د. إبراهيم بن محمد أبو طالب1
1 أستاذ الأدب والنقد الحديث المشارك، قسم اللغة العربية وآدابها، كلية العلوم الإنسانية، جامعة الملك خالد، المملكة العربية السعودية.
بريد الكتروني: abotalib70@yahoo.com
HNSJ, 2022, 3(9); https://doi.org/10.53796/hnsj3910
تاريخ النشر: 01/09/2022م تاريخ القبول: 13/08/2022م
المستخلص
يقوم هذا البحث على دراسة رواية يمنية حديثة، اتخذت من المرجعية التاريخية والتخييل سبيلًا للتجريب الروائي، واستخدمت -من حيث البناء- تقنية تعدُّد الراوي، ويهدف البحث إلى استجلاء سؤال المثاقفة بين القديم والجديد في أساليب البناء السردي عند واحدٍ من الروائيين اليمنيين البارزين، وبالاستعانة بأدوات المنهج السَّردي تمَّ استعراض الرواة الذين اتخذتهم الروايةُ تقنيةً تجريبيةً لعرض شخصياتها وموضوعاتها وأحداثها، وتوصَّل البحث إلى أنَّ الروائي المعاصر بات أكثر حساسيةً في تجربة الكتابة، وصار يهتمُّ في الغالب بقضيتين جوهريتين أو بسؤالين كبيرين هما: سؤال المثاقفة، وسؤال التأصيل. وأنَّ الروايةَ ذات أهميَّة وعمق أدبي وأيديولوجي واجتماعي؛ بما أثارته من القضايا الجوهرية والإشكاليات المتجدِّدة في حياة الإنسان اليمني وصراعه الدائم بين الخير والشر، وإشكاله المستمر في فهم الحياة، وفهم نفسه، ورؤيته للواقع من حوله.
الكلمات المفتاحية: تعدُّد الراوي- المرجعية التاريخية- التخييل- مملكة الجواري- الغربي عمران.
Multiple narrators in the novel “The Kingdom of the Maids” by Mohammed Al-Gharbi Imran
Dr. Ibrahim Mohammed Abu-Talib1
1 Associate Professor of Literature and Modern Criticism, Department of Arabic Language and Literature, College of Humanities, King Khalid University
Email: abotalib70@yahoo.com
HNSJ, 2022, 3(9); https://doi.org/10.53796/hnsj3910
Published at 01/09/2022 Accepted at 13/08/2021
Abstract
This research paper studies a modern Yemeni novel that considers historical reference and imagination as an approach to fictional experimentation. Structurally, the novel used the multiple narrator technique. This study tries to explore the intraculturalism between the old and the modern in the methods of narrative structure used by one of the distinguished Yemeni novelists. Adopting the techniques of the narrative approach, it analyzed the narrators used in the novel as an experimental technique to present is characters, themes, and events. The researcher has come out with the following findings: Firstly, the modern novelist has become more sensitive towards the writing experiment. He/she is usually concerned with two essential issues or major questions: intraculturalism and mainstreaming. Secondly, the present novel has a great significance and a literary, ideological, social depth because it highlights key issues and recurrent intricacies in the life of the Yemeni, his good and evil conflict, and his constant perplexity to understand life and self and to see the reality around him.
Key Words: multiple narrators – historical reference – imagination – kingdom of the maids – Al-Gharbi Imran.
المقدمة:
تسعى الرواية اليمنية من خلال الكتابات الجديدة فيها لجيل التسعينيات وما بعده إلى تجريب أدوات السرد الحديثة من خلال تعدد الراوي والتجريب لتقديم النص الروائي بطريقة مختلفة سواءً في خطّه الزمني أو في البنية التركيبية للنص، وسواء في الحكاية أو في الخطاب، ومن هنا تأتي هذه المقاربة.
إشكالية البحث:
تقوم هذه المقاربة على تناول نصٍّ روائيٍّ مكتنزٍ يحملُ مرجعيةً تاريخيةً وسرديةً واقعيةً في آن واحد، وينبني على تشكيلٍ سرديٍّ يعتمد على أمرين متداخلين، الأول: يتمثَّل في تعدُّد الرواة أو تعدد السَّارد داخل النص الروائي بما يحمل ذلك من تعدِّد في الأصوات ووجهات النظر، والآخر: -وهو مبنيٌّ على هذا التعدُّد في الأصل- يقوم على التجريب السَّردي الذي ظهرَ من خلال: تنويع أساليب السَّرد (الرسائل، المخطوطات، الخبر التاريخي، المشاهد، الاسترجاع، الأسلوب التوثيقي، وغيرها)، وتداخل الحكايات وتعدُّدها، وواقعية المكان وفانتازيته، وتنوُّع الزمان (التاريخي/ الطبيعي، والنفسي)، والشَّخصيات (المرجعية، والمتخيلة)، وبناء روايتين أو نصَّين سرديين متوازيين، هما: رواية (المتن) ورواية (الهامش).
الدراسات السابقة:
لم نقف على دراسة علمية أو بحث أكاديمي تناول هذه الرواية سوى بحثنا الذي شاركنا فيه في المؤتمر الدولي الثاني “الخطاب السردي ورهانات العصر” قسم اللغة العربية وآدابها، كلية العلوم الإنسانية، جامعة الملك خالد، في المدة من 20- 21 صفر1443هـ الموافق 27- 28 سبتمبر2021م. وعنوانه “إشكالية الذات والآخر في رواية “مملكة الجواري” لمحمد الغربي عمران” وهو يختلف من حيث الغاية والنتائج عن هذه القراءة.
أهداف البحث وغاياته:
الوقوف على نموذج روائي لكاتب يمني غزير الإنتاج، ويتجاوز نفسه في كل عمل روائي جديد لمعرفة مدى نجاحه في كتابة الرواية الحديثة التي تسعى إلى التجريب والبحث عن وسائل مختلفة لتقديم مادتها الحكائية، وقد يلجأ الكاتب في ذلك إلى عددٍ من التقنيات السردية أو الأساليب التجريبية المختلفة؛ لأنَّه لم يعد يؤمن بالأساليب التقليدية ذات القوالب الجاهزة، كما أنَّه يسعى إلى قارئٍ معاصرٍ لم يعد يهتم بمثل تلك الكتابات التي تقوم على المسالمة القرائية أو الانصياع لوجهة النظر الواحدة أو المادة الجاهزة التي لا تغاير أفق توقعه، كما أنه لم يعد يثق كثيرًا بالراوي كلِّي العلم (الراوي العليم) الذي يقدِّم مادته بهيمنة الرؤية التي تجعل القارئ هو الطرف الأضعف أو المتلقي السَّلبي، بل غدت الكتابةُ -والقراءةُ معًا- تبحثان في كل عمل روائي جديد عن المختلف الذي يحفِّز القارئ ويتحدَّاه، ويستفز قدراته الذهنية والجمالية ليندمج في المقروء ويتفاعل معه، ويعيد عوالمه ويتمثَّلها، ويتبنَّى قضاياه. ولهذا سعى هذا البحث إلى بيان حالات الراوي ومواقعه السردية.
محددات الدراسة:
رواية “مملكة الجواري” للغربي عمران.
منهجية الدراسة:
البحث عن أنواع الراوي وطرائق عرض المادة الحكائية في هذه الرواية، وفق تتبع خاصية الراوي وأحواله وعدد الرواة، ومن هنا لم تعد القوالب الجاهزة -حتى في المتن الذي يستند إلى (مرجعية تاريخية)- مهمة ومقنعة للقارئ، وبالتالي فإنَّ الروائي نفسه يتخيل قارئًا ضمنيًّا يحاوره قبل العمل، ويناقشه أثناء الكتابة، ويسائله بعدها، وهكذا غدت القوالب الجاهزة التي تُصبُّ فيها المتونُ السرديةُ صبًّا غير ذات جدوى، ولم تعد تجذب القارئ العادي فضلًا عن القارئ النموذجي أو الناقد الأكاديمي المدرَّب.
وبذلك تتعدَّد فكرة التجريب عند كل رواية جديدة ومعها، وتتنوَّع من كاتب إلى آخر، وقد قطعت الروايةُ العربية -عمومًا واليمنية خصوصًا- شوطًا كبيرًا في هذا المجال، لأنَّ الروائي المعاصر المثقف بات أكثر حساسيةً في تجربة الكتابة، وصار يهتم في الغالب بقضيتين جوهريتين أو بسؤالين كبيرين هما: سؤال المثاقفة، وسؤال التأصيل.
سؤال (المثاقفة) من خلال اطلاعه على منتجات الرواية العالمية الحديثة، ومدى التطور الهائل في أساليبها وتجديدها، وسؤال (التأصيل) من خلال البحث عن الذات أو الأنا العربية ذات التاريخ الثقافي والسردي، العربي عمومًا والمحلي خصوصًا، ومن هنا فإنَّ محاولات الكتابة التجريبية الجديدة لدى الروائيين اليمنيين لا تخرج عن هذا الهاجس، ولا تنفصم عن هذين السؤالين.
والتجارب العربية كثيرة ليس هنا مقام رصدها، ويكفي أن نشير إلى إحداها على سبيل الوعي المتمثِّل لدى الروائي ذاته من خلال بحثه المتصل وجهده المتجدِّد، ونقصد بذلك تجربة “واسيني الأعرج” الروائية (لطرش، 2018، 126-148)؛ حيثُ يقوم في عمله على الكثير من الجهد في سبيل التجريب، ولأنَّه يقف عند هذين السؤالين: فالمثاقفة بالنسبة له تعني أن “الرواية من حيث كونها نصًّا متمايزًا في بنياته وفي آفاقه، وفي أسسه التي يرتكز إليها فرضتها علاقاتٌ غير متكافئة مع ثقافة الآخر” (الأعرج، 1993، 67). ومن وجهة نظره فإنَّ التأصيل يتأسَّس على “البحث عن الأنا من خلال تاريخ هذا الأنا، والبحث عن الأنا من خلال الآخر من أجل خلق ذات متحرِّرة لها علاقات بتاريخها وحضارتها، مما يعطيها تمايزَها، ولها علاقاتٌ مع الآخر المتقدِّم، والمتنوِّر مما يمنحها مكانًا داخل العصر الذي تعيشه استهلاكًا، وتحاول أن تعيشه كممارسة فكرية/حضارية”(الأعرج، 1993، 68)
ولا تخرج تجربة الروائي اليمني الغربي عمران([1]) عن هذا المدار في البحث عن المثاقفة، والسعي إلى التأصيل، في مجموع أعماله الصَّادرة حتى الآن، وهاجس التجريب يظهر في تقديم الجديد في كلِّ عمل روائي يقدِّمه بآفاق مختلفة ومحاولات متعدِّدة، يشتغل فيها على أكثر من عنصر سردي، وإن كان -بحكم تخصصه التاريخي- يرجع في جُلِّ أعماله السابقة إلى تمثيل المتخيَّل التاريخي ويعتمد عليه، وهو مصدرٌ أساسٌ من مصادر قوَّته، وبخاصَّة في روايته “مملكة الجواري”(عمران، 2017) التي بناها بمهنيَّة سرديَّة واضحة.
ومن هنا يتضَّح أهمية هذا المتن الروائي وسعيه إلى تقديم نصٍّ تجريبي يقوم على اشتغالٍ مركَّز في آليات الخطاب السردي، وتنويع العرض بما يكسر من الرتابة في بنية الرواية التقليدية، ويقدِّم نصًّا روائيًّا حداثيًّا بامتياز، ستتضح ملامحه من خلال عنصر مهم من عناصره السردية، وهو:
تعدُّد الراوي.
يعدُّ الراوي وسيلة أو تقنية سردية يستعملها الروائي؛ ليكشف بها عن عالم روايته، بوصفه صوتًا “يختبئ خلفه الكاتب… ويمسكُ بكلِّ لعبةِ القص” (العيد، 2010، 176)، وهو من أهمِّ عناصر العمل السردي، فهو موجود في جميع القصص؛ لأنَّ كل سرد يقتضي راويًا بواسطته تُقدَّم المادة الحكائية، وتتحقَّق المعرفة لدى القارئ، ذلك أنَّ “المادة حاصلة في الحقيقة عبر مصفاة يمثلها الراوي: فهو الذي يضطلع بالسرد، ويحدِّد نظامه، ويضبط المقاييس الكمية والكيفية المستعملة في إيراد المحتوى أو المغامرة” (قسومة، 2009، 247).
ويرى النقادُ أنَّ للراوي مستويات متفاوتة من الوضوح، فهو إمّا ذو هوية حقيقية (كما يظهر في الخبر) أو ذو هويَّة متخيَّلة، وهو على نوعين: له اسم لا يحيل على مسمَّى حقيقي (مُنشأٌ إنشاءً)، أو بلا اسم فيكون “خفيًّا” يُستنبط من بعض القرائن أو الإشارات أو الضمائر الواردة في الخطاب. (قسومة، 2009، 247)..
ويتفق الدارسون على أنَّ الراوي من إنشاء الكاتب شأنه شأن الشخصيات القصصية، أي أنه كائنٌ ورقيٌّ، وليس له أيُّ وجود خارجي، وفيه حيلة أدبية ذكية، فهو يتيح للكاتب -عند الاقتضاء- التنصَّل من مسؤولية بعض ما تضمَّنته القصَّة، فالراوي ليس الكاتب بحسب هذا العُرف السردي.
ولكون الراوي تقنية سردية، و(كائن ورقي) فقد ارتبط وجوده بالرؤية السَّردية، منذ أن ارتبطت ملاحظات “هنري جيمس Henry James” حول الراوي “الذي ينظر إلى عالمه الحكائي من عَلٍ، معيبًا عليه لعبة دور محرك الدُّمى، داعيًا إلى ضرورة “مَسرحة” الحدث، وعرضه لا إلى قوله وسرده، بمعنى أنَّ على القصة أن تحكي ذاتها لا أن يحكيها المؤلف” (يقطين، 1997، 285). ولهذا تعدَّدت الرؤية في السرد، وتغيرت من منظور الراوي، حيث تكون رؤيته إما خارجية أو داخلية، وهي بذلك مرتبطة بأسلوبي السرد الموضوعي والسرد الذاتي، والفرق بينهما -كما يلخِّصه النقادُ- أنَّ “نظام السرد الموضوعي يكون الكاتبُ مطَّلعًا على كل شيء حتى الأفكار السِّرية للأبطال، أما نظام السرد الذاتي فإننا نتتبَّع الحكي من خلال عيني الراوي أو “طرف مستمع” متوفرين على تفسير لكل خَبر: متى وكيف عرفه الراوي أو المستمع نفسه” (توماشفسكي، 1982، 189).
ومن هنا تشكَّلت أنواع الرؤية إلى ثلاثة أنواع: هي الرؤية الخلفية أو (المجاوزة) -كما يسميها صلاح فضل-(فضل، 1998، 291): وهذا النوع هو الشائع في القصص التقليدية؛ حيث يَعرف الراوي أكثر من شخصياته. والرؤية المصاحبة: وهو النوع الشائع في القصص الحديثة، ولا تتجاوز معرفة الراوي فيه معرفة شخصياته. والرؤية الخارجية: وهي أكثر الرؤى بُعدًا عن التقليدية، وميلًا إلى التجريب، يقول أستاذنا د. عبد الملك مرتاض مبينًا التمايز بين هذه الرؤى من خلال الضمائر: “إنَّ اصطناع ضمير المخاطب يتيح للعمل السردي أن يستبدَّ بجملة من الامتيازات في مجال السَّرد الحداثي؛ إذ اصطناع ضمير الغائب يعني أن السَّرد يكون موجَّهًا نحو الأمام انطلاقًا من الماضي، على حين أن اصطناع ضمير المتكلم يعني أن السرد يكون موجهًا نحو الوراء انطلاقًا من الحاضر، بينما اصطناع ضمير المخاطب يقوم مقام (هو) ومقام (أنا) في الوقت ذاته، فكأنَّ هذا الشكل السردي المجسَّد في اصطناع ضمير المخاطب في رأي “ميشال بيطور Michel Butor” على الأقل هو أكمل الأشكال السردية وأحدثها خصوصًا” (مرتاض، 1995، 198).
وقد استخدم الراوي في “مملكة الجواري” الضميرين الأخيرين (أنا/أنت) بالتناوب بينهما، وبذلك حرص على الرؤيتين المصاحبة والخارجية في توجيه الخطاب بين شخصياته، واقترب من الرؤية الداخلية الواقعة على مستوى أسلوب السرد الذاتي “وليست (سيرة ذاتية كما يُتوهم)، بل هو سرد يستخدم تقنية الراوي بضمير الأنا؛ ليتمكَّن من ممارسة لعبة فنية تخوِّله الحضور، وتسمح له -بالتالي- التدخُّل والتحليل بشكل يولِّدُ وَهمَ الإقناع”(العيد، 2010، 181).
وكذلك مزجَ الكاتبُ بين أسلوبي السرد الموضوعي والذاتي، أو بين الرؤيتين: المصاحبة والخارجية، كما ظهرت الرؤية الثنائية التي تمزج بين الرؤيتين: الخارجية والداخلية في بنية الرؤية الواحدة- كما يسميها عبد الله إبراهيم- (إبراهيم، 1990، 120). وأما الرؤية المتعدِّدة، فهي الرؤية التي يسميها تودوروف: “الرؤية المجسَّمة”؛ أي التي نتابع فيها الحدث مرويًّا من قبل شخصيات متعدِّدة، مما يمكِّننا من تكوين صورة شاملة ومتكاملة عنه (بوطيب، 1992، 16).
وهذه الرؤية المتعدِّدة هي التي سيتعدَّد فيها الرواة، فيروي كل واحد منهم عن نفسه على امتداد الرواية -كما سنرى-، وطبيعة هذه الرؤية المتعدِّدة -كما يقول عنها لحمداني-: “يسمح الحكي باستخدام عددٍ من الرواة، ويكون الأمرُ في شكله الأكثر بساطة عندما يتناوب الأبطال أنفسُهم على رواية الوقائع واحدًا بعد الآخر. ومن الطبيعي أن يختصَّ كلٌّ منهم بسرد قصته، أو على الأقل بسرد قصة مخالفة من حيث زاوية النظر لما يرويه الرواة الآخرون… وتنتمي إلى هذا النوع الروايات الرسائلية” (لحمداني،1991، 49).
ولعلَّ أبرز ما يشكِّل بنية رواية “مملكة الجواري” هو أنها تميل إلى هذا الصنف من الروايات الرسائليِّة، وسنعرض فيما يأتي إلى تعدُّد الرواة:
- جوذر الناسخ (صعفان) راويًا:
هو الراوي الرئيس الذي سينوِّع في أساليب الرواية، ويتيح فرصة الحضور لبقية الرواة، وينظِّم الحديث ويصل بعضه ببعض، وكأنه الراوي المركزي الذي يُسيِّر دفة السَّرد على امتداد الرواية، ويقوم بقدر من التنويع المقصود، مازجًا بين الرؤية المصاحبة والرؤية الخارجية في أكثر من موطن.
يبدأ دورُه بوصفه راويًا بالقول: “ظهر الياميُّ في سوق الورَّاقين يحفُّه خَيَّالته.. أقفلت الحوانيت.. ولم يبق سوى مَن تبرّأ موجهًا أصابع الاتهام لمن توارى. بقي في صنعاء لأيام ثم قرَّر المغادرة بالكتبِ التي جمعها، طالبًا مرافقته إلى ذي جبلة. لم يترك لرفضي مجالًا…”(الرواية: ص9).
هنا يظهر الراوي بضمير المتكلِّم يتحدث عن نفسه، وعمَّا شاهده وتلقاه: “أمرَ اليامي بإحكام وثاقي مكلفًا من يحرسني حتى ذي جبلة (…) ولم يأتِ المساء حتى ارتقينا جبالًا وصولًا إلى قلعة “صيد” على ضوء الصباح تراءت لي أودية متشعبة وأفق غطَّاه ركام جبال بعيدة…”(ص10).
هكذا يستمر الراوي في وصف مشاهداته، وما يقابله من أماكن ومن أشخاص بضمير المتكلم، بوصفه راويًا وشخصيةً رئيسةً في الرواية في آن واحد.
هذا الراوي (الرئيس) يقوم بالتنقُّل بين الماضي من خلال (الاسترجاع) والعودة إلى ذكرياته مع “شَوذب” ولقائه بـ”شوشانا”، وذهابه إلى “العَيلوم” في حيِّ اليهود، وهو ينطلق من (حاضر) السرد الروائي إلى (الماضي) بالتناوب في كلِّ مرة، ثم يعود إلى لحظة السرد -وهي لحظة في الأصل تاريخية أو هكذا يريدها-، ويصفُ حالَ لقاءاته الأولى مع “شوذب”، وكذلك ذكرياته مع معلمه (صَعْصَعَة)، ويصف الأحداث التي حُبس بسببها (في ظلمة الله) وما حدث لصنعاء من نهب واجتياح، وغيرها من الأحداث.
ثم ينطلق مجدَّدًا حين يصلُ إلى (ذي جبلة)، ويظلُّ في محبسِه في دار النَّسْخِ يحرسه “ذو الساق”، ولا يُسندُ إليه أيُّ عمل في البداية لأيامٍ كثيرة، فيقول: “توالت الصباحات.. وازدادت حيرتي.. أتذكَّر وعودَ اليامي “ستكون كاتب رسائل القصر” لأصرخ عاليًا: أريد اليامي! فيكرر إغلاق بابه صامتًا”(ص15).
ثم تبدأ حواراته مع ذي السَّاق، ويعرفُ منه أنَّ الملكة “في مقام الملك بعد صعوده التَّعْكَر”(ص16). ثم تستدعيه الملكة بعد فترة من الزمن ليمثل بين يديها، وتطلب منه أن ينسى ماضيه “ما دمتَ في خدمتنا عليك بنسيان ماضيك.. حتى اسمك.. ونسيان من تكون… من الآن أنتَ صفحة اللحظة… واعلم أن اسمك صعفان”(ص25).
ثم تبدأ الجواري بالنزول إليه ليخطَّ رسائل الملكة إلى الأمراء، وتبدأ رسائله مع إحدى الجواري عبر (اللفافة السحرية)، وتستمر المراسلات بينهما (الراوي، وفارعة) بامتداد الفصل الأول من الرواية (صنعاء 470هـ) حتى (صفحة138). ثم في الفصل الثاني (ذي جبلة 510هـ) يتحول أسلوب السرد إلى القراءة من (كُتيِّب صغير) تركته فارعةُ للراوي، ويأتي الفصل الثالث والأخير (إمام السَّراديب 532هـ) لتكون القراءة من مخطوطٍ تركته (أروى) للراوي، وهذا التنويع في السرد هو في تغيير وعاء التراسل مع بقاء فكرة المراسلة هي الفكرة السائدة والحاضرة بين مُرسل (فارعة/أروى) ومستقبل قارئ (الراوي/صعفان).
ودور الراوي الرئيس جوهريٌّ تنظيميٌّ، فهو يقوم بالتنويع ما بين سرد الأحداث عن حياته وذكرياته من أوَّل الرواية مع معلمه صعصعة، وشوذب، وذكريات البحث عنها منذ كانت طفلة، ثم تحوله إلى ناسخ في دار النسخ في (ذي جبلة)، وفيها يصف أحداث القصر والأحداث التاريخية لمدة طويلة من السنوات بلغت عمرَهُ الذي قضاه في (ذي جبلة)، وهو عمر يمتد بعمر الملكةِ نفسِها وحتى بعد وفاتها.
وكذلك يظهر دور الراوي الحيوي في وصف الشخصيات والأماكن، مثل وصف القصر وممراته، والقلاع الملحقة به، ووصف وديان جبلة وأجوائها والجبال العالية التي يتنقَّل فيها عند هروبه إلى (الجَنَد)، وكذا عند مصاحبته لموكب الأمير (منصور النجاحي) إلى زبيد، وما رآه خلال رحلته تلك من مشاهد للطبيعة والناس، وبقائه عامًا كاملًا في صحبة الأمير يستمتع بمجالسته ولياليه الحافلة بالرقص والطرب والشعر، وكذلك عند عودته بأمر الملكة يصف مشاهداته في الطريق، وغيرها من القضايا المهمة في بنية الرواية التي اضطلع بها الراوي الرئيس مثل رسم صراع النفس، وتشظي الذات، ووجهات النظر حول الدين، والمذاهب المتصارعة في زمن الحكاية وهو عصر الملكة أروى.
وشخصية الراوي -بالإجمال- شخصيةٌ مأزومةٌ تأتي ضمن شخصيات الرواية الكثيرة التي يصور الراوي أزماتها النفسية بمهارة عالية ابتداءً به، بسبب تكوينه المتنوّع بوصفه ابن يهودية، وأبوه مسلم، ومعلمه شيعي إسماعيلي، وهو لا يؤمن بأيٍّ من الأديان، ويعلي من شأن العقل.
مرورًا بشخصية فارعة، وأزمتها (المتمثلة في عشقها غير السَّعيد ونهايتها المأساوية)، ثم شخصية الملك (المستلب المعزول عن ممارسة سلطته) ومثله أبناؤه (المقتولَينِ: محمد وعلي) بتدبير الملكة وتنفيذ جواريها؛ خوف استلام السلطة ومنعًا لهما من تولِّي الحكم، وكذلك شخصية الملكة نفسها وما تعانيه من أزمات خاصَّة، وما يعتمل في وجدانها من صراع من أجل السلطة والمحافظة عليها والتفرد بها، وبما يكون في آخر حياتها من تغيُّر من السلطة (والربوبية) إلى الدعوة (الإماميَّة/الشيعية) والدعوة إلى إمامة مستورة هي (الطيبة)، وتحولها من ملكةٍ إلى داعيةٍ.
وهكذا تبدو الشخصيات جميعها مأزومة حتى الشخصيات الثانوية منها مثل: ذو الساق، وابنه الغلام غير الشرعي، وغيرهما.
وكذلك يظهر دور الراوي الرئيس (صعفان) -فضلًا على ما سبق- في وصف الأماكن الغرائبية، مثل: وصف السِّرداب الذي حاول الهرب من خلاله، وما لاقاه من كائنات وحشرات وروائح غريبة وعَطِنة (ص217-218)، ووصف التوابيت وحديثه الغرائبي معها، وكأنَّه في حالة من الجنون مع مخلوقات ميتة، وحين يحاور جثثًا في توابيت، وهو في السرداب في نهاية الرواية(ص305-313).
كل ذلك جعله راويًا مركزيًّا يقود أحداث الرواية وعوالمها من شخصيات وأماكن، وأزمان، وأحداث، بل ويبيِّن من خلال بعض المواقف أنَّه (راوٍ عليم) بما يدور في النفس، وبما يكون من أمورها، ولكنه يغلِّفُ ذلك كله بالمنطق وبالسببيَّة التي ظلَّ يحرصُ عليها في بيان الحدث أولًا، ثم يأتي السرد بعد ذلك من خلال تقنية الاسترجاع (الفلاشباك) لتوضيحه وبيان سببه، وهو بذلك يتصرَّف في الزمن ما بين خطيَّته التاريخية المنطقية، وكسر تلك الخطية بالاسترجاع، وهو دائمًا ينطلقُ من حاضر السرد إلى الماضي، ثم يعود إلى الحاضر، وهكذا دواليكَ بتناوب مستمر مما يشدُّ القارئ، ويجعله في تيقُّظٍ دائمٍ لهذه التقنية السردية المتماسكة والمتنوعة.
- فارعةُ راويةً:
هنا تظهر الجارية (فارعة) التي رأت (صعفان) لأول مرة في مقابلة الملكة، وأُعجبتْ به، وسحرَها خطُّه الجميل ويراعه السَّاحر، على الرغم من أنها لم تتبين ملامحَ وجهه لكثرة ما يغطيه من شعر كثيف، وتبدأ رسائلها إليه، ويقول الراوي ممهدًا لحضورها: “إلى ذلك الصباح حينَ لاحظتُ لفافةً مختلفةً بين لفائف البريد.. ملمسها لا يشبه ملمس البقية.. لأقرأ: “به نستعين وإليه نلجأ رب العرش العظيم.. ونصلِّي ونسلم على البهيِّ رسوله الأمين.. وعلى مولانا علي كرَّم الله وجهه.. وعلى القمرين النيرين الحسن والحسين والزهراء البتول والأئمة الأطهار ومَن والاهم إلى يوم الدين”. فقط كلمات قليلة.. لديباجة شبيهة ببداية الرسائل.. شغلتْ حيزًا من الصفحة الفارغة.. لفافة أطول من لفائف الرسائل… عُدتُ بعد وقتٍ لأجدها خالية مما كان فيها.. ناصعة قلبتُ ظاهرها وباطنها دون إجابة.. لا توجد حتى بقايا حروف..”(ص29).
هذه اللفافة، بتلك الديباجة هي التي ستستمر معه بما تكتبه إليه فارعة من أخبار عن نفسها، وما ترويه بالتجاوب معه عن حياتها حين تقول: “وحكايتي أنَّ أمي تركتني صغيرة، ولا أعرف إلا أنها هربتْ مع رجل عشقته.. وحين بلغتُ الثانيةَ عشرةَ وهبني والدي للملكة”(ص59).
وتروي له أخبار القصر التي تخفَى عليه، وهو في محبسه (دار النسخ)، وتنقل إليه أحداثًا كثيرةً، هي في الأصل أحداثُ الرواية التي تقود السرد إلى التقدُّم في مجرياته وتدفعه إلى الأمام، وتلك اللفافة ستظلُّ تشغل حيزًا كبيرًا من الرواية هي الفصل الأول -كما أشرنا- وفيها بَثُّ لواعج حبِّها إليه وتعلقها به مازجة بين مشاعرها واستغرابها من بحثه عن “شوذب” التي ظنَّ أنها هي من تراسله، دون أن يغيِّر تلك القناعة، بل ظلَّ يرى في تلك اللفافة متنفسًا له: “والحقيقة أني أسعد كثيرًا حين أجلس إلى الكتابة مستعيدًا تلك الحيوات لحظات كتابتي إليها.. فلم يعد لي مَن أبوحُ إليه غير هذه اللفافة التي تحمل الكثير من الحكايات وكأنها تتغذَّى بمشاعرنا، وجدران وسقوف غرفتها”(ص72).
وكذلك يتطور الصراع النفسي الذي يبحث فيه هو/الراوي عن ذاته، وعن يقينه بأنها “شوذب”، وأنه يراسلها ويحكي لها ذكرياته معها، ويذكرها بتفاصيل كثيرة من ماضيهما، وتستمر معه (فارعةُ) في اللعبة معتقدةً أنها بالزمن وبمحبتها له ستستطيع جذبه وإقناعه بحبها.
وحين تتأخر اللفافة -لسببٍ ما توضِّحه لاحقًا- يقوم الراوي الرئيس بتنويع في السرد من خلال أكثر من تقنية منها: تقنية (الحلم) في رؤياه للملك، أو تقنية (الخيال) في مخاطبةِ صورة “شوذب” التي رسمها في جدار غرفتها، وجعل صورتها ونقشها يسكنان بجواره في دار النسخ في أكثر من جدار، وهنا يقول: “مكثتُ راكعًا أنظر إلى أوجهها الجدارية.. لمحتها تحرك كفيها.. صمتُ أنتظر صوتها.. انثالت ابتسامة فمها الياقوتي.. صوتها المميز، وقالت: بداية أسمِّي على الرب العظيم وأصلِّي وأسلِّم على رسوله الكريم..”(…).. وأحدثُكَ عن بعض ما نعيشه خلف جدران القصر.. وعن تلك العلاقة بين الملك وزوجته حتى ترى ذلك الجحيم الذي يعيش بنا…”(ص96).
وهكذا يستمر التنويع في رواية فارعة ما بين لفائف الرسائل، وما تحكي له عن نفسها وعن حياة القصر، وما بين أن يتخيَّل هو رسالاتها، ويكمل على طريقتها من خلال حواره مع صورة (شوذب) في الجدار بحيلةٍ توهم القارئ بالتخييل، وتدفع بعجلة السرد والأحداث إلى الأمام: “لم أعد أفرِّق بين رسائلها وبين اللحظات التي أستمع إليها راكعًا”(ص100). وهي تقنية تجديدية تكسر الرتابة، وتقود إلى تنويع الأسلوب السردي.
وفارعة برواياتها الكثيرة ورسائلها تغدو راويًا رئيسًا آخر في الرواية، بما تذكره من تفاصيل حياة القصر وأحداثه، ومن تلك الأحداث التي روتها: كيف جرَّدت الملكةُ الحرة سيدة المكرمَ من سلطانه بالتدريج، وأخيرًا كيف حولته إلى مَسخٍ(ص108)، ثم نهايته، ومن بعدها نهاية أولاده، وحياة الأمراء من أصحاب القلاع، وكذلك زواج (بيلسان) بالأمير (سبأ الصليحي) على أنها الملكة، ونهايته على يديها في صنعاء بأمر الملكة حين كاشفَها بمعرفته للحقيقة من أول يوم. وغيرها من الأحداث الكثيرة التي روتها فارعة عبر سائلها بواسطة تلك اللفافة، ثم يتحول الأمر في رواية الأحداث بعد اللفافة والرسائل والحوار مع صورتها الجدارية إلى (الكُتيِّب) الذي ستتركه له بين كتبه في السطح، بعد أن يمسك هو بتلك اللفافة لديه، غاضبًا بسبب إصرارها على توضيحِ حقيقة وهمه، وأنها ليست (شوذبه)، فلا يعيد اللفافة إليها: “بعد قراءة أسطرها القليلة تلك.. لم تعد لي رغبة في الكتابة.. قد أجد نفسي أغرِّد بعيدًا عمَّا كُنتُه بالأمس.. حتى أن رسائلها أصبحت جافة خالية من الروح. ولذلك كتبتُ إليها كلمات قليلة، وكنت صادقًا: “لم أعد أرى في استمرار انتظاري لرسائلك أي معنى.. ولا بالكتابة إليك.. حتى اللُّقيا التي تعلقينها في عوالم الغيب لم تعد تهمني.. لستُ حزينًا منكِ.. ولا نادمًا على نفسي.. فقط أتوق إلى الانعتاق إلى حيث لا تصل أيدي الملكة وعيونها.. كوني من تريدين وكما تودِّين.. فلستُ نادمًا على أحد ولا على بلاد ألفتها.. ولذلك أتركك لتتماهي مع حياة سيدتك.. فانسي ما كان بيننا.. أنا لم أخلق لذلك”(ص138).
بعد كتابته لهذه الرسالة يمسك باللفافة بين يديه ولا يعيدها إليها، ويقطع رسائله معها لتبدأ الرواية فصلا جديدًا مؤرخًا بـ(ذي جبلة 510هـ) وهو التاريخ الذي سيتَّضح أنه بداية مرحلة جديدة، هي تولِّي الملكة أروى بعد موت الحرة السَّيدة، وستقوم فارعة بنقله إلى السطح بأمر الملكة الجديدة، وتقوم على خدمته، وتقابله دون أن تُعرِّفه بحقيقتها وبشخصيتها، ولا تذكر له بأنها من راسلته لتلك السنوات الطويلة، وستقوم على تمريضه ومحاولة أن يكتشفها قلبُه، ويأنس إليها لكن أنانيَّته ومحبته لشوذب قد أقفلا قلبه عن أيِّ حبٍّ آخر، وكذلك كان يخشى الوشاية والتعرض لعقوبة ما، فكانت تلك جميعها حواجز تمنعُه من الاقتراب منها أو التفكير في أيِّ حبٍّ أو النظر إلى أيِّ جارية.
وهنا ستتحول فارعة من راوٍ يسرد عبر الرسائل إلى راوٍ يسرد عبر كُتيبٍ صغيرٍ تخطُّ فيه ما تعيشه، وتكتب بقية الأحداث، وما يعتلج في حياتها من مشاعر نحوه، مدونةً كلَّ التفاصيل، وما تمر به في أيامها وحياتها من أحداث عملًا بإحدى نصائحه إليها بأن تدوِّن ما تعيشه، فتكتب إليه في “كُتيب صغير ملفوف بشريط أحمر” يكتشفه بعد موتها ضمن كتبه التي قامت بترتيبها حين كانت تخدمه.
وفي هذا الكتيِّب استكمال للأحداث التي حدثت في القصر، وتبدأ رواية الأحداث بتولِّي “بيلسان” (أروى) للمُلك بعد سيدتها (الحرة سيدة)، وكيف رافق ذلك إصرار الجواري على تولِّيها لتستكمل المسيرة، وغيرها من الأحداث التي تُروَى من وجهة نظر فارعة ومتابعتها، كما تُظهر -فيما كتبته- مشاعرَها نحوه واستمرار محبتها له، وكيفية تعامله معها، وهي في خدمته في مرضه وبعد شفائه.
وهنا تبرز فارعة راويةً متمكِّنةً تلعب دورها الكبير في الرواية وفي رسم أحداثها وشخصياتها وعوالمها النفسية، وما يدور من أحداث داخل القصر وخارجه، وهي تقدِّم للرواية تنويعًا مهمًّا ومبررًا مقنعًا يبتعدُ بهذه (الرؤية المصاحبة) عمَّا ينبغي أن يدور من أحداث بطبيعة الرواية التاريخية ذات البناء المعتمد على (الراوي العليم)، وهي حيلة أتقنها الكاتب لتقديم العمل بشكلٍ يعتمدُ على تعدُّد الأصوات داخل الرواية بما يوحي بالواقعية، ويبني عالمًا سرديًّا يتخذ من التاريخ مرجعيتَه، ومن الواقع فنِّيته.
- ذو السَّاق راويًا:
يأتي الراوي الثالث في البناء السَّردي ليكمل جوانب خاصة في السرد، وهي تصوير حياة حارس يقوم بخدمة الملك ومرافقته في حروبه التي يفقد فيها إحدى ساقيه، ثم يتحوَّل بسبب عاهته هذه من جندي مقاتل إلى خادم وحارس في حاشية الملك المكرم وزوجته السيدة الحرة، وهو راوٍ يبدأ بالتعريف بنفسه -كما هو حال بقية الرواة- بقوله: “أنا من همدان.. كان أبي يملكُ الأرض ويفلحها وأنا وأخوتي نساعده.. لم نكن نعي أن زواج أبي بأخرى سينهي استقرارنا ليتزوج بثالثة بعد أشهر.. وهكذا ظل يطلق هذه ويتزوج تلك ما دفعه إلى بيع كل ما يملك.. كان رجلًا متدينًا.. قال وهو على فراش الموت: لقد عشتُ كما أوصاني النبي: حبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني الصلاة”.. تفرق إخوتي.. والتحقتُ بخدمة مولانا الملك المكرم، وهو لا يزال أميرًا.. وسارت بي الأقدار بعيدًا”(ص22).
هذا الراوي (ذو الساق) شخصية مأزومة -كما أشرنا- سيكون حارسًا على باب دار النسخ لسنوات طويلة يمنع (صعفان) من الخروج، ويتحاور معه، ويتبادلان التدخين، ويدمن حكاياته كما يدمن دخانه، وهو حكَّاء لقصص كثيرة يرويها عن نساء جميلات بعضها صدقًا وأكثرها من خيالاته -كما يقول الناسخ- وهو حريص على عدم البوح بأسرار القصر أو بالحديث عمَّا لا يعنيه، وفي ذات الوقت يشي بحواراته معه ويوصلها إلى الملكة، ولكنه بتطوُّر ألفته له وصداقته سيروي له مرافقته للملك في حصن التعكر، وهي رواية لعالم الأموات وخيالات الأشباح التي رافقها لسنوات عندما يرجع -أو يتخيَّل الناسخ أنه رجع إليه- فيخبره بما رآه، وقد ظن أنه مات بسبب مقولة ابنه ذلك الغلام غير الشرعي (زلة شيطان) الذي وكِّل بخدمته بعد ذهاب ذي السَّاق.
ويعود ذو الساق وتعود معه رواية الحكايات، ولكنه هذه المرة سيعود بعد غياب طويل ليخبر أنه كان في حصن التعكر، وأنه ذهب بأمر الملكة وإرادتها: “أن يقيم فيه من يحرسه، ويهتم به.. اسمع مني الأهم.. لقد قابلت المكرم.
-المكرم!
– في البداية اغتظت لأمرها بصعودي.. كانت مهمتي مراقبة مَن هناك وإبلاغ الملكة بما يدور.. لأكتشف بعد أيام أن الحصن لا يزال مسكونًا.. وقد رأيت ساكنيه!”(ص182).
يروى ذو الساق عن عالم الأشباح، وكيف بدأ يلاحظ حركاتهم حين كان يسمع أصواتًا خافتة شبيهة بهديل الحمام.. “ولكن مع الفجر كانت تلك الهمسات تتحوَّل إلى ترانيم خافتة. من فجر لآخر اتضحت تلك الأصوات.. إنها لجماعة شبحية.. ظللتُ أتتبعها حتى سمعت كلمات شبيهة بأصوات مصلِّين. وهكذا لأشهرٍ أستمعُ لأصواتهم ولا أرى أحدًا.. حتى ذلك الفجر حين رأيتُ أشكالا دُخانية تتحرك هنا وهناك… ومرةً بعد أخرى بدأتْ تلك الأشكال تزداد وضوحًا حتى ظهرت بهيئات آدمية…”(ص182).
هكذا يروي ذو الساق عن تلك الأرواح، وعن حصن التَّعكر، ثم يصف وجه الملك شابًا “كما عرفته في شرخ شبابه”(183). وأنه اعتاد تلك الأصوات والهيئات التي تسكن قاعة الحصن وممراته…”وقبيل نهوضي رأيت كأسًا في موطن صلواته.. لا أعرف من أين ظهرت.. كانت مليئة برائحة عطنة، فلم أجرؤ على تذوقها، لكني حملتها معي.
-كأس؟
-نعم كأس.. والغريب أني لمحتُ شكل وشمِكَ على قاعدتها!”(ص183).
هذا الحوار ورواية ذي الساق يخالطها الكثير من الغرائبية ويربط بين واقعه حين كان يعيش مع الناسخ وبين تخيلاته عنه بعد مغادرته له، وهو هنا يُشكِلُ -بعمدٍ- على القارئ، ويقدِّم نصًّا حواريًّا غرائبيًّا بين الحقيقة والخيال، فهذه الأرواح: هل رآها وهو حي؟ أو أنه رافقها ميتًا لذا استطاع بعد فترة أن يتبين ملامحها الآدمية لأنه غدا واحدًا من تلك الأشباح والأرواح؟ وهو يرى الصفوف التي ماتت حين يؤكد: “ثم رأيت أن مَن في الصفوف هم المستشار القَزَم، وابنا المكرم محمد وعلي. وهكذا فجرًا بعد آخر أصبح ينضمُّ آخرون، بعضهم أعرفهم والبعض أراهم لأول مرة”(183).
وهكذا يبدو السرد مراوغًا بين الواقعية والغرائبية؛ لأنه يربط بين ما ذكره عن مشاهداته في الحصن لتلك الأرواح التي غدت ميتةً، وبين عودته بأمر الملكة ومغادرة الحصن: “بعد تلاشيهم كنتُ أقف وحيدًا.. تمنيت أن أظل هناك إلى آخر يوم في عمري.. لولا إرادة الملكة والأمر بتسليم الحصن ونزولنا منه.
-هلا تريني الكأس؟
-لماذا؟
– لأصدق ما تقول.. إذ كيف تكون كأسًا حقيقية لرجل رحل عن دنيانا؟
– لا عليك.. لا تهتم.. اعتبرني أهذي!”(ص184).
هذا السرد الملبس والمشوّق للقارئ في آن هو من حيل السارد التجديدية في كيف يربط بين الحقيقة والتخييل وبين كون ذي الساق ما يزال حيًّا أو أنه يروي عنه وهو ميِّت، لأنه سيؤكد هذه الإشكالية مجددًا حين يصف آخر لقاء له به، وهو أيضًا يستمري اللعب المراوغ في كونه ما يزال حيًّا أو أنه قد مات، وما يروي عنه ليس من قوله، بل من رواية الراوي الرئيس، وهو يتذكر هكذا:
“كما أتذكَّر آخر لقاء لي بذي الساق.. لم أكن أعرف أني لن أراه بعد ذلك وأنه سيختفي إلى الأبد.. ولم أكن أتصوَّر أنه سيفي بما ظلَّ يعدني به.. حين جاء تركتُه يهذر.. وحين كنتُ أهمُّ بمقاطعته وتنبيهه إلى أني سمعتُ تلك الحكايات من قبل.. كان يضع سبابته على شفتيه… بينما يذكر لي حكايات سمعتها منه.. يذكر أن سبأ كان بئر أسرار الملك المكرَّم. أتركه يحكي غارقا في نشوة تنباكه.. عن حكاية تحريم سيدة لزوجها المكرم سنوات(…) وهو يحكي ما يعدُّه أسرارًا لا يجوز البوح بها.. أنصت إليه وقد غرقتُ أكثر في نشوة عطَّلت حواسي.. ولم أعد أميِّز من حديثه سوى طنين مضحك.. أرى ملامحه وقد تغيرت كثيرًا.. تمنيت لو أني لم أشاركه دخان ذلك الصباح.. وأظنني كنت أسمعه وهو يحكي مرددًا أسماء: شوذب، سيدة، المكرم، اليامي، الكأس.. وأسماء أخرى لم أعد أتذكرها. لا أعرف لماذا كانت تلك الأسماء تثير ضحكي. ولماذا كنت أشعر بأنفاسه تلهث.. وعينيه تجحظان.. ومع قرب أذان الظهر نهض يحتضنني بقوة وهو يردد: لقد وفيت بوعدي. يهزني وهو يهذر.. ناظرًا في عينيَّ كثيرًا.. مختتمًا: هل سمعتني؟ هذا أنا حكيتُ لك ما كان يجب أن تعرفه.. أستودعك ربنا الذي لا تضيع ودائعه”(ص208).
هنا ينهي الراوي الرئيس دور ذي الساق راويًا، وبهذه النهاية التي يخلع عليها صفة الغموض أو أنه أراد أن يدخلنا معه في لعبة سردية جديدة تقوم على العودة والتذكُّر من خلال تقنية (الاسترجاع) لشخصية ذي الساق وعلاقته خلال تلك السنوات بالناسخ، ويختتم حديثه بالوداع، وبأن (الراوي) انصرف يسأل عنه بعد ذهابه ليتأكد من وجوده فعلا: “وهكذا وجدت الجميع يؤكدون وجوده.. لكني صعدت الجبل.. دخلتُ الأحراج.. هبطت شلال الوادي.. ولم أجد له أثرا”(ص209).
- أروى راويةً:
يبدأ دورها في الفصل الثالث المعنون بـ(إمام السراديب) 532ه. وهو الفصل الأخير من الرواية، ويأتي تحت مسمَّى الأيام الأخيرة (ابتداءً من اليوم الأول لوفاة الملكة حتى اليوم السَّابع، ثم أخيرًا اليوم بعد الأخير). (ص245- 315).
وهنا يتداخل- كالعادة- دور الراوي الرئيس الذي يمثَّل الرابط بين الحاضر السردي و(الاسترجاع)، وكذلك إتاحة الفرصة لراوٍ جديد هذا المرة هي الملكة أروى نفسها، وذلك من خلال ما خطَّته من أوراق تركتها وصيةً لصعفان ضمن وصاياها السبع الأخرى التي أولاها: “أن ينقش صعفان الرمز الأعظم في ثلاثة مواطن من بدني: الظهر.. والصَّدر.. والوجه” (ص249). وبعض الوصايا بخصوص الوقف وغيرها من وصايا الصَّلاة والتشييع والدفن، وتأتي أوراقها المخطوطة -وهي الأهم- غير مرتبة ليقوم الراوي بإعادة ترتيبها، وقراءة ما فيها، وهذه الحيلة السَّردية هي ما يربط بين حاضر السَّرد والقراءة من المخطوطات التي تركتها له، ليناوبَ بين حديثه وتدخلاته في الحاضر السردي وبين الأحداث التي ترويها أروى مكتوبةً، ويقوم هو بقراءتها، ومن هنا تبدأ هي بدور الراوي بشكل مباشر مبتدئةً -بعد البسملة والصلاة على النبي وآله- بالتعريف بنفسها بقولها: “أنا الملكة الحرة أروى.. ملكة ملوك اليمن.. عظيمة المسترشدين.. ذخيرة الدين.. عمدة الإسلام.. كافلة أوليائه الميامين.. أكتبُ شذرات من حياتي.. قاصدةً بذلك مرضاة الله.. والفائدة المرجوة لمن تأتي بعدي على سلطان ذي جبلة.. بعد أن نذرتُ حياتي في محبة الخالق ذي الجلال.. ولخير خلق الأنام وآله من الأئمة الأنوار.. فحياتنا وما نعيشه لهم وفيهم عسى ربي أن يتقبَّل ويغفر الزلل”(ص256).
هذه المقدمة فيها الكثير من الأسلوب القديم في الكتابات التاريخية، والاستهلالات المرجعية، وكأنها توحي للقارئ وتوهمه بأنَّ الكاتب ينقل عن نسخة تاريخية بأسلوب الكتابة التاريخية والمخطوطات القديمة، كما يحتوي النصُّ على الخلفية التشيعية للدولة الصليحية ذات المرجعية المذهبية الإسماعيلية. وكذلك تبيِّن جانبًا مما استقرَّت عليه الملكة أروى في آخر حياتها، من حين تركتْ السلطة واتجهت إلى الدعوة؛ لكي تكتسب طابع القداسة بعد صراعها مع نفسها وتأثرها بموت (فارعة) جاريتها الأقرب إلى نفسها بتلك النهاية الهادئة التي فضَّلت فيها الموت والرحيل في هدوء، فكان ذلك سببًا في إعادة الملكة لترتيب أفكارها وقناعاتها، وأنها لم تعد تهتم بالصراعات السياسية وإذكاء النزاعات بين الأمراء وإدارة الدولة بتلك الوصايا السِّرية التي ظلَّت تؤمن بها، وتطبِّقها فترة حياتها الأولى ومدَّة توليها للمملكة، ولكنها حين أدركت أن العمر يتقدم بها، والسن يُضعفها، وأنها فقدت كلَّ مَن حولها من الناس بما فيهم صديقتها الأثيرة الوفية، تحولَّت إلى الدعوة للإمامة “طيبة” ووجدت ذلك أقرب إلى نفسيتها الجديدة، وقناعاتها، وقد رأت من خلال كتبها أن تقوم بفصل السلطة عن المعبود، وبدمج السلطة في الدعوة. تقول: “أبحثُ عن مخرج.. مخرج لا يعيدني للتسلُّط.. ألجأ للوصايا فأجدها تدفعني لحيل القتل ولا أجد فيها مخرجًا.. لكني وجدتُ في كتب المعلم صعصعة بصيص أمل.. حيث واجه المعلم محنةً وصراعًا يشابه ما أنا فيه.. حين كتب كل تلك الصفحات.. بدأها بالطريق إلى السلطة.. حتى وصوله إلى دمج المعبود بالسلطة.. وطريق آخر في فصل الدعوة عن السلطة.. هذا ما كنتُ أبحث عنه وما كانت الملكة سيدة قد مالت في آخر سنواتها إليه”(ص287).
وهذا كلام خطير ينبني عليه تصوُّر عميق تشير إليه الرواية بمرجعية تاريخية في تحوُّل الملكة أروى إلى داعية بعد أن كانت ملكة.
ثم تمضي في رواية الأحداث من خلال ما خطَّته عن حياتها والأحداث الكثيرة في مملكتها ابتداءً من عام 510ه حين تولَّت الحكم بعد سيدتها (الحرة سيدة) التي شاخت، وأرادت معاقبتها هي وجميع الجواري لتستعيد هيبتَها، ولكنَّها كانت في الحقيقة تدفعها إلى الملك وإلى التخلُّص منها، وتولّي الأمر من بعدها، وهكذا باتفاق الجواري وتأييدهن لها تتخلَّص (بيلسان/أروى) من الملكة (الحرة سيدة) وتتولَّى الحكم دون معرفة أحد خارج القصر، وهذه النقطة هي من خصوصية البناء الفني في الرواية وجديدها في التخيُّل التاريخي.
تستمر أروى في سرد الأحداث، ووصف مصاعب الحكم ومواجهة أزماته، حين تتحدَّث عن طلبها للمساندة من أمير المؤمنين الفاطمي في مصر، فيرسل إليها (ابن نجيب الدولة)”بمئة فارس من السودان.. وقد وصفه الوزير الجمالي في خطابه إلينا: بـ”الأمير المنتجب عز الخلافة الفاطمية.. فخر الدولة العلوية..الموفق في الدين.. ولي أمير المؤمنين”(ص268)؛ ليكون مستشارها، وما يحدث معه من أحداث، وكيف كانت تدفعه إلى غزو هذا والهجوم على ذاك في حروب كثيرة مع النجاحي، ومع أمراء القلاع المحيطة بذي جبلة، وكيف كانت مشاعرها نحوه، وكيف تغلبت على تلك المشاعر بالوصايا السرية، وكيف طمع هو في السلطة، ثم نقلتْ جيشه إلى (الجَنَد) ليكون قريبًا منها وقت الحاجة، ثم كيف بدأ يشقُّ عصى الطاعة عليها، ويراسل الأمراء، ويتواصل معهم دون علمها، ويتشدق عليها بأنه يتبع أمير المؤمنين ولا يتبع امرأةً، وكيف دبَّرت له في نهاية الأمر المكيدة، بتهمة الدعوة للنزارية، وبذلك يستدعيه الخليفة، وقد أمرت بقيده وسجنه لتتخلص منه، ويقول وهو في قفص من عيدان النخيل مدندنًا: “صدق من قال إنها حية لا يؤمن جانبها”(ص275).
ويأتي حديثها وروايتها لأمور مهمة في علاقتها مع فارعة، ووصف نهايتها التي هزَّت كيانها، وكيف أنها ماتت محبةً لذلك الناسخ الذي كان أنانيًّا معها، ولم يتجاوب مع حبِّها الصادق وقلبها النقي، وكيف فضَّلت تلك الجاريةُ الموت بهدوء مخلصة لحبها ولسيدتها التي عرفت حقيقة حبِّ الناسخ/صعفان لها حين رأت صورها على جدران دار النسخ، فقامت بتغييرها “بوجه مكرر ذي فمٍ شبيهٍ بضربة فأس.. عينان غائرتان.. أنف مجذوم… كل ما كنتُ قد نقشته أزيل وحلَّ تكرار لوجه قبيح”(ص260)، فأيقنت بأنه لم يكن واهمًا، وأن من يحبّها هي بالفعل سيدتها (بيلسان)، وقررت الموت وعدم العودة.
يأتي في رواية “أروى” الكثير من (الميتا سرد)، وهو مصطلح يتعالق معه (الميتاقص، والميتاروائي، والميتاحكي) وغيرها لاختلاف النقاد في تناوله وتلقيه وتعدُّد ترجماته (خريس، 2001، 21- 27)، وتعدُّ الناقدة ليندا هتشيون (1947م) أول من قدَّم نظرية متكاملة للسرد الماورائي أو الميتافكشن.. مؤكدة أنه “ليس جنسًا أدبيا مستقلا، بل هو نزوع يتولد من داخل الرواية، وكالنظر في المرآة يعكس (الميتافكشن) إجراءات البناء التخييلي، وقد يهدمه” (محمود، 2021، 291) وهذا الميتا سرد يؤثر في تغيّر زاوية الرؤية، وإعادة توضيح القضايا الكثيرة التي ظلَّت غير مكتملةٍ لدى الرواة السابقين (الناسخ/فارعة/ذو الساق)، والميتاسرد ميزة جمالية تجريبية يلجأ كتَّاب الرواية إليها “من أجل أن يخرجوا على كلاسية الرواية ونمطيتها”(صالح، 2017، 34)، وهي تقنية نصية سردية تتذرَّع بالتخييل والتجريب والتشكيل حين يرتد السَّرد فيها على ذاته، ويحيل عليه بوصفه موضوعًا من موضوعاته، فما هو إلا نمط من الكتابة الروائية” (الشوابكة، 2013، 641). بل تعدُّ “علامة أساسية من علامات حداثة النص الروائي في الأدب العربي الحديث”(الباردي، 2014، 77).
تظهر هذه التقنية السردية في الزيادات التوضيحية على رواية فارعة، ورواية الراوي الرئيس (الناسخ/صعفان) وذكريات (جوذر) معها حين كانت في صنعاء، ومع (شوشانا) التي لم تكن سوى (شوذب) نفسها، وقد أخفت ذلك عليه؛ لأنها كانت قد عادت من حراز شخصيةً أخرى، افترقت فيها طرقهما، فهي قد صارت في خدمة المذهب الإسماعيلي، وستقوم برسالة جديدة، هيأتها لها الملكة أسماء بنت شهاب، بالتواطؤ مع والدها المعلم صعصعة.
وكذلك توضِّح في روايتها صدق محبته لها، وإدراكها هي لذلك الحب، وأنها في المقابل ظلَّت تعتني به وتجعله قريبًا منها طوال حياتها وحياته، وبيَّنت أنها من أشارت على الملكة الحرة سيدة باستدعائه وإبقائه في دار النسخ، ثم حين تولَّت الحكم هي من أمرت برفعه إلى السَّطح، وخلعت عليه الملابس والعطايا للعناية به، كما أنها هي من أمرت فارعة باللقاء به، وخدمته، وقد عرفتْ محبتها له ومراسلاتها معه، وأنها من وضعت تلك اللفافة السحرية بين يديها، كما أنها هي من استعادتها من صعفان بعد ذلك دون علم منهما، “لم يكن من سحر فيها.. هي فقط من رقوق صُنعت في حيِّ اليهود بغرض المراسلات السريَّة”(ص278)، ودون أن تُعلِمَها بما عرفته، ظلَّت تتابع حكايتها معه، ولكنَّ موتها الغريب واستسلامها دون شكوى، وانتظارها للأجل صدمها، حين انشغلت بأمور الحكم عنها، وظنَّت أنها ستعود وتخرج من حالتها تلك، ولكنها ماتت، لتنتقل أروى بسبب موتها إلى حالة أخرى تتأمَّل فيها الحياة، وطبيعة السلطان والملك، وقسوة الإنسان، وغيرها مما اكتشفته من أمور أعادت نظرتها للحياة، وهنا تتضح طبيعة الشخصية النامية بكلِّ جوانبها وتغيراتها.
وتتابع روايتها من خلال ما كتبته من أحداث تاريخية وما رصدته من يوميات -بحسب نصيحة صديقتها فارعة بأن تدوّن ما تعيشه، التي استفادتها أصلًا من الناسخ- وهكذا تأتي روايتها مكملةً لثغور كثيرة تركها الراوي الرئيس في النصِّ الروائي عمدًا؛ لتأتي هي فتكمله من وجهة نظرها، وتسدُّ جوانب كثيرة تركها الكاتب مشرعةً ومقصودةً؛ لتكون من أسباب تنويع السرد ومن أساليب التشويق فيه.
ومن تلك الاستكمالات الميتاسردية -مثلًا- أنها تروي سبب موت الشاعر اليامي (القزم) الذي كان يضايقها، ويتقرَّب إليها بإلحاح، ويشغلها عن أمورها، فهي من أشارت على الملكة بإرساله للحرب مع النجاحي، ومات في تلك المعركة، كما ذكرت فارعة ذلك من قبل وروته في كُتيِّبها، ولكن الجديد الذي تعيد سرده أروى هنا، هو أنها هي من أرسلت بعده من يقتله “ولا يعرف أحدٌ أنها هي من أرسلت قاتله.. ثم أعلنت حزنها على شاعرها الكبير.. لتتقبَّل العزاء في أحد أنبل فرسانها (ص298).
ومنها حديثها عن العرَّافة اليهودية التي نقشتْ ذلك الرمز على يد “جوذر”، وظنَّ أنها خالتها كما عرفته عليها. (ص296).
ومنها سبب استدعاء (جوذر) إلى (ذي جبلة) وبقائه في دار النَّسخ، وقد ضَّحت أنها هي من أشارت على الملكة بذلك (ص297) وغيرها من التوضيحات التي جلَّت السَّردَ وبيَّنت التساؤلات التي ظلَّت عالقة من قبل.
ومن أساليب التنويع في السَّرد وفي روايتها أيضًا-بعد الذي ذكرته في تلك المخطوطة من معلومات وأحداث وشخصيات وحياة- توضيح نهاية الملكة بقولها: “ما كنت أخشاه قد حلَّ.. فلم تبدأ سنة 531هـ حتى عجزت ساقاي عن حملي.. وفقدتُ القدرة على النهوض من فراشي.. وإن ظلَّ عقلي آخر حصوني يقظًا، فكثيرًا ما يسترد كل ما عشته.. لكنني خفت من أن يخذلني يومًا.. أو من أن أصاب بالخرف.. لذلك سارعتُ إلى خطِّ وصيتي.. أستسقي من أمسي ما يؤنسني منتظرة ذلك الزائر الرهيب”(ص304).
هذه كانت نهاية المخطوطة ويعود بعدها الراوي الرئيس إلى حاضر سرده، ويمزج بين أسلوبه على امتداد الرواية في المداخلة ما بين المقروء وإتاحة الفرصة للرواة الآخرين، وبين حديثه المباشر (حاضر السرد) وبين الاسترجاع من خلال (تذكُّره للأحداث قبل سنوات بعيدة) وهذه الطريقة ظلت هي المسيطرة على أسلوب الرواية حتى النهاية، ولكن تأتي النهاية مختلفة؛ حيثُ يحيل الراوي إلى غرائبية الحوار والنزول عبر درجات السلَّم في القصر من خلال غرف السرداب ووصوله إلى توابيت الموتى، وهناك يقرأ نحتًا على جدار كُتب فيه: “قيل إن الجنة هناك في الآخرة.. تتجاور وجهنم.. ولا يدركون أن جهنم هي سجن الروح في الجسد.. والجنة خروجها وامتلاك حريتها”(ص305).
هنا تبرز فلسفة الراوي وفهمه للروح والجسد والصراع بينهما، ويؤكد حرية الروح وأنه “ليس على الروح سلطان لأنها روح قُدُس من روح الله”(ص305). وبهذا النحت يضع السارد آخر أساليب تنويع السرد لديه، ليدخل في عالم الموتى وغرائبية الحوار معهم، وهو في ذلك المكان: “يعلو تلك الأسطر نحتٌ للرمز الأعظم يملأ الجدار.. وعلى رفٍّ بلوري تحته وُضِعت كأسٌ هي ذاتها التي حدَّثني عنها ذو السَّاق.. يحاذي الجدار تابوتٌ اتجاهه مختلف عن اتجاه صفوف التوابيت الأخرى.. وأيضًا حجمه أصغر.. رصَّت حوله صناديق مترعة بالحلي والمجوهرات..”(ص306).
هذا الوصف هو آخر محطات الراوي الرئيس، وهو يصف ذلك السرداب ويحاور الموتى الذين يتحركون عند وصوله، وهو يحمل مشعله، فيقول الصوت الصغير: “لم يعد لنا من أمان هنا بعد وصول الغريب.. فليستيقظ الجميع”(307) ويتجهون نحوه في وصف غرائبي كافكاوي، يقول: “تحركت الصفوف البيضاء نحوي من جديد.. لا أعرف إلا أن عراكًا نشب بينهن.. تطايرت أطراف بعضهن.. سقطت رؤوس دون أثر لدماء.. كانت فقط تتكسَّر وتتبعثر الأطراف كما لو أنها ضربت بمعاول صلبة.. عاد صدى الصوت: – مولاتي أميرة المؤمنات طيبة هلَّا تتكرمي بوقف قتالهن.. وتأذنين لي بالحديث إليه؟”(ص308).
وهنا تبدأ أروى -بطريقة جديدة- رواية آخر ما تريد إيصاله لجوذر/الناسخ، وتبدأ بنفس المقدمات الديباجية كما في الرسائل، وفي مخطوطتها السابقة، ولكنها هنا تكون بخطاب أشبه بالحوار المباشر بينها وبينه، فتقول: أبرأ إليك ربي.. من تعفو وتصفح، كريم الشأن ليس لك قرين…الخ”(308).
ثم تحاوره مبتدئةً بهذا السؤال: “ما الذي قادكَ إلى عالمنا وجرح سكينتنا ونحن ننتظر زمانًا يخصُّنا؟ وعليك أن تعلم أني أنا أروى أو كما تحب أن تسمِّيني “شوذب” وتلك كتب معلمك.. وهي الكتب التي تعبث بها.. فبها سنسير حين يحين زمننا”(309).
وهكذا نلاحظ أنَّ الزمن هنا زمن لاحق للزمن الذي عاشه الراوي من قبلُ، وكذلك فيه إشارة إلى أهمية الكتب المدفونة معهم التي تعبِّر عن أيديولوجية الدعوة وطبيعة المذهب الشيعي الإسماعيلي. وكأنَّ الراوي قد تسلَّل بهذه الحيلة إلى عالم الموتى، حين كان في سطح القصر الذي ظلَّ فيه زمنًا غير معلوم مع شجيراته وغربانه وجوعه، ثم تحدثه أروى مخاطبة له بآخر أسمائه “صعفان” “أو كما تحب أن تكون “جوذر” وأسألك عما قرأته في صفحاتي التي أوصيت بها لك”(ص309).
وهنا نلاحظ تتابع السَّرد ووعي السارد بهذا النسيج الذي ينوِّعه ما بين أساليب السرد المختلفة، ويربط بينها، وهي هنا ستعترف له بقربها منه وأنها تركت له تلك الأوراق لتجلِّي ما التبس عليه في حياته. ثم تبيّن له أنَّ يقينه لم يكذبه، فتقول: “فأنا شوذب.. وفي الوقت نفسه لستُ شوذب.. وقد تعرَّفتَ إليَّ حين نظرتَ إلى وجهي المسجَّى.. ثم من خلال آخر ما كتبتْه فارعة في دار النسخ.. وهي الآن تسمعُنا بين جموع المراقد”(ص309).
هذا الاعتراف والربط بعالم الموتى يقودنا إلى المشاركة في لعبة السرد والاندماج -بوصفنا قراء- مع فاعلية المشاركة والتخييل فيه، ويدعو إلى السؤال: هل يحيل ذلك إلى تخييل عجائبي مُلبس؟ يضعه الكاتب من خلال رواته الذين يترك لهم حرية التعبير والحديث والحياة خارج سيطرته عليهم وهيمنته لحياتهم، أو أنه يُشركنا في بناء هذا العالم الذي له مرجعيته التاريخية لكنا نبنيه معه بطريقة فنيَّة تخييلية تفاعلية؟ ربما يكون هذا أو ذاك هو ما قصده الكاتب، وأراد وضع المتلقِّي في اندماج مع عالم الرواية التخيلي.
وذلك أسلوب تجديدي في عالم الرواية التجريبية، حيث تتعدَّد الأصوات وتتداخل في نسيج يفوق مجرد السرد التقليدي لخلفية مرجعية أو لرواية تتخذ من التاريخ وعاءً مرجعيًّا لها بمسميات شخصياته المعروفة تاريخيًّا، لكنها تنتقل إلى عالم الرواية الجديدة بتصوراتها وحيواتها وشخصياتها المختلفة التي تحمل روح العصر وطبيعة إنسانه وقضاياه، كما تحمل مقصدية الفنِّ وتقديم عمل روائيٍّ بالدرجة الأولى.
هكذا تتحدَّث أروى /الراوية المتخيلة، (أروى الكاتب) وليست بالضرورة (أروى التاريخ) فتربط بين حياتها مذ كانت صبيةً عائدةً من جبال حراز، وهي (شوذب)، وبين الأحداث التاريخية حين تقول له: “وقد تتذكَّر أنه في تلك الأيام كان الملك علي محمد الصليحي وزوجته الملكة أسماء بنت شهاب يعدّان العدَّة لإعلان دعوتهم الإسماعيلية من جبال حراز.. وكان إمام صنعاء يرقب ما يدور وسلاحه القمع.. لتكتشف عيونه ذلك الدور الذي يقوم به المعلم سرًا.. ليسحل المعلم ويحرق دكانه على مرأى منك.. ثم تحبس أنت في ظلمة الله -كما سميتها أنت- بتهمة الترويج لكتب الدعوة الإسماعيلية.. قد لا تعرف من كان وراء إخراجك منها بعد دخول الصليحي صنعاء!”(ص309).
وربما يكون هذا المقطع هو إعادةٌ لبناءٍ ميتاسرديٍّ لروايته السابقة (ظلمة يائيل) التي أعاد الكاتب بناء بعض أحداثها وشخصياتها بناءً جديدًا مختلفًا في رواية (مملكة الجواري)، وإن كان قد استفاد من امتداد ذلك العالم وتلك الشخصيات في هذه الرواية التي قد تمثِّل من ناحية أخرى ثنائيةً روائيةً متكاملة.
وبهذا تتلاقى أطراف السرد في هذه الرواية ويكتمل البناء من خلال هذه الأحداث التي ترويها (أروى/شوذب) وتوضِّح بها ما سبق من علامات الاستفهام التي ظلَّت وقودًا محفزًا للتشويق في الرواية، ورسمت حالة من الترقب والغموض التي استنفدت حياةً كاملةً عاشها ذلك المسكينُ (جوذر) ليكتشف أنه لم يكن سوى ضحية لقدر كبير ظلَّ يتلاعب به طوال حياته، وهو مجنَّدٌ لخدمة الدعوة التي قاده إليها حبُّه لشوذب، ولم يقده اقتناعه بالمذهب أو بالدين أصلًا؛ لأنَّه كأيِّ شخصية إشكالية معاصرة لا يؤمن بتلك الأيديولوجيات، ولا يدعو إليها، بل يدعو إلى العقل وسلطانه، ولكنَّه يندرج ضمن دائرة كبيرة، ودوَّامة قدريَّة تسلبه الحركة والإرادة الحقَّة لاختيار مصيره.
ولهذا تكاشفه أروى بالمصير الواحد وأنها كانت دومًا بجواره فتقول: “قد تظن أننا لم نعش سنواتنا معًا.. لكنَّا كنَّا نسبح في نهر الأيام ذاته.. تلك النهارات والأماسي.. وتلك الروح الواحدة كانت تسكننا.. كنتُ قريبةً منك وأعرف ما يدور معك وحولك.. بينما أنت لا تعرف عن حياتي شيئًا.. فتلك الحياة ليست حياتي.. وما كانت فارعة تكتبه إليك لا يعني حياتي.. فقد ذكرت لك بيلسان.. فهل كنتَ تعرف أنتَ من هي بيلسان؟ بينما كنتُ أنا أعرف حياتك في صنعاء.. ثم تعرف أنت بقية الحكاية.”(ص311).
هذه المكاشفة جعلت أروى (الراوية الرابعة) تكمل حلقات السرد، وتعيد تعبئة نواقص الفراغات التي ملأها السارد، ثم أكملها بهذه الطريقة من خلال استخدام الرواة المتعدِّدين لتكون تلك التقنية التجريبية دليلًا على وعي الروائي بطبيعة عمله الفني، فهؤلاء الرواة يقدِّمون أدوارًا “خيالية تتصل قبل كل شيء بالفنِّ، فهم رواةُ قصَّةٍ فنيةٍ، والمخاطبون قراء، والعقد بينهم جميعًا هو عقد قراءة فنية”(الباردي، 1993، 264) تعدَّدت فيها الأصوات لتقديم عمل يحمل الكثير من الحبكة الروائية المتميزة.
- المثقفُ راويًا:
يأتي هذا الراوي في رواية (الهامش) وهي الرواية المساندة والمتداخلة مع رواية (المتن) ذات المرجعية التاريخية -كما رأينا- وهذا الراوي سيقود السَّرد في عموم رواية (الهامش)، وهو راوٍ بضمير المتكلِّم -أيضًا- مركزي ورئيسي يعبِّر عن حياة موظف مثقف في إدارة المخطوطات بوزارة الثقافة، يتعرَّض للفصل من عمله وللسجن بسبب فساد النظام السَّابق، ويبدأ سرده من نقطة زمنية محددة، هكذا: “كان خروجي من السجن مع بداية 2010م..أصحو باكرًا باحثًا عن عمل.. أجولُ بداية شارع جامعة صنعاء حيث باعة الكتب المستعملة.. ثم الدائري الغربي.. لأنتهي قبيل الظهيرة في ميدان التحرير مستعرضًا عناوين صحف الأكشاك.. مارًّا على باعة كتب الأرصفة.. ثم على مقهى مبنى وزارة الثقافة.. وقبل عودتي إلى سكني أعرّج على سوق القات أبتاع قليلًا من أغصانه وأجلس منهكًا لمضغه. أخرج نسختي من مخطوطة جوذر من تحت فراشي.. أواصل قراءة أوراقها من حيث انتهيت قبل سجني.. أقرأ بداية بعام 470هـ”(ص10).
هذا الاستهلال في بداية الرواية الرديفة (الهامش) كفيلٌ بتعريفنا بطبيعة الراوي الذي سيستمر في الرواية بضمير المتكلم والرؤية المصاحبة لحياته والأحداث التي سيعيشها في العام 2010 وهو عام ما قبل “ثورة 2011م”، وكيف سيتعرض لموضوع الفساد بإشارات دالة من خلال بيع الكتب المدرسية والمتاجرة بالمخطوطات وغيرها، ويوضح أنَّ العصابات جميعها مرتبطة بالنظام الحاكم وبشخصية الرجل الكبير (الرجل الأول) في التوجيه المعنوي المقرَّب من زعيم البلاد، وهكذا يمضي الراوي في سرد أحداثٍ واقعيةٍ يسجِّلها بطريقة أقرب إلى الوثائقية واليوميات، وصولًا إلى أحداث الثورة ومجرياتها ويومياتها في ساحة الجامعة، وما دار فيها من انضمام لصفوف الثورة من قبل الأحزاب السياسية، ثم القيادات العسكرية الكبرى والصغرى، ويبيِّن اختلاف المطامع وتعدُّد الرؤى لدى الناس في الساحات، وكذا يبيّن علاقته السببية بالمخطوطة وبالرواية (المتن) بأنَّ نسخة (جوذر) التي صوَّرها من دار المخطوطات هي نموذج للتاريخ العظيم الذي أثار الشباب في الساحات، فدعوه إلى سردها بعد أن أعاد إليه الضابط نسخته التي فقدها عند التحقيق معه، وكيف بدأ في سردها أثناء ليالي الساحات مصحوبةً بالمعزوفات الموسيقية، والرقص الذي كان يجيده منذ أن تعلَّمه من زهرة “أحلى الخوادم”(ص127)، وكيف علَّمته فنون الاستجابة للطبل وترك جسمه لإيقاعات الطبل تقوده بحرية للفن، وكيف أُعجبتْ به الأستاذة المثقفة صاحبة الوعي الثوري والناشطة في المنظمات المجتمعية، وقادته إلى منزلها ورقصا معًا بإغراء الجسد وممارسة اللذة، وغيرها من الأحداث التي رواها هذا الراوي ، وكانت ذات طابع تسجيلي أكثر منه تخييلي، ولأنَّ دوره مكمِّلٌ للمتن من ناحية، ومسبَّبٌ في حضوره عنه، جاءت الرواية الرديفة كنوع من أساليب المحققين للتراث حين يكون للمتن هامشًا يسير معه ويؤدي دوره، وهذا مما يحسب من أساليب التجديد في الرواية، لكن هذا النص ينبني على حكاية هي تسجيل لحكاية اليوم التي لا تختلفُ عن حكاية الأمس ممثلةً في صراع الأيديولوجيات التي كانت حاضرةً في التاريخ بالمذهبيات، وهي حاضرة اليوم بالحزبيات التي بدت في ساحة الثورة، وكما أنها لا تخلو من مقصدية واضحة تتمثل في وصف طبيعة اليمنيين وتكويناتهم المعقَّدة باختلاف مشاربهم، وهي التي ورثوا بسببها الصراع من أمسهم، كما مارسوا الأيديولوجيات كابرًا عن كابر في يومهم، يحركهم الواقع المعيش المتشابك بين مؤيد ومعارض، لأناس يموتون في ساحات المعارك ليقوم على ركامهم وجثثهم السلطان بتجبره ومطامعه وأيديولوجياته.
الخاتمة:
برزت أهمية الرواية وعمقها الأدبي والفلسفي والأيديولوجي والاجتماعي؛ حيث أثارت الكثير من القضايا الجوهرية والإشكاليات المتجدّدة في حياة الإنسان اليمني وصراعه الدائم بين الخير والشر، وإشكاله المستمر في فهم الحياة، وفهم نفسه، ورؤيته للواقع من حوله.
وتعدَّدت الأصوات وتنوَّعت وجهات النظر السردية في هذه الرواية المكتنزة بالرواة المتعددين وبطرائق رواياتهم لشخصياتهم وللأحداث وللتاريخ وللواقع في ضفيرة سردية عجيبة ذات بناء محكم وطرائق متنوعة، أتاح لها تعدُّد الراوي هذا الوهج السردي، وذلك العمق الدلالي في بنية الرواية المعاصرة وإشكالاتها المثيرة للجدل وللتأمل في آن معًا.
لم تخرج تجربة الروائي اليمني الغربي عمران عن مدار البحث عن المثاقفة، والسعي إلى التأصيل، في مجموع أعماله الصَّادرة حتى الآن، وكان هاجس التجريب يظهر في تقديم الجديد في كلِّ عمل روائي يقدِّمه بآفاق مختلفة ومحاولات متعدِّدة، يشتغل فيها على أكثر من عنصر سردي.
سعى هذا النص الروائي إلى تقديم نصٍّ تجريبي يقوم على اشتغالٍ مركَّز في آليات الخطاب السردي، وتنويع العرض بما يكسر من الرتابة في بنية الرواية التقليدية.
المصادر والمراجع:
- إبراهيم، عبد الله: (1990م) المتخيَّل السردي؛ مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة، المركز الثقافي، بيروت، الدار البيضاء.
- الأعرج، واسيني: (1993م) مأزق الرواية العربية، أسئلة النشأة، أسئلة المثاقفة، مجلة المساءلة، اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر، عدد (4-5) ربيع، صيف 1993م.
- الباردي، محمد: (1993م) الرواية العربية والحداثة، دار الحوار، اللاذقية.
- الباردي، محمد: (2014م) الحداثة وما بعدها في الرواية العربية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
- بوطيب، عبد العالي: (1992م) مفهوم الرؤية السردية في الخطاب الروائي بين الائتلاف والاختلاف، مجلة مكناسة، المغرب، العدد6، يناير 1992م.
- توماشفسكي، بوريس: (1982م)، نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشَّكلانيين الروس، ترجمة: إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت.
- خريس، أحمد: (2001م) العوالم الميتاقصّية في الرواية العربية، دار الفارابي، بيروت، ودار أزمنة، عمان.
- الشوابكة، سمية: (2013م) الميتاقص تجريبا روائيا- قراءة في أعمال الروائي المصري يوسف القعيد: الحرب في بر مصر، ويحدث في مصر الآن، وثلاثية شكاوى المصري الفصيح، مجلة جامعة النجاح، نابلس، مج27 العدد3، 2013م.
- صالح، هويدا: (2017م)، الخطاب الميتاسردي في “طوق الطهارة” ضمن ملف بعنوان (بلاغة الخطاب الروائي في روايات محمد حسن علوان)، مجلة الجوبة الثقافية، سكاكا الجوف، العدد 57، خريف 1439 (2017م).
- عمران، محمد الغربي: (2017م) مملكة الجواري، نوفل، (دمغة الناشر هاشيت أنطوان) بيروت.
- العيد، يمنى: (2010م) تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، دار الفارابي، بيروت.
- فضل، صلاح: (1998م) نظرية البنائية في النقد الأدبي، دار الشروق، القاهرة.
- قسومة، الصادق بن الناعس: (2009م) علم السرد (المحتوى والخطاب والدلالة) سلسلة الرسائل الجامعية (107) جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
- لحمداني، حميد: (1991م) بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء.
- لطرش، صليحة (2018م): التجربة الحداثية في رواية “ذاكرة الماء” لواسيني الأعرج، مجلة الحكمة للدراسات الأدبية واللغوية، الجزائر، العدد (13)، 2018م.
- محمود، أحمد عادل غازي:( 2021م) جماليات الميتاسرد في فنون ما بعد الحداثة، مجلة كلية التربية الفنية، جامعة حلوان، المجلد (21) العدد1، يناير 2021م.
- مرتاض، عبد الملك: (1995م) تحليل الخطاب السردي؛ معالجة تفكيكيَّة سيميائيَّة مركبة لرواية زقاق المدق، ديوان المطبوعات الجامعية (سلسلة المعرفة) الجزائر.
- يقطين، سعيد: (1997م)، تحليل الخطاب الروائي (الزمن-السرد- التبئير) المركز الثقافي، بيروت-الدار البيضاء.
الهوامش:
-
() كاتب يمني، مواليد ذمار، 1958م، ماجستير تاريخ، عضو في الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكتَّاب اليمنيين، يرأس نادي القصة اليمنية (إل مقه) ومركز الحوار لثقافة حقوق الإنسان. في رصيده الكثير من القصص والروايات، منها: مجموعة الشراشف،1997م، ومجموعة الظل العاري، 1998م، ومجموعة حريم أعزكم الله، 2000م، ومجموعة ختان بلقيس، 2002م، ومجموعة منارة سوداء، 2004م، وله من الروايات: “مصحف أحمر” (2010)، و”ظلمة يائيل” (2012) التي فازت بجائزة الطيب صالح في دورتها الثانية عام 2012م. وصدرت بأكثر من عنوان: منها: يائيل، والطريق إلى مكة، 2013م، ورواية “الثائر” 2014م، ورواية “مملكة الجواري” 2017م، ورواية “حصن الزيدي” 2019م. (المصدر: غلاف الرواية) ويمكن مراجعة: مجلة التواصل، جامعة عدن، العدد19، يناير2008م، ص241، (ملف خاص عن الكاتب)، وكذا ينظر: ويكيبيديا الموسوعة الحرة. ↑