ثنائية النقل والعقل في التفكير الإسلامي

المختار/ أحمد الأمين1

1 مدرس مادة العقيدة والفكر والفرق الاسلامية بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية بنواكشوط موريتانيا.

HNSJ, 2022, 3(4); https://doi.org/10.53796/hnsj3419

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/04/2022م تاريخ القبول: 15/03/2022م

المستخلص

يهدف هذا البحث إلى تتبع نشأة ثنائية النقل والعقل، بمصطلحاتها المتعددة مثل: الشريعة والحقيقة، والنص والرأي، وتشعباتها داخل فضاء الفكر الإسلامي، وتمظهرات سجالاتها المختلفة، وأهم التيارات الفقهية والأصولية والمنطقية المتحاورة داخل هذه الثنائية.

الكلمات المفتاحية: العقيدة – النقل – العقل – الشريعة والحقيقة- والنص والرأي

Research title

The duality of transmission and reason in Islamic thinking

Elmoctar/Ahmed Elemin

1 Professor of Creed, Thought, and Islamic Sects, Professor at the Higher Institute of Islamic Studies and Research in Nouakchott, Mauritania.

HNSJ, 2022, 3(4); https://doi.org/10.53796/hnsj3419

Published at 01/04/2022 Accepted at 15/03/2021

Abstract

This research aims to trace the emergence of the duality of transmission and the mind, with its multiple terms such as: Sharia and truth, text and opinion, its ramifications within the space of Islamic thought, and the manifestations of its various debates, and the most important jurisprudential, fundamentalist and logical currents debated within this dualism.

Key Words: belief – transmission – reason – Sharia and truth – text and opinion

توطئة:

إن جدلية العقل والنقل مسألة قديمة جديدة ومتجددة، لكنها كثيرا ما توضع في غير وضعها الصحيح، فتارة يُسمى ما ليس عقلا عقلا، مثل الظنون والأوهام والأهواء والشهوات والأغراض الشخصية، وتارة تعمم أحكام الظنية على نصوص الشرع كلها مع الاعتراف أن في الشرع ماهو ظني الثبوت وكثيرا مما هو من ظني الدلالة، لكن خطر التعميم يوقع في إشكالات، وتارة يعتبر العقل مؤسسا للنقل وقاعدة له وهذا قد يصح بوجه، لكن المولعين بالدراسات الفلسفية ينسفون بهذه المسألة كثيرا من دلالات النصوص الشرعية وإن كانت قطعية الثبوت قطعية الدلالة..

وكذلك يعتبر الصراع بين العقل والنقل من أقدم المعارك الفكرية، في تاريخ الإسلام، وقد بدأت هذه المعركة مع انتشار الإسلام وانفتاحه على الكثير من الحضارات المحيطة بالجزيرة العربية في الشرق والغرب والشمال، وكان من نتائج ذلك ظهور المنهج العقلي، الذي اتخذه بعض أمراء الخلافة العباسية مذهبا رسميا للدولة، ما أدى إلى وقوع صدام فكري مع أصحاب المذاهب التقليدية المحافظة التي تقدم النقل على ما سواه، وترى الالتزام بحرفية النص الشرعي، كما ظهر في هذا المناخ فريق وسط، عمل على التوافق بين العقل والنقل، واعتبر أنه لا خلاف بين الاثنين إذا وضعت النصوص النقلية في مكانها الصحيح.

السياق التاريخي

لقد كان العالم الإسلامي في بحر القرن الثالث الهجري يشكل فضاء عجيبا تتصادم فيه نحل وملل شتى ومذاهب متصارعة وتيارات متعددة المشارب، تتحاور فيه الحكمة الهندية والشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية بنسخها المختلفة. وفي خضم هذا التصادم والحوار المتعدد الأطراف الذي كان يعصف بكل شيء.

وبعد ظهور المعتزلة وعلم الكلام وترجمة الفلسفة اليونانية انقسم القوم إلى أهل السنة وإلى أصحاب الرأي، وبدأ التجاذب شديدا بين من يتمسك بالنص وبين من استأنس بالنظر العقلي في تقرير حقيقة القضايا العقدية وإقحام علم الكلام في تفسير هذا النص.

ومع تقدم الدولة الإسلامية في اتساعها، توسعت دائرة المعرفة مبتعدة عن التلقي الشفهي لتتطور ضمن ثقافة عالمة كونية، فظهرت مصطلحات جديدة مثل أهل الشريعة وأهل الحقيقة، والتصوف السني الذي عبر عنه القشيري في رسالته، وتصوف متعدد المصادر والممارسات.

الجدل حول تأويل القرآن الكريم: كان الحاضنة الأولى لولادة الفكر الإسلامي

فعلى مستوى العقيدة فقد انشغل أهل الإسلام في البداية على عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعهد الراشدي بالفتوحات، وكان إيمانهم لما دعاهم إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة الآية: 285)، وقوله تعالى من سورة آل عمران: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ

ولكن ما إن وضعت الحرب أوزارها حتى ظهرت الطوائف الدينية والسياسية، وأقبل القوم على تدارس القرآن الكريم ، فثار الجدل وتشعب النقاش في أمور تفسيرية وعقدية متعددة، وتمحور الجدال حول الصفات الإلهية، ومرتكب الكبيرة، وهل الإنسان مخير أم مسير ..الخ.

وكانت كل طائفة تستظهر ببعض الآيات والأحاديث النبوية المؤيدة لمواقفها، والآيات والأحاديث في هذا السياق كثيرة: كقوله تعالى من سورة آل عمران: ” ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)، وكقوله تعالى من سورة الأنعام: “وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) ، والأحاديث في ذلك كثيرة، كالحديث الذي أورده أبو داود في مسنده رقم 296: “قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ الْجُهَنِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، يَقُولُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: ” إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ لَيُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحَ وَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ – أَوْ إِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ – لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ – أَوْ إِنَّ أَحَدَكُمْ – لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا “، ومن ذلك الحديث الذي أورده البغوي في شرح السنة رقم 1302: “قَالَ: وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ” لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي دَوِّيَّةٍ مُهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَقَامَ يَطْلُبُهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ حَتَّى أَمُوتَ.

قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ “، وكذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث طويل: ” .. يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ”، الحديث 55.

الثنائية الكبرى في التفكير الإسلامي

لقد نتج عن هذا الجدل الصاخب في الفضاء الإسلامي الجديد تجذر ثنائية كبرى، استقطبت كل تفرعات التفكير الإسلامي، وهي ثنائية المنقول والمعقول، التي يعبر عنها أيضا بالدليل النقلي والبرهان العقلي، والشريعة والحقيقة.

يحيلنا طرف هذه الثنائية الأول “النقل” على الخطاب الديني الإسلامي بمسبقاته العقدية وبخطوطه الحمراء الضامنة لوحدة الجماعة والمسيجة لأرض الإسلام، بينما يقودنا طرفها الثاني إلى التفكير العقلي المتميز بحريته وموضوعيته، وتعارضه مع التقييد والأحكام المسبقة.

هذه العلاقة بين التفكير العقلاني وبين النص بمسبقاته هو ما جعل بعض المستشرقين يشكك في وجود فلسفة إسلامية بحجة أن الظروف الموضوعية الضرورية لممارسة التفلسف لم تتوفر للتفكير الإسلامي بسبب انشداده للخطاب الديني سواء عبر التوفيق أو التوظيف، وبالتالي فينبغي الحديث فقط عن تفكير إسلامي لا تعدو علاقته بالفلسفة دور الشرح والنقل والتمحيص مع الكندي والفارابي وابن رشد، وهو زعم رد عليهم من وجوه كثيرة.

الدلالة والاصطلاح

قبل الاسترسال في مناقشة الموضوع قد يكون من المفيد التوقف عند الشحنة الاصطلاحية لطرفي هذه الثنائية.

أ – العقل :

لغة : عقل الشيء فهمه فهو عقول.

عقل : العَقْلُ: الـحِجْر والنُّهى ضِدُّ الـحُمْق، والـجمع عُقولٌ.وعَقَل، فهو عاقِلٌ و عَقُولٌ من قوم عُقَلاءابن الأَنباري: رَجُل عاقِلٌ وهو الـجامع لأَمره ورَأْيه، مأْخوذ من عَقَلْتُ البَعِيرَ إِذا جَمَعْتَ قوائمه،” لسان العرب لابن منظور: (630 ـ 711 هـ ـ 1232 ـ 1311 م)

العقل في اللغة العربية الربط والحجر والنّهي منعا للشرود والتسيّب يقال ” يعقل النّفس يمنعها عن التصرّف على مقتضى الطّباع ،والعقل العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها. .
اصطلاحا: عقل: العَقلُ يقالُ لِلقُوَّةِ المُتَهَيِّئَةِ لِقُبُولِ العِلْمِ ويقالُ لِلْعِلْمِ الذي يَسْتَفِيدُهُ الإنْسَانُ بتلْكَ القُوَّةِ عن مفردات القرآن الكريم .

العقل به يميز بين الأشياء ضارها ونافعه ،جاء في الموسوعة الفلسفية ص (596 ) ومختار القاموس (ص 432) لأحمد الزاوي: ” العقل طاقة المعرفة ومرتكزها أو حامل المعرفة في مستوى الذات الإنسانية “[1].

ويرى الفيلسوف الفرنسي ” لالاند ” في معجمه الفلسفي أن العقل/ Raison لفظ أشتق من الأصل (Rat) ، ويماثلها بلفظ (art) وهي متفرعة من ars أو Artus اللاتينيتين، وتعنيان كل ما يتناسق ويتجانس فيصبح متماسكا، أو من Ratio التي تعني: منظومة أفكار مترابطة ، وقد تشير إلى الحساب أو الاستدلال. [2]

ب – النقل :

– لغة : نقل : النَّقْلُ: تـحويلُ الشيء من موضع إِلـى موضع، نَقَله يَنْقُله نَقْلاً فانتَقَل. و التَّنَقُّل: التَّـحوُّل، لسان العرب لابن منظور: (630 ـ 711 هـ ـ 1232 ـ 1311 م.

– اصطلاحا: ما انتقل عبر الأجيال من موروث ثقافي وحضاري ويقصد به في الفكر الإسلامي خاصة القرآن والسنة ويسمى النص والسمع والوحي والشرع .

الموقف من إشكالية النقل والعقل:

أ – عند الفقهاء :

الاتفاق على أهمّية كل من النقل والعقل والاختلاف في الأسبقيّة:

– فمدرسة الحديث والنقل بالحجاز وتقديم المنقول على المعقول إلى حد تقديم الأحاديث الضعيفة على الرأي ونجد في المذهب المالكي القول بعمل أهل المدينة من مصادر التشريع التّكميلية، وكذلك الحنابلة القائلون بأسيقية النقل على العقل إلى درجة القول “إن ضعيف الأخبار مقدم على رأي الرجال”..

أما مدرسة الرّأي بالعراق وخاصّة مع المذهب الحنفي فتكتفي بالقرآن والأحاديث الصحيحة من المنقول وفسح المجال أكثر للرأي والاجتهاد، ولذلك لقبهم خصومهم بـ” الأرأيتيين “[3]، ويذهب المتكلّمون إلى تقديم المعقول على المنقول،

المعتزلة : الأسبقيّة للعقل والنقل من ألطاف الله ليكون حجّة على العباد.

الأشاعرة : المعارف عقلية والطاعة نقلية وتفويض أمر البحث في الغيبيّات للسمع والاكتفاء بظاهر النّص، جاء في تفسير القرطبي: ” أن العقل لا يوجب ولا يحظر ولا يقبح ولا يحسن[4]“.

ج – عند الفلاسفة : انتهى النظر الفلسفي إلى تأليه العقل مثلما نجد ذلك عند الفارابي وابن طفيل يقولا العقل يعوض النبوّة

– عند ابن رشد : السعي للتّوفيق بين العقل والنّقل فلا حياة دون نظر عقلي وعمل بالشريعة فلا يؤدّي النّظر البرهاني لإلى مخالفة ما ورد به الشّرع فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له. فالحكمة صاحبة الشّريعة والأخت الرّضيعة.

ونستخلص من ما تقدم الملاحظات التالية:

– 1بسبب الجدل حول أسبقيّة العقل أو النّقل والعلاقة بينهما طرحت مسألة التّعارض بين المنقول والمعقول وأحوال التّعبّد بالقياس فرجّح بعض الأصوليين المعقول مثل سيف الدّين الآمدي بالاعتماد على اجتهادات عمر بن الخطاب في سهم المؤلّفة قلوبهم . (…) الشّرط الأساسي في هذا التّقديم للمعقول عدم التّعارض مع المقاصد العامّة للدين[5]؛

2- تعتبر الحضارة الإسلامية حضارة مركزيّة تدور حول الكتاب المقدّس؛

-3من أهمّ العلوم الإسلاميّة النّاشئة عن التّفاعل بين العقل والنّص نجد علم الكلام ، الفلسفة ، أصول الفقه ، التصوّف ، ويلح نصر حامد أبو زيد على أنه” ليس من قبيل التّبسيط أن نصف الحضارة العربيّة الإسلاميّة بأنّها حضارة النّص”[6]؛

4- مهما كان الموقف من النقل فالنّص هو المصدر الأساسي لكل المذاهب والآراء لكن تختلف طرق النظر إليه، مما جعل علي حرب يقرر أن الاختلاف بين الفرق والمذاهب ليس اختلافا بين عقل ونقل بقدر ما هو اختلاف في أنماط المعقوليّة في والتأويل.[7]

لقد برز في ساحة العالم الإسلامي قطبان محوريان، أحدهما تمسك بالمنقول وبالنص وبالمأثور من مصادر الشرع الإسلامي، وهو تيار أهل السنة، أما القطب الثاني فهو يتعلق بالمعتمدين أساسا على العقل، ويعرف بالمعتزلة.

أما الاتجاه العقلاني فيقدمه لنا محمد عمارة في النص التالي: “فالتيار العقلاني في حضارتنا العربية والإسلامية، وفرسانه: المعتزلة، بخاصة وأهل العدل والتوحيد بعامة، قد انطلقوا على درب التفلسف الإبداع الفلسفي من النقل أي من القرآن الكريم، الذي أعلى مقام العقل، واستفادوا من اقتصاد الإسلام في الحديث عن الغيبيات، فصاغوا- من قبل ترجمة الفلسفة اليونانية إلى العربية- وربما للمرة الأولى في تاريخ الفكر الفلسفي- صاغوا علم الكلام الإسلامي- “علم التوحيد” فسفة إسلامية مؤسسة على الوحي الإلهي، فيها تزامل العقل والنقل، وتآخت الحكمة والشريعة وجاورت العقليات السمعيات وشد التوحيد في الألوحية من أزر الطبائع والسببية.. واستطاعوا بهذه العقلانية الإسلامية المتميزة النهوض بمهمة الفلاسفة واللاهوتيين من ابناء الملل الأخرى”[8].

وقد مثل هذا التيار المنهج التحرري العقلاني في القرنين الثاني والثالث الهجري، وكان من أبرز رموزه القاضي ابن أبي دؤاد، وبشر المريسي، وإسحاق بن إبراهيم، وغيرهم، وظلت المدرسة العقلية مهيمنة على الدولة العباسية فترة طويلة، ومن أبرز علماء المعتزلة، أبو الهزيل العلاف، وإبراهيم بن يسار النظام، وأبو علي الجبائي، وفخر الدين الرازي، والقاضي عبد الجبار.

لم تكن الساحة خالية أمام المدرسة العقلية، التي عرفت بمدرسة الرأي، بل واجهت معارضة شرسة من الاتجاه المحافظ أو السلفي، الذي يؤخر الرأي ويهتم بالنصوص وحدها، وقد وصلت أوج المعركة بين الطرفين في قضية خلق القرآن، التي أصر الخليفة العباسي المأمون على أن يتبنى موقف المدرسة العقلية فيها، بل اتخذ المنهج العقلي مذهبا رسميا للدولة، وظل هذا المذهب طيلة عصر الخليفة المأمون، ومن بعده المهدي والمعتصم والواثق بالله إلى عهد المتوكل الذي انقلب عليه وأبدى ميله للمنهج التقليدي بعد معارك كبيرة، الأمر الذي صادم الكثير من أصحاب الاتجاه التقليدي الذين رفضوا الاعتراف بهذا النوع من الحداثة وتمسكوا بالمنهج السلفي السائد في القرون الثلاثة الأولى قبل انتشار المنهج المعتزلي. وكان من أبرز أصحاب المنهج التقليدي: أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني، ومحمد بن نوح العجلي، وأبو نعيم الفضل بن دكين المُلائي، وأبو عثمان عفان بن مسلم البصري، وأبو عبد الله نعيم بن حماد الخزاعي ، وأبو يعقوب يوسف بن يحي المصري البويطي ، وأبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأذرمي، والإمام أحمد بن حنبل.

محاولة التوفيق بين النقل والعقل

كانت محاولة الفارابي و ابن سينا من المحاولات المبكرة في التراث الإسلامي لحل معضلة التعارض بين المقولات الدينية وبين النتائج الفلسفية التي ورثوها وآمنوا بها عن الأساتذة اليونانيين والهلنستيين. وقد رفض ابن سينا الاعتماد على استراتيجية التأويل، أي صرف النص الديني إلى معنى محتمل وإن كان ليس ظاهرا ليوافق المقولة الفلسفية، وهي الإستراتيجية التي اعتمد عليها المتكلمون المعتزلة الذين كانوا أول من واجه تلك المعضلة؛ لأنه رأى أن تلك الإستراتيجية غير ناجعة بسبب عدم احتمال النص الديني لتلك المعاني الموافقة للمقولات الفلسفية. وأرجع ابن سينا ذلك الاختلاف بين النص الديني وبين المقولة الفلسفية (العقلانية) إلى كون الأول قد أريد به إقناع الجماهير وتقريب الحقائق الدينية إليهم لا طرح الحقائق التي ينبغي أن يسلك لها طريق آخر هو طريق البرهان والبحث الفلسفي.

تصدى أبو حامد الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة” للمواقف الفلسفية التي رآها مناهضة للحقائق الدينية، وعدها في عشرين مسألة، اشتهر منها ثلاثة رأى الغزالي أن الفلاسفة يكفرون بتبنيهم لها؛ وهي: القول بقدم العالم (أن العالم أزلي مواز لوجود الله لم يحدث بعد أن لم يكن) والقول بعلم الله بالكليات دون الجزئيات (أي أن الله لا يعلم الأحداث في تجددها) والقول بحشر الأرواح دون الأجساد. أعاد الغزالي طرح استراتيجية التأويل كما يظهر في فتواه الشهيرة لتلميذه أبو بكر بن العربي عن التعارض بين بعض النصوص الدينية وبين الحقائق العقلية والتي عرفت بـ “قانون التأويل”.

لم يكن الغزالي ممثلا تقليديا للأشاعرة كما تم تناوله في كثير من الدراسات، بل كان شديد الحيرة كما يظهر في كتابه “المنقذ من الضلال” الذي حكى فيه أزمته المعرفية، كما كان لتبنيه التفسير الفلسفي للتعارض بين النص الديني والحقائق الفلسفية (العقلانية) باعتباره نابعا من استهداف النص الديني لإقناع الجماهير البسيطة لا لطرح الحقائق، أثر كبير في توجهه إلى تبني آراء علنية على خلاف قناعاته الحقيقية كما يظهر من عناوين بعض أعماله كـ “إلجام العوام عن علم الكلام” و”المضنون به على غير أهله” وكما يصرح بنفسه في “جواهر القرآن”.

وعلى الرغم من أن الموقف الأشعري قد سيطر على العالم الإسلامي منذ ذلك الانتصار الغزالي المدعوم من السلطة السنية متمثلة في نظام الملك وزير السلاجقة في مقابل الشيعة الإسماعيلية الذين تبنوا الفلسفة ووظفوها في خدمة السرديات الشيعية؛ إلا أن الفيلسوف والفقيه ابن رشد الأندلسي حاول إعادة الفلسفة إلى الساحة المعرفية الإسلامية من خلال التصدي للغزالي في كتابه “تهافت التهافت” حيث رأى أن تلك المسائل التي انتقدها الغزالي نبعت من سوء فهم الغزالي المترتب على أخطاء ابن سينا في طرح المقولات الفلسفية.

وعلى الرغم من استمرار الرأي القائل بأن النص الديني لا يطرح الحقيقة وإنما تشبيهات لإقناع وتوجيه الجماهير عند ابن رشد، إلا أنه أعاد في كتابه الذي خصصه للبحث في مسألة الدين والعقل: “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” طرح استراتيجية التأويل مبررا ذلك بأن النص الديني بمصدره الإلهي لا بد أن يكون محتملا للتأويل ليوافق الحقائق العقلانية.

أسس التفكير الإسلامي:

ويمكن القول إن مسألة النقل والعقل قد أسست هيكل الحضارة الإسلامية وفق محاور متعددة، يتلمسها محمود عابد الجابري في ثلاثيته المشهورة للأنظمة المعرفية في العقل العربي ألا و هي : البيان ، والعرفان و البرهان، حيث يتم قياس الحاضر على الغائب، ويمارس النص والموروث مركزا مرجعيا لهذه الأنظمة، ويتم التفاعل والحوار بين المعقول والمنقول لإنتاج المعرفة والأساس الابستمولوجي للأصول بالنسبة لمباحث الفقه والنحو ومن أبرزها:

  1. المباحث الفقهية:
  • أهل النقل: الحنابلة والمالكية: يعطون الأولوية للنص، ويستخدمون العقل في مجال القياس. وقد لخص مالك مصادر أصوله في قوله وهو يتحدث عن كتابه “الموطأ” : ” .. حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة والتابعين ورأيي، وقد تكلمت برأيي، وعلى الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، ولم أخرج من جملتهم إلى غيره”[9]. وقد كان مالك يأخذ بالرأي ويعتمد عليه، وأحيانا توسع في الرأي أكثر ما توسع فيه فقهاء الرأي في العراق، كاستعماله الرأي والقياس فيما اتضح معناه من الحدود والكفارات مما لم يقل به علماء المذهب الحنفي. ومن الأصول العقلية المعتمدة في المذهب المالكي: القياس، والمصالح المرسلة، سد الذرائع، والاستصحاب.
  • أهل الرأي والعقل: الأحناف والمعتزلة:

وقد أولى المعتزلة عناية كبيرة لمفهوم العقل، باعتبار أنه ضروري للمكلف حتى يستطيع القيام بما كلفه الله تعالى به، ولذلك فإن القاضي عبدالجبار المعتزلي، يرى أن “الشيء يعقل أولا ثم يحد”[10]، أي يتم التعرف عليه بعد ذلك، فكان من الطبيعي لديه التأكيد على أن الله تعالى مكن الإنسان من الوسائل والآلات التي تعينه على أداء ما كُلف به، وعلى رأس هذه الآلات العقل.

ومن هنا فقد برز دور العقل لدى المدرسة الاعتزالية باعتباره الأصل الذي تُبنى عليه المعرفة، خاصة في المباحث المتصلة بالوجود وصفات الله تعالى، والنظر في آياته، وتفسير النصوص الشرعية في إطار قانون العقل، وقد أعجبت هذه الأفكار التي لا تعتمد على النصوص وحدها، وتعطي مساحة كبيرة للعقل في الحكم على المرويات وتفسير الكتاب والسنة، بعض خلفاء الدولة العباسية، الذين فتحوا ابواب الترجمة عن اليونانية والسيريانية والهندية وواكب ذلك عودة الحياة الي المدارس الفلسفية اليونانية القديمة فى الرها وجندياسبور وانطاكية وحرّان والاسكندرية.

  1. المباحث اللسانية: النحو نموذجا:

لقد شكلت مباحث النحو مثالا ساطعا على جدلية النقل والعقل، من خلال قياس الحاضر على الغائب كما بقول الجابري، بشد نموذج القاعدة النحوية إلى مدونة أسمتها باللغة العربية النقية والفصيحة، التي حصرت زمنيا مادة الاستشهاد فيها بالقرن الثاني الهجري في المدن، والقرن الرابع في البوادي العربية.

وفي مجال التنظير والتقعيد برزت مدرستان مختلفتان في أساليب بناء القاعدة النحوية وتعليلها، هما مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة. فقد تمسكت مدرسة الكوفة بالسماع (النص) مع الكسائي والفراء وثعلب …الخ، مما جعل القاعدة النحوية قلقة يسكنها التناقض والاختلاف، إذ يتم معارضتها بنص أحادي ينسف اطراد القاعدة.

أما مدرسة البصرة (مع سيبويه مؤلف “الكتاب” المرجع الأول في النحو سابقا وحاضرا، ومن أصحاب هذه المدرسة الأخفش الأوسط والزجاج والسيرافي وغيرهم)، فقد حاولت تقعيد ووصف اللسان العربي بطريقة عقلانية، تتميز بالثبات والاطراد والقابلية للتعلم.

وظهرت مباحث الأصول النحوية مع الأنباري وابن جني كمحاولة جادة لعقلنة اعتباطية اللغة و”سماعيتها”، وإخضاعها للمنطق والانضباط من خلال مفاهيم العامل والقياس والتقدير.

  1. المباحث العقدية:

لقد سبق أن قلنا أن ساحة التفكير الإسلامي شهدت ولادة ثنائية تركت أثرا عميقا في مكونات هذا التفكير وسجالاته العقدية والمعرفية، ويتعلق الأمر بثنائية تيار أهل السنة (أهل النقل والتوقيف، المذاهب الفقهية وبعض ألائمة) وتيار أهل العقل والنظر الفلسفي0 (المعتزلة وبعض الفلاسفة المحترفين كالكندي والفرابي، والمفكرين المستقلين كالجاحظ والغزالي)0

وقد تعزز التيار الأخير العقلاني بظهور علم الكلام كآلية شبه منطقية لتوليد المعقولات انطلاقا من استنطاق النصوص واقتراح حلول منطقية لتجاوز الإشكالات العقدية المثارة، وقد استخدم المعتزلة علم الكلام أساسا في المسائل العقدية0

أما الرافد الثاني الذي زاد من تعقيد القضايا العقائدية فهو دخول الفلسفة الإغريقية إلى الفكر العربي بطريقة “مقنعة”، فلم يفصح ناقلوها كثيرا عن الأصول الفلسفية التي وظفوها في كتاباتهم، لقد وجد الكندي وابن سيناء والفرابي في صفات العلة الأولى – التي نظر لها كل من افلاطون وأرسطو – ما يمكن ترجمته إلى مباحث الذات والصفات في الخطاب الإسلامي دون الكشف عن مصادرهم بشكل صريح0

يضاف إلى ذلك تيارات غنوصية وتجمعات شعوبية هدامة عملت على هدم الإسلام من الداخل بإثارة الشبهات والتشكيك في أسسه العقدية.

وقد تركزت السجالات بين الطرفين حول مواضيع محورية مثل:

  • الجبر والاختيار: فهناك آيات تدل على مسؤولية الإنسان عن أفعاله، وأخرى تؤكد أن مصير هذا الإنسان قبل ولادته، كقوله تعالى من سورة آل عمران: ” ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)، وكقوله تعالى من سورة الأنعام: “وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)، والأحاديث في ذلك السياق كثيرة، منها ما أورده أبو داود في مسنده رقم 296: “قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ الْجُهَنِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، يَقُولُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: ” إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ لَيُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحَ وَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ – أَوْ إِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ – لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ – أَوْ إِنَّ أَحَدَكُمْ – لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا “. وقد ذهب المعتزلة إلى حرية الإنسان، وأنه مخير وليس مسيرا، وسموا أنفسهم بأهل العدل، وذلك انطلاقا من منظور عقلاني، وحجتهم في ذلك أنه ما دام الله جل وتعالى وصف ذاته بالعدالة فليس من العدل أن يقدر على الإنسان أفعاله ثم يحاسبه عليها. وضعها المعتزلة ليقيموا بواسطتها براهينهم العقلية على بعض المسائل الدينية، وعلى رأسها القول إن الإنسان هو “خالق أفعاله” بقدرة يحدثها الله فيه عندما يختار هذا الفعل أو ذلك، وبالتالي فالإنسان عندهم حر مختار في أن يفعل أو لا يفعل، وبالتالي يتحمل مسؤولية أفعاله، حاول الأشعري أن يوفق بين هذا الموقف وموقف من يرفضون من أهل السنة نسبة “الخلق”، خلق الأفعال، إلى الإنسان، تمسكا حرفيا منهم بمبدأ “لا خالق ولا فاعل إلا الله”. وقد اتخذ الأشعري من مفهوم “الكسب” أساسا لهذا التوفيق، فقال إن الإنسان لا يخلق أفعاله وإنما هي من الله، ولكنه “يكسب” نتائجها إن خيرا فخير وإن شرا فشر، بمعنى أنه مسؤول عما يفعل.

وقد رأى أهل السنة أن مثل هذا التصور يتعارض مع كونه تعالى مطلق الإرادة، فتبنوا حلا توفيقيا بين الجبر والاختيار، حاصله أن الله جل وتعالى يخلق الأسباب والإنسان يكسبها.

  • وثار الجدل طويلا حول التجسيم والتعطيل في تأويل بعض آيات القرآن الكريم والأحاديث، فقد ذهب فريق السنة إلى التأويل المجازي لهذه الآيات والأحاديث كقوله تعالى من سورة الفتح (الآية 10): ” يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا”، فاليد هنا تعني القوة، وبالنفس الأويل المجازي خرجوا به دلالة الحديث الوارد في الصحيحين: ” إِذَا تَقَرَّبَ عَبْدِي مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ تَقَدَّمَ مِنِّي بَاعًا أَتَيْتُهُ أُهَرْوِلُ”، كما أثبت أهل السنة للذات الإلهية صفات القدرة والسمع والبصر مع مغايرة خلقه استئناسا بقوله تعالى من سورة الأنعام (الآية:103): ” لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ”، ومن سورة الشورى (الآية: 11) ” لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”، وهو ما أشار إليه ابن عاشر في نظمه:

وخلقه لخلقه بلا مثال ووحدة الذات ووصف والفعال

وقدرة إرادة علم حياة سمع كلام بصر ذي واجبات …[11]

  • مسألة القدم والحدوث والعلم بالكليات والجزئيات: فقد ذهب الفلاسفة إلى القول بقدم العالم، ومعرفة الله جل وتعالى بالكليات دون الجزئيات، وهو ما يتعارض مع الشرع، فكانت إحدى المسائل التي دفعت بالغزالي إلى تكفيرهم في كتابه “تهافت الفلاسفة”.
  • أما الموقف من القرآن الكريم فقد كان فتنة عظيمة فتحها المعتزلة على العالم الإسلامي بقولهم إن القرآن مخلوق ودفعوا بعض الخلفاء العباسيين إلى إجبار الأئمة والعامة على القول بذلك تحت طائلة التعذيب والسجن.

لقد تولدت مكتبة المباحث العقدية من السجالات الساخنة بين أهل السنة والمعتزلة، ومن كتابات رواد هذين التيارين حول العقيدة ومسائل الاختلاف، وقد سارع مؤلفو الكتب المدرسية من الفقهاء والمتصوفة إلى دمج خلاصات هذه المساجلات في كتاباتهم بعد غربلتها ومواءمتها مع منطلقاتهم المذهبية.

ولعل أبرز المناظرات العقدية التي جرت تلك التي دارت بين أبي علي الجبائي المعتزلي[12] وأبي الحسن الأشعري[13].

لقد بذلت محاولات كثيرة لكسر حدة هذا الصراع والبحث عن توافق بين أصحاب المنقول والمعتمدين على المعقول وعلى رأسهم ابن رشد.

ولاشك أن ابن رشد كان يؤمن بوحدة الحقيقة والعقلاني، وما كان السعي للتوفيق بين الشريعة والفلسفة أن ينطلق لولا وجود هذه الفكرة عند ابن رشد. والحق أن القول بوحدة الحقيقة يعود إلى الأفلاطونية المحدثة التي ترى أن الحقيقة واحدة لكنها ترى بوجوه متعددة.

الخاتمة

لعله يمكن القول في الأخير إنه توجد لدى كل من المدرسة العقلية القديمة أو مدرسة “المعتزلة” مرجعية مشتركة، إذ كان لدى كل المدرستين منطلق تنطلق منه وغاية تنتهي إليها، فلم يكن العقل عندهم مطلقًا بلا مرجعية، بل كانوا لا يتجاوزون النص القرآني، وما أشكل عليهم في فهمه أو ظنوا تعارضه مع النص القرآني قاموا بتأويله تأويلًا له مرجعيته اللغوية، وقد كانت غايتهم التي يسعون إليها تنزيه الله عز وجل، وقد استطاعوا أن يكونوا مدرسة عقلية متكاملة لها أسسها وقواعدها وأصولها.

ويبقى سؤال الدين والعقل حيا رغما عنا أيا كان ما سنطلقه عليه: جدل الدين والفلسفة، والسؤال اليوم هو عما إذا كان هذا الجدل ينبغي حقا الوصول فيه إلى حل حاسم أم أنه ذو طابع أبدي؛ ولكن حتى إذا كان هذا الجدل ذا طابع أبدي فهل ذلك يعني أن علينا تجاوزه حقا باعتباره ليس من أولويات مشكلاتنا المعرفية بأبعادها الحضارية اليوم أم أن هذا التجاوز سيكون خداعا للذات وفرارا من الاختبار الصعب؟!

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

  • البقرة
  • آل عمران
  • الأنعام

الحديث

سنن أبي داود

صحيح مسلم

القواميس

أحمد الزاوي، الطاهر: مختار القاموس. الدار العربية للكتاب

ابن منظور: لسان العرب

لالاند، أندريه: موسوعة لالاند الفلسفية. منشورات عويدات بيروت ـ باريس، (الفصل الأول العقل ، المفهوم و التاريخ).

المراجع

  1. ابن أحمد القرطبي، محمد: تفسير القرطبي. نشر مؤسسة الرسالة، 2006،: ج: 1 ص: 256
  2. ابن عاشر، عبد الواحد: المرشد المعين على الضروري من علوم الدين، مكتبة القاهرة ب ت، القاهرة

القاضي عياض: ترتيب المدارك. طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميةـ، المغرب. ج 2/

القاضي ابن أحمد الأسد أبادي، عبدالجبار: شرح الأصول الخمسة. لجنة التأليف والتعريب والنشر، 1998،

  1. حـامد أبو زيد، نصر: نقد الخطاب الديني، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط3، 2007
  2. علي حرب: نقد النص. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط4 2004
  3. عمارة، محمد: معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام. الناشر: دار نهضة مصر

الهوامش:

  1. – أحمد الزاوي، الطاهر: مختار القاموس. الدار العربية للكتاب، ص 432
  2. – لالاند، أندريه: موسوعة لالاند الفلسفية. منشورات عويدات بيروت ـ باريس، (الفصل الأول العقل ، المفهوم و التاريخ).
  3. – من قولهم: أرأيت إن كان الأمر كذا …
  4. – ابن أحمد القرطبي، محمد: تفسير القرطبي. نشر مؤسسة الرسالة، 2006،: ج: 1 ص: 256
  5. – ينظر مؤلف سيف الدين أبو الحسن علي بن محمد الأمدي: الإحكام في أصول الأحكام. ط المكتب الإسلامي، 1402هـ.
  6. – حـامد أبو زيد، نصر: نقد الخطاب الديني، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط3، 2007، ص 100
  7. – ينظر كتاب علي حرب: نقد النص. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط4 2004
  8. – عمارة، محمد: معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام. الناشر: دار نهضة مصر، ص: 153.
  9. – القاضي عياض: ترتيب المدارك. طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميةـ، المغرب. ج 2/ ص: 72.
  10. – القاضي ابن أحمد الأسد أبادي، عبدالجبار: شرح الأصول الخمسة. لجنة التأليف والتعريب والنشر، 1998، ص: 366
  11. ابن عاشر، عبد الواحد: المرشد المعين على الضروري من علوم الدين، مكتبة القاهرة ب ت، القاهرة، ص: 3
  12. هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي، المعروف بأبي علي الجبائي. شيخ المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره، مؤسس فرقة الجبائية. ولد سنة 235 هـ\849م في مدينة جُبّى في خوزستان، وتوفي في البصرة سنة 303 هـ\916م.
  13. أبو الحسن الأشعري: ولد بالبصرة عام 260هـ، وتوفي ببغداد عام 324هـ، المنظر الأول لمواقف أهل السنة ومؤسس المذهب المعروف باسمه، بعد أن انشق عن المعتزلة إثر خلاف بينه وبين شيخه. كان يريد أن يقيم مذهبا وسطا يجمع بين منهج المعتزلة العقلاني والفكر السني المعتمد على الرواية والحديث . له مصنفات كثيرة تفوق ثلاثمائة تأليف منها : الرد على المجسمة، ومقالات الإسلاميين، في جزءين، ومقالات الملحدين، والإبانة عن أصول الديانة، وخلق الأعمال، وإمامة الصديق، واللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، وغيرهم.