القيم التربوية للطفل في سورة النور – دراسة أسلوبية-

عصام حمدي عطية ضيف1

1 أستاذ الأدب والنقد المشارك في كلية الآداب جامعة الجوف

بريد الكتروني: ehdeif@ju.edu.sa

HNSJ, 2022, 3(3); https://doi.org/10.53796/hnsj338

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/03/2022م تاريخ القبول: 14/02/2022م

المستخلص

أولى الله – عز وجل- الإنسان اهتماماً قبل الميلاد وبعده، بل في كل سنيّ عمره، وتنوعت مواطنُ الاهتمام لتشمل جوانب مختلفة، ومنها الآداب الاجتماعية. وجاء حديث القرآن موزعاً في غير سورة من سوره، ولعل سورة النور من أبرز السور التي عُنيت بالقيم التربوية والأخلاقية في تأسيس نشء يحافظ على الأسرة المسلمة. وهدفت الدراسة إلى إبراز الأساليب المختلفة التي عالجت القيم التربوية للطفل المسلم من خلال الأسرة التي يعيش فيها، وقد تباينت الأساليب في هذا الجانب من حيث التكرار، والبنى الكلامية، وبناء الجمل، ثم اختلاف سياقات المعالجة، وجاء الحديث عن الطفل في سورة النور في موضعين، عُني في واحد منهما بالحديث عن الطفل في ثنايا طرح السورة لمجموعة من الطوائف الأسرية المختلفة، في حين جاء الموضع الآخر ليخاطب الطفل من خلال أبويه؛ إذ هما الموجهان لسلوك الطفل، كما تباين التعبير عن الطفل بأكثر من تعبير، فهو بين الطفل، والأطفال، والذين لم يبلغوا الحلم. وعلى هذا فإن حسن تأديب الطفل والتلطف في توجيه سلوكه ينبئ بتأسيس مجتمع خالٍ من المشكلات الاجتماعية وبخاصة فيما يتعلق بخصوصيات الآخرين.

الكلمات المفتاحية: قيمة – تربية- القرآن- طفل- أسلوب

Research title

The educational values ​​of the child in Surat Al-Nur

– stylistic study-

Essam Hmdy Attia Deif1

1 Associate Professor of Literature and Criticism at the Faculty of Arts, Al-Jouf University

Email: ehdeif@ju.edu.sa

HNSJ, 2022, 3(3); https://doi.org/10.53796/hnsj338

Published at 01/03/2022 Accepted at 14/02/2021

Abstract

God – the Almighty – gave man the attention before and after birth Rather, in every year of his life, the points of interest varied to include different aspects, The hadith of the Qur’an was distributed in more than one surah, and perhaps Surat Al-Nur is one of the most prominent surahs that dealt with educational and moral values ​​in establishing a young person who preserves the Muslim family. The study aimed to highlight the different methods that dealt with the educational values ​​of the Muslim child through the family in which he lives, and the methods varied in this aspect in terms of repetition. The verbal structures, the construction of sentences, then the different contexts of treatment. The talk about the child in Surat Al-Nur came in two places. While the other place came to address the child through his parents; They are the two guides to the behavior of the child, and the expression of the child has varied in more than one way. It is between the child, the children, and those who have not reached the dream. Accordingly, good discipline of the child and politeness in directing his behavior foretell the foundation of a society free of social problems, especially with regard to the privacy of others.

Key Words: value – education – the Qur’an – child – style

المقدمة

الحمد لله خلق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على خير الله، وعلى أصحابه والتابعين. وبعد…

فإن معايشة القرآن الكريم تعد من أقرب القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، وقد اختلفت أساليب القرآن وتنوعت حسب القضايا التي يعالجها، وحسب الفئة التي وُجه لها الخطاب، كما تباين أسلوب القرآن المدني عن القرآن المكي.

وقد أولى القرآن الكريم الأسرة المسلمة اهتمامًا من أجل استقرار المجتمع، إذ استقرار الأسرة جزء من استقرار المجتمع، كما أنها اللبنة الصغيرة التي ينبني عليها تقدم الأمة، وطفل اليوم هو رجل الغد؛ فالعناية بطفل اليوم بمثابة تأسيس لمجتمع متماسك يحافظ بعضه على خصوصيات بعض؛ ومن ثم جاء البحث عن الآيات التي عنيت بالطفل، ومن أسباب اختيار الموضوع: إبراز مدى اهتمام القرآن الكريم بالطفل، ولفت نظر الأسرة المسلمة إلى المراحل التي تتعامل بها مع الطفل. ثم الوقوف مع الأساليب التي عالجت بها سورة النور القيم التربوية الخاصة بالطفل.

ثم إن سورة النور من أبرز سور القرآن الكريم التي تناولت القيم التربوية التي يتوجب على الطفل التخلق بها، واتسم حديث السورة عن الطفل بعدم تخصيصه بحديث منفرد، وإنما هو جزء من المجتمع، ومن هنا تناولته السورة بوصفه جزءًا من الأمة، وجاء الخطاب للطفل من خلال والديه – أحيانا- حيث إنه لم يجر عليه القلم. كما جاء حديث القرآن عن الطفل في سورة النور خاليًا من الأحكام المتعلقة بالعقيدة، أو أحكام العبادات إذ هو طفل لم يجر عليه القلم، وإنما عنيت السورة بما يهذب خلقه، من خلال مجموعة التصرفات المتعلقة بالطفل تارة وبمن يعيش معه تارة أخرى، وعلى هذا بالمسؤولية مشتركة بين الطرفين، وإن كان العاتق الأكبر يقع على الكبير قبل الصغير. أما عن الدراسات السابقة فقد عنيت غير دراسة ببيان القيم التربوية في سورة النور بشكل عام، ومن بينها الطفل، كما أن هذه الدراسات أقرب إلى الدراسات الدينية والاجتماعية، وليس الدراسات الأسلوبية الأدبية، ومن ذلك بحث مكمل لنيل درجة الماجستير من جامعة أم القرى بعنوان ” التربية الوقائية في سورة النور وتطبيقاتها التربوية “، لسليمان صفوت العنزي، 1424/1425هـ، ودراسة بعنوان:”القيم التربوية في سورة النور وأثارها على المجتمع الفلسطيني” لسامي حسن جبر، 2008- 2009م، وبحث آخر بعنوان: ” القيم الاجتماعية والتربوية في سورة النور ” حسن عبدالرحمن البرميل، 1434ه / 2014م.

واتبع البحث المنهج الأسلوبي، والذي يُعنى بالعمليات التحليلية التي ترمي إلى دراسة البني اللسانية في النص وعلاقاتها بغية إدراك الطابع المتميز لكل نص، وهكذا تقصى الأسلوبية الوجوه المائزة للبنى المفارقة بين الأساليب، وانبت الدراسة على المستويات الأربع، وهي: الصوتي، والصرفي، والنحوي، والدلالي، وجاءت الخاتمة بعدها للوقوف مع أبرز النتائج التي خرج بها البحث، ثم الفهارس العامة.

التمهيد

تعد سورة النور من السور المدنية و” مَقصُودُ هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرُ أَحْكَامِ الْعَفَافِ وَالسِّتْرِ. وَكَتَبَ -عُمَرُ َضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ: عَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: (لَا تُنْزِلُوا النِّسَاءَ الْغُرَفَ وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ وَعَلِّمُوهُنَّ سُورَةَ النُّورِ وَالْغَزْلَ” ([1]) وحد ابن فارس المعنى المعجمي لمادة ” الطاء، والفاء، واللام” حيث قال: (طفل) الطاء والفاء واللام أصل صحيحٌ مطّرد، ثم يقاس عليه، والأصل المولود الصغير؛ يقال هو طِفْلٌ، والأنثى طِفلة. ([2])

إن من يتأمل في سورة النور يجدها تعرضت للحديث عن القيم الأخلاقية للطفل في موضعين؛ جاء الأولُ عقب الآيات التي تناولت النهيَ عن دخولِ بيوتِ الغير من دون استئناس أهلها والسلامِ عليهم، ثم النهي عن الدخول مالم يكن فيها أحدٌ، وتؤصل الآية في نفس السامع قيمة استجابة طلب صاحب البيت إن طَلب من المُسْتَأذن الرجوع، إذ ربما يستنكفُ طالبُ الدخولِ عدمَ الإذن له، لتجعل رجوعه خيراً له من الدخول من غير رغبة صاحب البيت، ثم تَفْتح الآياتُ باباً للسماح في دخول البيوت التي ليست مسكونةً لأن ذلك مرهون بوجود متاع لمن يريد الدخول، وتُعدُ الآياتُ السابقة بمثابة تأطير للدخول وعدم الدخول في حق الأجنبي وكأنها في مقام المقدمة لتهيئة النفس من قضية الأمر بغض البصر وحفظ الفرج، ومن ثم نجد سياق الآيات قد عدل من أسلوب النداء، والنهي عن عدم الفعل إلى فعل الأمر” قل” إذ في النداء ملاطفة وهدوء نفس، وما تبعه من نهي، ومن ثم يأتي فعل الأمر ” قل” ليشي بالسرعة في الطلب؛ لأن الأمر لا يحتمل التباطؤ أو التسويف، وتأتي الآية التالية على الدرب نفسه في حق المؤمنات من الأمر بغض البصر وحفظ الفرج، وتُوالي الآية الحادية والثلاثون حديثها في تسطير مجموعة من النواهي لتكون بمثابة إجراءات احترازية من الوقوع في ما حرم الله.

واتسم حديث السورة عن الطفل في هذا الموضع بالعمومية، فلم يأت نهي المرأة من إبداء زينتها إلا لمن شملتهم الأصناف التي ذكرتهم الآية، وكان حظُ الطفلِ منها؛ هو الطفل الذي لم يظهر على عورات النساء.

“قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، فلا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي فنزلت (يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ) الآية. فقال أبو بكر بعد نزولها: يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن فنزل (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) الآية، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة، فصارت كأنها طريق للتهمة، فأوجب الله تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلاّ بعد الاستئذان والسلام، لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به. والظاهر أنه يجوز للإنسان أن يدخل بيت نفسه من غير استئذان ولا سلام لقوله (غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) ويروى أن رجلاً قال للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- : أأستأذن على أمي؟ قال: ( نعم ) قال : ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: ( أتحب أن تراها عريانة ) قال الرجل: لا، قال: وغاية النهي عن الدخول بالاستئناس والسلام على أهل تلك البيوت، والظاهر أن الاستئناس هو خلاف الاستيحاش، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا، فهو كالمستوحش من جفاء الحال إذا أذن له استأنس، فالمعنى حتى يؤذن لكم كقوله: (لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ) وهذا من باب الكنايات والإرداف، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن.” وقد روي عن ابن عباس أنه قال: (تَسْتَأْنِسُواْ) معناه تستأذنوا، ومن روى عن ابن عباس أن قوله (تَسْتَأْنِسُواْ) خطأ أو وهم من الكاتب وأنه قرأ حتى تستأذنوا فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين ، وابن عباس بريء من هذا القول. و(تَسْتَأْنِسُواْ) متمكنة في المعنى بنية الوجه في كلام العرب. وقد قال عمر للنبيّ – صلى الله عليه وسلم-: أستأنس يا رسول الله وعمر وأقف على باب الغرفة الحديث المشهور. وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به -صلى الله عليه وسلم-. وقيل: هو من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف، استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا، ومنه استأنس هل ترى أحداً واستأنست فلم أر أحداً، أي تعرفت واستعلمت، ومنه بيت النابعة:

كأنَّ رحلي وقد زالَ النهارُ بنا يومَ الجليلِ على مستأنسٍ وَحَدِ” ([3])

الموضع الثاني من السورة الكريمة فقد تجلي في الآيتين الثامنة والخمسين، والتاسعة والخمسين، وهما: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ “(59)

أما عن مفهوم الأسلوبية كما حده النقاد فهو:” الأسلوبية ترصد القيم الجمالية استجلاءً لوجود انتظامها وكشفًا لمجموعة العلاقات التي يحتكم إليها النص الأدبي،… إن الموقع والاختيار والانحراف عناصر تمد النظرية الأسلوبية بإجراءات منهجية تشكل مفتاحًا للتعرف على أبعاد النص الأدبي وتجلياته. ومن هنا يتضح أن الأسلوبية منهج بمعنى أنها مجموعة من الإجراءات الأدائية تمارس بها مجموعة من العمليات التحليلية التي ترمي إلى دراسة البني اللسانية في النص الشعري وعلاقاتها بغية إدراك الطابع المتميز للغة النص الشعري، وهكذا تتقصى الأسلوبية الوجوه المائزة للبنى المفارقة ما وضعت له أصلًا بحثًا عن الوظائف الإبلاغية المسؤولة عن تكثيف الدلالة وعلم المغايرة، وتتصدى لقراءة توضع الأبنية في سياقات خاصة تفتح أبواب تعدد المعنى، وغنى الطاقات الإبداعية. ([4]) ويتوجب على من يلج باب الدراسات الأسلوبية أن يكون على علم بمجموعة الأنماط والعلاقات الصوتية، والصرفية، والنحوية، والدلالية التي تكون نظام اللغة.([5]) وللبعد الإحصائي في الدراسات الأسلوبية دور كبير في فهم أبعاد النص، فهو من المعايير الموضوعية الأساسية التي يمكن استخدامها في تشخيص الأساليب، وتمييز الفروق بينها، ويكاد ينفرد من بين المعايير الموضوعية بقابليته لأن يستخدم في قياس الخصائص الأسلوبية كائنا ما كان. ([6])

المبحث الأول: المستوى الصوتي.

يُعد المستوى الصوتي في الدراسات الأسلوبية من المستويات التي أولاها النقاد اهتمامًا بالغًا، وذلك لما تحمله العربية من دلالات مختلفة لأصوات الحروف؛ التي تساعد منشئ النص في التعبير عن مكنوناته، وقد لا يعير البعض هذه الظاهرة كبير اهتمام في استنطاق النص، غير أنه بدراستها سيتبين العكس، ويتجلى قيمة المستوى الصوتي في استكناه مقصد صاحب النص، ولعل الحركة من أصغر الوحدات في النص، ثم الحرف، ثم الكلمة ولا يخفى أن التفطن لمدلول الحركة وما يتبعه من الوصول إلى سر الحرف والكلمة، ثم الوصول لمقصود الجملة هو الذي يؤدي إلى فهم أعمق وأغزر لمقصود المتكلم، ويعين القارئ – كذلك- في الوصول إلى خفايا النص، ومهما كان النص واضحًا من القراءة الأولى، فإنّ كلّ تحليل صوتيّ ولغويّ سيزيد من تعمُّق القارئ في دلالات النص، فعندما يُعمد إلى تكرار صوت حرف معين، فإن ذلك التكرار يحمل دلالة في نفس المتكلم لا محالة. وقد حفلت الآيات التي تحدثت عن آداب الطفل في سورة النور بالعديد من هذا التكرار. ومن أبرز ملامح المستوى الصوتي في الآيات التي تحدثت عن آداب الطفل ظاهرة التكرار، وقد تجلت في شكلين، الأول: تكرار الحرف. والثاني: تكرار الكلمة.

أولًا: تكرار الحرف: تكرر حرف النون ستًا وستين مرة في الموضع الأول، وتكرر في الموضع الثاني أربعًا وعشرين مرة. وأما حرف الواو فتكرر سبعًا وعشرين مرة في الموضع الأول ما بين واو الكلمة، والواو العاطفة، وفي الموضع الثاني خمس عشرة مرة. وجاء تكرار الراء في الموضع الأول إحدى عشرة مرة، وفي الموضع الثاني خمس مرات، ويتبدى ملامح سر التكرار في التعانق الحاصل مع اسم السورة، فالسورة تسمى بسورة النور، وتكرار حروف النون، والواو، والراء يحمل مدلول التربية الحسنة التي تورث نورًا وهداية من الله -عز وجل-، ولا يخفى ما سطرته السورة في الآية الأولى حيث اسُتفتحت بكلمة “سورة” تلك الكلمة المأخوذة من سور؛ بمعنى الحد، ثم يتوالى مدلولات التأكيد على تلك الحدود من خلال قوله تعالى: ” أنزلناها، وفرضناها، وأنزلنا، وآيات بينات”ولعل اللافت للنظر في التكرار السابق هو كثرة النون بشكل لافت للنظر، ويرجع السر في ذلك إلى غلبة نون النسوة في كثير من مواضع التكرار، ومرجع الأمر إلى أن المرأة ركن رئيس في التربية والتهذيب، سواء أكان الأمر راجعًا إلى عدم إظهار زينتها، أم حرصها في ارتداء الملابس في غير الأوقات التي يمكن فيها التخفيف، ومن ثم فعلى كل طرف أن يأخذ بأسباب الحيطة والحذر، وأن يقوم كل منهما بدوره، حتى وإن قصر أحدهما فلا يعني تفريط الآخر.

وأما حرف الميم فتكرر في الموضع الأول خمسًا وعشرين مرةً، وفي الثاني إحدى وثلاثين مرةً.

ويعد حرف النون هو الأكثر تكرارًا في الآيتين، يليه حرف الميم، حيث انبنت السورة على حرفي النون والميم، وهما متقاربو المخرج، ومن ثم كثر تكرارهما، كما أن الحرفين من الحروف التي يسهل النطق بها، ومن ثم لا يجد جهاز النطق مشقة من تكرارهما.

وتكرر حرف الياء أربعًا وعشرين مرة في الموضع الأول، واثنين وعشرين مرة في الموضع الثاني. ويأتي حرف الياء مكرورًا في خمسة عشر فعلًا مضارعًا، ومما لا شك فيه أن ما يحمله الفعل المضارع لا يصوره غيره من الأفعال إذ للأمر مدلول يتعلق بتجدد الحدث مع تعاقب الليل والنهار؛ ومن ثم فالأمر يتجاوز مجرد أخذ الحيطة مرةً أو مرتين بل ينبغي أن يكون خلقًا ملازمًا لصاحبه.

وبالنسبة لحرف الباء فتكرر في الموضع الأول خمس عشرة مرة، وفي الموضع الثاني إحدى عشرة مرة. ويأتي تكرار حرف الباء متآزرًا مع تكرار بعض الكلمات، وما ذلك لما يحمله إعادة الكلمة من تأكيدٍ المعنى مرة أخرى وبخاصة مع اختلاف المتعلق بها، حيث تكررت كلمة ” يبدين” مرتين، و”يضربن” مرتين، والآباء والأبناء، وبعولتهن، ويأتي تكرار الكلمات السابقة حاملًا بين أعطافه ما يشي بأن لكل شخص من هذه الشخوص حكمًا لا ينفك عنه، كما يدل على مدى عمومية الحكم الشرعي، فلا يظنن ظانٌ أنه لصغر سنه قد لا ينسحب عليه بعض الأحكام.

وإذا كان تكرار الحرف يحمل مدلولًا لا يصوره الأسلوب حالة عدم تكراره فإن الكلمة ألزم في حمل إضاءات للمعنى لا يضيفها عدم التكرار، ومن ذلك كلمات، “قل”، “يحفظ”، ” يضرب”، ” الآيات”، و” فروج”، و” ثلاث”، وقد أعيدت كل كلمة من الكلمات السابقة مرتين، و” المؤمنون، والمؤمنات، والمؤمنون” حيث افتتحت الآية الأولى بقوله تعالى: “قل للمؤمنين” وافتتحت الثانية بقوله تعالى: “وقل للمؤمنات” واختتمت الآية الثانية بقوله تعالى “وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ “، ويأتي إعادة كلمة المؤمنون والمؤمنات دالًا على أن الاستجابة منهم أسرع وبخاصة أنهم مقرونون بفعل الأمر “قل” ثم يأتي التكرار في مختتم الآيات حاملًا بين أعطافه ثناءً من الحق جل وعلا على صفات المؤمنين، ومن ثم ففيه إغراء للمسلمين حتي يَجِدوا ليكونوا تحت طائفة المؤمنين من خلال أخلاقهم وتمسكهم بحفظ حقوق الآخرين، ويتجلى التكرار الأبرز في نهاية الآيتين في الموضع الثاني إذ يكاد يكون واحدًا ففي الأولى اختتمت الآية بقوله تعالى ” كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ “، وفي الثانية بقوله تعالى ” كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” ولو رام المتأمل باحثًا عن لطيفة للتكرار لبدى له ما يحمله من زيادةٍ في التأكيد، غير أن المفارقة بين الختامين أحدثت دلالة وضيئة تكمن في عمومية الأمر مع كلمة “الآيات” ثم خصوصيتها مع كلمة “آياته” وتلك إضافة تحمل تشريفًا وتعظيمًا لهذا الأمر، ومن ثم فهو جد خطير لما فيه من تعلق بعموم الأخلاق وتأصيل لسلوك المؤمنين، وتتناسب كذلك كلمة “الآيات” مع التفصيل الوارد في الآية الأولى من الموضع الثاني، حيث فصلت الآية أوقات الاستئذان بشكل دقيق، وحددت دور كلٍ من المستأذن والمستأذن منه، في حين جاءت كلمة” آياته” في ختام الآية الثانية حيث جاء الحكم معطوفًا على الحكم السابق ومن غير تفصيل اعتمادًا على التفصيل السابق؛ ولذا جاء قول الحق جل وعلا ” كما استأذن الذين من قبلهم” ومن ثم تناسب ذلك الإيجاز مع إضافة الآيات إلى الضمير العائد إلى الله، كما حمل الختام تكرارًا لاسم الجلالة ” الله” حيث أُعيد اسم الجلالة الله أربع مرات في الآيتين، وكان من الممكن في غير القرآن الكريم استعمال الضمير بدلًا من إعادة الاسم الظاهر “الله” غير أن إعادة الاسم الظاهر يجعل الأمر أجلى في الذهن وآكدَ في البيان، وبخاصة أنه يتعلق بالأخلاق التي ينبغي أن يتخلق بها المؤمن لتصبح عادة من عادته.

ولو رمنا تكرار الحروف في الآيات السابقة، ومدى تكرار الحروف القوية، والمتوسطة، والضعيفة، لوجدنا أن أكثر الحروف تكرارًا من حروف القوة هو حرف الجيم، حيث تكرر ثماني مرات، في حين تكرر أقوى حروف العربية وهو الطاء ثلاث مرات، وأما الحروف المتوسطة فأكثرها تكرارًا هو الواو باثنين وخمسين مرة، على أن الحروف الضعيفة لها النصيب الأكبر من التكرار والعدد، فحرف النون تكرر ثلاثًا وتسعين مرة، تلاه الميم بست وخمسين مرة؛ وتحمل تلك الظاهرة ملمحًا مفاده أن السياق القرآني جاء في أسلوب هادئ يلامس القلوب والنفوس من أجل تربيتها، إذ الأمر متعلق بسلوك يتكرر غير مرة في اليوم والليلة، كما أن حياة الفرد مع أهله تجعله يكسر العديد من الحواجز، سواء أكان ذلك بقصد أم بغير قصد. وجاء في موطأ مالك حديث النبي عن الاستئذان “حدثني مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- سأله رجل فقال يا رسول الله أستأذن على أمي فقال نعم قال الرجل إني معها في البيت فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- استأذن عليها فقال الرجل إني خادمها فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم- استأذن عليها أتحب أن تراها عريانة قال: لا، قال: فاستأذن عليها” ([7]) والذي يعضد ذلك أن حرف الطاء وهو أقوى حروف العربية تكرر ثلاث مرات في الكلمات الآتية: ” الطفل، والأطفال، وطوافون”.

المبحث الثاني: المستوى الصرفي

يرمي المحلل من وراء هذا المستوى التنبه للاشتقاقات، والعلاقات القائمة بينها، فمن المسلم به في بناء الكلمات أنّ الزيادة في المبنى تُسلم إلى الزيادة في المعنى، غير أن هذه الزيادة لا تقطع الصلة بالمعنى الأصلي للكلمة، ومن ثم يأتي دور دارس النص على المستوى الصرفي، إذ يستلزم من ذلك منه إمعان النظر والتأمل في محاولة منه حتى يستطيع إحداث صلات وترابطات بين الاشتقاقات التي تُستعمل في النص، ويسلمه ذلك للوصول إلى السر الكامن في استخدام تلك الصيغ، ومدى تلائمها في النص. وقد حوت الآيات التي تحدثت عن الطفل في سورة النور بالعديد من تلك الصيغ، ومنها: يغضضن، والآيات، طوافون، الطفل، الأطفال، مرات، زينتهن، عورات” تكرر الفعل غضّ مرتين في الموضع الأول، جاء في الأولى متعلقًا بالمؤمنين، وفي الثانية في حق المؤمنات، ومن ثم سوغ لحاق نون النسوة بالفعل فك إدغام الكلمة، ولو عدنا إلى المعاجم العربية لمعرفة المعني المعجمي لهذه اللفظة لوجدناها تعود إلى المعاني الآتية: الغضّ: الطري الحديث من كل شيء، وشاب غضّ: نضير، وثوب غض: ناعم أملس، ونبات غض: طري، وغض الإهاب: ذو جلد طري ناع، صغير السن. وغَضَّ طَرْفَه وبَصره يَغُضُّه غَضّاً وغَضاضاً وغِضاضاً وغَضاضةً فهو مَغْضُوضٌ وغَضِيضٌ كفَّه وخَفَضَه وكسره وقيل هو إِذا دانى بين جفونه ونظر وقيل الغَضِيضُ الطرْفِ المُسْتَرْخي الأَجفانِ ([8]) ولو تأملنا معاني هذه الكلمة وربطنا بين معنى الطراوة التي من معاني الكلمة، ومعنى غض بمعنى حفظ البصر لبدا للمتمعن مدى الدقة في استعمال غض للبصر، وكأن غض البصر من أسباب الحفاظ على طراوة العين وقوة البصر، وقد اتسمت الآية بالدقة البالغة في استعمال كلمة الأبصار دون العيون، على الرغم من أن العين هي التي تباشر النظر، وإخال أن مرجع السر يعود إلى العمومية في لفظ الأبصار لتشمل ما كان بالعين الجارحة أو حتي ما يمكن أن يتصوره القلب.

كما جاءت كلمة “الآيات” بصيغة الجمع دون الإفراد وقد وقعت كلمة “الآيات” بين اسم الجلالة الله حيث اكتنف اسم الله كلمة الآيات، ويحمل الجمع المعرف بالألف واللام دلالة الجنس، وما ذلك إلا لعظم الأمر.

كلمة “طوافون” وطوّاف صيغة مبالغة على وزن فعّال، ويحمل التعبير بوزن فعّال دلالة تكمن في كثرة الدوران وتتابعه، كما يحمل إيحاء بتبادل الطواف من الطرفين، وقد تأكد تبادل الطواف من الطرفين من خلال قوله تعالي ” بعضكم على بعض” مما يدل على كثرة الطواف وتبادله، وما يستبع ذلك من وجوب استمرار أخذ الحيطة والحذر.

وجاءت كلمة “مرات” قبل الحديث عن تحديد الأوقات التي يتوجب فيها الاستئذان، وسبقت بلفظ من ألفاظ العدد وهو ثلاث ” ثلاث مرات” ويشى ذلك التركيب بمدى أهمية ما سيأتي بعده حتى تتنبه النفس لتقوم بعَدِّ المرات الواحد تلو الآخر، ويحمل التحديد فائدة أخرى مفادها أن هذه هي الأوقات المعروفة المحددة؛ ومن ثمّ فالاستئذان متوجب فيها، وتآزر التحديد مع بيان العلة بعد تحديد الأوقات الثلاثة من خلال قوله تعالى:” ثلاث عورات” مما يعنى أن التعامل في تلك الأوقات يعد تعاملًا استثنائيًا، وما دونه فالأصل أن يكون بلا استئذان.

المبحث الثالث: المستوى النحوي

لم تهمل الأسلوبية في دراستها للأعمال الأدبية الجانب النحوي، فللأسلوبية الإحصائية دور مهم في معرفة مكنون النص، حيث لا تتوقف عند إحصاء الظواهر النحوية في نص ما فحسب، وإنما يُعد التحليل الأسلوبي للنص على المستوى النحوي من التحليلات التي تحمل إيحاءات وإضاءات لفهم أعمق للنص. إذ يدل على أن الاستعمالات النحوية التي يستعملها الكاتب ليست مجرد أداة، أو زينة للنص وإنما تسهم بشكل كبير في مدى خلق المعاني المختلفة بين الأساليب؛ ولذلك من المهم أن يعير القارئ اهتمامه بالظواهر النحوية عندما يريد مقاربة العمل الأدبي أسلوبيًا، فينتبه لتكرار الأفعال أو الأسماء أو غيرها من الأمور المتعلقة بعلم النحو، وما يحمله ذلك من تباين في الدلالات، ومفارقة بين الأساليب في تصوير المعنى.

استفتح الحق – جل وعلا – الآية الأولي بفعل الأمر “قل” وهو أمر للنبي – صلى الله عليه وسلم- ويشي ذلك الفعل بالسرعة في إنجاز الأمر، إذ إنه لا يحتاج إلى تراخٍ في الأداء؛ نظراً لما في ذلك من أضرار فالأمر متعلق -كما هو لائح – بالمؤمنين وتلك منزلة أعلى من منزلة المسلمين، ثم تبع ذلك بالفعل المضارع “يغضوا” حيث عدل الأسلوب من الماضي إلى المضارع، ويحمل ذلك العدول دلالة التجدد والحدوث من القائم بالفعل، ثم يردف الحق –جل وعلا- الفعل المضارع “يغضوا” بفعل مضارع آخر وهو: “ويحفظوا” والذي جاء معطوفاً على سابقه، ودل ذلك على وجود تلازم بين الفعلين يغضوا ويحفظوا وكأن الغض سبب من أسباب الحفظ، ثم تأتي النتيجة الثابتة لمن غض وحفظ ليكون ذلك زكاة للنفس من كل درن، ففي هذا الأمر حفاظ على حقوق الآخرين من أن تُمس بسوء.

لعل أول ما يستوقف المتأمل في هاتين الآتين ارتباط الزمن بالنهي عن الفعل أو إباحته، وقد جاء الزمن في الآتين على ضربين؛ الأول زمن يتعلق بالليل النهار، وذاك زمن متكرر متجدد، والثاني: زمن مرتبط بعمر من طُلب منه الفعل. ومما هو جلي أن التعانق بينهما قائم فلا انفصال بين الزمنين على الرغم من التبيان الحاصل بينهما، فكما أن الاستئذان متوجب في الأوقات المُحَدة، يتوجب كذلك الممايزة بين الطفل الصغير، وغيره من الأطفال

والناظر في الآية السابقة يجدها تضمنت مجموعةً من الأفعال ما بين ماضٍ ومضارع وأمر. الأفعال الماضية، هي: ” ظَهَرَ”، والأفعال المضارعة، هي:” يغضوا، ويحفظوا، ويصنعون، ويغضض، ويحفظن، ويبدين، ويضربن، ويبدين، ويظهروا، ويضربن، ويعلم، ويخفين، وتوبوا، وتفلحون”، وأفعال الأمر: ” قل”

واللافت في الآية تحول العديد من أفعال المضارعة إلى معنى الأمر بسب العامل الداخل عليها، كلام الأمر، ولا الناهية.

كما اتسمت الآيات التي عالجت قضية الاستئذان في السورة بتعدد الأفعال المضارعة في الآيتين، وهي: يستأذن، ويبلغوا، وتضعون، يبين، ويستأذنوا، ويبين” وتكمن العلة في ذلك من أن الفعل المضارع يفيد التجدد والحدوث، وتلك إشارة مفادها أن الحدث يتكرر في كل يوم سواء أكان ذلك في النهار أم في الليل، ومن ثم فعلى كل طرف أن يهيئ نفسه وأن يستعد حتى يأخذ بكل أسباب الحذر من أن يخترق أحد خصوصيته.

وجاء التعبير القرآني عن الطفل هنا بصورتين، الصورة الأولى: ” وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ”، والصورة الثانية:” وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا “.

ترسم الآيتان السابقتان أوقات الاستئذان، وما يجب على كل فرد إزاء هذه القضية، فمن ناحية الزمن حيث جعله الإسلام واجباً في ثلاثة أوقات وخص الطفل بهذه الأوقات ليربي في نفسه ملكة الحفاظ على حرية الآخرين وبخاصة في وقتٍ ربما تخفف فيه الشخص من ملابسه، أو تهيأ ليأتي زوجه، ولكن ربما خالف الطرف الآخر وتخفف من ملابسه في غير الأوقات الثلاثة، هنا على من أراد فعل ذلك في غير الأوقات المذكورة أن يأخذ بكل أسباب الحيطة والحذر.

والناظر في تعبير القرآن عن الطفل في سورة النور يجدها جاءت في ثلاثة تعابير، هي: “الطِّفْلِ ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، والْأَطْفَالُ” وجاءت كلمة الطفل في سياق قوله تعالى: ” أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ” ويأتي التعبير بكلمة الطفل ثم إردافه بجملة ” الذين لم يظهروا على عورات النساء” ليدل على أن هناك أطفالًا قد يظْهَروا هذا الأمر، ومن ثم يجب الحذر منهم. ويحمل التعبير “وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ” بلفظ بلغ عقب كلمة الأطفال، ثم الحُلُم إيحاءً وتآزرًا بين دلالة بلغ بمعنى وصل، والبلوغ الذي هو مرحلة التكليف بالنسبة للرجل والمرأة، والتعبير ببلغ الأطفال منكم الحلم دون تحديد سن معين يدل على أن وصول الشخص تلك المرحلة ليس مرتبطًا بسن محدد، وإنما هو أمر نسبي يختلف من شخص لآخر، ثم التعبير بالأطفال، والحلم في جملة واحدة يحمل بين طياته إشارة مفادها هي أنه قد يتوهم المرء أن الطفل ما يزال طفلًا؛ ومن ثم يتعامل معه وهو يظن ذلك، ولكن الطفولة لا تدوم؛ لذا يتوجب التنبه للمراحل العمرية التي يمر بها الأطفال. ويأتي التعبير القرآني عقب “الحلم” بقوله “فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم” لتكون دالة على مرحلة جديدة لهذه الفئة العمرية، كما أن ما يصنعونه الآن ليس جديدًا بل سبقهم إليه الذين من قبلهم، وعلى هذا فهم ليسوا متفردين في هذا الأمر وإنما هم مسبقون.

المبحث الرابع: المستوى الدلالي

يعد المستوى الدلالي في الدراسات الأسلوبية من المستويات المهمة، وحتى يتوصل القارئ إلى هذا المستوى لا بد من قراءات متعددة تُمكّنه من استكناه العلاقات بين مفردات النص ودلالاتها. وقد حملت الآيات مجموعة من الظواهر الدلالية البارزة والتي ساهمت في مدى تأثيرها في نفس السماع، ومن ذلك الأساليب الخبرية والإنشائية.

وكما هو مركوز في النفس أن المراوحة بين الخبر والإنشاء يجعل النفس أكثر تعلقًا بالنص، وبخاصة الأساليب الإنشائية لما تنماز به من أن العقل يكون معها أنشط، وقد اُستفتح الموضع الأول بجملة الأمر “قل للمؤمنين”، و “قل للمؤمنات ” وجاء الخطاب في الآيتين للنبي – صلى الله عليه وسلم- وخُص به المؤمنين والمؤمنات مما يعني أنهم المعنيون بذلك، فهم المستجيبون لما أُمروا به ثم إن هناك مفارقة بين الأمر الذي جاء في حق المؤمنين، والأمر الذي جاء في حق المؤمنات، حيث أُمر المؤمنون بأمرين، هما: غض البصر، وحفظ الفرج، وما يتبع ذلك من طهارة للنفس، ولما كان غض الصر، وحفظ الفرج يحتاج من النفس مكابدة؛ لذا جاء ختام الآية مُذكرًا المؤمنين بما عليه الحق جل وعلا إذ الله خبير بما يصنعون، وجاء التعبير القرآني “يصنعون” دون يفعلون أو يعملون، دالًا على ما قد يعتور النفس من حالة إزاء عدم غض البصر أو حفظ الفرج، فربما تصنّع الواحد الغض أو الحفظ، مما يعني أن الله خبير بهذا الصنيع، وقد جاء ختام الآية في أسلوب تأكيدي يحمل بين أعطافه تخويفًا وزجرًا لكل من لم يغض أو يحفظ.

وجاء الأمر في الآية التالية على غرار الآية السابقة من أمر المؤمنات بغض البصر، وحفظ الفرج وبذات الترتيب، ويكمن السر في تقديم غض البصر على حفظ الفرج، من أن النظر سابق لما يتلوه من أفعال، إذ يأتي في الصدارة، ولو استطاع المؤمن والمؤمنة الغض لجنى خيرًا كثيرًا ولأغلق بابًا للشر لا قبل له به، وحمل طلب الغض، وحفظ الفرج مباينة في الأسلوب، حيث جاء الغض متضمنا “مِنْ” التي تفيد التبعيض، في حين جاء الأمر بحفظ الفرج من غير “مِنْ” وبإمعان النظر يتبدى مفارقة بين الطلبين، إذ الغض ليس على إطلاقه، فكما هو معلوم أن النظرة الأولى معفو عنها، ولكن المؤاخذة على الثانية، أو حين يتمادى الناظر إلى ما حرم الله، ومن ثم يأثم الناظر عندئذٍ، على أن حفظ الفرج مطلق لا قيد فيه، ومن هنا سوغت الممايزة بين الأمرين استعمال ” مِنْ” في الأمر الأول المتعلق بالبصر، دون الفرج، غير أن الأوامر الواردة في حق النساء امتدت لتأمرهم بعدم إبداء الزينة إلا ما ظهر منها، ثم إلزامهم بلبس الخمار، وما بدا من زينتهن لا يكون إلا لطائفة محددة كما ورد في الآية، وقد اختتمت تلك الطائفة بالطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، وحملت الجملة السابقة احتراسًا رائعًا تمثل في قوله : “لم يظهروا على عورات النساء” لإخراج من ظَهَر منهم على تلك العورات، وفي ذللك تخفيف على النساء، فما دام الطفل صغيرًا وليس مدركًا لهذا الأمر فلا حرج، ويأتي ختام الآية بطلب التوبة إلى الله، ويشي التعبير بطلب التوبة إلى أن هناك بعض الأشخاص قد يند عنهم بعض التصرفات، ومن ثم فهم في حاجة إلى العودة إلى الله، ومن ثَمَّ يكون الفلاح.

وجاء بداية الموضع الثاني بأسلوب النداء إذ الآية بصدد بيان أحكام المعاشرة والمخالطة؛ والتي منها آداب الاستئذان، وخُص به المؤمنون على غرار ما جاء من تخصيص للمؤمنين في الموضع الأول، وللنداء مزية تتمثل في لفت الانتباه وترطيب نفس المنادَى وبخاصة إذا كان المنادِي هو الحق -جل وعلا- ثم إعقاب أداة النداء ب ” أي”، و”الذين آمنوا” وكلها عبارات تحمل إيحاء بمدى قرب المؤمنين من الله -عز وجل- وكأنها بمثابة تهيئة لنفوس المؤمنين لتتلقى ما سوف يأمرهم به الله، وقد جاء الأمر عقب تلك التهيئة بالفعل المضارع الذي دخلت عليه لام الأمر لتحوله إلى دلالة الأمر وما فيه من السين التي تدل على الطلب، ويحمل الفعل ” ليستأذنكم” جانبًا تعليميًا حيث يتوجب على المؤمنين أن يُعَلموا الذين ملكوهم، والذين لم يبلغوا الحلم، أوقات الاستئذان، وقد تحول الأسلوب من الإنشاء إلى الخبر، فبعد النداء والأمر، جاءت الآية القرآنية لتحدد الأوقات الثلاث بأسلوب خبري، والذي سوغ هذا التحول هو أن النفس تهيأت من خلال النداء والأمر لتتلقي أوقات الاستئذان وتتقبله، ومن ثم يثبت في الذهن ولا يند شيء عن النفس

وتخصيص الطفل بالاستئذان على الرغم من كونه طفلًا ليتربى على عدم كشف العورة، وليتأصل في نفسه سترها، وليكون ذلك كالسجية في نفوسهم إذا كبروا وقد عدد الموضع الثاني ثلاث طوائف، الأولى: الذين آمنوا، والثانية: الذين ملكت أيدي المؤمنين، والثالثة: الذين لم يبلغوا الحلم، واستهل الخطاب القرآني الطائفة الأولى بالحديث؛ لأن بيدها مقاليدَ الأمور، وهي المتصرفة فيها، وكما تُوجّه الأمرَ يتوجه، ثم ثنى بالمماليك، ليضع حاجزًا بينهم وبين من يملكونهم، وثلث بالطفل حيث يتربى في كنف الطائفتين السابقتين، ولا يستشعر بوجود حواجز بينه وبينهم، ومن ثم فكما تُؤصله يتأصل.

أما عن مواقيت الاستئذان فقد حدتها الآية بثلاثة مواقيت، وهي: قبل صلاة الفجر، وحين وضع الثياب من الظهيرة، وبعد صلاة العشاء. والمتأمل في هذه المواقيت يجدها لم تسر في الآية الكريمة على أسلوب واحد، حيث اعتمد الميقات الأول على ظرف الزمان “قبل”، والميقات الثالث على ظرف الزمان “بعد” وذلك متناسب مع صلاتي الفجر والعشاء، ولو سارت الآية في نمط واحد مع المرات الثلاث لكان الأسلوب حينئذ ومن بعد صلاة الظهر، لكن ذلك لم يكن، وترجع العلة في عدول الآية إلى المفارقة بين أوقات المرات الثلاث، إذ هناك ارتباط بين وقت الاستئذان الأول والثالث، حيث يُعد بعد صلاة العشاء وما فيه من تخفيف للملابس مرتبط ارتباطًا كبيرًا بوقت الاستئذان قبل صلاة الفجر، فالزمن الكائن بينهما هو زمن واحد ألا وهو الليل وهي مدة النوم والراحة، ومن هنا فإن المتخفف بعد صلاة العشاء متخفف قبل صلاة الفجر في الغالب الأعم، ثم إن هناك مفارقة أخرى بين الوقت الأول والثالث، والوقت الثاني الكائن بينهما وهو أن وقت الظهيرة ممتد؛ والظهيرة هي: “القائلة: الظَّهِيرة. يقال: أَتانا عند القائِلة وقد تكون بمعنى القَيْلولة أَيضاً وهي النَّوْم في الظهيرة. المحكم: القائلة نِصفُ النهار. الليث: القَيْلُولة نَوْمةُ نِصْف النهار وهي القائلةُ” ([9]) ولذا جاء التعبير القرآني بـ ” حين تضعون ثيابكم من الظهيرة” مما يعني أن لكل شخص وقتًا يختلف عن الآخر؛ لذا جاء التعبير القرآني بــ “من” مما يعني أن وقت وضع الملابس في الظهيرة متابين بين الأشخاص، إذ من الممكن أن نجد شخصًا يضعها في أول وقت الظهيرة، وغيره في منتصفها، ومن الممكن أن نجد بعض الأشخاص لا يضعونها أصلًا وبخاصة في فصل الشتاء حيث لا ظهير في الشتاء على حد قول ابن سيده([10])؛ ولذا جاءت الآية “وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة” أي في الوقت الذي تضعون فيه الملابس فالاستئذان واجب، وإن لم تضعوها فلا استئذان إذن. ولو أمعنا النظر في الكلمات المعبرة عن وقت الاستئذان، والمدة الزمنة التي من الممكن أن يستوعبها كل وقت لوجدنا أن الوقت الكائن بعد صلاة العشاء هو أطول الأوقات، وفي ذلك تآزر وتناسب مع المد الموجود في كلمة ” العشاء”، وكأن مد الصوت حين النطق بذلك الوقت لتهيئة النفس بمدى طول مدة الاستئذان الحاصلة بعد صلاة العشاء، ويضاف إلى ذلك – أيضًا- أن بعد صلاة العشاء هو وقت النوم المعتاد عند جُلِّ الناس.

وجاء تعبير الآية بقوله: ” يحفظوا فروجهم، ويحفظن فروجهن” بلفظ الحفظ متسمًا بالتنكير؛ ليدخل تحته كل فعل له دور في الحفاظ على الفرج، سواء أكان الفعل صغيرًا أم كبيرًا. وقد عبرت الآية وهي بصدد تحديد مواقيت الاستئذان بلفظ ” ثلاث مرات” ثم عدلت إلى لفظ ” ثلاث عورات”، وجاء التعبير بكلمة مرات أولًا لأن السياق في إطار التحديد وبيان العدد؛ وليكون ذكر “ثلاث مرات” بمثابة تنشيط للذهن حتي ينشط في تحديد أوقات الاستئذان الواردة بعد ذلك، ويكمن سر العدول إلى ” ثلاث عورات” ليكون بمثابة بيان للعلة التي شُرع الاستئذان من أجلها، ثم إن استعمال جملة “ثلاث عورات” يشي بتثبيت قضية الاستئذان حتى لا يستهين بها أحد، كما يحمل التعبير بها كذلك ملمحًا مفاده أن من تخفف من ملابسة في غير الثلاث عورات يلزمه أن يبادر نفسه ليكون هو الحَذِر وليس الداخل عليه. كما أن استعمال كلمة “عورات” بمثابة التهيئة لما سيأتي بعد ذلك من رفع القيد؛ وذلك من خلال قوله تعالى: “لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ “.

وإذا كان الممالك والأطفال من الأصناف التي يتوجب عليها الاستئذان حين دخولهم على سيدهم أو أهليهم، فما بالنا والآية لم تطرح الأمر بشكل معكوس مما يعني أن السادة والأهل هم من يدخلون على عبيدهم وأطفالهم، وذلك أمر جائز، ومما لاشك فيه ورود حدوثه، ويرجع السر إلى أن دخول السادة على عبيدهم أمر قليل، بل هو نادر الحدوث، فمما هو معلوم أن السيد لن يذهب إلى عبده ليطلبه، وإنما ينادي عليه، وكذلك الأمر بالنسبة للطفل فسوف ينادي الأب على ولده، ويضاف إلى ذلك أن من سعى إلى تأسيس شيء في نفس العبيد أو الأطفال فإنه بالضرورة قد تربى عليه في صغره؛ ومن ثم فالسادة والوالدان سوف يعنون بهذا الأمر ليكونوا قدوة للعبيد والأطفال؛ لذا قدمهم على من جاء بعدهم من الكبار “ولما بين حكم الصبيان والأرقاء الذين هم أطوع للأمر ، وأقبل لكل خير ، أتبعه حكم البالغين من الأحرار فقال: (وإذا بلغ الأطفال منكم)” ([11]) والمعنى كما بينه صاحب الكشاف ” أنّ الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في العورات الثلاث، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم خرجوا عن حدّ الطفولة بأن يحتلموا أو يبلغوا السنّ التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات كما الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلاّ بإذن ” ([12]) وأما عن دلالات الذكر والحذف فقد تجلى الذكر في ختام الآيتين من الموضع الثاني وذلك بالعدول من الإضمار إلى الإظهار، قال تعالى: ” كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ “، و “كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” وقد كان من الممكن أن يأتي الأسلوب في غير القرآن في الموضوعين على النحو الآتي: وهو العليم الحكيم، ولكن السياق القرآني جاء بإعادة اسم الجلالة ” الله” في ختام الآيتين، ومجيء الأسلوب بإعادة اسم الجلالة يحمل تأكيدًا وتقوية للأسلوب، وتثبيتًا للأحكام التي سطرتها الآيتان في نفوس المتلقي.

ومن أساليب الحذف في الموضع الثاني: ” طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ” حيث حُذف المبتدأ وبقي الخبر “طوافون”، والمبتدأ المحذوف تقديره هم، يعود على “الذين ملكت أيمانكم”، و”الذين لم يبلغوا الحلم”، والذي سوغ الحذف هو سبق الذكر في بداية الآية؛ ولذا فإن النفس قد تعلقت بهم، وبقي أن تتعلق بصنيعهم، ومن ثم عُنيت الآية في موضع الحذف بذكر الفعل دون إعادة لذكر الضمير هم. ومن أساليب التعريف والتنكير كلمة “الآيات”، و” آياته” من قوله تعالى: ” كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ “، و” كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ ” ويحمل التعريف في الموضع الأول التخصيص من جهتين، الأولى من طُلب منهم الاستئذان، وهم المماليك، والأطفال، والأخرى تخصيص ما طُلب منهم وهو الاستئذان؛ مما يعني أن هذين الصنفين ليس مطلوبًا منهم سوى هذا الأمر، في حين يشي التنكير الوارد في الموضع الثاني “آياته” العمومية والشمول إذ ورد عقب الحديث عن طلب الاستئذان من الأطفال الذين بلغوا الحلم، وتعليله بمن سبقهم، ومن ثم سُوغ التنكير لأن الآيات قد انتهت من تعداد الأصناف التي يتوجب عليها الاستئذان، ثم انتقلت للحديث عن طائفة أخرى ألا وهي ” القواعد من النساء” وبيان ما يفعلنه، وما لا يفعلنه.

وبقراءة الموضعين الذي ورد فيهما حديث السورة عن الطفل نجد أن الموطن الاول تحدث عن الطفل في نهاية الآية الثانية وعُبر عنه بقوله تعالى: ” أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ” عقب الحديث أمر المؤمنين والمؤمنات بغض البصر، وحفظ الفرج، ثم يأتي الاسترسال مع المؤمنات بمجموعة من النواهي، تمثلت في عدم إبداء الزينة إلا لمن شملهم الاستثناء، ومن ضمنهم الطفل، لكن الحديث عن الطفل لم يأت دون قيد، إذ قيدت الآية الطفل باحتراس لطيف وعُنين بالطفل الذي لم يظهر على عورات النساء، مما يعني أن الطفل وإن كان صغيرًا لكنه ممن يظهر على العورات فليس داخلًا ضمن الفئات التي استثنتهم الآية، ولو تأملنا وقفة الآية مع الطفل لبدى للناظر أن الخطاب ليس موجهًا إلى الطفل، وإنما خُص به المؤمنات، فهن المعنيات بالخطاب في عدم إظهار الزينة، إذ الطفل ينشأ على ما كان عوده أبوه وأمه، ” والطِّفلُ جنس وضع موضع الجمع اكتفاءً بدلالةِ الوصف ” ([13])، والعرب تقول جارية طِفْلَةٌ وطِفْلٌ وجاريتان طِفْلٌ وجَوارٍ طِفْلٌ وغُلام طِفْلٌ وغِلْمان طِفْلٌ ويقال طِفْلٌ وطِفْلَةٌ وطِفْلانِ وأَطْفالٌ وطِفْلَتانِ وطِفْلاتٌ في القياس”، “وقوله عز وجل “ثم يُخْرِجُكم طِفْلاً” قال الزجاج: “طِفْلاً” هنا في موضع أَطفال يَدُلُّ على ذلك ذكرُ الجماعة وكأَنَّ معناه ثم يُخْرِج كلَّ واحد منكم طِفْلاً ” ([14]) ويظهروا بمعنى يطلعوا، ويحمل التعبير بلفظ ” يظهروا” ملمح الإحاطة والشمول، كما يشي بمعنى القدرة، أي أنهم لم يميزوا بين العورة وغيرها. وأما التعبير عن الطفل في الموضع الثاني فجاء عقب نداء الله للمؤمنين، ثم أمرهم بأن يستأذن عليهم المماليك والذين لم يبلغوا الحلم، إذن الأمر متعلق بالطرفين وهم الكبار والصغار معا، على خلاف الموضع الأول حيث الأمر منوط بالمرأة التي يتوجب عليها عدم إبداء الزينة حسب ما نصت الآية، أو من تم استثناؤهم، في حين نجد الخطاب موجهًا للطرفين معا، فالكبار يُوجهون، والصغار يستمعون لما وجههم به الكبار، ومن ثم فالطرفان معنيان بالخطاب، ثم يأتي التعبير التالي بقوله تعالى: ” وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم” ويشي التعبير بالأطفال – على الرغم من كونهم كبارًا- دلالة مفادها أنه ربما ظن البعض أن الطفل ما يزال طفلًا، ولذا جاءت كلمة “الحلم” لتكون بمثابة التهيئة للحالة الجديدة التي يستقبلها المؤمنون ممن كانوا أطفالًا، وما أصبح عليه من كانوا أطفالًا، فهم مع مرحلة جديدة.

والمتأمل في الآيات التي عالجت آداب الاستئذان التي تخص الطفل في سورة النور يجدها قد خلت من الصور البيانية؛ ولعل الأمر راجع إلى أن المباشرة أنسب في معالجة مثل هذه الموضوعات، فالأمر متعلق – كما هو لائح – بالرجال والنساء والممالك والأطفال، ومن ثم فإن الآيات قد خاطبت عقولًا متباينة في الفكر، ولذا فإن ثبات الخطاب في مثل هذه الحالات آكد في تثبيت الحكم الشرعي في نفس المتلقي.

الخاتمة

وبعد هذه الوقفة مع آيات سورة النور التي عنيت بالحديث عن الطفل يمكن القول:

● جاء حديث القرآن عن الطفل في سورة النور خاليًا من الأحكام المتعلقة بالعقيدة أو أحكام العبادات إذ هو طفل لم يجر عليه القلم، وإنما عنيت السورة بما يهذب خلقه من خلال مجموعة من التصرفات المتعلقة بالطفل تارة وبمن يعيش معه تارة أخرى، وعلى هذا فالمسؤولية مشتركة بين الطرفين، وإن كان العاتق الأكبر يقع على الكبير قبل الصغير.

● تكرر حرف النون ستًا وستين مرة في الموضع الأول، وتكرر في الموضع الثاني أربعًا وعشرين مرة. وأما حرف الواو فتكرر سبعًا وعشرين مرة في الموضع الأول ما بين واو الكلمة، والواو العاطفة، وفي الموضع الثاني خمس عشرة مرة. وجاء تكرار الراء في الموضع الأول إحدى عشرة مرة، وفي الموضع الثاني خمس مرات، ويتبدى ملامح سر التكرار في التعانق الحاصل مع اسم السورة، فالسورة تسمى بسورة النور، وتكرار حروف النون، والواو، والراء يحمل مدلول التربية الحسنة التي تورث نورًا وهداية من الله -عز وجل-، ولا يخفى ما سطرته السورة في الآية الأولى حيث اسُتفتحت بكلمة “سورة” تلك الكلمة المأخوذة من سور؛ بمعنى الحد، ثم يتوالى مدلولات التأكيد على تلك الحدود من خلال قوله تعالى:” أنزلناها، وفرضناها، وأنزلنا، وآيات بينات” ولعل اللافت للنظر في التكرار السابق هو غلبة النون بشكل لافت للنظر، ويرجع السر في ذلك إلى غلبة نون النسوة في كثير من مواضع التكرار.

● والناظر في الآيات التي عالجت آداب الاستئذان التي تخص الطفل في سورة النور يجدها قد خلت من الصور البيانية؛ ولعل الأمر راجع إلى أن المباشرة أنسب في معالجة مثل هذه الموضوعات، فالأمر متعلق – كما هو لائح – بالرجال والنساء والممالك والأطفال، ومن ثم فإن الآيات قد خاطبت عقولًا متباينة في الفكر، ولذا فإن ثبات الخطاب في مثل هذه الحالات آكد في تثبيت الحكم الشرعي في نفس المتلقي.

●لم تُعن الآيات التي وقفت مع الطفل في سورة النور بالوقوف مع قيم تربوية متعددة، وإنما أبرزت قيمة الاستئذان وما يتبعه من قيم تربوية تنبع منه، إذ تأصيل الاستئذان في نفس الطفل وحسن استماعه للتوجيه الصادر من أبويه، وما ينتج عنه من احترام خصوصيات الآخرين، ومن ثم فإن هذا التوجيه بمثابة تأصيل لسلوك الطفل، إذ فمن المسلم به امتداد ذلك السلوك مع الطفل في كل تعاملاته سواء أكان في البيت أم في المسجد أم في المدرسة أم في الشارع.

فهرس المصادر والمراجع

● تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، المؤلف: أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى: 982هـ)، 6/170، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت.

● الأسلوب دراسة لغوية إحصائية، د/ مصلوح سعد كلية الآداب ، جامعة القاهرة فرع بني سويف، الطبعة الثالثة، 1412هــ/ 1992 م.

● تفسير البحر المحيط ـ موافق للمطبوع المؤلف: أبو حيان الأندلسي محمد بن يوسف الشهير ، دار النشر: دار الكتب العلمية – لبنان/ بيروت – 1422 هـ – 2001 م، الطبعة: الأولى تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود – الشيخ علي محمد معوض شارك في التحقيق: د. زكريا عبد المجيد النوقي، د. أحمد النجولي الجمل.

● الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي، القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين (المتوفى: 671هـ) تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة)، الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م.

● الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، الزمخشري الخوارزمي، أبو القاسم محمود بن عمر ، دار النشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت.

● لسان العرب، ابن منظور محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين الأنصاري الرويفعي الإفريقي (المتوفى: 711هـ)، نشر: دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1414هـ.

● موطأ الإمام مالك، المؤلف : الأصبحي مالك بن أنس أبو عبدالله ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، نشر: دار إحياء التراث العربي – مصر.

● معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن زكريا، تحقيق: عبد السلام محمد هارون نشر: دار الفكر، الطبعة: 1399هـ – 1979م.

● نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر ، دار النشر: دار الكتب العلمية -بيروت-1415هـ – 1995م.

ثانيًا: المجلات والدوريات:

● الأسلوبية وطرق قراءة النص الأدبي، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، العنبر عمر عبدالله، عواد محمد حسن ، المجلد الحادي والأربعون، العدد الثاني، سنة 2014م.

● “القيم الاجتماعية والتربوية في سورة النور” البرميل حسن عبدالرحمن، 1434ه/2014م.

● القيم التربوية في سورة النور وأثارها على المجتمع الفلسطيني ” جبر سامي حسن ، 2008- 2009م.

ثالثًا: الرسائل العلمية:

● التربية الوقائية في سورة النور وتطبيقاتها التربوية “، العنزي سليمان صفوت ، رسالة ماجستير. جامعة أم القرى.1424/1425 هـ .

الهوامش:

  1. – الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ) تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة)، الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م.
  2. – معجم مقاييس اللغة ، مادة ( ط- ف- ل).
  3. – تفسير البحر المحيط ـ موافق للمطبوع المؤلف : محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي ، 6/ 410، دار النشر: دار الكتب العلمية – لبنان/ بيروت – 1422 هـ – 2001 م، الطبعة: الأولى تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود – الشيخ علي محمد معوض شارك في التحقيق 1) د. زكريا عبد المجيد النوقي، د. أحمد النجولي الجمل.
  4. – ينظر: الأسلوبية وطرق قراءة النص الأدبي، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، العنبر عمر عبدالله ، وعواد محمد حسن ، المجلد الحادي والأربعون، العدد الثاني،473، 2014م.
  5. – ينظر: الأسلوب دراسة لغوية إحصائية، د/ سعد مصلوح كلية الآداب، جامعة القاهرة فرع بني سويف، 37،الطبعة الثالثة، 1412هــ/ 1992 م.
  6. – المرجع السابق، 51.
  7. – موطأ الإمام مالك، المؤلف : مالك بن أنس أبو عبدالله الأصبحي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي،2/963، نشر: دار إحياء التراث العربي – مصر.
  8. – ينظر: لسان العرب مادة” غضض”.
  9. – لسان العرب مادة ( ق- ي- ل).
  10. – ينظر لسان العرب مادة ( ظ- هـ – ر).
  11. – نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، لبرهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، 5/283، دار النشر: دار الكتب العلمية – بيروت – 1415هـ – 1995 م.
  12. – الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، 2/ 259، دار النشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت.
  13. – تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، المؤلف: أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى: 982هـ)، 6/170، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت.
  14. – لسان العرب مادة ” ط- ف- ل”.