د/ حسين أحمد جمعة1
1 كلية العلوم التربوية بجامعة أنجمينا-تشاد
بريد الكتروني: oumarmht83@gmail.com
HNSJ, 2022, 3(5); https://doi.org/10.53796/hnsj355
تاريخ النشر: 01/05/2022م تاريخ القبول: 05/04/2022م
المستخلص
تهدف هذه الدراسة إلى بيان مفهوم التجديد في الشعر العربي بصورة عامة وفي الشعر التشادي على وجه الخصوص، وإبراز جهود الشعراء التشاديين في الشعر العربي بصورة عامة، وفي الشعر التشادي على وجه الخصوص، والتعريف بالشاعر عبد الواحد حسن السنوسي وبيان المؤثرات التي أسهـمت في تكوين شخصيته.
لذا استخـدمت الدراسة المنهـج الوصفي التاريخي ومنهج دراسة الحالة التي تقتضي دراسة ديوان كبري للشاعر عبد الواحد حسن السنوسي، وقد توصلت الدراسة إلى نتائج أهمها: إن هناك عوامل كان لها تأثیر كبیر في تكوین شخصیة الشاعر عبد الواحد حسن السنوسي منها دراسة اللغة العربیة منذ بواكیر عمره، وأن التجدید في الشعر ظاهرة طبیعیة تطوریة في كل مكان وزمان.
الكلمات المفتاحية: مفهوم التجديد، ظاهرة التطوير
Renewal in Arabic and Chadian poetry, Hassan Al-Senussi as a model
Dr / HISSEN AHMAT DJOUMA1
1 Faculty of Educational Sciences, University of Ndjamena
E-Mail: oumarmht83@gmail.com
HNSJ, 2022, 3(5); https://doi.org/10.53796/hnsj355
Published at 01/05/2022 Accepted at 05/04/2021
Abstract
This study aims to clarify the concept of renewal in Arabic poetry in general and in Chadian poetry in particular، and to highlight the efforts of Chadian poets in Arabic poetry in general، and in Chadian poetry in particular، and to introduce the poet Abdul-Wahid Hassan al-Senussi and to explain the influences that contributed to the formation of his personality.
Therefore، the study used the descriptive method of history، and the case study methodology that requires studying a major poet of the poet Abdul Wahid Hassan Al-Senussi. And that renewal in poetry is a natural، evolutionary phenomenon in every place and time.
Key Words: renewal concept, evolutionary phenomen
مقدمة:
دخلت اللغة العربية إلى تشاد قبل عشرة قرون وكان هذا مقرونا بالعامل الديني الذي يرجع له الفضل الكبير في توطيد الثقافة العربية الإسلامية حول بحيرة تشاد قديما وحديثا. ولان كانت اللغة العربية في تلك المنطقة تعتبر ظاهرة، فإن هذه الظاهرة اللغوية امتدت لتشمل باقي المدن والمناطق الأخرى مما دفع القبائل الجنوبية المختلفة اللغات والتي لا يوجد بينها والقبائل الشمالية بالبلاد أي تداخل لغوي، إلى استخدام لغة عربية متوسطة (لهجة) كجسر للثقافة بين الشمال والجنوب. وأطلق عليه اسم (عربي بنقور) وهو اسم مدينة بجنوب تشاد. هذه اللغة المستحدثة هي شبيهة بما يسمى في السودان (عربي جوبا) بل هناك أصوات متشابهة بين اللغتين.
مشكلة الدراسة وأسئلتها:
تبرز مشكلة البحث؛ في ايضاح التجديد في الشِّعر العربي والتشادي، وتطرق الشاعر عبد الواحد حسن السنوسي، ويمكن تحديد مشكلة البحث من خلال الإجابة عن الأسئلة الآتية:
- ما مفهوم التجديد في الشعر العربي بصورة عامة، وفي الشعر التشادي على وجه الخوص؟
- ما هو جهود الشعراء التشاديين في الشعر العربي بصورة عامة وفي الشعر التشادي على وجه الخصوص؟.
- من هو الشاعر عبد الواحد حسن السنوسي ؟
ویهدف هذا البحث إلى الآتي:
- بيان مفهوم التجديد في الشعر العربي بصورة عامة وفي الشعر التشادي على وجه الخصوص.
- إبراز جهود الشعراء التشاديين في الشعر العربي التشادي.
- التعريف بالشاعر عبد الواحد حسن السنوسي وبيان المؤثرات التي اسهمت في تكوين شخصيته.
أولاً: التعريف بمصطلح التجديد الشعري:
التجديد في اللغة:
جدَّ الشيءُ يَجِدُ بالكسر جِدَّةً: صار جديداً، وهو نقيض الخَلْقِ. وجَدَدْتُ الشيء أجُدُّهُ بالضم جَدّاً: قطعته، وثوبٌ جديد، وهو في معنى مَجْدُودٍ، يراد به حين جَدَّهُ الحائك، أي قطعه،
قال الشاعر:
أبى حُبِّي سُلَيْمى أنْ يبيدا… وأمْسى حَبْلُها خَلَقاً جديداً
(الجوهري، 1984م، 1/82.)
الجدَّة: مصدر الجَديد، وفلانٌ أجد ثوباً واستجدَّه، قال: “يَجدُّ ويَبْلى والمصيرُ إلى بِلىً” والجديدُ يستوي فيه الذكر والأنثى لأنه مفعول بمعنى مُجَدَّد، ويجيء “فعيل” معنى المفعول المخالف للفظ من تصريف المُفَعل.(الفراهيدي، ، 1/456. )
وحكى أهل اللغة أن بعض العرب يقول في جمع جَديد جُدَدٌ وأصله وقياسه جُدُدٌ، والحديث: الجديد من الأشياء، يقال: ثوبٌ جديدٌ: قُطِع َحديثاً جمعه جُدُدٌ.(بن منظور المصري، 1990م، 4/315،)
التجديد في الاصطلاح:
عندما يقال: حديث أو جديد فهذا يدلنا بالتلازم على أن هناك قديم، إذن هما مفهومان متقابلان في المعنى كما أنهما مرتبطان ارتباطا ًوثيقا ًبالواقع التاريخي لمرحلة محددة وليس لهما ثبات معجمي يصح تنزيله على الواقع في كل وقت، لذا فجديد اليوم سيكون قديم الغد وهكذا، إلَّا أن الحداثة كمفهوم أدبي معاصر التصق بمرحلة معينة من تاريخ الأدب الأجنبي لذا كانت الضرورة توجب تسمية المرحلة التي تليها بمرحلة ما بعد الحداثة، وترى الدراسة أن سبب ذلك هو توافر الكم الأكثف من أساليب التحديث ومدارسه في هذه المرحلة أكثر مما قبلها بحيث أخذت شكل الثورة التي طالت كل شيء في بنية الأدب. ( الشبكة العنكبوتية (الإنترنت).)
إذاً فالتحديث ببساطة هو إضافة الابتكار والإبداع الحديث على الأصل القديم، وبما انه يسمى بهذا الوصف الذي يحمل في دلالته معنى الجدة والحالية، فهذا يجعله ممتنعاً على التوصيف والتحديد الاصطلاحيين، حيث أن الحديث لم يحظ بعد بالعمر الزمني الكافي ليصطلح عليه أحد، بينما عرفته (جين أوستن) عند تناولها له كمفهوم أيديولوجي أدبي بأنه: “حالة من التغير، ربما للأفضل، لذا يبقى التحديث مجهول الماهيَّة معلوم السِّمة والأثر، فكل ابتكار شعري سواء كان في النسق أو في الصورة أو في المفردة أو في العبارة أو في الشكل أو في المضمون أو في أي شيء آخر ما دام أنَّه يتماشى مع أصول الذائقة العامة، ولا يخل بقوانين الشِّعر الضمنيَّة ويتصف بترك الأثر الانفعالي اللذيذ لدى المتلقي شأنه شأن كل إبداع بكر يغمر المرء بالمتعة والانبهار والبهجة فهو تحديث وتجديد معتبر، وهو والحال كهذه مستند مستقل لإنجاح القصيدة. ورغم صعوبة حد التحديث والحداثي والحديث حداً معجمياً جامعاً مانعاً إلَّا أنَّه يتميز ببعض السِّمات المظهرة له، فهو عادة يأتي بأشكال مفاجئة وحادة مغايرة للسائد ومعلنة رفضها للأشكال الثابتة والسلطة الثقافية الراكدة في ذوق برجوازي عام، ولعل أبرز سماته هي نقل القصيدة من حافة المعنى البسيط المباشر إلى مندوحة الترميز الواعي والغموض الشفاف والاحتمالات المفتوحة.
مصطلح الشِّعر الجديد:
تبنَّى هذا المصطلح كثير من الباحثين منهم عزالدين إسماعيل في كتابه “الشعر العربي المعاصر” ولقد لقي هذا المصطلح كغيره من المصطلحات رفضا ًمن بعض الباحثين، وهنا نورد قولاً في هذا الشأن: (أي تجديد هذا الذي حدث للشعر، ومن أي الأشياء تحرر، وعلى أي نحو من الأنحاء ينطلق؟ إن الإجابة على هذه التساؤلات من واقع هذا الشِّعر من جهة، ومن واقع الحضارة التي أثمرته من جهة أخرى هي التي ستحدد لنا المصطلح العلمي الدقيق. فمما لا ريب فيه أن كل قديم كان جديداً في عصره، ولقد تحرر ذلك القديم في أيامه على صورة من الصور وكانت جدته وتحرره تجسيداً لانطلاقة إلى آفاق أكثر رحابة وعمقاً، إذن فثمة شيء آخر مختلفاً كيفياً، يميز الحركة الجديدة الحرة المنطلقة، التي ينبغي أن ندعوها بحركة الشِّعر الحديث).( شكري، 1998م، ص7.)
فهذا المصطلح قاصر وغير دقيق في نظر بعضهم، لأن الجدة والقدم أمرهما متعلق بالزمن، بمعنى أن ما يعد قديماً اليوم كان جديدا ً في يوم من الأيام، وما يعد جديداً اليوم سيصبح قديماً في مستقبل الزمان، وهكذا يصير المصطلح متعلقاً بالزمن معوضاً لتغييره من وقت لآخر إذن فقد رفض (غالي شكري) (شكري، 1998م، 63 عاماً، مواقع إلكترونية (الشبكة الدولية للمعلومات، الإنترنت).) مصطلح “الشعر الجديد” لأنه يرى أن هذه الجدة متعلقة بوقت محدد. ولهذا السبب نفسه رفض أيضاً (محمد النويهي) واقترح أن يسمى هذا الشِّعر بـ “الشعر المنطلق” يقول محمد النويهي: (وقد اكتفينا في جمع دراستنا لهذا الشِّعر بأن نسميه ببساطة “شعر الشكل الجديد” ولكن من الواضح أنها تسمية قاصرة لأن جدته هذه مؤقتة، لذلك انتهينا بعد تفكير إلى اقتراح هذه التسمية: الشِّعر المنطلق).( النويهي، ، 1971م، ص 270)
خلاصة الأمر في هذه المصطلحات المختلفة أنها- جميعاً- لا تخلو من الدلالة على هذا النَّوع من الشعر. كما أنَّها لا تخلو من العجز وعدم الدقة على تفاوت فيما بينها، فمصطلحات الشِّعر الجديد” و”الشعر الحديث” و”الشعر المنطلق” لا تفي بالحاجة لما فيه من بُعد عن الدلالة على هذا الشِّعر على نحو ما تقدم. بقي مصطلح “الشعر الحر” و”شعر التفعيلة” وقد رأينا أن دلالتهما على هذا الشِّعر قويَّة، على أن مصطلح “الشِّعر الحر” قد لقي رواجا ً ورُزقتْ السيرورة واستعملها الباحثون كثيراً، كما يقول سعيد الورقي: (وسنستخدم للنوع الأول اصطلاح الشِّعر الحر وهو الاصطلاح المتداول غالباً).( الورقي، ، ص221.)
مصطلح الشِّعر الحديث:
مصطلح (الشعر الحديث) مصطلح غير دقيق، (ماياكوفسكي) شاعر الثورة الروسية هو صاحب الدعوة لهذا اللون من الشعر، ومصطلح الشِّعر العربي المطلق هو مصطلح لفن أدبي قائم يحدده في شكله الوزن، وتحدده القافية.
وهناك لفظان نجدهما يردان كثيراً فيما يكتب أو يُقال، هما لفظ قديم، ولفظ حديث، وكثيراً ما يقولون: الشِّعر القديم والشعر الحديث، من ثم يتحدثون عن أنصار هذا وأنصار ذاك.(المرجع السابق، ص 221. )
والحق أن إطلاق كلمة “حديث” هذه على نوع خاص منا لشعر لهو استئثار بالكلمة وتضييق لمدلولها، لأن الكلمة في معناها اللغوي تدل على كل ما هو حديث، فلو نظر أحد من سموهم بأصحاب الشِّعر القديم شعراً اليوم، فشعره حديث لأنه نظم في هذا العصر الحديث، ولأن صاحبه بين من يعيشون بيننا، إذ أن مفهوم القدم والحداثة المعنيين هنا مرده للزَّمن المتقدم أو المتأخر.
ومن ناحية اصطلاحية فقد سبق أن أصطلح مؤرخو الأدب على أن بداية الأدب العربي الحديث، في شعره ونثره، هي منذ فجر النهضة الأدبية في الشرق، التي كانت حملة نابليون على مصر مقدمة لها، ومهيئاً من مهيئاتها، وعلى ذلك فكل ما أنتج من أدب منذ ذلك التاريخ حتى اليومي سمى بالأدب الحديث، وكل ما كان من أدب سابق له يسمى أدباً قديماً. فإن من الخطأ لغوياً واصطلاحيا ًأن يقصر لفظ “حديث” على نوع بعينه من الشعر، في حين أنَّه ينظم معه في يومه وفي ساعته لون آخر من ألوانه، فهما يعيشان جنباً إلى جنب، وكلاهما حديث. وهكذا فكيفما نظرت لهذا المصطلح فإنك تجده غير دقيق، ولا فرق في عدم الدقة هذه بين أن نقول إن هذا شعر حديث، وبين أن نقول إنَّه شعر المدرسة الحديثة، ولعل مصدر هذا الخطأ، أن هذا الشِّعر الذي يصفونه بأنه حديث، هو في حقيقته الشِّعر الذي يتخذ الواقعية مذهباً.
الشعر المرسل:
وهو أول ما فكَّر فيه الزهاوي(الزهاوي، 1936م، الموسوعة الحرة، الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت). ) وشكري الفضلي في العراق وعبدالرحمن شكري(شكري (12 أكتوبر 1886- 1958م) ) وتبعه المازني(المازني، 1890م الموسوعة الحرة، الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت). في مصر، وهو أقرب إلى الشِّعر الإنجليزي الذي احتذى حذوه الشعراء وسار على منواله (باكثير) فقد احتفظ بوحدة البحر أو الوزن وغيَّر في القوافي متأثرا ًبالشاعرين الإنجليزيين (شكسبير) و(ملتن) ثم جاء (ولت وتمن) الأمريكي الذي لم يلتزم بالأوزان والعروض والموسيقى الشعرية.
حركة الحداثة:
اقترحت حركة الحداثة شعار الحرية في الشِّعر مع تبني قوى اجتماعية حديثة لهذا الشعار في الاجتماع والسياسة، وخلبت بنماذج تنويرية وإصلاحية وجذرية في إبداع “الآخر” الغربي واجتماعه، ولم تلبث أن بحثت عن “رموز” مشابهة مقاربة في التراث العربي لتسوغ اختيارها، وخاصة عندما اتهمت بأنها “هجينة” أو “عميلة”، وجابهت سلطة الشكل العربي في القصيدة العربية القديمة، إذ مثل لسلطة التراث الشعري بسلطة اللغة المقدسة وبسلطة العروض.
وشاعت مفهومات مثل القطيعة مع التراث أو الثورة عليه أو مناضلة التراث وتحطيم العقل “السلفي” الذي ينتسب إليه. وبالغت بعلاقة مضمونات الحياة الجديدة بأشكالها الجديدة التي قد تكون مؤقتة وانتقالية أو طارئة في الوقت الذي عبرت فيه بعض مفهوماته في موقفها من اللغة الذي دعا إلى موقف لغوي “يحطم” اللغة “المعجمية” الموروثة، وتغيير وظيفة الاستعارة، واستكشاف بلاغة عربية مختلفة عن بلاغة الأقدمين، وكأن اللغة تنمو من خارج التراث، أو كأن البيان الجديد يمكن أن يصعد من خارج البيان العربي القديم( خضر ، 1994م، ص 13).
مصطلح الشِّعر المعاصر:
من المصطلحات التي أطلقت على الشِّعر الحديث مصطلح الشِّعر المعاصر الذي أشار إليه الكثير من الأدباء، وكلمة معاصر تتسع لتشمل الشِّعر من مطلع هذا القرن، وقد تضيق فتقتصر على شعراء الحقبة الأخيرة، وفي هذه اللفظة من الخداع الزَّمني ما في لفظة الحديث على تفاوت في ذلك الخداع.( عباس، ، 1978م، ص 210)
ثانياً: تطور تيار التجديد في الشِّعر العربي:
الواقع الذي لا مراء فيه أنَّ الشِّعر العربي صورة فنية تعكس تاريخ الأمة العربية وظروفها الحضارية والنفسيَّة المختلفة، وأنه ما دام التاريخ يحدثنا بأن هذه الأمة لم تكن جامدة، وأنَّ ظروفها لم تكن ثابتة، فإنَّ الشِّعر أيضاً لم يكن جامداً ولا ثابتاً، ونحن لا نتعرض هنا للمضمون بطبيعة الحال لأنه لا يستقر ولا يهدأ مهما كانت الظروف، وإن كُنَّا نمس هذا المضمون بقدر ما يؤثر على الصورة الإيقاعية والموسيقيَّة للشعر، وهذه الصورة الأخيرة هي التي تعرضت في هذا العصر لأكبر هزة شهدها الشِّعر العربي في تاريخه الطويل( الحليم، 2009م. ). وفي لمحة عابرة رأسيَّة في هذا التاريخ نجد أن الصورة الموسيقيَّة تنوعت بين الرجز والتشطير والتقطيع والتقسيم واستحداث البحور، فالتربيع والتخميس والتسديس وسائر صور الموشحات وتنويع القوافي في القصيدة الواحدة ومن وحدة البيت إلى وحدة الجزء أو وحدة القسم فوحدة القصيدة( عتيق، دار النهضة العربية، بيروت، ص 143
وينبغي الإشارة إلى أن العربي القديم كان مغرم بالإيقاع الموسيقي فيما ينطقه ويعبِّر عنه من فنون الكلام ويبدو هذا في الشِّعر وفي النثر جميعاً وإذا نظرنا إلى الخطب والأمثال وسجع الكهان والمقامات والرسائل نجد نماذج من الإيقاع الفني العالي، وهذا ليس ظاهرة سطحية أو شكلية في طبيعة العربي وطبعه، وإنما هي صفة جوهرية لازمة عميقة المدى بعيدة الغور تملك عليه حسَّه وشعوره وتفكيره وخياله، بحيث تهز وجدانه وكيانه هزا ًعنيفا ً يتجلى في لغة قوله وأسلوبه البياني.
والتفسير الطبيعي لهذه الصفة القوية اللازمة لا يكمن في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسيَّة المتغيرة، بقدر ما يكمن في قوة اللغة واتساعها ورهافة حسّها وأن كان لذلك كله دلالات وأسباب تتعلق بالظروف المذكورة باعتبار أنَّ اللغة صدى للوعي الإنساني في تجاربه وخبراته وآماله والإنسان وليد، في ذلك كله، لظروف البيئة.
كما أثر الإسلام في النفوس برقة أسلوبه وسماحته وبساطته وبالتالي في إيقاعات الشعراء الموسيقية فإن بيئات شعرية بعد هذا اتسمت بالترف والنعمة والمرح والغناء وكثرة الرقيق- في مقدمتها مكة والمدينة – كان لها أثر واضح على موسيقا الشِّعر إذا اعتمدت على الإيقاعات الرقيقة الناعمة التي توفر التطريب في اللحن والغناء وعمد الشعراء إلى الأوزان الخفيفة المرحة كالوافر والسريع والخفيف والرَّمل والمتقارب والهزج في نظام قريضهم بل عمدوا إلى ما هو أكثر من ذلك في التخفيف من الأطر الموسيقية التقليدية حين خففوا أوزاناً خفيفة كالرَّمل والخفيف والمتقارب
( علم العروض والقافية، ص121 .
وقد سار الأدب على نحو من التطور على فترات متباينة كانت مرتبطة في أغلب الأحايين بحركة التطور في الإنتاج الفكري في حقل الفلسفة أو الثورات الاجتماعية الكبرى على الموروثات البالية، ولذلك ظهرت الكثير من النظريات التي تناوشت الأدب يمنة ويسرة، ولفظ الحداثة ظهر في بدايات القرن العشرين وتحديدا ًمع شعراء المهجر والمدارس الفكرية في الأدب العربي التي بدأت في التخلق في ذاك الوقت مع حركة الهجرة إلى أمريكا الشماليَّة والجنوبيَّة ومن تلك المدارس مدرسة الديوان ومدرسة أبولو ونزعت تلك المدارس لتحديث حركة الشِّعر العربي وأول ظهورها احتفاءا ً بشعر التفعيلة والشعر الحُر في مقابلة الشِّعر المودي، وأيضاً ظهر الشِّعر الحديث عن وحدة القصيدة العضوية في احتوائها على وحدة موضوع تتناوله القصدية حتى نهايتها في مقابل النمط الذي كان سائداً قبل ذلك من أن القصيدة تنتقل بالمتلقي في الغزل حيناً، وفي الهجاء حيناً آخر، وفي الفخر أحايين أُخرى، وأيضاً لجأ شعراء تلك الفترة لتحديث القوافي فلم تعد القصيدة تحكمها قافية واحدة، بل عدد من القوافي في سياق ممتد ومقبول دون الإخلال بالجرس الموسيقي (الحداثة كسؤال هوية، ص13. )
وكانت تلك الحركات الفكريَّة في عالم الشِّعر العربي ثورة كبيرة في ظل تمرس العديد من الشعراء في ذلك الزمان بالموروث العربي القديم والشاهد أن حركة الشِّعر الحديث قد انتصرت لقيمها الداعية إلى التجديد في الشِّعر العربي وكان لها ما أرادت وانتشر شعر السيَّاب ونازك الملائكة في فترات كبيرة وأدهش إنتاجهما الكثيرين لما يحتويه من تجديد في الأخيلة والمعاني والصور الشعرية والموضوعات.
ومع النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي أخذت النهضة الفنيِّة في الشِّعر العربي الحديث تتبلور في اتجاهات فنيِّة محددة بلغت ذروتها خلال القرن العشرين. وعلى يد رواد هذه الاتجاهات، بدأ التجديد في القصيدة الحديثة يتجاوز المعاني والصور والأفكار إلى تجارب فنية تتصل بالشكل، فبدأت محاولات الشِّعر الحُر والشعر المرسل الذي لا يتقيد فيه الشَّاعر بالوزن وقد لا يتفيد بالقافية أيضاً.
إن التجديد في الشِّعر ظاهرة طبيعية تطورية في كل مكان وزمان، وقد عرف الشِّعر العربي في تاريخه الطويل مظاهر تجديدية كثيرة بدءاً من بشار بن برد الذي كان آخر القدماء وأول المحدثين إلى أبي نواس الذي تمرد على نهج القصيدة ثم كانت ثورة أبي تمام الفعلية على (عمود الشعر)، ولذلك وقف علماء اللغة يهاجمون ثورته هذه، وعلى رأسهم ابن الأعرابي( الصولي، تحقيق خليل محمود عساكر وزميليه، بيروت، ص244.
ثم عرف الشِّعر العربي ثورة في الشكل الموسيقي من خلال الموشح وبعض الفنون والزخارف المستحدثة إلى أن جاء العصر الحديث، وبدأ الشعراء يتململون تحت وطأة الزخارف البديعية والمحسنات اللفظية والموضوعات التي لا تقول شيئاً، وقد بدأت ملامح هذه الثورة على التقليدية الجافة في أواخر القرن التاسع عشر، وما أن أطل القرن العشرين حتَّى أخذ الشعراء والنقاد يدعون إلى ضرورة تجديد الشِّعر العربي ليلائم العصر، وجماعة (أبولو) والشعر الروماني والرمزي، ثم في الشِّعر الحديث، وقد تنوعت أشكال القصيدة بين الغنائية والموضوعية، كما تنوعت أشكالها بين شكل الشطرين، والشعر المرسل، والنظام المقطعي، وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر وسواها، وكان لابد من أن يتغيَّر الشِّعر ورسالته لتغيُّر نمط الحياة والتطور الخطير الذي حدث في عصرنا.
لذا يتضح أنَّ تجديد الشعراء المعاصرين في أشكال الإيقاع في القصيدة العربية المعاصرة لم يبدأ من فراغ، وإنما كان استمراراً لجهود شعراء سابقين كانت لهم محاولات كثيرة متعددة للتجديد في العروض العربي فتصرف بعضهم في الأوزان التقليدية، وتوسع فريق من الشعراء في الإفادة من فكرة الزحافات والعلل، وحاول بعض الشعراء أن يتحلل تماماً من قيود الوزن والقافية ومال آخرون إلى نظم بعض قصائدهم على أكثر من وزن، وكانت محاولات وشِّاحِي الأندلس وجهودهم في التجديد في موسيقى الشِّعر علامة بارزة في تاريخ الأدب العربي، وقد أفاد الشعراء المعاصرون من هذه المحاولات كلها فوسعوا من نطاقها وأضافوا إليها إضافات أخرى بحكم ثقافاتهم الجديدة، وصلاتهم بالشعر الأوروبي.
وهناك نوع آخر من العناصر في اللغة والأدب، خاضع للتغيير، قابل للتشكل، يتأثر بالبيئة وبدرجة الحضارة، وبالأساليب السياسية، وبالحياة الاجتماعية، وغير ذلك، وفي هذا النوع يكون التغيير والتجديد. ومن أجل هذا التغيير كانت الفروق واضحة بين الشِّعر العباسي والشعر الجاهلي، في التعبير والتشبيه والأسلوب والموضوع ونحو ذلك. ومن أجل هذا أمكن الأديب إذا عرض عليه نوع من الأدب، أن يعرف عصره ولو لم يعرف قائله؛ لأنه يستطيع أن يتبيَّن خصائص كل عصر ومميزاته، ويطبق ذلك على ما يعرض عليه من شعر أو نثر.
ومن أجل هذا أيضا ًترى الفرق واضحاً بين لغة الأدباء الآن وبين لغتهم منذ عشرين عاماً. وتجد الفرق واضحاً بين لغة الجرائد المصرية اليوم، وبين لغة الجرائد السورية والعراقية، وإن كانت كلها تصدر باللغة العربية، وتشترك في العناصر الأساسية(التجديد في الأدب، أحمد أمين، مجلة الرسالة، العدد 6، بتاريخ 1/4/1933م، ص11.).
ثالثا أهم رواد التجديد في الشِّعر العربي:
إذا عبرنا إلى شاطئ العصر الحديث، فإن أول ما يستوقفنا هو أن العصر بأكمله قد وسم بالحداثة، وأن النقاد ومؤرخي الأدب مجمعون على تسميته بالعصر الحديث في الأدب أيضاً، وأنه يبدأ- في عرفهم- بمطلع القرن التاسع عشر الميلادي، ولابد- والأمر كذلك – من وقفة مستأنية، ولتكن وقفة في أرض مصر.(بدر، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، موقع الجامعة على الإنترنت. )
ففي بداية هذا العصر بدت بوادر التغير في الحياة الراكدة، ورحل جنود الحملة الفرنسية وعلماؤها من مصر، بعد أن هزوا المجتمع المصري من أعماقه. واستطاع محمد علي باشا( علي، المعروف (1770- 1849م)، ) بعد سنوات قليلة أن يبدأ نهضة واسعة، ظهرت آثارها في توسعه العسكري، والحركة العمرانية، والبعثات الدراسية، وتشجيع الترجمة والطباعة، ثم تابع النهضة ابنه إسماعيل- الذي خلف عباساً وسعيداً- وكان هذا الحاكم مفتوناً بمظاهر الحياة الأوروبية، فعمل على نقلها إلى مصر، وصرف في سبيل ذلك أموالاً طائلة، وفي الوقت نفسه، أخرجت المطابع عدداً من دواوين الشعراء الجاهليين والأمويين والعباسيين، وأصبح في مقدور المثقفين أن يقفوا على عيون الشِّعر العربي، كما نشرت أمهات كتب التراث ككتب الجاحظ وابن المقفع وابن العميد وابن خلدون وغيرهم، وبدأ النثر يتخلص من قيود السجع والتكلف، في كتابات رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده ، وعبدالرحمن الكواكبي، وغيرهم من كتَّاب العصر، فكان أسبق من الشِّعر إلى التحرر.
أما الشِّعر فكان في حالة من السقم تقارب الموت، تمثله نماذج هزيلة، ليس فها إحساس صادق، ولا تعبير فني ناضج، وتغطى ركاكتها في كثير من الأحيان، بألوان من البديع المصطنع تبدو مثل زركشة على كفن، وتعبر بصدق عن الحياة الراكدة في أواخر العهد العثماني. وقد حاول بعض الشعراء أمثال: محمود صفوت الساعاتي( آغا الساعاتي: شاعر 1881م.
) ، وعلي أبي النصر، وعبدالله فكري، وعائشة التيمورية، أن يتحرروا من الأسلوب المتخلف، ولكنهم لم يبتعدوا عنه كثيراً، ويعدّ النقاد ومؤرخو الأدب شعر البارودي بداية الشِّعر الحديث ويخصونه باصطلاح: شعر الإحياء؛ لأنَّه باكورة الحداثة.
وبدأت الدعوة إلى الشِّعر الحُر تظهر بين بعض النقاد المعاصرين؛ ومن بينهم مطران وأبو شادي، والخروج على الوزن الشعري مع ملاحظة تنغيمات موسيقية خاصة يسمى شعراً حرَّا عند أبي شادي والسَّحرتي الذي يقول: “ليس الشِّعر الحر ضرباً من الفوضى، بل إن له صناعة فنيَّة تخلق إيقاعات موسيقية، وإن خالفت الإيقاعات التقليدية الموروثة. ثم صار الشِّعر الحر في رأي نازك الملائكة في كتابها: قضايا الشِّعر المعاصر، لا يطلق إلَّا على تنويع التفعيلات في اشطر القصيدة، ولباكثير ومحمد فريد أبي حديد وسهير القلماوي وغيرهم تجارب كثيرة تمثل أوَّلية الشِّعر الحرّ.
وللدكتور طه حسين(بن سلامة، سنة 1973م.
) رأي في الشِّعر الجديد، عبَّر عنه في أحاديث مختلفة له، نشرت في أمهات المجلات الأدبية. حيث يقول: (أن النزعة إلى التجديد في الأوزان والقوافي دعوة غير منكرة، وغير جديدة؛ فقد سبق إلى التجديد شعراء من العرب ومن غير العرب؛ وإنما الجدير بالبحث في الشِّعر الجديد هو البحث عن توافر الأسس التي يجب أن تُراعى في الفن الشعري، والخصائص التي ينبغي أن تتحقق فيه، ولا يمكن أن نعد هذا الجديد شعراً إلَّا إذا قام على تلك الأسس، وتوافرت فيه تلك الخصائص)( بدر، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، موقع الجامعة على الإنترنت. ).
ونُشر للدكتور طه من قبل رأي في مجلة الآداب البيروتية عدد فبراير عام 1975م حول الشِّعر الحُر، قال فيه: إني لا أرى بهذا التجديد في أوزان الشِّعر وقوافيه بأساً، ولا على الشباب المجدّدين أن ينحرفوا عن عمود الشِّعر فليس عمود الشِّعر وحياً نزل من السَّماء، وقديماً خالف أبو تمام عمود الشعر، وضاق به المحافظون أشدّ الضيق، وهو زعيم الشِّعر العربي كله غير منازع، ولست أرفض الشعر؛ لأنَّه انحرف عن عمود الشِّعر القديم، أو خالف الأوزان التي أحصاها الخليل؛ وإنما ارفضه حين يقصر في أمرين:
أولهما: الصدق والقوة وجمال الصور وطرافتها.
ثانيهما: أن يكون عربيّاً لا يدركه فساد اللغة والإسفاف في اللفظ، وقديماً قال أرسطو( بدر، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، موقع الجامعة على الإنترنت. ) : “يجب قبل كل شيء أن تتكلم اليونانية، فلنقل: يجب قبل كل شيء أن نتكلم العربية”.
ومن النقاد المعاصرين كثيرون رفضوا الشِّعر الحر؛ وللعقاد( العقاد: سنة 1964م.
) رأي في الشِّعر الحر، فحين رأى التجارب الجديدة من الشِّعر الحُر لزميليه شكري والمازني؛ وهي أولى التجارب من الشِّعر الجديد، قال: (لا مكان للريب في أن القيود الصناعية ستجري وستُجرى عليها أحكام التغيير والتنقيح؛ فإن أوزاننا وقوافينا أضيق من أن تتفسخ لأغراض شاعر تفتحت مغالق نفسه، وقرأ الشِّعر الغربي، فرأى كيف ترحب أوزانهم بالأقاصيص المطولة والأناشي المختلفة، وكيف تلين في أيديهم القوالب الشعرية فيودعونها ما لا قدرة لشاعر عربي على وضعه في غير النثر)( مصطفى، 2002م، ص123).
رابعاً: الشعر التشادي العربي:
يكاد إجماع المؤرخين والباحثين ينعقد على أن منطقة حوض بحيرة تشـاد من أقدم المناطق التي عرفت الشعر العربي في إفريقيا جنوب الصحـراء( الكانمي ، ص32.
وقد ذكر بعض الباحثين أن الشعر التشادي العربي في تاريخه مرتبط باللغة العربية ودخولها منطقة حوض تشـاد(الترجمي، ، 2005م. ). ولهذا نجد بعضهم يحكم على أن أول من أصل أصوله ووضع له التقاليد «إبراهيـم الكانمي» ، وذلك في النصــف الثانـي من القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجـــريين ” النصــف الثاني مــن القرن الثاني عشر وأوائل القـرن الثالث عشر الميــلادي ” (عبد الله حمدنا الله، 2001م، ص3.)
تعد البداية في كل أدب غامضــة لعدم وجود عمل أدبي يصــور تلك البـداية. ويمكن القول أن الشعر التشـــادي العربي قد ضاع منه الكثير لعدم التدوين، وما أحيط بهذا المجتمع البـدائي من ظروف اجتماعية واقتصــادية وسياسية، حتى أتيحت فرصـة للـكانمي لم تتح لغيره ممن ظلوا مغمورين، فهو أول شاعر سجله التاريخ ولا نعرف شاعرا قبله، فقد حظي شـعره بالتدوين في بعض أمهات الكتب العربية، بفضـل الهجرة التي قام بــها إلـى المغرب والأندلـــس ومدح كبــار الدولة واختلــط بسادتـهم وارتزق منــهم
فتاريخ قدومـه في مراكــش عام 594هـ وهــــو في عمر الأربعين، وذلك لمهمة رسمية إلى الخليفة الذي أنشده قائــلا:
أزال حجابه عني وعيني | تراه من المهابة في حجــــــاب[1] | |
وقربني تفضلـــه ولـكن | بعدت مهـابة عند اقتـــــــــــــــــراب |
هكذا بدأ الشـاعر التشـادي الأسود إبراهيم الكــانمي شعره مادحاً وموضحـا عــدم رؤيته ومقــابلته لمــلك كـانم إلا من وراء حجــاب … فاعتبـر المدح لملك مراكش موضوعا لشعره وطريقة للتكسب ووسيلتـه الإعلاميـة التي يوضـح من خلالها ظروفه ليدفع ذوي الرفعـة والجاه إلى بذل الأموال والهـدايا والمكانة المرموقة .( نفح الطيب، أحمد بن محمد المقري، ج4، ص380.)
فقد مدح سمية أبا إسحاق بن يعقوب المنصور الـذي لازمه ملازمة حســده عليها قوم من أصحاب الأمير وفي ذلك قوله:
ما بعــــد باب أبي إســـــحاق مــــــنزلة | يسمو إليهــــــا فتى مثلـــي ولا شــــــرف[2] | |
أبعد مـــا بركت عنسي بســــــــــــاحته | فصــــــرت من بحره اللـــــجي أغتـــــــرف | |
همو بصرفي وقد أصبحت معرفة | فكيف ذاك واسمي ليس ينصـــــــــــــــــــرف |
إبراهيـــم الكانمي بهذا الــمقطع نجده مقتدرا علـى الوصول إلى النفس التي يخاطبـها وهــو الأمــير الذي لازمـه لــيريد أن تبلغه فكرته التي يحملها أو تحقيق طلبه الخفي محاولا اللحاق بشعراء المديح الذين يقبلون الأعطيـــات والهدايا، وإن لم نجد له طلبا صريحا في مثل قوله:
ما بعد باب أبي إسحاق منزلة | يسمو إليها فتى مثلي ولا شرف
(المرجع السابق، ص23) |
مع ما نلمسـه ونلمحه من روح تكسبية في شعر إبراهيــم الكانمـي إلا أن الأمر يعـد وإلى هدف بل أهداف وهي تثبيت مكانته والاحتفاظ لوجاهة وإبراز شاعريته.
فبعد هذا المقطع من قصيدة له وهي في حكم المفقود … فد اعتنى به الأمير عناية كبيرة فقدم له العطايا وقام بتزويجه غادة بيضاء اسمها زهراء ففيها قال الكانمي:
غيري عليكن يا زهراء يصطبر | لأن صبري على ذاك الهوى صبر
( المرجع السابق، ص23..) |
وكان الشاعر إبراهيم الكانمي متعصبا للونه الأسود ومفتخرا مازحا زملاءه إذ يقول في قصيدة له:
إني وإن ألبستني العجم حلتهـا | فقـــد نماني إلـــــــى زكوانهــــــا مضر
(صلاح الدين، ج 6، ص171) |
|
فلا يسؤك من الأغماد حالكها | إن كان باطنها الصمصامة الذكر |
ويذكر الباحث محمد عمر الفال (الفال، 2002م، ص12) إن هذه النماذج تدل دلالة واضحة على التواصل الأدبي العربي الإسلامي التشادي … وهو شعر إبراهيم الكانمي الذي ذهب سفيرا لبلاده إلى بلاد المغرب فقد وثق علاقة التواصل السياسي بالأدب، وقيل أنه سئل لم لا تهجو فرد قائلا:
كم سائل لم لا تهجو فقلت لهم | لأنني لا أرى من خاف من هاج | |
لا يكــــره الذم إلا كل ذي أنف | وليس لؤم لئام الخلق منهــــــاجي |
والشاعر إبراهيم الكانمي يسترسل في وصفه للهدايا التـي تقدم إليه قائلا:
سمعت بأن تهدى الطرائق نحوكم | فسقت وليدا شاعرا وهو أعجــــــــــــــم |
والكانمي يفتخر بلونه ويحد لنا معالم اكتسبها من ثقافته الإسلامية التي تقوم على التساوي ولا فرق بين الناس إذ يقول:
بكــــــل لون ينـــــال المرء ســــــؤدده | مهمـــــا تجرد عن أخلاقه الســــــــــــــــود | |
والناس لفظ كلفظ العود مشترك | لكن يرجح بين العـــــود والعــــــــــــــــــــــود | |
ولم يبـــــال ابن عـــــمران بــأدمتـــــــــه | حين اصطفاه كليما خير معبــــــــــــــــــود |
إبراهيم الكانمي نموذج للتواصل الثقافي، محمد بن شريفة، ص17.
فهذه هي البداية للشعر العربي التشادي، فقد ضاع منه الكثير والكثير لشعراء لم يدون التاريخ لهم نشاطا، مثل ما كان للكانمي بأدبيته المتينة وشاعريته الرفيعة يمثل لنا حالة نادرة بل فريدة في التاريخ الثقافي لبلاد السودان الأوسط وتشاد خاصة، … فالكانمي أول شاعر دونه التاريخ وحفظ له المكانة العالية واعترف له المشارقة والباحث بشاعريته التي قيل عنها: أن شاعرية هذا الشاعر الأسود.. تجمع بين مزيتي الطبع والصنعة ويستند إلى محفوظ شعري غزير ومحصول لغوي كبير، لهو أقوى دليل على قدرة اللغة العربية والشعر العربي على الازدهار ولو في أكثر البيئات جدبا وأشدها احتياجا إلى وسائل الثقافة والعلم، كما أنه من جهة أخرى أنصع مثال لهذا التواصل والتفاعل الذي تم منذ العهود المبكرة بين المغرب وبلاد السودان، ونحن نحس من شواهده السابقة شيئا من تأثير شعراء العربية، وبمواكبة الأحداث دخل إبراهيم الكانمي التاريخ بقرضه للشعر العربي، وذلك في أغراض كثيرة له أهمها المدح والفخر، والغزل، والهجاء، الذي تناله يدل على كريم عنصره ورفيع خلقه وصحيح دينه الكانمي ص94.
هكذا ظهر الكانمي وذلك في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي وبداية القرن الثالث عشر الميلادي.
فبعد هذه الفترة غاب الشعر الوارد إلينا ما يقارب خمسة قرون، لسبب ضعف الرواية والتدوين، فقد ضاع شعر هذه المرحلة ففي القرن الثالث عشر الميلادي ظهر محمد الوالي ابن سليمان الباقر ماوي (بن سليمان ، 1992م، ص71:72 )
فمن قصائده في النصح والإرشاد منها قوله: (الأبقاري، ، 2003م، ص185.)
أوصيكـــم يا معشر الإخوان | عليكـــــــــم بطـــــــــــــاعة الــــــديــــــــان | |
إياكم أن تهملوا أوقاتكم | فتندموا يوما على ما فاتكم | |
وإنمـــــا غنيــــــــمة الإنســــــــــــان | شبـــــــــابه والــــــــــشر في التــــــــــوان | |
ما أحسن الطاعة للــــــــشباب | فاسعو لتقوى الله يا إخـــــوان | |
وعمرو أوقاتكم بالــــــــطاعة | والذكر كل لحظة وســــــــاعة | |
فمـــــــن تفتـــه ســــاعة من عــــمره | تكــــــن عليه حسرة في قـــــبره | |
ومن يقل إني صغير أصبر | حتى أخاف الله حين أكـــــــــبر | |
فإن ذلك غره إبليـــــــــــــــــس | وقلبـــــــه مقفول أو مطـــــموس |
فالقصيدة في إيقاعها لم تطرب الفهم، وأن الشاعر لم يفكر في المعنى الذي يريد أن ينظم فيه لذا نفتقد الانفعال النفسي الذي يتفق مع الاختيار للمعاني والألفاظ، وبخاصة الوزن والقافية السبب في أن نحكم على شعره بالضعف وخروجه عن حد القبول فهو نظم في الارشاد والوعظ.
ومن شعراء هذا القرن (الثامن عشر الميلادي) محمد الأمين الكانمي ويعقوب محمد إدريس الشهير بأبي كويسة ، وقد رثا والده بقصيدة منها قوله:
ألا يا قـــــــــــوم إن الـــــــــــصبر مر | لكـــــن أهلـــــــه ربحو تجــــــــــــــــــــــــــــــــــــارا | |
بكت عيني وحق لها بكاها | لفقدي سيدي علم الخيـــــــــــــــــــــــــــــــــــار |
والشاعر عبد الحميد الراشدي صاحب المنظومة المعنونة بـ «البندقية القدارة» وقد اختلف الدارسون للشعر التشادي العربي في نسب هذه المنظومة فمنهم من نسبها لأحمد الحبو إلا أن التحقيق أرجعها إلى عبد الحميد الراشدي والمنظومة في التضرع إلى الله والاستغاثة فهي في مجملها دعاء لتفريج الكرب منها قوله:
الحمد لله وصلى الله | على محمد الذي اصطفـــــــــــــــــــــــــــــــاه | |
وآله وصحبه الـــذين | جاءوه قبيل الناس مؤمنيــــنـــــــــــــــــــــــــــــا |
ومن هؤلاء الشعراء أحمد الحبو ، والشاعر حلو آدم جبر (جبريل، 1864م ، ص47) وغير هما كثير. فالشعر التشادي العربي الذي بدأ بإبراهيم الكانمي ثم انقطع لمدة طويلة بعدم التوثيق هو السبب في إظهاره ضعيفا في مطلع القرن الثامن عشر الميلادي، وذلك بكثرة الألفاظ التي تعد من سمات ضعف الشعر التشادي العربي، والاهتمام بالتاريخ والقافية وكثرة الكلمات والألفاظ المبتذلة والأخطاء النحوية والصرفية والوزن والقافية، لأن الشعر ذوق لابد للشاعر أن يعبر عن إحساسه بعمق وأن ينظر إلى الحياة نظرة لا يمكن إدراكها ولا التعبير عنها لمجرد النطق وإقامة الحجة والبرهان فلا بد من تأثير، وعليه انتقاء ألفاظه المستخدمة مع ترتيب الموسيقى الشعٍرية بوجوده القافية( عبد المنعم خفاجي، ، 1984م، ص210 ) وهذا ما نفتقده في شعر هذه المرحلة التي أطلق عليها الباحث عبد الله حمدنا الله بمرحلة البداية المتصلة في الشعر التشادي العربي . اللغة العربية في تشاد لغة إيداع، ص7
الشاعر في سطور:
ولد عبد الواحد السنوسي عام 1967م بمدينة فايا عاصمة إقليم محافظة بركو التي تقع في شمال البلاد.
المهنة: كان يعمل في التلفزيون التشادي إلى جانب منصبه كمسئول عن الخلية الإعلامية للمفوضية الوطنية لنزع الألغام.
النشاط الثقافي: شارك في تأسيس عدد من الهيئات السياسية والثقافية، فهو من المؤسسين لحزب الإتحاد من أجل السلام والديمقراطية، وحزب الديمقراطية الإفريقية، وكذا كان من مؤسسي اتحاد الطلاب التشاديين بالسودان وكان سكرتيرا لإتحاد شباب تشاد الإسلامي 1987م- 1988م .
المؤلفات: للشاعر نتاج أدبي وافر في الشعر:
- رفراف قلب
- طيور الطريق.
- بكائات فيثار بلدية.
مراحل الدراسة: هاجر مع اسرته إلى ليبيا واستقر في مدينة أجدابيا وهناك تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي ثم عاد إلى البلاد وفي عام 1982م سافر إلى الخرطوم لمواصلة مسيرته التعليمية، ثم قطع دراسته وعاد إلى البلاد ثم سافر إلى جمهورية مصر العربية وأكمل بها المرحلة الثانوية 1986م وبعد رجوعه من مصر التحق بجامعة أنجمينا كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية سنة 1987م حتى 1988م ثم انتظم في الجيش التشادي.
الخاتمة: وفي ختام القول ادلف الى النتائج التي توصلت إليها الدراسة والتوصيات التي تساعد موضوع التجدید المتمثلة في الآتية:
- هناك عوامل كان لها تأثیر كبیر في تكوین شخصیة الشاعر عبد الواحد حسن السنوسي منها دراسة اللغة العربیة منذ بواكیر عمره .
- إن التجدید في الشعر ظاهرة طبیعیة تطوریة في كل مكان وزمان، وقد عرف الشعر العربي في تاریخه الطویل مظاهر تجدیدیة كثیرة، وحین أطل القرن العشرین أخذ الشعراء والنقاد یدعون إلى ضرورة تجدید الشعر العربي لیلائم العصر، وقد تنوعت أشكال القصیدة بین الغنائیة والموضوعیة، كما تنوعت أشكالها بین شكل الشطرین، والشعر المرسل، والنظام المقطعي، وشعر التفعیلة، وقصیدة النثر .
- ساعدت بعض الظروف الاجتماعیة في تشاد في تحویل الشعر من حالة الضعف إلى مسایرة الحالة الجدیدة التي طرأت علیه في الشرق بعد ظهور البارودي من حیث متانة الألفاظ وحسن الدیباجة، والاتجاه بالشعر إلى التغني بالماضي لبعث الشعور الوطني في الأمة، وقد حافظ معظم الشعراء في تشاد على شكل الشعر القدیم، وإكتفوا من التجدید بالمضمون دون المبنى حرصاً على الجرس الكلاسیكي وموسیقاه .
- إن التحدث عن التجدید في الشعر العربي المعاصر لا یعني قتل اللغة العربیة، ولا صرف الناس عنها، ولا تغییر أصولها، وإنما تكون اللغة أبداً حیة نامیة بما یدخل علیها من مصطلحات جدیدة، لأنها هي الوعاء الذي یحمل التجدید ومن ذكر الحیاة ذكر التطور والنمو، ومن ذكر النمو فهو یؤمن بالتجدید فهو سنة الحیاة، وقد جدد القدماء من العرب في شعرهم فابتكروا في الإسلام أوزاناً لم تكن في العصر الجاهلي وابتكروا في العصور المتأخرة أوزانا لم تكن في الشعر الإسلامي الأول، وصنعوا بالقافیة مثلما صنعوا بالوزن، وجدد الشعراء في أوزان الشعر وقوافیه، كما جددوا في صوره ومعانیه ملائمین بین شعرهم وحضارتهم.
التوصیات :
- ضرورة طباعة ونشر دواوین الشعر التشادي بصورة عامة وإعادة نشر مخطوطات الشاعر عبد الواحد حسن السنوسي على وجه الخصوص .
- دراسة الأدب والشعر في تشاد، دراسة علمیة منهجیة لكشف ما به من جودة ورصانة ومضامین وقیم رفیعة .
- ضرورة ربط الدراسات النظریة في مجال الأدب التشادي بالحیاة المعاصرة حتى یستفید الجیل الجدید من الشباب من تجارب السابقین ویحذو حذوهم .
المصادر والمراجع:
- إبراهيم الكانمي، نموذج مبكر للتواصل الثقافي بين المغرب وبلاد السودان، محمد بن شريفة، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، الرباط ، جامعة محمد الخامس، (ء ، ت).
- أبوبكر الصولي، أخبار أبي تمام، تحقيق خليل محمود عساكر وزميليه، بيروت.
- إحسان عباس، اتجاهات الشِّعر العربي المعاصر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1978م
- أحمد أمين، التجديد في الأدب، مجلة الرسالة، العدد 6، بتاريخ 1/4/1933م
- أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي: ، المكتبة العلمية، بيروت.
- إسماعيل بن حماد الجوهري: الصحاح في اللغة: ، دار العلم للملايين، تحقيق أحمد عبدالغفور عطار، ط3، 1984م
- تاج العروس من جواهر القاموس: السيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تحقيق الدكتور عبدالعزيز مطر، مطبعة حكومة الكويت، 1390ه- 1970م
- الحطيئة اسمه جرول بن أوس بن مالك العبسي، أبو ملكية: شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، كان هجاءاً عنيفاً، لم يكد يسلم من لسانه أحد، له ديوان شعر مطبوع.
- الخليل بن أحمد الفراهيدي، دار ومكتبة الهلال، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائ
- سعد مصلوح، حركات التجديد في موسيقى الشِّعر الحديث، س. موريه، ط1، القاهرة، عالم الكتب، ترجمة 1969م.
- السعيد الورقي، لغة الشِّعر العربي الحديث مقوماتها وطاقاتها الإبداعية، ، دار المعارف، القاهرة
- عبد الحق محمد الترجمي، حياته وشعره، دراسة وصفية تاريخية تحليلية، محمد حبيب الفال آدم ، كلية الدعوة الإسلامية ، ليبيا ، طرابلس، رسالة ماجستير غير منشورة، 2005م .
- عبد الله حمدنا الله، اللغة العربية في تشاد لغة الداع، الندوة العلمية، جامعة الملك فيصل بتشاد بالتعاون مع رابطة العالم الإسلامي تحت عنوان “اللغة العربية في تشاد الواقع والمستقبل” من 21: 25 يناير 2001م.
- عبدالعزيز عتيق، علم العروض والقافية، دار النهضة العربية، بيروت.
- غالي شكري: شعرنا الحديث إلى أين، ، دار المعارف، ط1، 1998م.
- محمد النويهي: قضية الشِّعر الجديد، ، دار الفكر الحديث للطباعة والنشر، ط2، 1971م.
- محمد بن مكرم بن منظور المصري: لسان العرب: دار صادر، بيروت، ط1، 1990م
- محمد عبد المنعم خفاجي، نقد الشعر للأبي الفرج قدامة بن جعفر، تح، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان (ء، ت)، ص53، ينظر معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبة كامل، ط 2، مكتبة لبنان، بيروت- لبنان ، 1984م.
- محمد عبدالرحمن شميلة الأهدل: الشِّعر في ضوء الشريعة الإسلامية، ، مجلة الجامعة الإسلامية، السعودية، الطبعة: السنة العاشرة، العدد الأول، جمادي الآخرة 1397ه- مايو- يونيه 1977م.
- محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، دار الكتاب العربي، القاهرة.
- محمود مصطفى،أهدى سبيل إلى علمي الخليل، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، ط1، 1423ه- 2002م.
- مصطفى خضر: الحداثة كسؤال هوية، بعض الملاحظات حول مشروع الحداثة العربية، ، مطبعة اتحاد الكتَّاب العرب، دمشق، ط1، 1994م.
- نازك صادق الملائكة، قضايا الشِّعر المعاصر، دار العلم للملايين، بيروت، ط5.
- ياسر الحليم، التجديد في الشِّعر العربي، الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب، الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت) يونيو 2009م.