أ. م. د. مها هلال محمد الحمادي1
1 وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، كلية التربية للبنات، قسم اللغة العربية، العراق.
HNSJ, 2022, 3(6); https://doi.org/10.53796/hnsj3622
تاريخ النشر: 01/06/2022م تاريخ القبول: 20/05/2022م
المستخلص
يعد ديوان أبي حيان الأندلسي ت (745) ه ، من الدوواين الأندلسية المتميزة ، كونها ترجع إلى شخصية متعددة الانجازات ، لما عُرف عنه من العلم والمعرفة وسعة الاطلاع ، والتأليف في عالم التفسير والنحو ، إذ تجاوزت مؤلفاته الستين ما بين مطبوع ومخطوط ومفقود ، ولعل ديوانه الشعري ، من تلك الكنوز التي تركها لنا المؤلف ، والتي تحاكي مشروعه ومصنفاته العلمية من جهة ، وتحاكي الحياة التي يعيشها بين الأهل والأحباب والأصحاب ، ثم محاكاته وأساليبه التي أنماز بها ، فكان هذا البحث (الكناية في ديوان أبي حيان الأندلسي ت (745)ه، دارسا لأحد تلك الأساليب البلاغية ، التي أستعملها أديبنا متمثلة بالكناية ، وما لها من غايات في تحقيق مقاصده البلاغية ، والتي ستتضح من خلال متن البحت لاحقا .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وعلى أهل بيته الغر المنتجبين ، الطيبين الطاهرين ، منجاتنا في الدنيا والآخرة ، أما بعد :
يعد ديوان أبي حيان الأندلسي ت (745) ه ، من الدوواين الأندلسية المتميزة ، كونها ترجع إلى شخصية متعددة الانجازات ، لما عُرف عنه من العلم والمعرفة وسعة الاطلاع ، والتأليف في عالم التفسير والنحو ، إذ تجاوزت مؤلفاته الستين ما بين مطبوع ومخطوط ومفقود ، ولعل ديوانه الشعري ، من تلك الكنوز التي تركها لنا المؤلف ، والتي تحاكي مشروعه ومصنفاته العلمية من جهة ، وتحاكي الحياة التي يعيشها بين الأهل والأحباب والأصحاب ، ثم محاكاته وأساليبه التي أنماز بها ، فكان هذا البحث (الكناية في ديوان أبي حيان الأندلسي ت (745)ه، دارسا لأحد تلك الأساليب البلاغية ، التي أستعملها أديبنا متمثلة بالكناية ، وما لها من غايات في تحقيق مقاصده البلاغية ، والتي ستتضح من خلال متن البحت لاحقا .
الصورة الكنائية
تعد الكناية احد اساليب التصوير البيانية التي يلجأ اليها الشاعر في رسم صوره الشعرية ، لما تحمل في طياتها من الخفاء والتأويل ، اللذين يعدان العمود الذي يرتكز عليه مجمل الاساليب البيانية ، وقد أشار اليها الجاحظ في أكثر من موضع في مؤلفاته ، فالكناية عنده تقابل دائما الإفصاح ، وربما أغنت عنه في بعض المقامات(1) ، قال :(( رب كلمة تغني عن خطبة))(2) ، وتنوب عن رسالة بل رب كناية تربي على افصاح ، ولحظ يدل على ضمير 000 وهذا يعني أن الكناية هي (( التعبير عن المعنى تلميحاً لا تصريحاً وإفصاحاً كلما اقتضى الحال ذلك000))(3)0 واذا كان ثمة تعريف جامع مانع يقرب الصورة ويوضح العملية التي تقوم الكناية عليها فالذي اشار اليه الجرجاني حيث قال إن الكناية تعني (( ان يريد المتكلم اثبات معنى من المعاني فلا يذكر اللفظ الموضوع له في اللغة ، ولكنه يلجأ الى معنى هو تاليه ، وردفه في الوجود ، فيومى به اليه ويجعله دليلاً عليه ))(4)0 وللكناية الدور الكبير في ستر المعنى داخل صدفة فلا نصل اليه الا بعد شقها 0 فكل تستر هو ميزة فنية طالما أن كل تصريح او وضوح هو ميزة علمية(5)0
وبعد بيان ماهية الكناية وجماليتها سنقف عند بعض الأبيات الشعرية التي سخرها ابو حيان لخدمة التعبير الكنائي ، قال أبو حيان الأندلسي(6):-
(بحر الطويل)
أيا دوحة الفضل التي طاب اصلها ومدت علينا ظل فينان مـورق
لقد عم منك الجود ناساً وخصنـي فها انا عن تقييده غير مطلـق
يظن الألئ قد عاصروك بانهــم حكوك لقد خابت ظنون المصدق
فدوحة الفضل كناية عن موصوف ، وهو الإمام علي فدوحة الفضل أحد القابه التي لقب بها كناية عن كثرة فضله وجوده 0 ثم يأتي الضمير ( الكاف ) في البيت الثاني والثالث في الكلمات ( منك ، عاصروك ، حكوك ) كناية عنه الى جانب الاستعارة اللطيفة للألئ التي اراد بها الرجال المعاصرين للإمام والذين ظنوا انهم يحاكونه او يشابهونه ولكن خابت ظنونهم0
ثم قوله من القصيدة نفسها :
فإن لا يكنه فهو لا شك صنوه لقى في هوى ليلى كمثل الذي لقي
فليلى ماهي الا تسمية لطيفة استخدمها الشاعر في كنايته عن الاسلام ذلك الاسم الذي طالما ردده الشعراء قديماً وحديثاً 0
ثم ينتقل بنا الشاعر إلى رواية قصة هذين العاشقين اللذين أرقا وارقا من اجل ليلى كناية عن مدى تحمل وصبر النبي محمد والامام علي من أجل نشر الدين الإسلامي وحمايته الى أن راق وقته وانتشر ووصل ذكره إلى اقصى الأرض يقول(7):-
(بحر الطويل)
وكم أرقا فيها التذاذاً وارقـــــــــا ومن يعشقن ليلى يؤرق ويأرق
وما ادعيا فيها ولكن كلاهما سقي من هوى ليلى براحِ مورق
فراق لها وقت لاح نورهـــــــــا من اندلسِ للقدس تســري وترتقي
وقوله (8) مكنياً عن الموت ، بأنه الأمر الذي يفرق بين النفس والنفس ، أي بين الجسد والروح:
(بحر البسيط )
يؤمل المرء امالاً ويقطعها فكن مع القدر المـحتوم وارض به
أمر يفرق بين النفس والنفس تريح نفسـك من فكر ومن هوس(9)
ويكني عنه مرةً أخرى في البيت الثاني بقوله ( القدر المحتوم ) 0 فالشاعر اعرض عن المعنى الأصلي ( الموت ) وجاء بكنايتين غايتهما واحدة هي بيان صورة للموت بأنه مقدر من جهة ومحتوم من جهة اخرى0
وقوله(10):-
(بحر الطويل)
إذا أنا أودعت التراب فلن ترى كمثلي نحوياً أحد واحذقـا
فقوله ( أودعت التراب ) كناية صريحة عن الموت 0 فهو ينفي رؤية نحوي حاذق وفاهم مثله إذا هو أودع تحت التراب0
وقوله (11):-
(بحر الوافر )
فلست بعاتبِ أبناء دهري ولست بماقت جور الليالي
فهو ليس ممن يعاتبون أبناء دهره ؛ لأنه ليس ممن يمقتون ظلم الليالي وجورها، وفي هذا كناية عن صبره على الظلم ، وعدم أخذه لحقه من دنيته 0 كما أنه كنى عن الناس بـ (ابناء الدهر)0
وقوله(12) :
(بحر الطويل)
أسامع أخبار الرسول لك البشـرى لقد سُدت في الدنيا ، وقد فُزت في الأخرى
نشنف آذانـا بعقــد جواهـــــــــــــــــــــــر تود الغوانــي لو تقلـــده النحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرا
جواهركم حلت نفوساً نفيســــــــــة فحلت بهـا صـدراً وجــلت بها قــــــــــــــــــــــــــــدرا
فالكاف في (لك) جاءت كناية عن الإمام الشافعي ، وما الجواهر الا كناية عن الأحاديث الواردة عنه ، وهي لنفاستها وقيمتها كنى عنها بالجواهر التي تود الجميلات أن يتقلدن بها لتزيين نحورهن بجمالها0 ولعل الغموض كان سبباً في التاثير في نفس المتلقي أو السامع ، ولولاه لأصبحت الصورة تقريرية واضحة 0 كمـا لا يخفـى دور التوازي في إحداث التأثيـر لـدى القـارئ فقولـه : (لقد سدت في الدنيا / وقد فزت في الأخرى) فــي البيــت الأول ، وقوله (فحلت بها صدراً / وجلت بها قدرا) الى جانب ما فيه من عمق الدلالة على الرجل وقيمته الروائية0
وقوله (13) :
(بحر الطويل)
اذا ما شربت الراح يا صاح فإنني لأرشف من ذاك الرضاب بقاياها
فإن فاتني رشف المــــدام فإننـــــــــي ساقنــع منهـا بانتشاقــي ريـــــــــــــــاها
فهو يكني عن الخمرة بكنايتين الأولى ( الراح ) والثانية ( المدام ) فكانت الكناية وسيلته في التعبير عما لا يحسن ذكره وإخفاء للمعنى الصريح ذلك الإخفاء الذي يجنبه كثيراً مما يخشى التصريح به ، ولعل هذا دأب الكثير من الشعراء في استخدام هذا الفن البياني0
وقوله(14) :
(بحر الطويل)
صفت فارتنا ذاتها من انائها ولاحت لنا لونين قانِ ووارسه(15)
جلوب لأنواع السرور تهون في صيانتها نفس الفتى ونفائسه
وتكسب عقل المرء بأساً ونائلاً فتخشى عواليه وتغشى مجالسه
تمززتها صــرفاً فعاثــت بنهيتي ترينــي مليـكاً كسـروياً أفاعسه
فكل ما ورد من صفات متعلقة بالصفاء والإناء واللون والسرور والتمزز تابعة لموصوف واحد هو ( الخمرة )0 فالإيهام الذي يشعر به القارئ سرعان ما يزول لوجود المفتاح الذي يفتح كل غموض ويوضحه فإذا كان الشاعر قد اخفى الموصوف ( الخمرة ) فإنه أتي بأكثر من لازمة تدل عليه (( ففي الصورة الكنائية إيهام لكنه ليس لغزاً ، وإنما إيهام مفتاحه معه0 والمتلقي حينما يتعرف على المعنى الذي يقصده المتكلم ويشير اليه في الصورة الكنائية بعد معاناة وتفكر فأنه يحس بالمتعة والسعادة))(16)0
وقوله (17):-
(بحر البسيط )
يا منضي الطرف في ميدان لذتـه وناضي الطرف بين الراح والرود
ستشرب الراح راح الوقت كارهة ويذهب الجسم بين الترب والرود
والبيتان بما فيهما عبارة عن كنايات متتابعة ، فالبيت الأول يحمل كنايتين اثنتين ، الأولى قوله ( يا منضي الطرف) وهو كناية عن الموصوف ( الإنسان) ذكراً كان أم انثى مخاطباً إياه بقوله يا متعب النفس فالطرف إذن كناية عن النفس الإنسانية0 أما الطرف الثانية فجاءت كناية عن الإنسان الذي يتعب عينيه في أمور تذهب وتروح 0 فينصح هذا الإنسان بتجنب التعب وتكلف أمور ستجلب التعب الأكبر ما دام سيموت وهو كنى عنه في البيت الثاني بقوله ( ستشرب الراح) أي سينالك الموت وقوله ( يذهب الجسم بين الترب والدود ) أيضاً كناية عن الموت0
ومن كناياته الاخرى مادحاً شعره (18) :
(بحر الكامل)
ولقد بعثت من الكلام قوافياً تحوي من السحر الحلال بدائعا
فالقوافي كناية عن شعره الذي نظمه 0
ومن كناياته اللطيفة قوله(19):
(بحر الطويل)
وما جاد هذا النطق الا لأنه تضمن أوصاف الجواد المنطق
فالنطق كناية عن الشعر الذي قاله في آل البيت وجمالية الكناية قد اكتملت لمرافقتها حسن التعليل اللطيف الذي جاء به ، فإجادة النطق سببه التضمين للصفات الجليلة للنبي الذي كنى عنه بقوله ( الجواد المنطق) فنسب صفتين اثنتين من صفات كثيرة لا تعد ولا تحصى0
وأخيراً نختتم مبحثنا الكنائي بقوله (20):
(بحر البسيط )
خطت يد الامر في تكوين صورتها شكلاً بديعاً تناهى فيه توريق
قيد الامر كناية عن الموصوف الله ، فهو اراد أن يوصل مدى جمال تلك الفتاة ، فأتى بـ (يد الأمر) لا لزيادة المعنى ، ولكن لبيان مدى القدرة الإلهية في خلق جمال تلك الفتاة0
الخاتمة
توصلت في نهاية البحث الموسوم بـ (الكناية في ديوان أبي حيان الأندلسي) إلى الآتي :
- تعد الكناية من الأساليب البيانية الجلية في البلاغة العربية ، لما لها من دور بارز في بيان جماليات اللغة من جهة ، وتقوية المعنى من جهة أخرى .
- يلجأ الأديب إلى الكناية ، من أجل التخلص من الإفصاح في بعض الأمور ، التي تحيطها أهمية معينة ، أو قضية لا يصرح بها علانية ، أو مسائل فيها اختلاف ، أو للتعبير باحترام وتقدير إلى الآخرين ، أو للتقديس بدل الذكر الواضح الصريح ، وقد تأخذ مسارا آخر في الإحاطة ببعض المسائل الخلافية ، أو الانضباطية ، وغيرها من المعالجات .
- إن أبا حيان الأندلسي ، قد أعتمد هذا العنصر في ديوانه الشعري بصورة واضحة ؛ لغايات معينة منها التنبيه والتشويق كما في كنايته عن الإسلام بليلى ، وقد تكون الكناية علاجا لبعض المواضع التي يُكره ذكرها ، أو عدم استحباب سماعها ، وقد تكون كناية لغاية عظيمة .
الهوامش
(1) إربد البحوث والدراسات : 85 0
(2) البيان والتبيين 2/7 0
(3) علم البيان : 202 0
(4) دلائل الاعجاز : 52 0
(5) الصورة الشعرية في الكتابة الفنية : 168 0
(6) الديوان : 321 0
(7) الديوان : 319-320 0 وينظر قوله ( من اندلسِ للقدس 00) كنايةِ عن المشرق والمغرب0
(8) الديوان : 223 0
(9) (تريح) الصحيح ( ترح ) ؛ لأنه جواب الطلب ولكنه رفع مراعاة للوزن0
(10) الديوان : 333 0
(11) نفسه: 345 0
(12) الديوان :452 0
(13) الديوان : 412 0
(14) الديوان : 215 0
(15) الوارس : الشديد الصفرة0
(16) الأسس النفسية لاساليب البلاغة العربية : 230 0
(17) الديوان : 440 0
(18) الديوان : 270 0
(19) الديوان:323 0
(20) الديوان: 332 0
المصادر والمراجع
1. الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية ، د0مجيد عبد الحميد ناجي ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ، ط1 ، لبنان ، 1984 م .
2. الصورة الشعرية في الكتابة الفنية ( الأصول والفروع ) ، صبحي البستاني ، دار الفكر اللبناني للطباعة والنشر ، ط1 ، 1986م 0
3. دلائل الاعجاز في علم المعاني ، تأليف الإمام عبد القاهر الجرجاني، صحح اصله الشيخ محمد عبده والشيخ الاستاذ محمد محمود الشنقيطي ، تعليق وشرح محمد رشيد رضا ، دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت ، لبنان ، 1978م 0
4. ديوان أبي حيان الاندلسي ، تح : د0احمد مطلوب ود0 خديجة الحديثي، مطبعة العاني ، بغداد ، 1969م 0
5. علم البيان ، د0 عبد العزيز عتيق ، دار النهضة ، بيروت ، لبنان ، 1974 م .
المجلات
6. مجلة اربد للبحوث والدراسات ، التعبير الكنائي من خلال جهود بعض أعلام النقد والبلاغة ، بشير كحيل ، المجلد الرابع ، ع1، تشرين الثاني،2001م0