماء خصوصا في فصل الصيف عندما يقل الماء ويصاب الإنسان والحيوان والنبات بالعطش، كما كانت إصابة محطات التوزيع بالتلف لهشاشتها سبب تقديم السكان لعدة شكايات للقاضي، ولم تقتصر النزاعات حول الماء على أهل فاس فيما بينهم لكنها كانت تمتد إلى البوادي المجاورة إذ أن الفاسيين كانوا يعتبرون أن لهم حق ملكية جميع مياه حوض واد فاس[3].

ذكر ايركمان في رحلته انه في سوس غالبا ما تكون أسباب الخلافات حول ساقية أو أنابيب المياه لأن قضية الماء تهيمن على الكل[4]، وأضاف ايركمان انه في ما اسماه دولة الساقية كل عائلة لديها الحق في الماء لفترة معينة…والمكلفون بمراقبة وحساب كمية الماء هم أشخاص من القبيلة…وفي بعض الأحيان يحتفظون بسجل للحالة المدنية[5]، ومن هنا يتبين انه من بين أسباب النزاع على الماء نجد السواقي والأنابيب التي يتم نقل المياه بواستطها.

إضافة إلى ما سبق نجد العامل الجغرافي والتقنيات، والتوزيع المتباين للماء بين الأعالي والاسافل وتأثير المناخ والتقلبات الموسمية والسنوية المنعكسة سلبا على الرصيد المائي الجوفي والسطحي، مما جعل صبيب الأنهار يتذبذب صعودا ونزولا تبعا للفترات المطيرة الاجتماعية .. وكان الأعالي هم المستفيدون من العامل الطبيعي، إذ أنه في الفترات التي يتراجع منسوب المياه يحتكرونه بواسطة إقامة سدود، وفي فترات الفيضانات يتفادون السيول بتحطيم تلك السدود، وذلك كان على حساب الاسافل الذين يتعرضون للضرر في مثل هذه الظروف[6].

وفي سياق الحديث عن أسباب النزاع على الماء يأتي جواب السلطان مولاي الحسن الأول على رسالة عامل سلا محمد بن سعيد السلاوي في موضوع مشكلة تقاسم ماء الوادي بين سلا وبين قبيلة عامر المجاورة لها، وندرج فيما يلي نص الوثيقة:

“خديمنا الارضى الحاج محمد بن سعيد السلاوي، وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله، وبعد، فقد وصل كتابك بتضرر أهل المدينة ومساجدها من تعرض عامر على الماء الداخل لها متعللين بأن ليس لهم سواه، مع أن لهم آبار كافية لهم إن أصلحوها… فقد وقع الكلام في ذلك مع عامله الخديم ابنا لعروسي فأجاب بان لا ماء لهم ولا آبار عندهم سوى ذلك الماء الداخل للمدينة وان عاقه عائق يتوجهون للسقي من سواني المدينة، وان منعوا من ذلك يموتون عطشا وعليه فنأمرك أن توجه عدلين للتطوف على جميع الآبار التي عندهم ومعاينة ما ينتفع به منها وما لا، واطلاع علمنا الشريف بما ثبت في ذلك ليظهر والسلام ، في ذي الحجة عام 1307هـ”[7].

يظهر من خلال الوثيقة اهتمام السلطان الحسن الأول بمشكل الماء وأمره بإرسال عدلين للتحقيق في توزيع الماء وهذا النزاع بين قبيلة عامر ومدينة سلا واطلاعه بنتائج ذلك، م يستشف نوع من النزاع على الماء متعلق بالمدينة والبادية هذا من جهة ومن جهة أخرى القيمة التي يحتلها الماء فالمخزن كان حريصا على أن لا تقع نزاعات على الماء لأنها تأخذ طابعا عنيفا وتكون مخلفات جسيمة.

وقد كان للعامل القانوني وتداخل الفقهي والعرفي دور في نشوب عدة نزاعات على الماء، وتعتبر المياه المشتركة من أكثر المياه التي تعرف اشد النزاعات، بالإضافة إلى مسالة ملكية الماء وملكية العقار ورغبة البعض في تحويل الحيازة إلى ملكية ولو في المياه المحبسة.

كما أن اختراق المجاري للأراضي التي تتوقف زراعتها على المصدر المائي الواحد كان يسبب نزاعات قانونية تتعلق بالسواقي التي تمر في أراضي أخرى، ومشكل الكنس، والتفاوت الطبوغرافي للحقول واختلاف حظوظ الأراضي من الماء.

ذكر عز المغرب معنينو أن مدينة سلا تشح من المياه لأسباب متعددة منها ما هو طبيعي كتقادم الشبكة المائية وتعرضها لسيول الأمطار أو بسبب النزاعات التي تنشب بين سكان المدينة والقبائل المجاورة لسورها لأنها كانت ترى أن لها حظ في هذا الماء لمرور ساقية فوق أراضيها[8].

وأشار محمد الزرهوي إلى أن النزاعات الاقتصادية تشكل عنصرا حيويا لدى القبائل المتجاورة بمنطقة طرفي الأطلس الكبير الغربي لأنها حسب رأيه تعكس تداخل مصالحها وخاصة أنها قبائل مستقرة تعيش على استغلال الطبيعة حرثا ومياها ومرعى، فامتداد الوديان عبر القبائل وما يتفرع منها من سواقي يثير استغلال مياهها صراعات[9].

أثناء رحلته بالمغرب ذكر شارل دو فوكو أنه بالنسبة للقبائل الحرب مستمرة وتنتج في الغالب عن ثلاثة أمور تأتي النزاعات على الماء والسواقي في المرتبة الأولى[10].

ومن النماذج حول النزاع على الماء بسبب السواقي نورد نموذج ساقية تاسلطانت ناحية مراكش حيث وقع نزاع كبير حول هذه الساقية بين سلطات المخزن والفلاحين من أبناء اوريكة ومسفيوة التي تجري بأراضيهم ويحتاجون لمياهها خاصة في الصيف وقد اشتد النزاع خاصة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، لان فلاحو القبيلتين كانوا يستولون على مياهها ليلا وقد استمر النزاع إلى عهد الحماية عندما امتلك المعمرون قسما من أراضي تاسلطانت وأدركوا أن الأرض في هذا المجال الشبه الجاف المضرب الأمطار تفقد قيمتها بدون سقي، فقاموا بشراء قسم من مياهها من بعض الملاكين القدامى، واستعملوا عدة أساليب للاستيلاء على الحظ الأوفر من المياه[11].

إن النزاع على الماء كان قائما بين القبائل نجد على سبيل المثال قبيلتي مسفيوة والرحامنة حيث قامت بينهما ثورات متعددة وتعرضت لقمع متوالي أدى إلى إنزال الدمار بالأراضي والقرى وسبب التمرد دائما هو الماء[12].

وفي سياق الحديث عن النزاع على الماء بين القبائل دائما أشار احمد زروال إلى الصراع الذي كان قائما بين قبيلتي زمران وكلاوة حول ساقية تازمورت المتفرعة عن واد غدات بزمران الغربية، وقد استمر هذا النزاع إلى أن فصل بينهم ظهير السلطان المولى اسماعيل[13].

في دراسة لمدغرة وادي زيز أعدها احمد عبد اللوي علوي الذي اعتمد فيها المؤلف على مجموعة من الوثائق التي تؤرخ للصراع الذي كان يحدث بين بعض قصور مدغرة حول الماء والأرض في الغالب وتبين بعض هذه الوثائق، كيف أن النزاع كان يندلع بين قصرين ثم ما يلبث أن يتحول إلى صراع عام بين جميع قصور مدغرة الشيء الذي انعكس بشكل مباشر على أهم الموارد الاقتصادية كالماء والأرض[14].

وقد شملت الخصومات على الماء البادية والمدينة معا ولو أن البادية عرفت النزاعات على الماء بشك كبير مقارنة بالمدية بسبب كثرة استعمال الماء للشرب والسقي وإرواء البهائم وهذه الأمور تزيد من حدة التوتر بين الناس على الماء.

وقد أورد الحاج احمد نجيب الدمناتي صراع على الماء من نوع آخر فبعدما تعرضنا للحديث عن النزاع على الماء بين القبائل وبين المدية والبادية نجد النزاع على الماء بين المسلمين واليهود وفي هذا الصدد تحدث الدمناتي عن حادثة حول الصراع على الماء بين اليهود والمسلمين، حيث تعرض بعض أعيان مدينة دمنات للجناب العالي المولى الحسن الأول فقدموا شكايتهم المتعلقة بضرر اليهود وإفسادهم لماء الساقية الذي يمر على ديارهم ومنه يشربون ويأكلون ويستعملونه في وضوئهم، وذكر الحاج احمد نجيب الدمناتي أن السلطان المولى الحسن الأول عاين بنفسه الساقية ودور الملاح وعاين المسجد ومرور الساقية على الملاح[15].

وأضاف الدمناتي انه بعد صدور الأمر السلطاني للامين وقف على بناء الملاح الجديد، فانتقل إليه اليهود وعمروه، أما إصلاح الساقية فان اليهود يقومون بلوازم الإصلاح مع المسلمين، ومقدمي الساقية[16].

وتحدث عبد الرحمان المودن عن وجه من أوجه التوتر بين المدينة والبادية تمثل في علاقة قبيلة غياثة بمدينة تازة اتخذ شكل حصار بعد قطع الماء على المدينة[17]، حيث أن هناك نهر صغير يمر بمدينة تازة ويقوم أهل غياثة بتغيير مجراه عندما يتنازعون مع سكان المدينة فتتضرر المدينة بشكل كبير وكانت تحصل هذه الأمور بشكل متكرر.

يظهر مما سبق أن أسباب النزاع على الماء عديدة ارتبطت بما هو تنظيمي وما هو طبيعي كمشكل توزيع الماء وصعوبة تحديد الملكيات المائية بين المجالين ودور العادات والأعراف واختلافها سواء في تحديد ملكية الماء أو غيرها إذ كان لها بليغ الأثر في نشوب هذه النزاعات، فكيف إذن كان يتم حل هذه النزاعات؟

  1. طرق حل النزاعات على الماء

نجم عن الصراع على الماء ظهور مؤسسات اجتماعية مشكلة إما داخل القبيلة الواحدة أو بين مختلف القبائل، ارتبطت وظيفتها بالتحكيم والتدبير الجيد للماء لتفادي المواجهات مثلا “مؤسسة تاقبيلت ” التي كان يرأسها الشيخ (الامغار).

كان السلاطين يتدخلون ويعترفون بحقوق الماء ويأمرون بتحطيم ما شيد من سدود لأخذ المياه، كما أن السلاطين كانوا منشغلين في غالب الأحيان بالفصل في الخصومات المتعلقة بالنهر بين سكان المدينة وباديتها في العالية، أشار في هذا السياق روجي لوطورنو إلى أن السلطان المولى عبد العزيز اتخذ قرار يقضي بتحطيم السدود المشيدة في عالية فاس لان المياه ملك خاص بالمدينة فيجب ألا يمسها احد[18].

يعتبر الفصل في قضايا المياه صعبا لأنه يتعلق من جهة بمصالح ملحة ومن جهة أخرى المس بتقاليد عتيقة، لذلك وجب في حلها الاعتماد على خبراء مجربين وقد كان من بينهم صنفان: فقهاء كانوا يوفقون بكل مهارة بين أحكام الماء وعلم قضائي معترف به وتقنيون مطلعون على دقائق نظام القنوات والموزعات والقواديس وقد وجدوا بمدينة فاس[19].

في حديثه عن أعراف قبائل زيان ذكر روبير اسينيون أن كل المنازعات المتعلقة بالري يقضي فيها أمغار المساعد للجماعة، والمخالفات الأكثر شهرة تتعلق بتحويل مجرى الماء، والاستفادة من الماء لمدة أطول مما هو متفق عليه[20].

وينتج عن التزايد في استغلال مياه السواقي الاضطراب أحيانا في ضبط التوزيع، مما يؤدي إلى تدخل السلطة لحسم الموقف وان كان تدخلها في الواقع لا يتأتى إلا حينما لا تستطيع الأطراف المتنازعة التحكم إلى الأعراف التي درجت عليها والتي تحولت إلى مجموعة من المبادئ العامة تراعى تطبيقاتها مثل مراعاة تدرج التقسيمات الكائنة على طول الوادي من أعلاه إلى أدناه مما يجعل دوما حق التصرف في المياه للأعلين من السكان عن الأدنين منهم حيث يكون مبدئيا استغلال مياه الوادي للأعلين وما فضل عنهم يكون من نصيب الأدنين ودرجت العادة على ذلك[21].

وقد عرفت قضايا توزيع المياه على طول وادي سكساوة سواء بأعلى الوادي أو بأسفله عدة مشاكل، ففي أعلى الوادي كان بين فريقين من قبيلة سكساوة نزاع حول ساقية لفريق إدما تستمد مياهها من إلى الوادي عند فريق آيت حدو يوس مما أدى إلى تجدد النزاعات بين الفريقين حتى عقدت اتفاقية جماعية بينهما أوائل القرن الثامن عشر فكف آيت حدو يوس عن الأضرار بساقية فريق ادما[22].

يطرح التداخل بين القبائل في استغلال مياه السواقي إذ نجد أكثر من قبيلتين تستغل مياه ساقية ما مما يؤدي إلى حدوث نزاعات مما كان يضطر السلطة المركزية للتدخل ويحتم اللجوء إلى عقد اتفاقيات التي تعتبر من الحلول لفك النزاعات ومنع تكرارها.

وتجدر الإشارة انه في حالة عدم التزام طرفي النزاع بأوامر السلطة المركزية التي تتدخل بشكل تدريجي يتم إصدار ظهير شريف فيصبح استفادة القبيلة المشتكية من الماء قانونيا.

وقد سبق للسلطان الحسن الأول أن قام بحل النزاع حول توزيع مياه اسيف المال بين القبائل حيث كان يوجه لجنة إلى عين المكان مكونة من عدلين يمثلان السلطة القضائية وقائدا يمثل السلطة المركزية وأرباب المعرفة وبعض أعيان كل فريق من القبائل المتنازعة حول الماء ويتم الوقوف على مجرى الماء وبناء على ما توصلت إليه اللجنة يقرر السلطان تقسيم الماء بين القبائل المتنازعة مثل ما وقع بين قبائل أهل اسيف المال وفروكة ومجاط ومزوضة بالأطلس الكبير ويتم إصدار ظهائر للالتزام بذلك[23].

ورد في المعيار للونشريسي نازلة تهم النزاع حول الماء، ويأتي نص هذه النازلة كالأتي:

…سئل عن المسالة الفقيه أبو الضياء سيدي مصباح.. جوابكم المبارك على نازلة وقع فيها النزاع بين أهل ارجان وبين اهل مزدغة السفلى في الماء الخارج من عين ارجان ويشق في بطن الوادي الذي هنالك .. ويجتمع الماء المذكور في بطن الوادي مع ماء عيون هنالك…رفع الآن أهل ارجان الماء في اسدادهم.. ولم يبق في الوادي المذكور إلا شيء يسير لا يقوم بأهل مزدغة لغروسهم، فطلب أهل مزدغة من أهل ارجان أن يرسلوا لهم من الماء ما يقوم لهم بغروسهم، وامتنعوا من ذلك واحتجوا بان الماء ماؤهم وملكهم وخروجه من أرضهم…فهل ترون رضي الله عنكم أن هذه الحجة تنهض لأهل مزدغة يجب لهم بها قسم الماء من أهل ارجان أو ليس لهم حجة إلا فيما ما فضل …فأجاب عنها بما نصه: إذا كان الأمر كما ذكرتموه وكان أصل الماء المذكور مملوكا لكونه خرج من ارض أهل ارجان ثم في اسدادهم يسقون به مزارعهم وجناتهم وغرس أهل مزدغة على ما فضل من الماء ، يعطى بذلك الماء لأهل ارجان ولم يكن لأهل مزدغة إلا ما فضل عن أهل ارجان[24].

من خلال هذه النازلة يتبين تدخل الفقيه في حل النزاعات على الماء بين القبائل والمداشر ومنع حدوث نزاعات تعصف بالمجتمع أحيانا لكن يبقي لسؤال مطروحا حول الأساس الذي تتخذ عليه هذه الأحكام؟ ومدى انصياع الناس لها.

كما وردت بالمعيار للونشريسي أجوبة القاضي عياض تهم النزاع على الماء، وفي هذا الإطار سئل القاضي عياض، هل يجوز نقل ساقية ماء قديمة من موضعها، إذ سئل عن رجل له ارض فيها ساقية مبنية قديمة يجري ماؤها لسقي جنات تحتها وطحن أرحى فأراد نقلها من موضعها أو رفعها إلى أعلى أرضه وإخراجها بعد ذلك إلى مخرجها من أرضه الأولى، فنازعه أصحاب الأرض في ذلك وقالوا له ليس لك نقل مائنا عن مجراه…فأجاب، ليس لصاحب الأرض أن يجعل الساقية المبنية في أرضه نقلها إلى موضع آخر من أرضه وان كانت قديمة البناء إلا بإذن الذي تمر عليهم الساقية لسقيهم وطحن أرحائهم إن لم يكن عليهم في ذلك من ضرر[25].

وسئل القاضي عياض عمن أراد أن يحول ساقية غيره من أرضه إلى أرضه أي أن رجل له ارض فيها ساقية ماء مبنية قديمة يجري ماؤها لسقي جنات تحتها فأراد نقلها من موضعها ورفعها إلى أعلى أرضه وإخراجها بعد إلى ارض له تجاورها لنصب عليها رحى ثم ترجع بعد ذلك إلى مخرجها من أرضه الأولى فنازعه أصحاب الأرض في ذلك وقالوا ليس لك نقل مائنا عن مجراه، فأجاب ليس لصاحب الأرض أن يحول الساقية المبنية في أرضه إلى موضع آخر من أرضه وان كانت قديمة البنيان لا يعلم من بناها إلا باطن الذين إليهم الساقية لسقيهم وطحن ارحائهم وان لم يكن عليهم في ذلك ضرر[26].

وإذا قمنا بجانب من المقارنة بين النزاعات التي تقوم حول الماء بالمغرب والأندلس نلاحظ انه كما جاء عند مصطفى بنويس أن مشكل العالية والسافلة التي تطرقنا له والذي شكل احد أهم أسباب الصراع بين ساكنة العالية وساكنة السافلة بالمغرب اعتبر كذلك سبب النزاعات التي كانت تقوم في الأندلس حول الماء في الفترة الوسيطية وقد قدم مصطفى بنويس وثيقة حول توزيع المياه في الأندلس وهي وثيقة قضائية رسمية حررت بشان موضوع نزاع حول الماء[27]. وقد حصل هذا النزاع بين قريتين بمنطقة جبلية بشرق الأندلس إحداهما تسمى طرش تقع في العالية والأخرى تسمى قرص تقع بالسافلة استمر النزاع بين القريتين حوالي 20 سنة حول اقتسام الماء بينهم والسبب المباشر في النزاع هو تدهور الساقية التي تحمل الماء من القرية التي تقع في العالية إلى القرية التي تقع في السافلة وتهدم جزء منها مما أدى إلى ضياع المياه وحرمان سكان السافلة من الماء استدعى هذا النزاع الاحتكام إلى القاضي الذي اعتمد على عدد من الشهود[28]، ليشرف على اتفاق بين أهل القريتين واعتماد تقنيات توزيع الماء كانت معروفة لديهم وإصلاح الساقية وإرجاع الأمور إلى ما كانت عليه وتم الصلح، وقد كانت عملية تقسيم المياه تتم باستفادة سكان الأعالي من المياه بعد ذلك يتم إرسال المياه للسكان السافلة وذلك انطلاقا مما جرى به العرف بمنطقة الغرب الإسلامي وذلك بأحقية الأعالي بالماء على أهل الاسافل وبالتالي الاحتكام إلى العرف الذي كان سائدا، من هنا تظهر أوجه التشابه بين المغرب والأندلس في تدبير الماء والاعتماد على العرف في توزيع الماء وحل النزاعات التي تنشب بين الفينة والأخرى.

وهناك نوازل كثيرة في هذا السياق بينت أنواع النزاعات التي كانت تقع في شان الماء، كما أشارت إلى كيفية حل هذه النزاعات والمتدخلين في ذلك.

تفرض مسالة تتبع تاريخ الماء بالمغرب قبل فرض الحماية الفرنسية ضرورة الوقوف على الأبعاد الاجتماعية لنظام استعمال المياه وتدبيرها سواء بالنسبة للشرب أو السقي و باقي الاستعمالات، ويتدخل في هذه المسالة ما هو ثابت وما هو متغير، الثابت أي العوائد والأعراف التي تعايش معها السكان والتجئوا إليها في فترات طويلة جيلا بعد جيل، والمتغير أي الطوارئ التي تحدث فجأة سواء طبيعية أو تدخل فيها الإنسان كالمعارك والحروب وغيرها، وهذه الأمور قد جعلت العلاقة بين السكان وبين القبائل تتأرجح بين التضامن والتعايش وتارة بين الصراع الخصومات.

خاتمة

كان للعوامل الطبيعية والتشريعية والهندسية والسوسيوثقافية (العرف والعادات) دور فعال فيما يخص أشكال التضامن، وحالات النزاع التي كانت تقوم بين الأفراد وبين القبائل وبين البادية وبين المدينة على الماء.

وقد اتخذت مشكلة توزيع الماء عدة أشكال حسب ظروف كل وادي وحسب موقع التجمعات السكانية التي تستفيد من مياه ذلك الوادي، وقد راعى التوزيع الالتزام بالأعراف أحيانا وأحيانا أخرى يتم خرق ذلك فتثار مشاكل ونزاعات.

وبينت نماذج النزاعات على المياه والأرض نوعا من المشاكل الاقتصادية، تلك النزاعات التي كانت تشهد تدخل السلطة المركزية للحفاظ على التوازن بين القبائل وتدخل شيوخ واعيان القبائل ورفع بعض النوازل المتعلقة بالماء إلى الفقهاء والعلماء للبث فيها وتقديم الفتاوى.

قائمة البيبليوغراقيا

باللغة العربية

  • أبي العباس احمد بن يحيى الونشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى افريقية والأندلس والمغرب، خرجه جماعة من الفقهاء تحت إشراف محمد حجي، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للمملكة المغربية 1981، الجزء الثامن.

احمد زروال، مادة”زمران”، معلمة المغرب، الجزء الرابع عشر، مطابع سلا، صص.4704-4705.

  • احمد عبد اللوي علوي، مدغرة وادي زيز، إسهام في دراسة المجتمع الواحي المغربي خلال العصر الحديث، رسالة دبلوم الدراسات العليا في التاريخ الإسلامي، تحت إشراف الأستاذ هاشم العلوي القاسمي، المملكة المغربية، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الجزء الأول 1416هـ-1996م.
  • احمد هوزالي، مادة” تاسلطانت، معلمة المغرب، الجزء السادس، صص. 2058 و2059.
  • الحاج احمد نجيب الدمناتي، القول الجامع في تاريخ دمنات وما وقع فيها من الوقائع، ضبط النص وقدم له احمد بن محمد عمالك، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش بدون تاريخ.
  • روبير اسبينيون، أعراف قبائل زيان، ترجمة محمد اوراغ، نشر المعهد الملكي للثقافة الامازيغية، مطبعة المعارف الجديدة-الرباط، بدون تاريخ.
  • روجي لوطورنو، فاس قبل الحماية، ترجمة إلى العربية : محمد حجي، محمد الأخضر، نشر الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، دار الغرب الإسلامي 1995 ، الجزء الأول.
  • سعيد بنحمادة، الماء والإنسان في الأندلس خلال القرن 7 و8 هـ/13 و14 م إسهام في دراسة المجال والمجتمع والذهنيات، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، الطبعة الأولى 2008.
  • عبد الرحمان المودن، التوتر والانفراج في علاقات البادية والمدينة في مغرب ما قبل الاستعمار،فاس وتازة وأريافها بين القرن 16 و19″، ضمن ندوة “تطور العلاقات بين البوادي والمدن في المغرب العربي، أيام 13-14-15 دجنبر 1984، كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سلسلة ندوات ومناظرات رقم 10.
  • عز المغرب معنينو، من أوجه الصراع على الماء داخل سلا”الأضرحة والزوايا نموذجا”، ضمن ندوة الزوايا في المغرب ، الجزء الأول ، منشورات وزارة الثقافة 2009، مطبعة دار المناهل.
  • القاضي عياض وولده محمد، مذاهب الحكام في نوازل الأحكام، تقديم وتحقيق محمد بن شريفة، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية 1997.
  • محمد الزرهوني، العلاقات بين السلطة والسكان بمنطقة طرفي الأطلس الكبير الغربي في أعوام الستين من القرن التاسع عشر(1280-1863/1290-1873)، جامعة الحسن الثاني عين الشق الدار البيضاء منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة الأطروحات والرسائل – 5 – 1998.
  • محمد الناصري، قراءة في أطروحة بول باسكون حوز مراكش، تاريخ اجتماعي وهياكل زراعية، ضمن مجلة الملتقى العدد 43 ، السنة 2018.
  • محمد بن الطيب القادري، نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني، تحقيق ، محمد حجي واحمد التوفيق، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، نشر وتوزيع مكتبة الطالب الرباط، الطبعة الأولى 1986. الجزء الثاني.
  • مصطفى بنويس، وثيقة حول توزيع المياه في الأندلس، تقديم وتحقيق محمد الغراوي، ضمن مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط جامعة محمد الخامس العدد 24، 2001/2002، منشورات كلية الاداب والعلوم الانسانية الرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء
  • الوثيقة رقم 2508 محفوظة بمديرية الوثائق الملكية، قسم الوثائق العدد الثامن عشر.

باللغة الفرنسية

  • Jules erckmann, le Maroc moderne, challamel ainé éditeur, librairie coloniale, paris 1885.
  • Vicomte charle de Foucauld, reconnaissance au Maroc 1883-1884, paris. Challamel éditeurs, librairie coloniale 1888.

الهوامش

  1. محمد بن الطيب القادري، نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني، تحقيق ، محمد حجي واحمد التوفيق، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، نشر وتوزيع مكتبة الطالب الرباط، الطبعة الأولى 1986. الجزء الثاني، ص. 53.
  2. روجي لوطورنو، فاس قبل الحماية، ترجمة إلى العربية : محمد حجي، محمد الأخضر، نشر الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، دار الغرب الإسلامي 1995 ، الجزء الأول، ص. 98.
  3. نفسه، ص. 346.
  4. – Jules erckmann, le Maroc moderne, challamel ainé éditeur, librairie coloniale, paris 1885, p. 116.
  5. – Ibid. p. 117.
  6. سعيد بنحمادة، الماء والإنسان في الأندلس خلال القرن 7 و8 هـ/13 و14 م إسهام في دراسة المجال والمجتمع والذهنيات، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، الطبعة الأولى 2008 ، ص. 74.
  7. الوثيقة رقم 2508 محفوظة بمديرية الوثائق الملكية، قسم الوثائق العدد الثامن عشر، ص. 449.
  8. عز المغرب معنينو، من أوجه الصراع على الماء داخل سلا”الأضرحة والزوايا نموذجا”، ضمن ندوة الزوايا في المغرب ، الجزء الأول ، منشورات وزارة الثقافة 2009، مطبعة دار المناهل، ص. 196.
  9. محمد الزرهوني، العلاقات بين السلطة والسكان بمنطقة طرفي الأطلس الكبير الغربي في أعوام الستين من القرن التاسع عشر(1280-1863/1290-1873)، جامعة الحسن الثاني عين الشق الدار البيضاء منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة الأطروحات والرسائل – 5 – 1998، ص. 285.
  10. -Vicomte charle de Foucauld, reconnaissance au Maroc 1883-1884, paris. Challamel éditeurs, librairie coloniale 1888, p. 78.
  11. احمد هوزالي، مادة” تاسلطانت، معلمة المغرب، الجزء السادس، صص. 2058 و2059.
  12. محمد الناصري، قراءة في اطروحة بول باسكون حوز مراكش، تاريخ اجتماعي وهياكل زراعية، ضمن مجلة الملتقى العدد 43 ، السنة 2018، ص28.
  13. احمد زروال، مادة”زمران”، معلمة المغرب، الجزء الرابع عشر، مطابع سلا، صص.4704-4705.
  14. احمد عبد اللوي علوي، مدغرة وادي زيز، إسهام في دراسة المجتمع الواحي المغربي خلال العصر الحديث، رسالة دبلوم الدراسات العليا في التاريخ الإسلامي، تحت إشراف الأستاذ هاشم العلوي القاسمي، المملكة المغربية، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الجزء الأول 1416هـ-1996م، ص.29.
  15. الحاج احمد نجيب الدمناتي، القول الجامع في تاريخ دمنات وما وقع فيها من الوقائع، ضبط النص وقدم له احمد بن محمد عمالك، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش بدون تاريخ، ص. 96.
  16. نفسه، ص. 101.
  17. عبد الرحمان المودن، التوتر والانفراج في علاقات البادية والمدينة في مغرب ما قبل الاستعمار،فاس وتازة وأريافها بين القرن 16 و19″، ضمن ندوة “تطور العلاقات بين البوادي والمدن في المغرب العربي، أيام 13-14-15 دجنبر 1984، كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سلسلة ندوات ومناظرات رقم 10، ص. 10 .
  18. روجي لوطورنو، فاس قبل الحماية، مرجع سبق ذكره، ص. 348.
  19. نفسه.
  20. روبير اسبينيون، اعراف قبائل زيان، ترجمة محمد اوراغ، نشر المعهد الملكي للثقافة الامازيغية، مطبعة المعارف الجديدة-الرباط، بدون تاريخ ،ص. 144.
  21. محمد الزرهوني، العلاقات بين السلطة والسكان بمنطقة طرفي الأطلس الكبير الغربي في أعوام الستين من القرن التاسع عشر(1280-1863/1290-1873)، مرجع سبق ذكره، ص. 290.
  22. نفسه، ص. 291.
  23. نفسه، ص. 294.
  24. أبي العباس احمد بن يحيى الونشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى افريقية والأندلس والمغرب، خرجه جماعة من الفقهاء تحت إشراف محمد حجي، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للمملكة المغربية 1981، الجزء الثامن ، ص. 12.
  25. نفسه، ص. 396.
  26. القاضي عياض وولده محمد، مذاهب الحكام في نوازل الأحكام، تقديم وتحقيق محمد بن شريفة، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية 1997 ، ص. 100.
  27. مصطفى بنويس، وثيقة حول توزيع المياه في الأندلس، تقديم وتحقيق محمد الغراوي، ضمن مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط جامعة محمد الخامس العدد 24، 2001/2002، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص. 143.
  28. مصطفى بنويس، وثيقة حول توزيع المياه في الأندلس، تقديم وتحقيق محمد الغراوي، مرجع سبق ذكره، ص. 146.