تفسير سفيان الثوري وتفسير سفيان بن عُيّينة – دراسة مقارنة

محمد مصطفى المصطفى1

1 باحث ماجستير في معهد التعليم العالي/ قسم العلوم الإسلامية الأساسية في جامعة كوتاهيا دوملوبينار/ تركيا

أوركيد: 3409-1323-0004-0009

بريد الكتروني: mgsmm411411aaa@gmail.com

HNSJ, 2023, 4(11); https://doi.org/10.53796/hnsj41116

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/11/2023م تاريخ القبول: 20/10/2023م

المستخلص

إنّ كتب التفاسير في عهد التابعيين على قلّتها إلّا أنها تبقى من أهمّ التفاسير؛ لأنّ كثيراً من المفسّرين اعتمدوا على هذه التفاسير وتأثّروا بها ونقلوا منها الكثير، وهذا ما نلاحظه عند الطبري وابن كثير والقرطبي وغيرهم.

وانطلاقاً من هذا فقد آثرت في هذا البحث أن أدرس تفسيرين من تلك الحقبة وهما (تفسير سفيان الثوري وتفسير سفيان بن عُيّينة) دراسةً مقارنةً، فعرضت حياة المفسرين وأهمية تفسيريهما، ثمّ بيّنت أهمّ المصادر التي اعتمد كلُّ واحدٍ منهما عليها، وطريقتيهما، ثمّ عرضت لمنهجهما الاعتقادي وأثره في تفسيريهما، وبعد ذلك عرضت نماذج من التفسيرين لبعض آيات القرآن الكريم.

واعتمدت في هذا البحث على المنهج الاستقرائي المقارن، فقمت باستقراء أهم ما تمييز به تفسير سفيان الثوري، وأهم ما تمييز به تفسير سفيان بن عُيّينة، ثم قمت بالمقارنة بين التفسيرين واستخلاص الجوانب التي اتفق بها التفسيران، والجوانب التي اختلافا فيه.

ومن أهمّ النتائج التي توصّلت إليها أنّ كلا المفسرين اعتمدا على العبارات المختصرة في تفسيريهما، كما اعتمدا على النقل عن السلف كثيراً ولا سيّما عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، وأنّ ابن عُيّنة اعتمد على ما قاله الصحابة رضوان الله عليهم، بينما اعتمد الثوري على أفعال الصحابة.

الكلمات المفتاحية: تفسير، سفيان الثوري، سفيان بن عُيّينة، دراسة مقارنة.

Research title

Tafsir Sufyan al-Thawri and Tafsir Sufyan bin Uyaynah

A comparative study

MOHAMAD ALMUSTAFA1

1 Master’s researcher at the Institute of Higher Education/Department of Basic Islamic Sciences at Kutahya Dumlupinar University/Turkey

ORCID: 0009-0004- 1323-3409

Email: mgsmm411411aaa@gmail.com

HNSJ, 2023, 4(11); https://doi.org/10.53796/hnsj41116

Published at 01/11/2023 Accepted at 20/10/2023

Abstract

Despite their scarcity, the tafseers (exegesis) of the Tabi’un period remain some of the most important tafseers. This is because many of the mufassirun (interpreters) relied on these tafseers, were influenced by them, and quoted from them extensively. This can be seen in the works of al-Tabari, Ibn Kathir, al-Qurtubi, and others.

Based on this, I chose to study two tafseers from that era in this research: the tafseer of Sufyan al-Thawri and the tafseer of Sufyan ibn ‘Uyaynah. I presented the lives of the mufassirun and the importance of their tafseers, then I explained the main sources that each of them relied on, their methods, their theological approach and its impact on their tafseers, and then I presented examples from the tafseers of some verses of the Quran.

In this research, I relied on the inductive comparative approach. I studied the most distinguishing features of the tafseer of Sufyan al-Thawri and the most distinguishing features of the tafseer of Sufyan ibn ‘Uyaynah, then I compared the two tafseers and extracted the aspects in which they agreed and the aspects in which they differed.

Some of the most important findings to which I came are that both mufassirun relied on concise phrases in their tafseers, as well as relying heavily on quotations from the salaf, especially from Abdullah ibn Mas’ud and Abdullah ibn Abbas. Ibn ‘Uyaynah relied on what the Sahabah (Companions of the Prophet) said, while al-Thawri relied on the actions of the Sahabah.

Key Words: Interpretation, Sufyan Al-Thawri, Sufyan bin Uyaynah, a comparative study

مقدمة:

موضوع البحث: موضوع تفسير سفيان الثوري وتفسير سفيان بن عُيّينة ومصادرهما ومنهجهما وأهم النقاط التي اتفق فيها المفسران، وأهم النقاط التي اختلفا فيها.

مشكلة البحث: لا شك أن للتفاسير التي ألفها التابعون أهمية كبيرة في رسم ملامح ومناهج التفسير التي سار عليها من جاء بعدهم، ولكن هل كانت هذه التفاسير واحدة سواء من حيث المصادر التي اعتمدوها أو من حيث الطريقة والمنهج، أم كانت مختلفة؟

حدود البحث: حدود البحث هي تفسير سفيان الثوري وتفسير سفيان بن عُيّينة.

أهمية البحث: أهمية هذه الدراسة تكون في معرفة طريقة تفسير السفيانين لآيات القرآن الكريم والمقارنة فيما بينهما.

لم أجد من قام من الباحثين بالتنقيب عن هذا الموضوع وبيان آلياته ودراسته نظريا وتطبيقيا على القرآن الكريم، وتتجلى أهمية هذا البحث على وجه الخصوص في:

  1. كونه يبحث موضوعا من موضوعات القرآن الكريم.
  2. بيان أهمية دراسة موضوعات القرآن الكريم والبحث فيها.
  3. تعلّم آليات وأساليب التابعين في التفسير.

أهداف البحث: يسعى البحث لعدّة أهداف، أهمها:

  1. إبراز أهمية تفسير سفيان الثوري وتفسير سفيان بن عُيّينة.
  2. الكشف عن أهمية كل من تفسير سفيان الثوري وتفسير سفيان بن عُيّينة.
  3. بيان أهم النقاط التي اتفق بها السفيانان، وأهم النقاط التي اختلفا فيها.
  4. بيان طريقة السفيانين في تفسيرهما ومصادرهما ومنهجهما.

منهج البحث: لقد اعتمدت في هذا البحث على المنهج الاستقرائي المقارن، فقمت باستقراء أهم ما تمييز به تفسير سفيان الثوري، وأهم ما تمييز به تفسير سفيان بن عُيّينة، ثم قمت بالمقارنة بين التفسيرين واستخلاص الجوانب التي اتفق بها التفسيران، والجوانب التي اختلافا فيه، وجاء ذلك عبر:

مقدمة: ذكرت فيها موضوع البحث، ومشكلته، وحدوده، وأهميته، وأهدافه، ومنهجه، والدراسات السابقة.

المبحث الأول: عرضت فيه لحياة السفيانين، وعرّفت بتفسيريهما.

المبحث الثاني: عرضت فيه المصادر التي اعتمدا عليه في تفسيريهما وطريقتيهما ومنهجيهما الاعتقادي.

المبحث الثالث: عرضت فيه نماذج من التفسيرين.

الخاتمة: تضمنت أهمّ النتائج التي توصل إليها البحث.

الدراسات السابقة: إن أغلب الدراسات السابقة التي تناولت موضوع المقارنة بين تفسيرين لم تتناول دراسة المقارنة بين تفسير التابعين.

ولم أجد كتاباً تناول المقارنة بين تفسير سفيان بن عُيّينة وتفسير سفيان الثوري، ولكن بالبحث على الأنترنت وجد العديد من المقالات التي تناولت تفسير سفيان الثوري كثيراً. ولكن هناك قلة في عدد المقالات التي تناولت تفسير سفيان بن عُيّينة.

المبحث الأول: حياة السفيانين:

المطلب الأول: سفيان الثوري، حياته وشيوخه وتلاميذه ومكانته العلمية:

أولاً: حياته: هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، أحد الأئمة الخمسة المجتهدين، (ابن سعد، 1990م، صفحة 350) ولد سنة سبع وتسعين اتفاقاً، كان شيخ الإسلام في زمانه، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، وأحد أعلام القرن الثاني الهجري، وهو الصحيح الذي أجمع عليه أكثر المؤرخين. وكان علماً يشار إليه في العلم، والزهد، والورع، والعبادة، والحفظ، وقول الحق.

والده سعيد بن مسروق أبو سفيان من محدثي الكوفة الثقات، بينما والدته كانت صاحبة أثرٍ كبيرٍ في تنشئته نشأة صالحة، وتربيته على حب طلب العلم، والاشتغال به، فعن وكيعٍ قال: قالت أم سفيان لسفيان: “اذهب فاطلب العلم، حتى أعولك بمغزلي، فإذا كتبت عدة عشرة أحاديث فانظر هل تجد في نفسك زيادة، فاتبعه وإلا فلا تتعن” (الذهبي، 1985م، صفحة 269).

كان يقسم ليله إلى نصفين: نصفٌ لقراءة القرآن وقيام الليل، ونصفٌ لقراءة الحديث وحفظه.

كان حريصاً على عدم الفتوى إلا بما يعلمه، وحين يكون قلبه يملأه سكينةٌ ووقارٌ للفتوى، ولا تختلج بصدره أمور الدنيا، وسئل الثوري وهو يشتري عن مسألة، فقال للسائل: دعني فإن قلبي عند درهمي فلست متفرغاً لأفتيك، وقد أخطئ وأنا منشغل بالبيع والشراء. (الذهبي، 1985م، صفحة 241).

قال ابن وهب عنه: “رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودي للعشاء”. (الذهبي، 1985م، صفحة 266).

كان سفيان إماماً في الزهد والخوف من الله تعالى، ورغم أن كثيرا من أهل الزهد انتهوا في زهدهم إلى الجوع والتقشف الشديد، إلا أن سفيان الثوري كان متيقظاً لعاقبة ذلك، فكان يقول: “كان المال فيما مضى يكره، أما اليوم فهو ترس المؤمن”. (ابن حجر العسقلاني، 2007م، صفحة 33)

أثناء مرضه في البطن، وليلة وفاته، توضأ تلك الليلة ستين مرةً، ثم نزل عن فراشه فوضع خده بالأرض، وقال: يا عبد الرحمن ما أشد الموت. (الذهبي، 1985م، صفحة 278)

استمر رحمه الله عابداً لربه حتى جاءه الأجل.

ثانياً: شيوخه وتلاميذه: علا ذكرُ الثَّوريِّ وانتشر خبرُه وطارت شهرتُه بين الناس، وهو شابٌّ دون العشرين، وذلك لعلوِّ همَّته وكثرة رحلته، وشدَّة زهده وورعه، وفرط ذكائه، وسعة محفوظاته، ومازال أمرُه في علوٍّ ورفعة، حتى لُقِّب بأمير المؤمنين في الحديث، وعلى الرَّغم من أنَّ عصره كان يزخر بالعلماء والأئمَّة والحفَّاظ والأعلام الأثبات، إلا أنَّه فاقهم جميعاً علماً وعملاً، وذلك كلُّه وهو في باكر شبابه.

شيوخه: ويأتي في مقدمتهم والده سعيد بن مسروق الثوري، وهو صاحب الفضل الأول في تعليمه وتربيته تربية صالحة وتعليمه وتحبيب العلم له، ومن شيوخه: جعفر الصادق وزياد بن علاق وسليمان الأعمش وعمرو بن دينار. (الذهبي، 1985م، صفحة 231)

تلاميذه: سمي من يتبع مذهبه بالثوري أو السفياني، ومن أشهر أتباعه “أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمارة، والنعمان بن عبد السلام بن حبيب، وأبو نصر بشر بن الحارث المروزي” وغيرهم الكثير، وقد اعتمد الثوري منهجاً فقهياً مبنيٌ على الجمع بين أهل الرأي وأهل الحديث، أي أنه يعتمد بشكلٍ أساسي على قوة الدليل والاجتهاد.

وكان لمجاهدٍ مكانةٌ مميزةٌ عند سفيان ‌الثوري فيقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. (السيوطي، 1974م، صفحة 241).

ثالثاً: مكانته العلمية: برز سفيان في الحديث حتى وصل إلى أعلى المراتب: وكان يلقب أمير المؤمنين في الحديث، وكان حجةً في العلوم الشرعية الأخرى، فكان يقول: “سلوني عن التفسير والمناسك فإني بهما عليم” (محمود، 2000م، صفحة 13)، واشتهر بالرأي والاجتهاد، مما جعله يتبوأ مكانةً علميةً مرموقةً، وأهله لتأسيس مذهبه الفقهي الخاص به، كانت مرافقة الرجال له تعطيهم شرفاً كبيراً.

ومن بعض أقوال العلماء فيه: قال سفيان بن عُيّينة: كان الثوري كأن العلم ممثلٌ بين عينيه، يأخذ منه ما يريد ويدع ما لا يريد. (الخطيب البغدادي، 2002م، صفحة 163)

ويقول الأوزاعي: “لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلاً يقوم فيها بكتاب الله وسنة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري”. (الذهبي، 1985م، صفحة 249)

ويقول عبد الله بن المبارك: “كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان”. (الذهبي، 1985م، صفحة 237)

وذكر الحافظ في التهذيب عن علي بن المديني قال: قلت ليحيي بن سعيد: أيما أحب إليك رأي سفيان أو رأي مالك ؟ قال: سفيان لا شك، سفيان فوق مالك في كل شيء. (ابن حجر العسقلاني، 1327هـ، صفحة 115)

المطلب الثاني: سفيان بن عُيّينة، حياته وشيوخه وتلاميذه ومانته العلمية:

أولاً: حياته: هو سفيان بن عُيّينة بن أبي عمران، الإمام الكبير، حافظ العصر، شيخ الإسلام، أبو محمد الهلالي، الكوفي، ثم المكي. ولد سنة 107 هجري ومات أول يوم من رجب سنة 198 هجري. (الذهبي، 1985م، صفحة 455)

كان والده والي الكوفة أثناء حكم خالد بن عبد الله القسري علي دولة العراق، ولكن تم عزل خالد وتولى بدلاً منه يوسف بن عمر الثقفي، وعندها انتقل أبو سفيان إلى مكة المكرمة، ولهذا يمكن القول إن سفيان بن عُيّينة نشأ وترعرع في مكة المكرمة.

كان لسفيان بن عُيّينة العديد من الصفات المميزة، فكان زاهداً، أميناً، ويشتهر بالتواضع الشديد والعلم والزهد، ويعمل بصورة دائمة على الدعوة إلى مكارم الأخلاق والورع والابتعاد عن السلطان.

ثانياً: شيوخه وتلاميذه: سافر كثيراً، ولقي علماء كثيرون، بدأ بدراسة علم الحديث عندما كان صغيراً في السن، حيث درسه على يدي أئمة التابعين، فقابل كثيرين، منهم: زيد ابن علاقة، وابن شهاب الزهري، وعمرو بن دينار، وداود بن أبي هند، والشيباني، وسليمان التيمي، وأيوب السختياني، وعبد الملك بن عمي، وفي المقابل اعتمد على ابن عُيّينة العديد من أئمة الحديث مثل: أحمد بن حنبل والشافعي وابن المديني، وإبراهيم الرمادي، وابن مبارك. (الذهبي، 1985م، صفحة 455)

كما قام سفيان بن عُيّينة بجمع أحاديث أهل الحجاز والعراق، وتمكن من التفوق على الإمام مالك في نقل الأحاديث وحكمها.

حتى قال الشافعي عنه: “لولا علم الحديث الذي كان يمتلكه سفيان بن عُيّينة لذهب جميع علم الحجاز”. (الذهبي، 1985م، صفحة 457)

شيوخه: أهم شيوخه هم: عمرو بن دينارٍ، وزياد بن علاقة، والأسود بن قيسٍ، وعبيد الله بن أبي يزيد، وابن شهابٍ الزهري، وغيرهم، وتفرد بالرواية في الحديث عن خلقٍ من الكبار. (السيوطي ج.، 1403هـ، صفحة 119)

تلاميذه: حدث عنه: الأعمش، وابن جريجٍ، وشعبة، وهؤلاء الثلاثة هم من شيوخه، وهمام بن يحيى، وزهير بن معاوية، وحماد بن زيدٍ، وغيرهم كثيرون. (الذهبي، 1985م، صفحة 456)

وقد كان طلبة العلم يتحملون مشقة السفر، والذهاب إلى الحج والعمرة، من أجل لقاء سفيان بن عُيّينة، كونه إماماً وصاحب سند في رواية الأحاديث.

ويعتبر كل من: الحميدي، والشافعي، وابن المديني، وأحمد، وإبراهيم الرمادي.، من المكثرين في الرواية عنه. (الذهبي، 1985م، صفحة 457)

ثالثاً: مكانته العلمية: كان سفيان بن عُيّينة يقول: أول العلم الاستماع، ثم الإنصات، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر، (أبو نعيم الأصبهاني، 1974م، صفحة 274) وكان يقول أيضاً: من زيد في عقله نقص من رزقه. (الذهبي، 1985م، صفحة 461)

وكان هذا الإمام أمةً وحده. فيما يتعلق بتفسير القرآن. كان رجلاً قرآنياً. وقد فتح الله عليه في تفسير كتاب الله .

قال عبد الله بن وهبٍ: “لا أعلم أحداً أعلم بتفسير القرآن من ابن عُيّينة “. (الذهبي، 1985م، صفحة 458)

الإمام الشافعي كان معجبًا بشيخه سفيان أيما إعجابٍ، حتى قال: “ما رأيت أحدًا فيه من آلة العلم ما في سفيان بن عُيّينة ، وما رأيت أكف عن الفتيا منه، وما رأيت أحدًا أحسن تفسيرًا للحديث منه”، (الذهبي، 1985م، صفحة 458) فهذا يوضح لك سعة دائرة سفيان في العلم وذلك لأنه ضم أحاديث العراقيين إلى أحاديث الحجازيين.

فكان عالماً كبيراً في تفسير كلٍّ من الحديث والقرآن الكريم، ويقال إنه قام بتفسيرهما أفضل من تفسير سفيان الثوري.

المطلب الثالث: التعريف بالتفسيرين:

أولاً: تفسير سفيان الثوري: تفسير سفيان الثوري – رواية أبي جعفر محمد بن أبي حذيفة النهدي عنه – صححه ورتبه وعلق عليه راجع النسخة وضبط أعلامها لجنة من العلماء بإشراف الناشر دار الكتب العلمية بيروت – لبنان.

عدد صفحات الكتاب: 482 صفحة – مجلد واحد – باللغة العربية.

لم يكن لسفيان الثوري تفسيراً معروفاً منشوراً، ولكن كان العلماء يأخذون من ذلك متناثراتٍ من مختلف الكتب.

ولكن مدير مكتبة رضا ببلدة رامبور بالهند، الأستاذ «امتياز على عرشي» عثر على تفسير القرآن الكريم للثوري، برواية أبو جعفر محمد عن أبى حذيفة النهدي وعن الثوري، فصححه ورتبه وعلق عليه، ونشر هذا التفسير سنة 1385 هـ – 1965 م.

كان سفيان الثوري يفسر آية من هنا وآية من هناك، كان يفسر الآية التي تحتاج إلى نوعٍ من الشرح والإيضاح الذي يحتاجه بعض الناس لقصورهم في اللغة، أو لقصورهم في الثقافة بشكلٍ عامٍ.

ثانياً: تفسير سفيان بن عُيّينة: تفسير سفيان بن عُيّينة – تأليف أحمد صالح محايري – الناشر دار الكتب العلمية بيروت – لبنان.

عدد صفحات الكتاب: 438 صفحة – مجلد واحد – باللغة العربية.

يتضمن الكتاب قسم تمهيد، وعدة أقسام تحدث فيها عن معنى التفسير ومعنى التأويل ومذهب العلماء في قبول التأويل، وتاريخ التفسير وتطوره، وتراجم للعلماء.

المبحث الثاني: مصادر التفسير والطريقة والمنهج الاعتقادي عند السفيانين:

المطلب الأول: مصادر التفسير عند السفيانين:

  1. القرآن الكريم:

‏لقد تمييز منهج كل من سفيان ابن عُيّينة وسفيان الثوري في التفسير بأنهما يفسران القرآن بالقرآن بالدرجة الأولى، فمثلًا نجد ابن عُيّينة يقول: قرأت القرآن فوجدت صفتين وردتا لسليمان  في قوله تعالى: ﴿نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ٣٠﴾ وقد ذكرت هذه الآية مرتين في القرآن في سورة ص، الأولى الآية 30 في قوله تعالى: ﴿وَوَهَبۡنَا لِدَاوُۥدَ سُلَيۡمَٰنَۚ نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ٣٠﴾، والثانية الآية 44 ﴿وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ ٤٤﴾، فكانت واحدة مع العافية والثانية مع البلاء، (ابن عيينة، 1983م، صفحة 314)، يقول ابن عُيّينة وجدت صفة أيوب  وردت مرة مع البلاء، ومرة مع عدم العافية، ووجدت الشكر قد قام مقام الصبر، فلما تساوتا، كانت العافية مع الشكر، أحب إلى الله من البلاء مع الصبر. (ابن عيينة، 1983م، صفحة 314)

من جهة اخرى نجد الثوري في تفسيره لقوله تعالى: ﴿لَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ كِتَٰبٗا فِيهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ١٠﴾ [الأنبياء: 10]، ذكركم يعني شرفكم. ويستشهد بالآية: ﴿وَإِنَّهُۥ لَذِكۡرٞ لَّكَ وَلِقَوۡمِكَۖ وَسَوۡفَ تُسۡـَٔلُونَ ٤٤﴾ [الزخرف: 44]، أي: شرف لك ولقومك. (الثوري، 1983م، صفحة 199).

جاء في تفسر الثوري في قوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ﴾ [البقرة: 37]، الكلمات هي قوله تعالى: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمۡنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمۡ تَغۡفِرۡ لَنَا وَتَرۡحَمۡنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٢٣﴾ [الأعراف: 23] (الثوري، 1983م).

  1. السنة الشريفة وأقوال الصحابة:

كان السفيانان يعيشان في عصر قريب من عصر الصحابة والتابعين، لذلك نجد أن تفسيريهما مستندان على الحديث الشريف كثيراً.

مثال ذلك ما أخرجه ابن عُيّينة في تفسيره لقوله تعالى: ﴿غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ ٧﴾ [الفاتحة: 7] عن عدي بن حاتم قال: قال لي رسول الله : المغضوب عليهم: اليهود، ولا الضالين قال: النصارى. (ابن عيينة، 1983م، صفحة 204).

  1. الاعتماد في التفسير على اللغة:

يتميز تفسير الثوري بالبساطة في الشرح، والبعد عن التعقيد والغموض، والاقتراب من المعنى البسيط المباشر للفظة القرآن، فكان يفسرها بكلمات بشكل مبسط ودقيق وشرح موجز.

بينما نجد ابن عُيّينة يتوسع في الجانب اللّغوي في تفسيره نتيجة تأثره بمدرسة الكوفيين، ومن ذلك ما قاله ابن عُيّينة في تفسيره لقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا ٥ إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا ٦﴾ [الشرح: 5-6] استند ابن عُيّينة في تفسيره هذا الى قاعدة نحوية هامة اعتمدها الكوفيون، وهي أن المعرفة إذا أعيدت وتكررت تكون هي نفسها، والنكرة إذا أعيدت وتكررت تكون غيرها. (ابن عيينة، 1983م، صفحة 356).

  1. الاجتهاد:

كان الاجتهاد الفقهي في آثار سفيان الثوري واضحاً، لأن سفيان الثوري صاحب مدرسة فقهية معروفة ومشهورة ومذهبه كان يتبعه كثير من الناس في عصره واستمر لسنوات طويلة بعد وفاته، فقد جمع سفيان الثوري أغلب تناقضات العصر الذي عاش فيه، لكنه استطاع أن يجمعها بالطريقة التي جعل منها جزء من تأسيس الفقه المستند على العقل.

ومن الناحية الأخرى كان سفيان بن عُيّينة شخصية مميزة في قوة الاجتهاد وعمق النظر في القرآن، فنجده في قوله تعالى: ﴿قَالَ أَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ١٤ قَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ ١٥﴾ [الأعراف: 14-15] قال ابن عُيّينة : لا يمنعن أحدكم من الدعاء، فإن الله قد استجاب دعاء شر الخلق وهو إبليس، والمتتبع لتفسير ابن عُيّينة قد يجد فيه بعضاً من العبارات أو المعاني التي تفرد بها عن غيره، فأحيانا يختار ألفاظ تشرح المعنى المطلوب بكلمات مختصرة، وهذا قد لا نجده عند غيره من المفسرين، (ابن عيينة، 1983م، صفحة 356). مثال قوله تعالى: ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢﴾ [الفاتحة: 2]، قال ابن عُيّينة في تفسير العالمين: هو جميع الأشياء المختلفة، وعبارة ابن عُيّينة هذه لم أجدها عند غيره، ولكنها دقيقة المعنى ومختصرة، ولا نجدها في تفاسير الآخرين.

  1. السفيانان والإسرائيليات:

الروايات الإسرائيلية لها ثلاثة احتمالات:

الأول: أن تكون موافقة لما جاء في القرآن الكريم، ومعززة له، وهذا لا حرج فيه.

الثاني: الروايات المسكوت عنها ولم يتم التحدث عنها.

الثالث: أن تكون مخالفةً لما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية، وهذه تكون مردودةً.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنّ النَّبِيَّ  قال: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النار» (البخاري، 1993م، صفحة 3274) هذا الحديث الشريف رفع الحرج عن المفسرين في الأخذ بالروايات الإسرائيلية وجعله جائزا.

قال أكثر العلماء: إنه لم ينج من الإسرائيليات إلا القليل من المفسرين، حتى الذين فسروا بالرأي تأثروا بالإسرائيليات.

وسفيان بن عُيّينة كان من القليل الذين نجوا منهم، وبعد تفتيش دقيق وجدت أثرين اثنين عن ابن عُيّينة في الإسرائيليات هما:

الأول في تفسير قوله تعالى: ﴿۞قَالُوٓاْ إِن يَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أَخٞ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ﴾ [يوسف: 77] قال ابن عُيّينة : سرق يوسف دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها للمحتاج. (ابن عيينة، 1983م، صفحة 360).

 الثاني في تفسير قوله تعالى: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابٗا شَدِيدًا أَوۡ لَأَاْذۡبَحَنَّهُۥٓ أَوۡ لَيَأۡتِيَنِّي بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ ٢١﴾ [النمل: 21]، قال ابن عُيّينة: لما قدم الهدهد قال له الطير: ما خلفك؟ فقد هدر سليمان دمك، فقال هل ذكر نبي الله سليمان استثناءً لعدم تنفيذ تهديده بحقي؟ فقالوا للهدهد نعم، وذكروا للهدهد هذه الآية، فقال الهدهد: إذاً نجوت. (ابن عيينة، 1983م، صفحة 360).

أما من جهة أخرى نجد الثوري كان من العلماء الذين تنبّهوا إلى هذا الخطر، وبذلوا جهدا عظيما في الدفاع عن القرآن، فوضعوا أدق القوانين للحفاظ على المأثور من الحديث والتفسير، وتشددوا في طلب الإسناد من الرواة، ولم يقبلوا حديثا إلا بسنده وبثبوت عدالة رواته وقوة حفظهم.

المطلب الثاني: طريقة السفيانين في التفسير:

كان المفسرون في عهد السفيانين يكتفون على الغالب بتفسير كلمة بكلمة أخرى وإن اضطرهم الأمر فيعتمدون على أوجز العبارات والجمل القصيرة، فكان السفيانان يوردان النص بسنده مرفوعاً إلى النبي  أو إلى الصحابي، وكانا يعلقان أحياناً على النصوص، ومثال على ذلك: تعليق ابن عُيّينة على الحديث القدسي: عن أَبَي هُرَيْرَةَ  قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «قَالَ اللَّهُ: ‌كُلُّ ‌عَمَلِ ‌ابْنِ ‌آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ» (البخاري، 1993م، صفحة 1805)، قال ابن عُيّينة: هذا من أجمل الأحاديث، لأنه يوم القيامة يحاسب الله عبده، ويؤدي العبد حقوق الناس من عمله حتى لا يبقى عنده إلا الصوم، بسبب ذلك يتحمل الله ما بقي عليه من الحقوق ويدخله بالصوم الجنة. (ابن عيينة، 1983م، صفحة 361).

المطلب الثالث: المنهج الاعتقادي عند السفيانين:

كان السلف يرون أن الإيمان يزداد وينقص، ويؤكد ابن عُيّينة في تفسيره على هذا لينبّه إلى خطأ وخطر الذين يخالفون هذا كالمرجئة والمعتزلة والقدرية وغيرهم، وهذا ما نلاحظه في تفسيره قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ ٢﴾ [الأنفال: 2]، قال ابن عُيّينة: نطق القرآن بزيادة الإيمان ونقصانه، قوله فزادتهم ايمانا فهذه زيادة الإيمان، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه. (ابن عيينة، 1983م، صفحة 364).

وسئل ابن عُيّينة عن الإيمان هل يزيد وينقص؟ فقال: نعم ورفع شيئاً من الأرض وقال: حتى لا يبقى مثل هذا، وقرأ: فزادتهم إيماناً. (ابن عيينة، 1983م، صفحة 364).

ابن عُيّينة انطلق في تفسيره للدفاع عن عقيدة أهل السنة والرد على مذاهب المتكلمين كالمعتزلة.

وقد دعا ابن عُيّينة المسلمين إلى نبذ المعتزلة وعدم مجالستهم والابتعاد عنهم، وكان يرد على المعتزلة أحياناً بالنقل عن العلماء وأحياناً بالتحليل المنطقي العقلي، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٥٤﴾ [الأعراف: 54]، قال ابن عُيّينة : فرَّق الله بين الخلق وبين الأمر، ومن جمع بينهما فقد كفر، فالخلق ما دون العرش والأمر ما فوق ذلك، والخلق هو الخلق والأمر هو الكلام، يعنى الذي جعل الأمر هو كلام الله تعالى ويندرج ضمن الذي خلقه الله فقد كفر، لأن المخلوق لا يقوم بخلق شيء آخر مثله.

يرى ابن عُيّينة أنه لا يجوز لأحد أن يفسر آيات الصفات إلا الله تعالى ورسله عليهم السلام.

نجد هذا في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَ يَطۡلُبُهُۥ حَثِيثٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۭ بِأَمۡرِهِۦٓۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٥٤﴾ [الأعراف: 54]، قال ابن عُيّينة: “كلما وصف الله من نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه”.

 ويرى الثوري أن الإيمان قول وعمل ونية، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولا يجوز القول إلا بالعمل، ولا يجوز القول والعمل إلا بالنية، ولا يجوز القول والعمل والنية إلا بموافقة السنة.

المبحث الثالث: نماذج من التفسيرين:

أولاً: تفسير قوله تعالى: ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ ٢٥٥﴾ [البقرة: 255].

قال الثوري معنى ﴿وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ﴾ هو ما فسره ابن عباس وغيره، حيث جاء في بعض الآثار أن السبع سماوات بالنسبة للكرسي مثل سبع دراهم قد ألقيت في صحراء، فالكرسي أوسع بكثير من السماوات؛ لأنه قال: ﴿وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ﴾، والكرسي بالنسبة للعرش جاء أيضًا في بعض الآثار كحلقة ألقيت في فلاة بالنسبة للعرش، فالعرش أعظم المخلوقات.

بينما ذكر ابن عُيّينة لم يخلق الله من سماء أو أرض أعظم من الكرسي، (ابن عيينة، 1983م، صفحة 221) فالكرسي كما ثبت عند السلف أنه موضع القدمين، وجاء في بعض ما ذكر عن سعيد وعن الحسن البصري وبعضهم، أن المراد بالكرسي هو العلم، لأن جاء قبله ﴿يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ﴾، فكان الحديث عن العلم، ثم قال وسع كرسيه: أي وسع علمه، وبناءً عليه فسرها على أن الكرسي هنا بمعنى العلم.

ثانياً: تفسير قوله تعالى: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ١٦﴾ [السجدة: 16]

قال الثوري: المضاجع قال ما بين المغرب والعشاء. (الثوري، 1983م، صفحة 240)

قال ابن عُيّينة: يصلون الصلوات المفروضة والمكتوبة عليهم، وفسر ﴿وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ١٦﴾ بأنها القرآن الكريم.

وهي آية عامة في قيام الليل، سواء بعد العشاء أو قبل الفجر أو وسط الليل أو بين المغرب والعشاء، وهذه الرواية عن أنس  أن المقصود بها الصلاة ما بين المغرب والعشاء.

كان السلف يحرصون على الصلاة بين المغرب والعشاء لأن هذا الوقت يضيع على كثير من الناس، ولذلك كانوا يحرصون عليه أشد الحرص.

ثالثاً: ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ ١﴾ [ص: 1]

قال كل من ابن عُيّينة والثوري: والقرآن ذي الذكر أي: ذي الشرف. (الثوري، 1983م، صفحة 256) (ابن عيينة، 1983م، صفحة 313)

نجد أنه كلاهما فسر كلمة الذكر هنا بالشرف، وهو مطابق لقوله تعالى: ﴿لَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ كِتَٰبٗا فِيهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ١٠﴾ [الأنبياء: 10]، أي شرفكم، فالمراد بالذكر هنا الشرف، وهذا وجه من أوجه التفاسير.

وهناك وجه آخر من التفاسير وهو أن المراد بكلمة الذكر هي كلمة الله المعروفة والوعظ وكل ما نتقرب به إلى الله.

ونجد أن كلمة الذكر تحتمل كلا المعنيين، وهذا يسميه العلماء إذا ورد أكثر من معنى التنوع، ولا يضر أن تجمع بينهما.

الخاتمة:

مما سبق يبدو لنا جلياً أهمية التفسيرين ومكانتهما بين كتب التفسير المختلفة|، كما يمكننا أن نستخلص جملة من النتائج، منها:

  1. اشتهر الثوري بالفقه أكثر من ابن عُيّينة، لأن ابن عُيّينة كان يتجنب الفتوى، حيث نجد الثوري مذهبا في الفقه استخلصه من مدرستي أهل الحديث والرأي. وبقي هذا المذهب منتشرا في الشرق والغرب حتى القرن الخامس.
  2. السفيانان كلاهما ولدا في الكوفة. وهاجرا الى مكة، وسافرا لطلب العلم الى اليمن وبغداد.
  3. السفيانان كلاهما اشتغلا بالحديث الشريف وروايته، وتأثرا بمدرستي مكة والكوفة.
  4. السفيانان كلاهما كانا يفسران بالعبارات المختصرة وهي على طريقة السلف.
  5. السفيانان كلاهما اعتمدا في تفسيريهما على النقل من السلف، ونقلا كثيراً عن عبد الله بن مسعود وعن عبد الله بن عباس، ونقلا كثيراً عن مجاهد.
  6. السفيانان كلاهما في تفسيرهما جمعا بين مدارس مكة والمدينة والكوفة.
  7. السفيانان كلاهما اعتمادا كثيراً على أسباب النزول في التفسير، وجعلا أسباب النزول من الركائز الأساسية في تفسيريهما، إلا أن الثوري كان اهتمامه أكبر وتفوق على ابن عُيّينة في ذلك.
  8. السفيانان كلاهما تم اتهامهما بالتشيع وترجمت لهما كتب الشيعة، ولكن لم تثبت عنهما هذه التهمة، وقد اعتبرهما الأحناف منهم ودافعوا عنهم.
  9. السفيانان كلاهما اشتركا في الدفاع عن أهل السنة ولم يقبلا بالمعتزلة.
  10. السفيانان كلاهما روى كل منهما عن الآخر واشتركا في روايات كثيرة بسند واحد جاءت أحياناً من طريق ابن عُيّينة، وأحياناً كانت ترد بنفس السند من طريق الثوري.
  11. اشتهر ابن عُيّينة باهتمامه بالقراءات حيث كان من المقرئين البارزين، وقد حفظ القران الكريم في صباه، ونقل جانباً كبيراً من أوجه القراءات في تفسيره، حتى أن الطبري عند تعدد الأقوال في مسألة القراءات كان كثيراً ما يرجح قول ابن عُيّينة على غيره.
  12. نلاحظ وجود بعض الاختلافات في تناول التفسير بالمأثور، حيث اعتمد ابن عُيّينة كثيراً على ما قاله الصحابة، بينما اعتمد سفيان الثوري على ما أفعال الصحابة، فابن عُيّينة أخذ بالقول أكثر من الفعل، والثوري أخذ بالفعل أكثر من القول.
  13. ‎كان الثوري أكثر نقلا للإسرائيليات من ابن عُيّينة.
  14. يهتم الثوري في تفسيره بنقل الأقوال الواردة في الأحرف التي في أوائل ‎السور بينما لم يهتم ابن عُيّينة في هذا إلّا فيما ورد عنه في سورة يس.
  15. السفيانان كلاهما يرويان الآثار بالسند.
  16. غالباً ما يتفق الثوري وابن عُيّينة في تفسير كلمة، وقلما كانا يختلفان بسبب كونهما عاشا في عصر واحد والتقيا كثيراً.
  17. كان ابن عُيّينة أكثر علماً بالحديث الشريف من الثوري.

المصادر والمراجع:

أحمد بن عبد الله أبو نعيم الأصبهاني. (1974م). حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (الطبعة د/ط). القاهرة، مصر: مطبعة السعادة.

أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني. (1327هـ). تهذيب التهذيب (الطبعة 1). حيدرآباد، الهند: مطبعة دائرة المعارف النظامية.

أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني. (2007م). مسائل أجاب عنها الحافظ ابن حجر العسقلاني (الطبعة 1). (أبو عبد الرحمن عبد المجيد جمعة الجزائري، المحقق) القاهرة، مصر: دار الإمام أحمد للنشر والتوزيع والصوتيات.

أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي. (2002م). تاريخ بغداد (الطبعة 1). (بشار عواد معروف، المحقق) بيروت، لبنان: دار الغرب الإسلامي.

جلال الدين السيوطي. (1403هـ). طبقات الحفاظ (الطبعة 1). بيروت، لبنان: دار الكتب العلمية.

جلال الدين السيوطي. (1974م). الإتقان في علوم القرآن (الطبعة د/ط). (محمد أبو الفضل إبراهيم، المحقق) القاهرة، مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

سفيان ابن عيينة. (1983م). تفسير سفيان بن عيينة (الطبعة 1). (أحمد صالح محايري، المحقق) الرياض، السعودية: مكتبة أسامة.

سفيان الثوري. (1983م). تفسير سفيان الثوري (الطبعة 1). (لجنة من العلماء، المحقق) بيروت، لبنان: دار الكتب العلمية.

شمس الدين محمد بن عثمان الذهبي. (1985م). سير أعلام النبلاء (الطبعة 3). (بشار عواد معروف، المحقق) مؤسسة الرسالة.

محمد ابن سعد. (1990م). الطبقات الكبرى (الطبعة 1). (محمد عبد القادر عطا، المحقق) بيروت، لبنان: دار الكتب العلمية.

محمد بن إسماعيل البخاري. (1993م). صحيح البخاري (الطبعة د/ط). (مصطفى ديب البغا، المحقق) دمشق، سوريا: دار ابن كثير.

منيع بن عبد الحليم محمود. (2000م). مناهج المفسرين (الطبعة د/ط). القاهرة، مصر: دار الكتاب المصري.