دور الرماة السنغاليين في إحتلال وإدارة إقليم تشاد(1897_1960)

د. آدم الضي محمد1 د. إبراهيم حسن السليك2

1 محاضر بجامعة مندو قسم اللغة والإعلام، تشاد.

البريد الالكتروني :gmail.com@ adoumadeimht

2 رئيس قسم التاريخ بجامعة آدم بركة بأبشة، ومحاضر بالمعهد العالي لإعداد المعلمين بأبشة، تشاد.

البريد الالكتروني: gmail.com@assilek74

HNSJ, 2023, 4(11); https://doi.org/10.53796/hnsj41119

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/11/2023م تاريخ القبول: 20/10/2023م

المستخلص

تناول البحث دور الرماة السنغاليين في احتلال إقليم تشاد مبينا مشاركتهم الفاعلة مع الفرنسيين جنبا إلي جنب حتى تم الاحتلال والسيطرة الكاملة للمنطقة، ولم تكن مشاركتهم بالقيام بدور المساعد فقط بل تجاوزت حد ذلك حتى أصبحوا هم القادة في بعض العمليات وتقمصوا دور الفرنسيين أنفسهم في كثير من المواقع الحربية، وأظهرت الدراسة ذلك عند مقتل الشيخ رابح فضل الله، وأثناء مشاركتهم في حادثة الكبكب في مدينة أبشة.

مقدمة:

إن دراسة تاريخ تشاد الحديث والمعاصر، مرهون بتاريخ تسلل الاستعمار الأوروبي إلى القارة الإفريقية، والذي بدأ بسواحلها ثم وصل إلى قلبها، حينما أكدت نتائج الكشوفات الجغرافية عن أهمية القارة، فدعت الحاجة إلى إعمال الوسائل العسكرية المنظمة لغزوها، وعلى إثر ذلك يرجع اتصال الفرنسيين بالقارة الإفريقية إلى منتصف القرن السابع عشر الميلادي، وتسللوا إلى إفريقيا الإستوائية في منتصف القرن التاسع عشر، ووصلت طلائعهم إلى منطقة الكنغو الأوسط،حيث أسست مدينة برازافيل، التي أصبحت عاصمة لإقليم إفريقيا الإستوائية فيما بعد، وقد أتخذ الفرنسيون من السنغال قاعدة للتوغل في غرب أفريقيا ومن الغابون قاعدة للتوغل في إفريقيا الإستوائية. التي من ضمنها يقع إقليم تشاد، الذي إحتله فرنسا بواسطة الرماة السنغاليين، كما ساهموا في إدارته أمنيا.([1])

* إشكالية البحث:

تمكن إشكالية البحث في التالي.

– لماذا حشدت فرنسا العناصر الإفريقية لاستعمار إقليم تشاد؟.

– لماذا حكمت فرنسا إقليم تشاد بالإدارة العسكرية؟.

* أهمية البحث:

تأتي أهمية البحث في أن الحكام العسكريين الذين استعانت بهم فرنسا في إقليم تشاد لا يعرفون سوى استنزاف مقدرات الوطن والمواطن،

* أهداف البحث:

– الوقوف على الكيفية التي أنجز بها الرماة السنغاليين مشروع احتلال إقليم تشاد ؟

* منهجية البحث:

استخدم الباحثان المنهج الوصفي والتاريخي حسبما ما تفتضيه أهمية البحث.

* فرضيات البحث:

– التعرف على أن موقع إقليم تشاد أضحى استراتيجيا لربط المستعمرات في إفريقيا.

– التعرف على أن بحيرة تشاد أصبحت من الأسباب المباشرة في إحتلال وإدارة إقليم تشاد.

المبحث الأول – الأهمية العسكرية لإقليم تشاد.

لقد كانت السفن الأوروبية التي أبحرت إلى إفريقيا، مدعومة من قبل الملوك ورجال السياسة في أوروبا، وهي تحمل معها المستكشفين والعسكريين ورجال الدين، لأجل استعمار واستغلال خيرات القارة، المتمثلة في الأراضي الصالحة للزراعة(كالقطن)، والمواد الأولية ذات العائد المادي (كالحديد والذهب والكوبالت وغيرها) وبعض الثروات الأخرى التي تذخر بها القارة الإفريقية، وقد أبدت فرنسا اهتمامها بإقليم تشاد، نظراً لموقعه الاستراتيجي من الناحية العسكرية والجغرافية، ولتنفيذ مخططاتها في التوسع الاستعماري، إعتمدت فرنسا على أعمال الرحالة الذين سبقوا رحلة كرامبيل إلى حوض بحيرة تشاد، كأمثال غير هارد رولفس وأودني ودنهام وكلابرتون، فبحكم موقع بحيرة تشاد ذات الأهمية الجغرافية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، والتي ذاع صيتها لدى فرنسا، فأعلنت نيتها الاستعمارية بالسعي إلى احتلالها، فأتاح لها مؤتمر برلين ذلك، والذي أنعقد في العامين 1884 – 1885م، وبعد ستة أعوام فقط من نتائج ذلك المؤتمر، أعدت فرنسا رحلة استطلاعية بقيادة بول كرامبيل عام 1891م، الذي كان هدفه احتلال إفريقيا الإستوائية حتى بحيرة تشاد، فرافقه في هذه الرحلة (تبيون وبيكار وطبيب عربي يدعى محمد سعيد، ومعهم حوالي ثلاثين من الرجال). وانتهت به الرحلة إلى دار كوتي، حيث أستقبله السلطان محمد السني، وحينما أطمأن قلبه للسلطان، ترك معه فرقتين تحت قيادته لتأكيد ولاء هذا السلطان لفرنسا، لكنه قتل بعد مغادرته دار كوتي مع بعض قواته، وقد كان الهدف المعلن لتلك الرحلة هو البحث عن إمكانية ربط مستعمرات فرنسا الموجودة في غرب إفريقيا بإفريقيا الإستوائية عبر بحيرة تشاد.([2])

ونظراً لأهمية المنطقة العسكرية، وإتماماً للمخطط الاستعماري، أوفدت فرنسا بعثات أخرى لتحقيق أهداف بعثة كرامبيل، الذي قتل في دار كوتي، وأهمها بعثة مسترفيل (1892 – 1893م) التي انطلقت من برزافيل لتصل إلى دار سارا*، وهي مارة بنهري الكنغو وأبانجي شاري، وقد تميزت هذه البعثة بنجاحاتها المتمثلة في توقيع عدة اتفاقيات ومعاهدات مع الزعماء المحليين في هاتين المنطقتينبالجنوب التشادي (لاي، بالا)، وكذلك منطقة قروى ويولا الكمرونية الواقعتان نحو الجنوب([3]).

ومع حلول 28/ فبراير/ 1895م أخذ إقليم تشاد حيزاً كبيراً من الناحية الاستراتيجية العسكرية لدى البرلمان الفرنسي، حيث صرح السيد”ديلونكل” في مجلس النواب الفرنسي قائلاً (إن السياسة الفرنسية في تقدم نحو بحيرة تشاد وأعالي أوبانجي ووادي النيل، مبنية على ضرورة إنشاء مستعمرات دائمة في هذه المناطق).([4])بحيث اعتبر إقليم تشاد وعاءا يحوي بداخله الاستراتيجية الفرنسية على المستوى التخطيطي، بحسب الفعالية العسكرية التي صممتها فرنسا لتأمين السيطرة الفرنسية على بحيرة تشاد وما يحيط بها، وذلك لأن فرنسا ترى في إقليم تشاد صماماً للأمان، وحلقة وصل بين مستعمراتها في غرب القارة ووسطها وشمالها، فهرولت إلى استعماره قبل وصول الإنجليز والألمان، بالإضافة إلى جعله الجسر الذي يربط بين مستعمراتها في جنوب الصحراء بشمالها، ولاستخدام هذا الاقليم كبرج لمراقبة التحركات العسكرية الإنجليزية عبر نيجيريا، والألمانية عبر الكمرون، والإيطالية عبر ليبيا([5]) فهذه السياسة التي كانت تدعمها القوة العسكرية، كانت ومازالت محل اعتبار قوي لدى كبار الساسة والضباط الفرنسيين، لإحكام السيطرة على منطقة بحيرة تشاد، من أجل تحقيق مصالحهم المستقبلية، اذا علمنا ان حوض البحيرة تتقاسمه كل من تشاد والكمرون ونيجيريا ثم تنتهي غربا حيث يقع نهر النيجر، وعلى هذا الأساس قامت بإجراءات حثيثة لجعل الأمر واقعاً، والانعطاف عنه ليس ممكناً، ولذلك تمكنت بعثة الحكومة الفرنسية بقيادة إيميل جانتي قائد هذه الحملة الفرنسية، الذي وصل إلى أوبانجي في أكتوبر عام 1897م من أن يوقع اتفاقية الحماية مع عبد الرحمن قورانج الثاني سلطان مملكة باقرمي في 1897م، من أجل حماية مملكته، التي كانت تدفع الاتاوات لمملكة وداي، ومن رابح فضل الله الذي أحتلها وقوض نظام الحكم فيها سنة 1892م، فاضطر السلطان قورانج الثاني إلى الاستعانة بسلطان برنو (هاشم)، الذي أقترح له تحالفاً ثنائياً ضد هجوم رابح بن فضل الله الوشيك، ولكن محاولاته باءت بالفشل، كما فشلت ايضا محاولات هذا السلطان في الاستعانة بالسلطان محمد يوسف محمد شريف سلطان وداي([6]).

واستناداً إلى المادة (34) من مؤتمر برلين، توصلت فرنسا إلى توقيع اتفاقية مع بريطانيا في 21/ مارس/ 1899م هدفها حسم الخلاف بينهما دون تصادم، فتخلت فرنسا عن ادعاءاتها في بحر الغزال وأعالي النيل، مقابل اعتراف بريطانيا بالنفوذ الفرنسي في منطقة بحيرة تشاد، وعلى الفور أخذت فرنسا تهتم بإرسال حملاتها العسكرية لاحتلال المنطقة المؤل عليها، والتي كان وما زال يعتقد الفرنسيون بانها مفتاحاً نحو المناطق الإفريقية الأخرى.([7])

وبالنظر إلى موقع إقليم تشاد الجغرافي والاستراتيجي من ناحية الوسط والشمال الشرقي، نستكشف أهميته قي الواقعية العسكرية، حيث يمثل تناثر جباله دروعاً طبيعية تسهم في حماية المواقع العسكرية الفرنسية وثكناتها، وأن صحرائه المكشوفة لمسافات طويلة جداً تساعد في عمليات الاستطلاع والمخابرات العسكرية، وكذلك كثبانه الرملية، وواحاته التي سوف تدعم تأمين فرنسا من أي زحف بري إيطالي أو بريطاني أو ألماني كلما اتجهنا شمالاً.([8])

إن توقيع اتفاقية الحماية بين قورانج الثاني سلطان باقرمي، وإميل جانتي قائد الحملة الفرنسية، قد مثل الخطوات الأولى نحو احتلال إقليم تشاد، لتجسيد الحلم الفرنسي العسكري والاستعماري معا،لذلك بعد سنتين ونيف من توقيع تلك المعاهدة، تمكن الفرنسيون من القضاء على حكم رابح فضل الله في معركة كسري الشهيرة التي وقعت في 22 أبريل 1900م، وشرعت فرنسا في إصدار مرسوم عام 1900م، أنشأت بموجبه “الإقليم العسكري لمحمية تشاد”، وقد أنشأت قبله القلعة العسكرية الأولى بمنطقة فورت أرشمبولت “سار حالياً” في عام 1899م، وذلك بناءاً على طلب من إميل جانتي قبل معركة “كونو” ضد رابح فضل الله 27/أكتوبر/ 1899م.([9])

إن المرسوم المشار إليه قد نص على تنظيم الحاميات العسكرية الفرنسية في إقليم تشاد، وإلحاقها إدارياً بإقليم أوبانجي، وفي السابع عشر من شهر مارس 1920م، أصدرت الحكومة الفرنسية مرسوماً آخرا، أصبح بموجبه إقليم تشاد مستعمرة فرنسية، يديرها حاكم عسكري يشرف عليه الحاكم العام لإقليم إفريقيا الإستوائية (الكنغو الأوسط، والغابون وأوبانجي) في برازافيل، وبذلك صار إقليم تشاد إحدى أقاليم فرنسا ما وراء البحار، ([10])خاصة وأن فرنسا قد كانت تهتم بإنشاء الحاميات العسكرية في كل منطقة اعتقدت أنها ذات أهمية استراتيجية، وذلك لدعم عملية استكمال الاحتلال، مستعينة بالتجنيد الإجباري للمواطنين في الجنوب التشادي على الأرجح، بل وقد ظلت هذه المجموعة العسكرية تستنكل الزعماء المحليين في جمع الضرائب والغرامات، من المواطنين الخاضعين لسيطرتهم مدعية مساعدتهم.([11])

لقد أهتمت الحكومة الفرنسية بنتائج بعثة بول كرامبيل الذي أوفدته جمعية إفريقيا الفرنسية Comite de l’afrique francaise، التي أسسها رجال الأعمال والتجار الفرنسيين في عام 1899م، حينما سمحت بريطانيا لفرنسا بإعطائها خط متوسط بين مستعمراتها، كي تصل إلى منطقة بحيرة تشاد، بموجب تلك الاتفاقية التي عقدت بينهما في 5/ أغسطس/ 1890م، وكذلك اتفاقية التسوية والترتيب التي وقعت في 15/ مارس/ 1894م مع ألمانيا المتواجدة في الكمرون، ففرنسا التي تنوي الوصول إلى منطقة بحيرة تشاد، قد ضمنت فرصة ربط الكنغو بوسط أفريقيا ببحيرة تشاد، فهاتان الاتفاقيتان قد استغلتهما فرنسا على أكمل وجه، لغزو إقليم تشاد ثم استعماره، لأنه في نظر فرنسا يمثل حجر الزاوية لإتمام بناء المخطط العسكرى الذي سيفضي الى ربط مستعمراتها، بعد إنهاء عملية الإحتلال(٤) ولمااندلعت الحرب العالمية الثانية في العام 1939م، استفادت حكومة فرنسا الحرة من هذا الإقليم، الذي أضحى في نظرها استراتيجياً في تحقيق النصر، تحت مسمى الرماة السنغاليين والتشاديين، ثم انتقل إلى اسم فيلق المشاة التشادي عام 1975م، الذي كان قوامه 15 ألف جندي، أغلبهم من قبائل السارا الذين يقطنون الجنوب التشادي وفي وسطهقبائل الحجار، هذا وقد قدمت الاعتبارات الجيوإستراتيجيةلتشاد، دوراً مهماً حتى سبتمبر 1975م، بحيث امتلكت فرنسا القاعدة العسكرية رقم 173 في أنجمينا، والتي استقرت فيها بصفة دائمة القوات الجوية الفرنسية. وبالتالي فهي إحدى القواعد الثلاثة (قاعدة داكار بالسنغال، وديغو سواريز بمدغشقر) التي تشكل محاور الجهاز العسكري الفرنسي في إفريقيا السمراء، خاصة وأن قاعدة أنجمينا قد ظلت تؤدي نشاطاً دؤوباً، فهي لا تسمح فقط بمراقبة إفريقيا السمراء فحسب، بل إنها تتدخل عند الحاجة وتحديداً إذا ما حدثت اضطرابات في أحد القسمين المذكورين في النقل الجوي، فسرعان ما يجد الإقليم المضطرب المساندة والمساعدة عبرها، بواسطة القاعدة العسكرية الموجودة في جنوب غرب فرنسا، كما أنها تحقق المراقبة المطلوبة بسرية تامة على كل إفريقية الشمالية والشرق الأوسط.([12])

المبحث الثاني :مشاركة الرماةالسنغاليين مع فرنسا لاحتلال لإقليم تشاد:

لقد ساهم الأفارقة وخصوصا الرماة السنغاليين بدور كبير في احتلال إقليم تشاد بجانب الفرنسيين، وقد كانوا يتشكلون من مختلف الجنسيات، فمنهم الكنغوليين والسنغاليين والماليين، إلا أن الدور الأبرز قد كان للرماة للسنغاليين، باعتبارهم أول من خدم بداخل الجيش الفرنسي، بسبب استعمار فرنسا لمنطقة السنغال التي تطلُّ على المحيط الأطلسي، ولأن السنغال قد كانت من أوائل الدول التي استعمرتها فرنسا، فأنخرط عدد كبير من أبنائها في الخدمة العسكرية الفرنسية([13]).

إن أول اتصال للفرنسيين بإقليم تشاد كان من الجزء الجنوبي، الذي شهد تقدم الحملة التي قادها إميل جانتي Emile Gentil وهي قادمة من الكنغو برازافيل، تلك الحملة التي مهدت الطريق لبداية عملية التغلغل الفرنسي في منطقة أوادا بجنوب أوبانجي، ودليلنا على ذلك هو رواية مقرر الحملة السيد قابرييل قالان Gabriel Galland في ديسمبر 1895م الذي قال “وصلنا إلى منطقة (أوادا) في الجنوب برفقة عدد من الجنود الأفارقة الذين تم تعيينهم معنا في برازافيل، إلا أنهم في الحقيقة، قد كانوا على استعداد لحمل مستلزماتنا الحربية أكثر مما هم مقاتلون نظراً لقلة تدريبهم، ولم يكن معنا من الجنود المدربين سوى أربعين من السنغاليين، بالإضافة إلى ما يقارب أثني عشر من المتطوعين الذين قدموا إلينا من الكنغو، ثم أستطرد قائلاً (وفي 12 ديسمبر انطلقنا من منطقة أوادا ouda نحو الداخل الإفريقي).([14])

إذا علمنا بأن الرأي العام الفرنسي قد كان متحمساً لنشر نفوذه في ما وراء البحار، تماماً كبقية الشعوب الأوروبية الأخرى، التي اتخذت من فضيحة مؤتمر برلين كذريعة لبسط نفوذها على القارة الإفريقية، ففي الفترة التي أدار فيها قورو Gourod (1904 – 1906م) إقليم تشاد، أصبحت سياسته تلك لا تتماشى وتطلعات الرأي العام الفرنسي، لأن عملية تموين فرق الاحتلال قدأضحت مكلفة جداً([15]).

ولتسهيل العملية اعتمدت الحكومة الفرنسية على خطتين في آن واحد، الأولى سياسية والأخرى علمية، فالخطة السياسية قررت فيها فرنسا تجنب الصراع السياسي مع ألمانيا التي وصلت إلى الأراضي الكمرونية وبريطانيا إلى نيجيريا، والتي يمكن أن يقودها هذا الصراع إلى حرب خاسرة، فرأت من الحكمة السياسية أن تستخدم الحاكم “قورو” في منطقة النيجر، الذي كانت تعول على كفاءته الإدارية لإقليم النيجر الساحلي، وأما الخطة العلمية تمثلت في قيام الحاكم المذكور بإجراء عملي، حينما أراد التغلغل في الداخل الأفريقي، إذ اعتمد على الخطة العلمية لترسيم الحدود التي أنجزها تيلهوTilho رئيس اللجنة المشتركة بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا في 1903م([16]).

وقد اعتمدت هذه اللجنة المشتركة، على خريطة بحيرة تشاد التي رسمها الملازم فايسو أودوان Vaisseaux Audouin، وقد قامت هذه اللجنة بمهمةأخرى كانت ضرورية لفرنسا. والتي تمثلت في انيمنع الحاكم قورو Grouod الموجود بمملكة باقرمي، مزاولة تجارة الرقيق من قبل بعض التجار في الجنوب، ثم تمكنت من إيقاف زحف مملكة وداي نحو باقرمي، مما أدخل الشكوك في نفوس الأمم الكبرى (بريطانيا وألمانيا، وتركيا ذات النفوذ الإسلامي) في المنطقة([17]).

هذا وقد اعتمد الحاكم قورو*Grouod على خطة الفريد فرتو Alfred forteau المسؤول الإداري عن الحملة العسكرية لاحتلال إقليم تشاد، الذي بدوره كلف القائد لافان Lavan بإجراء لقاء دبلوماسي، مع القيادة الألمانية في الكمرون بزعامة ستمبر stembre، وإجراء عمل عسكري آخر لفتح طريق النقل من البحيرة حتى الجنوب التشادي، مروراً بنهري شاري ولوغون، لذا صرح الحاكم قورو Grourod قائلاً: (نحن نراقب عن كثب محاولات لافان لربط منطقة بنوي في الجنوب التشادي ببحيرة تشاد) فمهمة (لافان) العسكرية، قد كانت لتنشيط الملاحة، ثم تطويق وداي عبر بوابة كانم، وقد كانت الإدارة الفرنسية تهدف بهذينالإجراءين تسهيل النقل لتمويل فرق الاحتلال([18])، التي من الممكن يعترضها جيش مملكة وداي أو رابح فضل الله، كما كانت تتفادى مشكلة النقل الجوي، حيث لا يوجد بإقليم تشاد مطار آنذاك، بالإضافة إلى تكاليفه المادية الباهظة. واما عن الإجراء الثاني، فقد استطاع القائد لافان أن يحقق نجاحاً دبلوماسياً مع القيادة الألمانية الموجودة في منطقة كسري الحدودية، حيث تقدم بطلب إلى القائد الألماني ستمبر stembre، الغرض منه بناء نقطة عبور لتسهيل نقل العتاد العسكري لاحتلال إقليم تشاد، فوافقت القيادة الألمانية على الطلب الفرنسي، وتدعيماً لهذا الطلب كان الحاكم قورو مصراً على بناء علاقة حسن الجوار مع القيادة الألمانية في المنطقة، فمن هذه النقطة بدأ الحاكم الفرنسي قورو بزيارة المناطق، التي يعتبرها استراتيجيةلاحتلال تشاد، حيث وصل إلى لاي عبر نهر لوغون، لملاقاة قائد المنطقة النقيب جولين jolin، ثم زار منطقتي (ماو “وأنقري التي أطلق عليهافورت ميلك”)، تخليداً لذكرى سقوط هذا القائد الذي قتل أثناء عملية احتلالها، ثم عاد إلى فورت لامي حيث توجد الحامية العسكرية ومقر القيادة([19])، لقد أفصح الحاكم قورو عن ما جاء به كحاكماومديرا للإقليم قائلاً (لقد وصلت إلى فورت لامي يوم 17 يوليو 1904 قادماً من مدينة بوردو، لخلافة لارجو الذي أنهكته حرارةالطقس، فقد كان فرحاً بقدومي، وقد كنت حاملاً معي رسائل الى الدوائر التالية: كانم، فورت لامي، مويتو، ميلفي، فورت أرشمبولت، باقرمي، انيديلي، لإتمام السيطرة العسكرية عليها وإداراتها)، ثم أستطرد قائلاً (فكانم كانت مستقرة لأن السنوسيين , لم يعودوا مستمرين في المقاومة كما كان في السابق، وسلطان باقرمي قد أصبح ضعيفاً، ومازال يعتمد علينا لنصد عنه هجمات الوداي، فالنقطة السوداء تتمثل في كيفية تموين الفرق العسكرية، الذي كان يمر بحالتين خطيرتين، وهما إما ألا يصل نهائياً بسبب الممالك الإسلامية، وإن وصل فسيشكل كلفة ماليةعالية جداً، مما يستوجب على الإدارة الفرنسية البحث عن طريق آخر أكثر أمناً وأبسط تكلفة في مناطق قبيلة التوبوري بالكمرون عبر بوابة نهر لوغون).([20])

إن الهجمات المتكررة من رابح فضل الله ضد الباقرمي المدعومين من الفرنسيين الذين أسقطوه، بعد معارك ضارية بدأت بمنطقة مانجفا، ومرت بالعاصمة ماسينا، وانتهت بمعركة كسري، قد فتحت الباب لاحتلال مناطق الشمال، وتطويق مملكة وداي من الجانبين، فالجنوبي من مملكة باقرمي، والشمالي من مملكة كانم([21]).

تعد معركة كسري التي وقعت في الثاني والعشرين من شهر أبريل عام 1900م، مفصلية من حيث تخطيط الاستراتيجية الفرنسية الرامية إلى ربط الجنوب التشادي ببحيرة تشاد، الواقعة نحو الشمال الغربي، وذلك لأن فرنسا قد تمكنت من القضاء على تنظيم رابح فضل الله العائق لمخططها، وإن كان ابنيه فضل الله ومحمد قد واصلا مقاومة النفوذ الفرنسي بكل ضراوة من بعده، وبما أن فرنسا قد استفادت من نتائج مؤتمر برلين 1884/1885م، أصبحت تمد نفوذها نحو حوض بحيرة تشاد ونهر النيجر، وأعالي نهر النيل، للربط بين مستعمراتها في غرب وشرق أفريقيا من جهة، وشمالها وجنوبها من جهة أخرى([22]).

وتمهيداً لتحقيق الاحتلال فقد قامت فرنسا بتكليف بول كرامبيل بتنفيذ المهمة، إلا أنه قد صرع بواسطة رجال محمد السني سلطان دار كوتي في العام 1891، فعينت الحكومة الفرنسية ضابط البحرية إميل جانتي عوضاً عنه، فوصل هذا الأخير إلى إقليم تشاد عام 1895م، على رأس بعثة أوبانجي شاري على متن السفينة ليون بلوت، قادماً من الكنغو، وكان برفقة ثلاثة فرنسيين ومترجم جزائري، وعند وصوله بلدة بوجمان، أراد القيام بجمع المعلومات، فبعث أبا بكر، أحد الجنود السنغاليين برسالة إلى السلطان عبد الرحمن قورانج في العاصمة ماسينا، وقد نجح إميل جانتي في عقد معاهدات مع عبد الرحمن قورانج والشيخ وبري والسلطان جفرا، ثم عاد مسرعاً إلى فرنسا، وعندما علم رابح بذلك الأمر، قام بهجوم جديد على ماسينا، وألقى القبض على الزعماء الذين وقعوا تلك المعاهدات والاتفاقيات الدفاعية مع إميل جانتي، وأدانهم بتهمة التآمر ضده والخيانة. وفي يوليو 1899م وصلت إلى رابح معلومات غاية في الأهمية، مفادها أن التحرك الفرنسي ضده قد بدأ بتحالف مع عبد الرحمن قورانج، تحت قيادة بريتوني في منطقة كوربل في 16 يوليو 1899م، ويبدو أن الزعماء المحليين قد ضجروا من رابح وحقدوا عليه، لأنه قد سلبهم سلطانهم وسيادتهم، فأخذوا يبحثون عن قوة تساندهم وتمكنهم من النيل منه([23]).

وفي 28 أكتوبر 1899م وقعت بين الجانبين معركة، فقد رابح فضل الله خلالها أعز أصدقائه وهو أحمد إبراهيم قائد اللواء الثامن والعشرين، كما أصيب أرباب بابكر بشظية توفي على إثرها في مانجفا، ودفن في كرنك لوغون، فقرر رابح فضل الله التراجع إلى العاصمة ديكوة([24]).

وفي مارس من العام التالي سقطت كسري([25]) وقتل حاكمها بشارة فرّاج، فأنسحب فضل الله الابن الأكبر لرابح إلى لوجون، وحينما سمع رابح بفشل ابنه في استرداد كسري، غادر ديكوة من فوره قاصداً كسري، التي أقام معسكره بالقرب منها، وفي الجانب الآخر كانت التحضيرات لخوض معركة حاسمة ضد رابح فضل الله، تجري على جناح السرعة، فبدأت بأسلوب بوليسي كما رواها قييور Guilleure على لسان صديقه القائد لامي lamy، حيث قال (أتذكرون ما قاله لي مساء أمس صديقي قييور Guilleure نحن لم نقم بأي إجراء عسكري بعد منتظرين قدومكم، حيث أننا في كل مساء نشاهد عشرة أو أثني عشرة أشخاص يخرجون من المدينة على دفعتين أو ثلاثة مشياً بالأقدام أو المراكب، صوب معسكر رابح فضل الله، الذي أعده للحرب بالقرب من كسري، فبدأنا بالتحرك البطيء على جنح الليل، ولكننا نخشى في كل لحظة أن نصطدم بأحد فرق العدو – وهذه هي طريقتنا الوحيدة للتعرف على قدرات الخصم، فتمكنا أن نقترب من المعسكر، واستطعنا أن نقدر أنواع البنادق ودراسة حالة المعسكر، ثم التعرف على مواطن الضعف، التي قد تساعدنا في الانقضاض عليه. وعلى الفور تحرك القائد لامي بنفسه، لإجراء الدورية متنكراً ببرنس لتجميع المعلومات الضرورية، وإجراء المراقبة بدقة، والتحقق من صحة المعلومات التي تم تجميعها)، ثم يضيف قييور Guilleure قائلاً (فمن ناحيتنا نثق فيه – يقصد لامي – ونعتقد بأننا من دونه سنخسر كل شيء، ولا يمكننا النصر، كما أن جنودنا جاهزون للقتال الذي يقودنا إلى النصر، وأعطيت لنا كل التعليمات في هذه الأوقات الصعبة الخاصة بالانضباط والإخلاص للعلم الفرنسي، ونحن لا نرى سوى القائد لامي فقط، لأننا منذ بداية المهمة، قد تعاهدنا على طاعته، وعدم مخالفة أوامره جسداً وروحاً، فنحن عبيده نطيعه في كل ما يطلبه بدون سابق تفكير، إذن نحن خلفه ذاهبون إلى الموت بلا تشكيك).([26])

وفي الحقيقة، أن رابحاً الذي حكم من الفترة 1893 – 1900م، قد تكالبت عليه ثلاثة بعثات في معركة كسري التي وقعت في الثاني والعشرين من العام 1900م للقضاء عليه، حيث زحفت إليه جنود البعثة الصحراوية، وبعثة إفريقيا الوسطى، وبعثة شاري تحت قيادة “جولاند ومانييه” وقورو ولامي.([27])

كما أن العمليات البوليسية، التي قامت بها عناصر الحملة الفرنسية المدعومة بالرماة السنغاليين، قد مهدت لبداية المعركة والظفر بها، فالفرق الفرنسية الثلاثة، كانت مزودة بعتاد حربي ثقيل، ولها ما يكفي من المؤونة.([28]) وذلك لأن الإدارة الفرنسية، كانت قد استوعبت دروساً قتاليةً مهمة، خلال الحروب التي خاضتها ضد قوات رابح فضل الله، التي قضت على بريتوني، ثم بريستون الضابط الفرنسي الذي تكبدت قواته خسائر جسام، أمام قوات رابح فضل الله في معركة كونو، وكانت معه قوة تتكون من 44 رجلاً سنغالياً مدججين بالأسلحة النارية الحديثة، بالإضافة 400 مقاتل من قوات عبد الرحمن قورانج الثاني، فأتجه رابح فضل الله إلى كونو، وعندما سمع الضابط المذكور بتوجه رابح فضل الله، اعتصم بهضاب عالية، تعتبر استراتيجية من الناحية الدفاعية، فوقع الاشتباك وتمكنت قوات رابح فضل الله من استئصال القوات الفرنسية وحليفتها الباقرمية في 17 يوليو عام 1899م([29])، ولذلك اعدت فرنسا العدة، لخوض معركة كسري تحت قيادة لامي، وهي كما رواها قابرييل قالان Gabriel Galland مقرر بعثة إميل جانتي (… فمنذ الصباح الباكر تجمعنا خارج المدينة، من أجل استهداف العدو، حيث تجمعت البعثات الثلاثة بتعداد وصل إلى 800 من المقاتلين، إلا أن ما يفوق المئة من بينهم مرضى ومصابين، جراء العمليات العسكرية السابقة وعناء السفر، فهؤلاء تركناهم في كسري بقيادة تهيزيا Thezilla، والذي مازال لم يتماثل من إصابته، وأسلحتنا تتكون من ثلاثة مدافع وضعت على الهضبة وبندقيات 80 ملمتر، ولكل منها مائتي (200) طلقة، ومدفع سريع واحد من طراز 42 ومزود بمئتي (200) طلقة، بالإضافة إلى 350 طلقة لكل جندي، كما يدعم صفوفنا 30 فارساً من الجزائريين والماليين، ومئتي (200) من الفرسان الذين كانوا مع جنود قورانج، وهؤلاء بدورهم مدعومين بستمائة بندقية، فعند الساعة السادسة صباحا، تحركنا نحو العدو، وذلك بعد أن أعلن لنا لامي خطته القتالية وهي كالتالي: من جهة اليمين لجنة إفريقيا المركزية بقيادة النقيب جولاند Jolland، والتي منتشرة على طول ضفاف نهر شاري، أما الفرقة الوسطى فتتكون من لجنة جانتي Gentil، بقيادة روبيو Robillot مدعومة بمجموعة المدفعية التي يقودها النقيب بونست Bunost، وعن اليسار الفرقة التي تمتلكها اللجنة الصحراوية تحت قيادة النقيب ريبيل Reibell، ثم ختم خطته بالقول أيها السادة إنني أعول عليكم كثيراً فلنتحرك حالاً).([30])

ثم يضيف Galland (فتحركت الفرق الثلاثة مدعومة بالجنود الباقرميين، وكلهم تحت إمرة إميل جانتي، وبدأت المعركة مع اللجنة الصحراوية، التي وجهة النيران على قوات رابح فضل الله مباغتة إياهم بالهجوم، وعند الساعة السابعة والنصف صباحاً كانت القوات الفرنسية على بعد 400 متر تقريباً من مركز قيادة رابح فضل الله، التي تنهال منها على الفرنسيين طلقات كثيفة جداً، ثم تقدمت برفقتنا – لجنة إفريقيا المركزية – لتدعم فرقة اللجنة الصحراوية وساندهما القائد روبيو Robillot، وكان الجنود الفرنسيين متحمسين لاقتحام المعسكر، بعد أن شاهدوا ضعف إطلاق النار من داخل معسكر رابح فضل الله، حيث اقترب النقيب روبيو من لامي قائلاً قائدي هذا هو الوقت المناسب للانقضاض، فرد عليه القائد لامي بقوله انتظروا لم يحن الوقت بعد، وبعد قليل أذن لهم بالدخول، فدخل الملازم قالاند Galland مع مجموعته، دون أن يعترضهم أحد([31]) .

أما المجموعة الثانية بإمرة كواناتيهcoinaté فقد هجمت على مقر القيادة،في حين توجهت الفرقة الثالثة بقيادة لاموتيه، تبحث عن رابح فضل الله وكانت تحميها فرقتان([32])، وفي اللحظة التي توقفت فيها هذه الفرق عن القتال، محاولة إيقاف الدم الذي يسيل من الجرحى، شاهدنا رماتنا السنغاليين يحاولون الدخول إلى مركز القيادة، بينما هناك عدد كبير من جنود رابح قد هربوا إلى الخارج، وبذلك انجلت المعركة التي دارت رحاها لأكثر من ساعتين، وكلفتنا أكثر من 30000 طلقة نارية، وسمعت صيحات كبرى تهتف “انتصرنا انتصرنا”، فصاحبنا إحساس طبيعي ثم قلت “عاشت فرنسا”. فبينما كان لامي يعالج من قبل الطبيب آلين Allain، كان ينظر إلى عيني إميل جانتي، والذي كان بدروه يجلس على رأس لامي لمواساته، فوجه سؤالاً إلى جانتي بقوله “ماهي الأخبار عن رابح فضل الله”؟ فردَّ عليه إميل جانتي “إنه مازال هارباً”، وفي نفس الوقت دخل عليه سنغاليان من الرماة وأخبراه “بأن رابحا قد مات”، فقال إذن “أستطيع أن أموت” إلا أن إميل جانتي حرصاً منه على التأكد من موت رابح، قام بتوجيه سؤالاً آخرا إلى السنغاليين قائلاً “إن كان رابحا قد مات فأتياني به”؟، فلم تمض عشرة دقائق إلا والسنغاليان أحدهما يحمل رأس رابح وكان مشوهاً بسكين، والآخر رمى بين رجلي جانتي يداً مبتورة لتوها قائلان: “هذا هو رابح فضل الله”، وفي هذه الأثناء يوجد سمبا سال samba sall أحد الرماة السنغاليين الذي نجا بنفسه في معركة “تجباو”، والتي قتل فيها رابح فضل الله القائد الفرنسي بريتوني Bretonnet حيث كان يعرف رابحاً، فرد على جانتي قائلاً “هذا هو رأس رابح فضل الله”.علماً بأن هذا الجندي السنغالي قد كان واحداً من العبيد الذين عملوا مع رابح فضل الله لفترة ليست بالقصيرة، ثم سقط القائد لامي إثر إصابة قاتلة كانت في صدره، وكذلك النقيب كواناتيه، أما الملازم شامبروت فقد مزقت يداه، كما تم قتل أربعة من الفرسان الجزائريين والباقرميين، وخمسة أو ستة منهم كانت إصابتهم خطيرة([33]) ).

وفي الجانب الآخر قتل رابح فضل، الذي كان قد ألتف حوله لفيف من الرجال لحمايته بعد أن كسرت رجله، إلا أنهم لم يتمكنوا من خلاصه، حينما إنهال عليهم الفرنسيون بالرصاص، وبجانبه القدم قائد اللواء السادس، وحمدان قائد اللواء الثالث، ويوسف مندراني قائد اللواء السابع والعشرين، ورزق الله قائد اللواء التاسع والعشرين.([34])وبالقضاء على حكم رابح فضل الله الذي دام سبعة سنوات، تم لفرنسا تحقيق جزء كبير من سياستها الرامية إلى ربط مستعمراتها في القارة الإفريقية ببعضها البعض.

فبالنسبة لفرنسا، أنه بعد مقتل رابح فضل الله، لم يبق لها سوى الجزء الثاني من المهمة، وهو التوجه نحو مملكة وداي عبر بوابة الجنوب، حيث مملكة باقرمي، وبوابة الشمال عبر مملكة كانم. فبدأوا بإنشاء محمية فورت لامي في العام 1900م، تخليداً للقائد لامي، الذي قتل في معركة كسري، لكي تكون قاعدة عسكرية كبرى، لدعم مخطط إحتلال الاقليم، ودرعاً لتحركات ألمانيا من الكمرون، وبريطانيا من نيجيريا، فوضعت بذلك حراسة قوية للحدود بينها وبين المستعمرات في تلك الدول، كما جعلت المحمية برجاً عسكرياً ثاقبا، من شأنه السيطرة على تحركات مناطق الشمال التشادي، الذي لم يعد يخضع لسلطة قوية، لأنه بعد سقوط برنو أصبح إقليم الشمال، محل نزاع بين رابح فضل الله والسنوسية، كما خططت فرنسا بدقة لمراقبة تحركات وداي ومحاصرتها من الجهات الثلاث، الجنوب والوسط والشمال، بقصد إحكام الاحتلال نهائياً على إقليم تشاد واستعماره، فأنشأت تلك المحمية لمراقبة وخدمة هذه الأغراض.([35])

وخلال الفترة الواقعة بين عامي (1903 – 1904م) بذلت الفرق الفرنسية جهوداً جبارة، تمت الإشارة إليها في مجلة فرق المستعمرات بالقول (فتقريباً كل أجزاء الإقليم – تشاد- تحتاج إلى جهود عسكرية جبارة ومنتظمة). لذلك قامت الفرق الفرنسية الموجودة في هذا الإقليم وتحديداً في ديسمبر من العام 1903م بعمليات مختلفة على حدود مملكة وداي، فبعد أن دخلت منطقة أنقري – بإقليم كانم – تلقت أوامر بوجود طريق مؤدي إلى مناطق قبيلة الكريدة، فقامت السرية في 9 ديسمبر من نفس العام بتوجيه ضربات اليها بمنطقة أوقا “Oga” وتمكنت من فتح الطريق، إلا أنها تكبدت خسائر في صفوف جنودها، بحيث فقدت أثنين من القتلى من أصل عشرة جنود سنغاليين مدعومين بأربعة عشر جندياً فرنسياً، ثم هجمت على معاقل السنوسية في بئر علالي في فبراير لعام 1904، وفي 19 يوليو تعرضت منطقة كوال Koual لهجوم بواسطة قطاع طرق كانوا قد نهبوا 100 رأس من الإبل بكانم، وفي نوفمبر 1904 تمركزت لهم السرية الفرنسية في منطقة ياو بالفتري “yao” بعد أن صدت بعض الهجمات في الفترة بين مايو – يوليو من قبيلة(كشيردا) في الشمال على المنطقة المذكورة، ثم اقتربت من منطقة آتيا، وفي يوليو منعت السرية هجمات الوداي على مدينة ماو، وفي أبريل على منطقة شاري الأوسط بالجنوب، حيث كان يروي الملازم ديجور “Dejour” قائلاً: (لقد اقترب قائد السلامات من الفرق الفرنسية ب 400 مقاتل قدموا من مملكة وداي، وهجموا على المنطقة(شاري الأوسط) وأحرقوها، ثم اقتادوا 500 من رجال الحرس الفرنسيين([36]) بعد أن باغتوهم، وألفاً من الأسرى الجنوبين من قبائل “نوبا، نوديو، وسارا”)، كما تمكن الفرنسيون من إخماد ثورة الجنوب التشادي، عندما قضوا على ثورات قبيلتي مانجبيه Mandjibe وإيرو Erou اللتان كانتا تقاوم ببسالة منذ بداية 1904م، حيث أخمدهما مانجي Magni قائد مجموعة الرماة من الشباب السنغاليين، وحراس المناطق الذين كانوا يجولون في كل مناطق الجنوب مدججين بالسلاح الناري، حيث كان تعدادهم يصل إلى 500 جنديا مدربا، موزعين على أربعة مجموعات وسرية واحدة، مهمتهم هي إخماد الثورات في الجنوب التشادي.([37])

وعندما رأت الإدارة الفرنسية صعوبة مهمة الاحتلال في عهد إميل جانتي، لجأت في شهر ديسمبر من العام 1904م إلى تعيين 500 من السنغاليين، كانوا مرابطين في إقليم أوبانجي شاري لعام كامل، بقصد تسهيل نقل العتاد العسكري، وكل المستلزمات الوقائية للفرق المتمركزة حول إقليم تشاد من ناحية الجنوب، والتي استدعيت لغزو مملكة كانم ووداي، وبعد ذلك وصلت مع القائد ديستينافDestinave أربعة مجموعات من الرماة السنغاليين، مجهزة بكل أنواع العتاد العسكري والإداري، مكونين قيادة عامة، كانت تحتوي على إداريين مع نوابهم لإدارة أعالي شاري، وفي العام 1905م أوردت مجلة فرق الاحتلال مقالاً، أوضحت فيه حدوث عمليات أخرى، تشير إلى أن إقليم لوغون قد شهد محاولات الباقرميين والفلاتة القادمين من منطقة أنقاوندرى – بالكمرون حالياً، لكسب الرقيق، إلا أن محاولاتهم قد أجهضت من قبل الملازم ديجور Dejour، قائد دائرة لاي المتاخمة للحدود الكمرونية الآن، والتي بها 80 مقاتلاً سنغالياً كانوا مرابطين بـ “كيم”Kim التابعة لمنطقة لاي، وقد حاول كل من عناصر قبيلتي الفلاتة والهوسا تجار الملح الوصول إلى منطقة بيبيا Bibia بقصد الحصول على الرقيق، إلا أنهم فقدوا حوالي 300 من رجالهم، وتم أسر عدد مماثل مع 172 حصانا من قبل قوات الملازم ديجور المتواجدة في دائرة لاي.([38])

على أنه مع بداية 1905م أصبحت المناطق الجنوبية لإقليم تشاد محتلة تماماً، وبدأت خطط الاحتلال التوجه نحو مملكة وداي من الجهات الثلاثة الجنوب والشمال والوسط، لقد كانت مهمة حاكم إقليم تشاد قورو (1904 – 1905) هي تطويق نفوذ وداي ثم احتلالها، خاصة وأن مملكة وداي قد طالبت الحكومة الفرنسية بإخلاء منطقة الفتري، التي احتلتها فرق الاحتلال الفرنسية في نوفمبر 1904م، إلا أن الإدارة الفرنسية قد رفضت ذلك الاقتراح السلمي، فقررت مملكة وداي الهجوم على القوات الفرنسية المرابطة في المنطقة في 31/ يناير/ 1905م، بجيش تعداده 3000 مقاتل، فأحدثوا خسائر جسام في صفوفها، فاضطرت القيادة الفرنسية إلى استدعاء القائد العسكري لمنطقة بوكورو من 3 – 4 فبراير من نفس العام، وطلبت منه أن يفاجئ معسكر الوادي، فتمكن من استعادة منطقة “ياو”، بعد أن فقد جيش الوداي 200 من عناصره.([39])

إن عملية احتلال إقليم تشاد قد أصبحت مستعصية، نظراً لشدة المقاومة، وتكاليف الحرب، مما أدي إلى تردد الحكومة الفرنسية، في مواصلة هذه الرحلة المحفوفة بالغموض، وقد ظهرت تلك الترددات لدى الحاكم سفرجان دي برازا حينما وصل من الكنغو برازافيل الى قورو قائد المنقطة العسكرية الأولى في إقليم تشاد- فور أرشامبولت -، وذلك بقصد الوقوف على آخر الأوضاع من أجل الاحتلال، فصرح لقائد إقليم تشاد في 3 يوليو 1905م، قائلا (بأن البرلمان الفرنسي قد بدأ يفكر في إلغاء عملية احتلال إقليم تشاد)، فرد عليه قائد المنطقة قائلاً: (إذاً فلنترك قتلانا الذين سقطوا من أجل احتلال إقليم تشاد؟ فبعد أن تمكنا من توحيد جهود الرماة السنغاليين في كل من داكار وبرازافيل، لنفسح المجال بعد ذلك، إلى منافسينا من السنوسيين والوداي)؟ ثم أضاف (إن الفشل في هذه المناطق، قد يخلّف أموراً لا يمكن حصرها). ثم وصف المستعمرة قائلاً: (إن المستعمرة تشبه السفينة التي تحمل الفئران البريئة) في إشارةمنه، إلى أن شعوب المناطق الجنوبية من إقليم تشاد بريئة وضعيفة، وكانت مستغلة من قبل الممالك الإسلامية، فعلى الفرنسيين تحقيق العدالة والمساواة في هذه المناطق([40]).

وبعد عودة القائد العسكري قورو من برازافيل، وقعاتفاقا مع قورانج سلطان باقرمي في 18/1/1906م الهدف منه منع مملكة باقرمي من مزاولة تجارة الرقيق مع المناطق الشمالية والغربية، ونظراً لإصرار القائد العسكري قورو على الاستمرار في عملية الاحتلال، فقد تعرض لانتقادات حادة من الإعلام الفرنسي، ولم يسلم من هذه الانتقادات حتى المفوض العام لإفريقيا الإستوائية “إميل جانتي”Emil Gentil، على الرغم من أنه كان مريضاً وقتها، وقد كانت تلك الانتقادات بسبب المبالغ الهائلة التي أنفقها من أجل احتلال إفريقيا الإستوائية الفرنسية والهند الصينية.([41])

المبحث الثالث :الطريق نحو أبشة عاصمة مملكة وداي:

لقد أعد الفرنسيون العدةلإسقاط مدينة أبشة عاصمة مملكة وداي، فهم قد إستيقنوا تماماً أنه بسقوط مملكة وداي سوف تنتهي المقاومة في إقليم تشاد، أو قد تضعف حدتها على أقل تقدير. فما كانت محاولاتهم لإسقاط باقرمي، وتدمير رابح فضل الله، ثم تغلغلهم في مملكة كانم واسقاطها، وكذلك قهرهملاتباع الطريقة السنوسية القادمة من ليبيا عبر الجنوب، إلا تمهيداً لتطويق حاضرة مملكة وداي، ثم الانقضاض عليها، لإكمال عملية الاحتلال بصورة رسمية، ففي 17 من مارس 1908م تعقب القائد لارجو، فلولا من جيش الوداي، حتى وصل إلى بئر عراضة، التي تبعد 120كم عن مدينة أبشة، وخلال هذا التعقب تمكن من قتل المئات من عناصر هذا الجيش، وأرغم عقيد المحاميد إلى الإقرار بالهزيمة في منطقة “دوقوشي”، فكتب هذا الأخير خطاباً إلى السلطان دود مرة قائلاً له (إن الجيش قد أنهكه التعب جراء محاربته للمسحيين باستمرار) ثم أردف طالباً من السلطان المذكور (السماح له بالتراجع إلى الخلف لإراحة الجيش المنهك)، وقد رد عليه السلطان دود مرة شاكراً إياه ثم قال له (إن المسلمين يجب أن يثبتوا أمام الكفار حتى ولو كانوا ضعفي عددهم، فالجنة تحت ظل السيوف، علماً بأن الهروب من الكفار هو من أكبر الذنوب)([42]).

ثم خرج السلطان دود مرة من أبشه بهدف التصدي للفرنسيين، وفي 15 يوليو 1908 كان النقيب جولين joulien على علم بتجمع جيش مملكة وداي، على بعد 5 كلم من منطقة آتيا، وحينها بدأ الفيلق في التحرك مدعوماً بقوات السلطان أصيل المتمرد على الحكم المركزي في وداي، فتمركز في الشرق بمعسكر جوا “Joua”، وفي يناير1909م أعطى قائد محمية فور لامي الملازم ميللو “Millot” أوامره إلى الملازم فيرناندي Fernandi بأن يذهب إلى منطقة مورتشا، لدحر مجموعة من النهابين الذين بلغ عددهم 120 فرداً، من الذين كانوا قد نهبوا الرحل في شمال مملكة كانم، فتمكن من إتمام العملية برفقة 45 من الرماة السنغاليين، بالإضافة إلى مساعديهم من العرب والتيدا، الذين يربو عددهم إلى 160 فرداً، في بئر أم شعلوبا، وقد واصل هذا الملازم احتلال عدد من الآبار، فأجبر أولئك النهابين إلى الانصياع وطلب الأمان منه، نتيجة لقتاله المتواصل لهم حتى 18 مايو 1909م، مقابل دفع غرامات حددها لهم، وقد تمكن خلال تلك العمليات من الإفراج على عشرين أسير من الباقرميين والكانميين، و17 من الدار فوريين، وقد كان الغرض من هذه الحملة هو تطويق السنوسية في الشمال، وإيقاف تمددها باتجاه وداي عندما تبدأ عملية احتلالها.([43])

إن عملية إسقاط مملكة وداي، تمثل أهمية قصوى لدى الحكومة الفرنسية، إلا أنها كانت تتحاشاها، ريثما يتم القضاء على مملكتي باقرمي وكانم-برنو، لأنها كانت تخشى أن يتم كشف دفاعاتها الخلفية، من قبل المملكتين المذكورتين والسنوسيين في الشمال. خاصة وقد أوفدت الحكومة الفرنسية في بداية عام 1908م النقيب فيجانشو – الذي سقط في بئر طويل – إلى نقطة آتيا، ليستبدل النقيب ماجيني Magini الذي انتهت مهلة عمله، وبعد استلام النقيب فيجانشو العمل، طلب منه قائد محمية فورت لامي، أن يوسع من الوجود الفعلي لفرنسا في تشاد، باتجاه الشمال الشرقي حتى البطحاء، وبذلك يكون قد أعطى الضوء الأخضر لاحتلال أبشة عاصمة مملكة وداي، بقوة عسكرية قوامها عدد من القادة العسكريين وذلك على النحو التالي:

– الملازم أول بربيلو قائد المدفعية 80

– الملازم ماروزيلي Maroselli

– فوريه دوقو Fourier Dogu

– الضابط بارمانتيه Parmantier

– الضابط ديسانتري Dessantry.

وقد كان الملازم أول بورو Boureauxمسؤولاً عن حماية السلطان أصيل-أخ السلطان دود مرة ومنافسه على العرش- حيث كان بحوزته مجموعة من الرماة السنغاليين، وبعضاً من مناصري السلطان أصيل، وفي منطقة ياو yao، كان الملازم أول رايموند والضابط يوزي دي بورفو ومعهما عشرون من الرماة السنغاليين، قد كانوا على أتم الجاهزية لاستقبال إشارة التحرك، فوصلت القوات إلى أم حجر في الخامس والعشرين من مايو 1909م([44]) ومن منطقة أم حجر تم تنظيم الفيلق على النحو التالي:

القسم الأول: تحت قيادة الملازم أول بورو Boureaux

القسم الثاني: تحت قيادة الملازم أول لوسين Lucien

القسم الثالث: يقوده الضابط ماروزيلي Maroselli

القسم الرابع: بإمرة الملازم أول رايموند Raymond

قسم المدفعيات: بزعامة الملازم أول بوفيي Boufied

وأخيراً مجموعة أصيل: ويقودها فيجانشو Fiegencho

في حين كان يترأس الملازم ميللو الفيلق، الذي يضم يومها 180 من الرماة السنغاليين.([45]) الذين تحركوا صوب أبشة، وعند العاشرة صباحاً وبالقرب من قرية وادي شوك، بدأ الهجوم، وأصيب القائد فيجانشو بإصابة قاتلة، ومعه 3 من الرماة، ومع ذلك تمكن الفرنسيون من هزيمة الوداي، الذين هربوا بدورهم نحو العاصمة، وفي اليوم التالي 2/ يونيو أصبح الفيلق على مسافة 15 كم من أبشة، والذي بدأ بالهجوم عليها حوالي الساعة التاسعة صباحاً، وتمكن من إسقاطها، في تمام الساعة الثانية عشر ظهرا ورفع العلم الفرنسي، وفر السلطان دود مرة مع جنوده من الاتجاه الشرقي للعاصمة([46]) صوب دار فور، فأتحد دود مرة مع تاج الدين سلطان المساليت، لإعلان الجهاد ضد الفرنسيين، إلا أنهما لم يوفقا، بسبب مقتل الأخير في معركة دروتي 1910م، فاستماله السلطان علي دينار، ولكن السلطان دود مرة قد أستسلم نهائياً للفرنسيين في عام 1911م.([47])

ومما تجدر الإشارة إليه، أنه بعد يومين فقط من سقوط أبشة عاصمة المملكة، بدأ الملازم بورو Boreaux بتشييد النقطة العسكرية لإقليم وداي، وتم تعيين رئيس الكتيبة بريسي Brisset قائداً عسكرياً لها، وما أن جاء شهر سبتمبر حتى شرع الملازم ميللو – قائد المحمية العسكرية للعاصمة فورت لامي – في تنظيم إدارة المحمية، وقد تم توفير ضرورياتها العينية والمادية على النحو التالي:

1- تحديد تكاليف الإدارة العسكرية الخاصة بالعتاد والمستلزمات الأمنية

2- تحديد الحوافز المادية لعناصر الفرقة العسكرية، كي تتمكن من تنفيذ الأعمال المنوطة بها على أكمل وجه، وتتكون العناصر العسكرية من: واحد نقيب يعاونه ثلاثة ملازم، وأربعة من الضباط الصغار لتنفيذ المهام، بالإضافة إلى موظفين آخرين، وكانت حوافزهم تقدر بثمانية ألف وتسعمائة فرنك فرنسي، على أن يتكفل بدفعها السلطان الذي ستعينه الإدارة الفرنسية، ولا تلزمه بإعاشتهم.([48])

تمكنت فرنسا من استعمار إقليم تشاد، بواسطة الرماة السنغاليين، بعد القضاء على المقاومة الوطنية، فحقت أهدافها الاستعمارية الرامية إلى ربط مستعمراتها في غرب القارة الإفريقية بوسطها وشمالها عبر بحيرة تشاد، كما أن التنافر الموجود بين الممالك الثلاثة، التي تشكلت منها دولة تشاد الحالية، قد كان له الفضل الأكبر في أن تظفر فرنسا باستعمار إقليم تشاد، الذي كان استعماره مؤكدا، سواء كان ذلك سلمياً أو عسكرياً، لأن هذا الإقليم هو إحدى فرائس مؤتمر برلين الغاشم، الذي تم عقده في الفترة 1884 – 1885م.

المبحث الرابع : مشاركة الرماة السنغاليين في حادثة الكبكب

هناك مجزرة بشعة وقعت في مملكة وداي بإقليم تشاد، ضمن المجازر المتعددة التي ارتكبها الاحتلال الفرنسي وأن هذه المجزرة وقعت بالفعل ضد المسلمين واستهدفت العلماء وحفظة كتاب الله وشيوخ القبائل العربية[49]، وأن الباحثين والمؤرخين قد أوردوا عدت أسباب ودوافع فرنسية تبرر وقوع هذه الحادثة غير أن كلها أسباب وأحداث واهية اصطنعت من أجل تحقيق الهدف، بل أن السبب الرئيسي وراء ذلك هو الدافع الديني والثقافي والانتقام من المسلمين.

تنفيذ المجزرة :

استدعى الملازم جيرارد، الشاويش سمبا ساموري السنغالي يوم 14/11/1917م في تمام الساعة التاسعة والربع صباحاً في منزله، وعندما وصل إليه أصدر إليه أوامره ودار بينهما الحوار التالي[50] :

  • سمبا ، أنت جندي مثالي، عليك أن تأتي غدا بالعقيد دكوم، وخليفته فهيم أبو شينه هنا، أقصد أن تأتيني برأسيهما في معسكر (تاتا) في الصباح الباكر.
  • يرد سمبا : إنما تريد فعله سيدي ليس جيداً، ولكن طالما أمرتني فسأقوم بتنفيذ الأوامر، لأن هذا يدخل في إطار عملي.
  • يقول جيرارد : أذهب إلى العقيد دكوم وقل له أن الحاكم يريدك في القسم، فبمجرد خروجه من كوخه اقطع رأسه، وعليك أن تختار جنديين، وبعد تنفيذ ذلك أفعل الشيء نفسه بخليفته، ثم تقطع رؤوس الجميع، وعندما تنتهي العملية أكافئك بخيول ومعدات أخرى، وعليك أن تسمح لجميع مرافقيك بنهب وسلب جميع المساكن.
  • سمبا : حاضر سيدي الرائد سأنفذ أوامرك.
  • جيرارد : إذا يسلمك الملازم بايلي، فرقة مكونة من أربعين عسكريا ويسلم كل واحد منهم ساطوراً وعلمهم كيف يمسكونه ويستعملونه، وأخرجوا كأنكم ذاهبون إلي مهمة احتطاب في الغابة، وتساعدكم فرقة هجانه بقيادة الملازم بايلي تقوم بمراقبة كل منافذ تاتا، ولا أريد سماع صوت رصاص ولا صراخ أطفال ولا نساء، أفهمت يا سمبا ؟
  • سمبا : فهمت سيدي الرائد[51].

قيل أن سمبا بعد أن استمع إلى تعليمات جيرارد، ذهب خفية إلى العقيد دكوم وأخبره أن الحاكم كلفه بقتله، وطالبه بالهرب، فلما انصرف منه أوى إلى زوجته وأخبرها بما سمعه من سمبا، فقالت له ما ذاك إلا ذريعة ليبعدوك عن الحكم، ومن هنا تمسك برأييها ولم يهرب حتى نفذت عليه العملية.

قام الجنود الفرنسيين والسنغاليين بمحاصرة منزل العقيد دكوم، وفي يوم 15 من نوفمبر من عام 1917م عند الصباح الباكر قاموا بقطع رأس العقيد بالساطور ولقي ستة وخمسون حتفهم ممن كانوا معه بنفس الآلة، كما قامت الفرقة بقطع رؤوس علماء حي شق الفقهاء وعددهم خمس وعشرون فقيها أثناء صلاة الصبح، ومنهم من تم جزرهم داخل المسجد العتيق، والبعض الآخر في أطراف المسجد.

هكذا نفذ الاحتلال الفرنسي جريمته البشعة غير الإنسانية، وشارك فيها الرماة السنغاليين في تنفيذ العميلة ضد العلماء والشيوخ العزل، وقطعت رؤوسهم بدون شفقة ولا رحمة، واستمرت عملية قطع الرؤوس من وقت صلاة صبح يوم الخميس إلي غروب شمس يوم الجمعة ، حيث استشهد عدد كبير من العلماء وشيوخ القبائل العربية[52].

إن هذه المجزرة التي شارك فيها الرماة السنغاليين قدرت بعض الروايات التاريخية أن عدد ضحاياها يفوق الأربعمائة عالم وفقيه وشيوخ تقليديين في مدينة أبشة وحدها بينما استمر القبض والقتل في المناطق الأخرى من إقليم وداي لعدة أيام مما اضطر الكثير من العلماء والمثقفين والقبائل للهجرة إلى الدول المجاورة[53] .

الخاتمة:

لقد تناولت هذه الدراسة دور الرماة السنغاليين في احتلال إقليم تشاد في الفترة من 1897م – 1960م هذه الفترة شملت مرحلة التحرك الأول لفرنسا تجاه منطقة حوض بحيرة تشاد، لكن هذا التحرك لم يكن سهلا لفرنسا، لأنها لاقت مقاومة من حركة رابح فضل الله، ودارت بينهم معارك ضارية، حتى أدت بحياة رابح وأميل جانتي قائد العمليات الفرنسية، ثم بعدها تحركت فرنسا نحو الداخل التشادي،فوصلت إلي مناطق الجنوب والغرب،ثم الى منطقة وداي في الشرق، والتي قاومت بإستماتة بقيادة سلطانها محمد صالح دود مرة، ورغم المقاومة التي قدمها السلطان ومعاونيه وجنوده الأبطال رجحت الكفة لصالح فرنسا، لأسباب عدة، منها مشاركة الرماة السنغاليين كطرف قوي مع الجيش الفرنسي، لأنهم أصبحوا سنداً قويا للمستعمر، كأولمن خدم بداخل الجيش الفرنسي، مما مكن فرنسا أن تسيطر على جميع الأراضي التشادية وتستعمرها قاضبة، وقد استعملت فيها كل وسائل السلب والنهب والقتل والتشريد.

النتائج :

أن فرنسا تكالبت على أرض تشاد بكل قوتها وعتادها وأظهرت النتائج التالية :

  • دخلت فرنسا إلي أرض تشاد بهدف السيطرة على الأرض وما بها واستغلت جميع خيراتها وربطة بينها وبين مستعمراتها في الغرب والشرق والشمال.
  • واجهت فرنسا تصدي ومقاومة شرسة من المجتمع التشادي، تمثل في عدة جبهات منها مقاومة الجنوب التي تتمثل في شخصية رابح فضل الله ومعاونيه من مختلف شعوب المنطقة، مقاومة الغرب التي تتمثل في مملكة كانم العريقة، ومقاومة الشرق التي تتمثل في مملكة وداي وجميع معاونيها، مقاومة الشمال التي تتمثل في الحركة السنوسية.
  • أظهرت الدراسة بأن المقاومة التشادية لم تكن منسقة،بل كانت مشتتة وضعيفة مقارنة مع قوة فرنسا وأهدافها الخبيثة ، وأن هناك انشقاقات حدثت داخل المقاومة، وهناك معاهدات خيانة قد حصلت في داخل الأسر الحاكمة سواء في مملكة باقرمي، ومملكة وداي مما جعل سقوط المناطق في يد الاستعمار.

التوصيات :

نظرا لضرورة تطوير العقيدة السكرية التشادية خاصة والافريقية عامة، توصي الدراسة بالتالي :

– يمكن للقائمين بأمر الجيش التشادي أن يهتموا بقضية الولاء القومي للمؤسسة العسكرية التشادية.

– الإلحاح نحو تأسيس هيأت عسكرية وطنية تلتزم في تكوينها بالإرث الثقافي الوطني بالأساس.

– لتقوية الاحتراف المهني لمعالجة الأزمات المحلية والافريقية يمكن للخبة الحاكمة وقادة الجيش أن يولوا اهتماما بالوعي الوطني والمهني والاحترفي للجند.

قائمة المصادر والمراجع

أولا : المراجع العربية :

  1. أحمد، قاسم أحمد: الدور الفرنسي في تشاد (1950 – 1980) أطروحة دكتوراه، (غير منشورة)، جامعة إفريقيا العالمية، الخرطوم، 2005،

أيوب، محمد صالح: جماعات التحديث في وسط افريقيا، دار الكتب المصرية 1991 .

أيوب، محمد صالح: علم الاجتماع في خدمة التجمعات الأفريقية، القاهرة، 2014م.

الجمل، شوقي: تاريخ إفريقيا الحديث والمعاصر، جامعة القاهرة، 2002، ط2، دار الزوار للنشر والتوزيع،

حسن، حمدي عبد الرحمن: قضايا في النظم السياسية الأفريقية، مركز دراسات المستقبل الأفريقي، القاهرة، ط1، 1998.

  1. حسن حمدي عبد الرحمن: العسكريون ونظام الحكم في إفريقيا، مركز دراسات المستقل الأفريقي، القاهرة، 1996،
  2. حلولو، الطيب إدريس: المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الفرنسي (1894 – 1920)، ماجستير (غير منشورة) في التاريخ الحديث والمعاصر، جامعة الملك فيصل، أنجمينا تشاد، 2002.
  3. صالح،ابراهيم: تاريخ الاسلام وحياة العرب في امبراطورية كانم برنو، مطبعة مصطفى الباب الحلبي، مصر، 2008م..

الماحي، عبد الرحمن عمر: تشاد من الاستعمار حتى الاستقلال (1894 – 1960)، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997.

  1. الماحي، عبد الرحمن عمر: المجتمع التشادي في عهد الاحتلال الفرنسي (1918 – 1960)، القاهرة، 1997،.
  2. النور، أحمد سمي جدو محمد: تاريخ العلاقات السودانية التشادية (1820 – 1956)، رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة الخرطوم، 1997،

محمد أحمد أبو سحر، مذبحة الكبكب في تشاد أسبابها ونتائجها، مطبعة سلسبيل، الخرطوم، ط1، 2018م ص ص 90،91.

  1. / محمد صالح أيوب، الدور الاجتماعي والسياسي للشيخ عبدالحق السنوسي الترجمي في دار وداي ، تشاد، 1853-1917م، جمعية الدعوة الإسلامية، ليبيا، ط1، 2001م، ص 162

ثانيا : المراجع الأجنبية :

  1. Assilek, Mahamat: Conquête clomiale et délimitation des frontières du tchad (1890 – 1936), mémoire de master en histoire, civeste de ngaudere, 2007.
  2. Galand, Gabriel: la Conquête du tchad, libraire nationale, paris, France, 1895,

Gatta, gali, ngothe: tchad guerre civile et desagregation de l etat, presence africaine, paris, isbn, 1985, op.cit., p32.

Gentil, pierre: la conquête du tchad (1894 – 1916) ministère de la Défense nationale, état – major de l’armée de terre, service historique, 1971, p 174.

  1. Lanne, Bernard: le frolinat et les révoltes populaires du tchad (1965 – 1976), Moumdou Moton, Publisher, Paris, New Yourk, 1978, p 32

الهوامش:

  1. () الماحي، عبد الرحمن عمر: تشاد من الاستعمار حتى الاستقلال (1894 – 1960)، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997، ص 182.
  2. () حلولو، الطيب إدريس: المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الفرنسي (1894 – 1920)، ماجستير (غير منشور) في التاريخ الحديث والمعاصر، جامعة الملك فيصل، أنجمينا تشاد، 2002، ص 16.
  3. () نفس المرجع ، ص 18.
  4. () أحمد، قاسم أحمد: الدور الفرنسي في تشاد (1950 – 1980) أطروحة دكتوراه، غير منشورة، جامعة إفريقيا العالمية، الخرطوم، 2005، ص 8.
  5. () الماحي، عبد الرحمن عمر: تشاد من الاستعمار حتى الاستقلال، مرجع سبق ذكره، ص 19.
  6. () النور، أحمد سمي جدو محمد: تاريخ العلاقات السودانية التشادية (1820 – 1956)، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الخرطوم، 1997، ص 40.
  7. () أحمد، قاسم أحمد: مرجع سيق ذكره، ص 87.
  8. () الماحي، عبد الرحمن عمر: تشاد من الاستعمار حتى الاستقلال، مرجع سبق ذكره، ص 7.
  9. ()الماحي ، عبدالرحمن عمر: تشاد ، المرجع نفسه ، ص 156.
  10. () الماحي، عبد الرحمن عمر: المجتمع التشادي في عهد الاحتلال الفرنسي (1918 – 1960)، القاهرة، 1997، ص 245.
  11. () أيوب، محمد صالح: جماعات التحديث في وسط افريقيا، دار الكتب المصرية 1991 ، ص 190.
  12. ()Lanne, Bernard: le frolinat et les révoltes populaires du tchad (1965 – 1976), Moumdou Moton, Publisher, Paris, New Yourk, 1978, p 32.
  13. ()Galand, Gabriel: la Conquête du tchad, libraire nationale, paris, France, 1895, pp 40.
  14. () Ibid, p41-42.
  15. ()Galland, Gabriel: op.cit., p 4.
  16. ()Gentil, pierre: la conquête du tchad (1894 – 1916) ministère de la Défense nationale, état – major de l’armée de terre, service historique, 1971, p 174.
  17. ()Galland, Gabriel: op, cit, p 45.

    *قورو: حاكم حامية فورت لامي .

  18. ()Gentil, pierre: op.cit., p 176.
  19. ()pp, 176.، Ibid
  20. () Ibid, p, 176.
  21. ()Gentil, pierre: op.cit., p 177.
  22. ()Galland Gabriel: op.cit., p 203.
  23. () الماحي، عبد الرحمن عمر: تشاد من الإستعمار حتى الاستقلال ، مرجع سبق ذكره ، ص 135.
  24. () النور، أحمد سمي جدو محمد: مرجع سبق ذكره، ص 111.
  25. () نفس المرجع، ص 112.
  26. ()Galland, Gabriel: op.cit., p 22
  27. ()صالح، إبراهيم صالح الحسيني : تاريخ الاسلام وحياة العرب في امبراطورية كازم برنو، مطبعة مصطفى الباب الحلبي، مصر، 2008م. ص 192.
  28. ()Assilek, Mahamat: Conquête clomiale et délimitation des frontières du tchad (1890 – 1936), mémoire de master en histoire, civeste de ngaudere, 2007, p 32.
  29. () صالح إبراهيم، مرجع سبق ذكره ، ص 191.
  30. ()Galland, Gabriel: op.cit., p 202.
  31. ()Assilek, Mahamat: op.cit., p 30.
  32. ()Galland, Gabriel: op.cit., p 207.
  33. ()Galland, Gabriel: op.cit., pp, 209 – 210.
  34. () النور، أحمد سمي جدو محمد: مرجع سبق ذكره، ص 112.
  35. ()Assileck, Mahamat: op.cit., p, 34.
  36. ()Gentil, pierre: op.cit., p, 172..
  37. () Gentil, pierre: cit, p, 174.
  38. ()Ibid., p, 195.
  39. ()Assileck, Mahamat: op.cit., p, 47.
  40. ()Galland, Gabriel: op.cit., p – 209.
  41. ()Gentil, pierre: op.cit., p 198,
  42. ()Gentil,Pirre;Op;cit,P,198.
  43. ()Gentil, perreOp cit, p, 204.
  44. () Djarma, garonde: la resistance du sultan doud mourra du ouadai, Ndjamena, 2006, op.cit., p 8.
  45. () Gentil, perre: op.cit., p 207.
  46. ()Djarma, ngarondé: op.cit., p 8.
  47. () النور، سمي جدو محمد: مرجع سابق، ص 119.
  48. ()Gentil, perre: op.cit., p 207.
  49. / الطيب إدريس حلولو، المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الفرنسي في تشاد 1894-1920م، رسالة ماجستير جامعة الملك فيصل، 2001م غير منشور، ص122
  50. / عبدالرحمن عيسى يوسف، المقاومة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي 1897-1944م ، بحث مقدم لنيل درجة الدراسات المعمقة، جامعة الملك فيصل ، 1999م غير منشور، ص55
  51. / محمد أحمد أبو سحر، مذبحة الكبكب في تشاد أسبابها ونتائجها، مطبعة سلسبيل، الخرطوم، ط1، 2018م ص ص 90،91.
  52. / محمد صالح أيوب، الدور الاجتماعي والسياسي للشيخ عبدالجق السنوسي الترجمي في دار وداي ، تشاد، 1853-1917م، جمعية الدعوة الإسلامية، ليبيا، ط1، 2001م، ص 162
  53. / المرجع نفسه، ص163.