الاتساع لدى التُّجيبي في كتابه المُختار من شعر بشَّار( ت نحو-445ه)

أ.د. نزار شكور شاكر1

1 جامعة السليمانية – كلية التربية الأساس، العراق.

بريد الكتروني: nzar76shkor@yahoo.com

HNSJ, 2023, 4(2); https://doi.org/10.53796/hnsj4252

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/02/2023م تاريخ القبول: 21/01/2023م

المستخلص

يهدف البحث إلى تسليط الضوء على (الاتساع لدى التُّجيبي في كتابه المختار من شعر بشَّار) ، وقد أسفر سياق البحث الذي يقوم على وفق رؤية (بلاغية – نقدية) عن جملة نتائج من أبرزها أن الاتساع بوصفه مفهوماً نقدياً – بلاغياً ضلَّ محافظاً على خصوصيته في معالجات التُّجيبي في الكتاب المذكور وذلك في ضوء حزمة من الإجراءات النقدية المتَّبعة في إطار التعامل مع النصوص في هذا الحقل ، الكفيلة من جانب بتحقيق هذا المطلب البحثي الذي كانت منطلقاته وتطبيقاته موضوعية في تعاملها مع النص ، قياساً إلى كونها ذاتية مجرَّدة عن المعرفة والخبرة فضلاًعن الذوق الجمالي الحاضر في هذا المجال .

الكلمات المفتاحية: الاتساع ، التُّجيبي ، المختار

المقدمة

لاشكَّ في أنَّ قراءة المؤلَّفات العربية القديمة تعدُّ قراءة ماتعة من أوجه عديدة وفي مجالات متعددة شهدها التأليف في الموروث العربي ، إذ تكشف عن قضايا ومعالجات رافقتها ، ويعدُّ كتاب المُختار من شعر بشَّار- اختيار الخالديّينِ لأبي الطاهر إسماعيل بن أحمد بن زيادة الله التُّجيبي البرقي أحد تلك المؤلَّفات الخالدة التي حوت جوانب معرفية ولغوية عديدة منها ما تطرَّق- بعد عملية استقراء- إلى موضوع (الاتساع) بمفهومه النقدي – البلاغي ، من هذا المنطلق المعرفي يهدف البحث الحالي إلى بيان مفهوم الاتساع وأهميته في مجال تأويل النصوص وذلك بالعودة شيئاً ما إلى جانب من تطبيقاته النقدية كما عرضها لنا التُّجيبي وفي ضوء الإشكالات التي تتولَّد عن تأويل النصوص ، أو تداول اللفظ والمعنى الشعري على مستوى التلقي الأدبي ، وصولاً الى عرض بعض الجوانب التي تكفل له خصوصيته وموضوعيته بوصفه مصطلحاً قاراً في النقد والبلاغة العربية ، ولذا الغرض تمَّ اعتماد المنهاج(الوصفي – التحليلي) منهاجاً للبحث ، ولم تفرض طبيعة البحث – وفقاً لمعطياته – تقسيمات محدَّدة كأن يكون على مباحث أو محاور دراسية بل اكتفينا بتقسيم رئيس يقوم على الدراسة الشاملة ضمن سلسلة محطَّات فرعية مترابطة ، والخاتمة التي ذكرنا فيها أبرز النتائج التي توصَّلنا إليها ، وقائمة المصادر والمراجع التي استعان بها الباحث .

الدراسة

في تعريف الاتساع قال ابن رشيق : (( هو أن يقول الشاعر بيتاً يتّسع فيه التأويل فيأتي كل واحد بمعنى وانَّما يقع ذلك لاحتمال اللفظ وقوته واتساع المعنى )) . وقال المصري : (( هو أن يأتي الشاعر ببيت يتسع فيه التأويل على قدر قوى الناظر فيه وبحسب ما تحتمله ألفاظه )) . وقال السبكي : (( هو كل كلام تتسع تأويلاته فتتفاوت العقول فيها لكثرة احتمالاته )) .[1] يأتي هذا في سياق أنَّ (( المعاني مخفيَّة ( أو أن أكثرها كذلك )) [2] كما أن المعنى (( غير مخبوء في أي جزئية نصيَّة ، وإنما هناك بنيات متعددة ترسم مسارات مختلفة لاحتمالات المعنى ، وتشترط هذه البنيات اندماج المتلقي مع النص ، إذ يستخلص المتلقي المعنى الذي يعد خلاصة تفاعل تصوراته الذاتية وخبراته القراءاتية مع البُنى النَّصية )) [3] ، وهذا ما يعدُّ مغايراً من جانب آخر لمفهوم الاتساع النصي الذي يقوم على آليات أخرى [4] ، والمعنى الثاني إذ يذهب الراعوش إلى تحديد الفرق (( بين مصطلح اتساع المعنى والمعاني الثانية هو أن المعاني التي يتّسع لها اللفظ تكون مقصودة ، حتى وان اعتمد الأقوى منهما فلا تلغي المعاني الأخرى ، ذلك لأن اللفظ والتعبير والسياق يحتملها جميعاً ، وهي متساوية أو متقاربة في قوة دلالة التعبير عليها (…) ، أما المعاني الثانية فتطلق على كل معنى يحتمله التعبير سواء كان هذا المعنى مراداً من المتكلم أو لم يكن ، وربما أطلقوا المعنى الثاني على معنى لا يجتمع مع الأول أو عارضه )) . [5]

وانطلاقاً من هذه الرؤيا (البلاغية – النقدية) وأبعادها سنشرع بإجراءات البحث الحالي . إذ وردت إشارات لدى التجيبي إلى إمكانية وردود المعنى في البيت على أحد الأمرين ، مع التنبيه على التقارب مع قول الشاعر في نتاجه من قبلُ في كلتا الحالين ، وذلك بناءً على ما يوحي به توظيف اللفظ المرصود ضمن هذا الحقل وفي فضاء القصد الشعري الغني بالدلالات ، فضلاً عمَّا يقتضيه السياق من بيان يذكر يختصر تفسير الأبيات المتقاربة في المعنى ، نقرأ (( قول أبي معاذ من قصيدة :

قَد أسْلُبُ المَــــــــلِك الجبَّارَ حُلَّته في مأقِطٍ مثل حدِّ السَّيف مشهودِ

(…) وأمَّا معنى البيت فيحتمل أمرين : أحدهما أن يكون عني بالمأقط مضيق الحرب وأنَّ من شأن قومه غَلْبُ الملوك وسَلْبُهم هناك فذكر نفسه وأراد قومه فيجري هذا مجرى قوله أيضاً :

إذا ما غضِـــــــبنَا غَضْبَةً مُضَـــــريّةً هَتكنا حجابَ الشَّمس أو مطرَتْ دَما

وإنَّا لَقَـــوْمٌ مَـــــــــــــــا تَزال جيــــــــــــــــــادُنا تُسَاوِرُ مـَــــــلْكا أوتُنَاهِبُ مَـــــــــــــــــــــــــــــــــغْنَمَا

والقول الآخر أن يكون عنَى نفسه ولم يرد غيره ، ويكون معناه كمعنى قوله أيضاً :

وأملاكُ صدقٍ ألْبَسَتْنِي طرازَهم قَصائدُ مَالـــــــــــــــــــي غيرُهن شفيعُ

فَشَبَّه مَقامه في مجلس الملك وهيبة مجلسه بمأقط الحرب ، وشَبَّه ثباته فيه بثبات الأبطال وأشدّاء الرجال فيقول : رُبَّ مَقامٍ قمتُه عند ملك جبّار لا يُكَلَّمُ ولا يُنْظَر إليه هيبةً أنشدته مدحه في مجلسه فحضره كُبراء أصحابه وجلّة أهل مملكته . فحَسُنَ موقعُ شعري منه وأطربه فأحسَنَ في ذلك المقام إليَّ وخلع حُلَّته عليَّ )) .[6]

ونقرأ أيضاً بيان ماورد في هذا السياق من أقوال العلماء ، ومذاهبهم في توظيف اللفظ ( اليمين ) : (( وأمَّا قول الشمَّاخ :

رأيتُ عَرابة الأوسيّ يَسمو إلى الخَيرات منقطع القَرينِ

إذا ما رايَة رُفِــــــــعَتْ لمَجْدٍ تلقـَّـــاها عَـــــرابة باليَمِـــــــــــــــــينِ

فقال بعض العلماء قوله : باليمين أي بالقوة ، وقال أبو عمرو والأصمعي : أراد بيمينه لأنها أحمد من اليسار وقال غيرهما بالقدرة )) . [7]

وفضلاً عمَّا يوحي به اللفظ من وصف الحال البادي للعيان ولاسيَّما ضمن أغراض المديح والفخر في تأويل المعنى ، قد يكون اللفظ ذاته مثار قيام أكثر من وجه في تأويل البيت الشعري القائم على توظيف بعض المسمَّيات ودوالها اللونية من نحو(الفضّة) ، وما يتقارب معها دلالياً (الأقداح من الفضة) ، والتفسير لذلك القول الموافق لبعض جوانب التأويل الشعري بالنظر إلى معاني اللفظ الموظَّف في السياق الشعري (( قال الأعشى :

بَاكَرَتْهَا الأغرابُ فِي سِنَة النَّوْ م فتَجري خِلالَ شوك السَّيَــــــالِ

قال بعض العلماء : قال أبو عبيدة : يعني بالأغراب بياض أسنانها ، ومنه سمِّيت الفضَّة غَرَبا . وقال غيره: أراد الأقداح من الفضّة يقول : باكرتْها الأقداحُ وفيها الخمر فَجَرَت الخمرة خلال شوك السيال أي بين أسنانها إذا شربتها ، والسَّيال شجر له شوك أبيض فشبَّه الثغر به لبياضه (…) ، وقال آخر: الغَرَب اسم من اسماء الخمر لأنها تغرب بعقل شاربها )) .[8]

وبإزاء ذلك هنالك مظهر يتمثَّل في بروز المُداخلة من لدن التجيبي ذات البعد التقويمي (التأويل الجديد) الذي قام على أساس نفي التأويل السابق كما ورد لدى ابن جني في قراءته لبيتي المتنبِّي ، وذلك على وفق جهد قراءة جديدة يحتملها القول الشعري جاءت لتصحيح مسار تأويل المعنى الأول حَرفياً على الرغم من إمكاناته بمعنى أننا نلمس توافر بعض الدوافع لتأويل المعنى من وجه موضوعي – جديد على وفق وجود بعض الإشارات النصية وتلك الخبرة النقدية التي تدعو من جديد إلى ذلك بعد مرحلة غياب أولية كانت قد أفضت معطياتها إلى تأويل أسبق لأسباب ، وليس الأمر مجرد رياضية عقلية تستهوي بعضهم في هذا الحقل من دون ضرورة تذكر إذ أن (( ضرورة التأويل تنشأ من وجود سوء الفهم والتوتر، فإن النص قد يصبح نقطة انطلاق لمسارات تأويلية متعددة في هذه اللحظة يشتغل المعنى الحرفي كتقييد لحرية المؤول ، يسيج الفعل التوليدي لتأويلاته بضرورة إيجاد نوع من الارتباط الدلالي مع هذه النواة الأولى ، وتتوقف إمكانية هذه التأويلات على قدرة المؤول على تفعيل دلالات جديدة بالاستناد إلى العلامات والعلاقات الظاهرة للرسالة )) [9]، قال المُتنبِّي :

(( تَمَتَّعْ من سُــــــهاد أو رُقادِ ولا تَأمُلْ كَرًى تَحـــتَ الرِّجامِ

فإنّ لثالث الحـَـالين معنًى سوى معنى انتباهك والمَـــنام

الرِّجام القبور واحدها رَجَم . قال أبو الفتح عثمان بن جنّي عند ذكر هذا البيت : أرجو أنه لا يكون أراد أنّ نومة القبر لا انتباه لها يعني بذلك المتنبّي ، وكأنه علّق عليه أنه نَفَى بهذا البعث ، ولا يلزمه عندي ماظنَّ به وعلَّق عليه لأنه ليس في بيته ما يدلّ على ذلك وإنما قال :

تَمَتَّعْ من سُــــــهاد أو رُقادِ ولا تَأمُلْ كَرًى تَحـــت الرِّجامِ

أي تمتَّع من دنياك في حال يقظتك ومنامك ، ولا تَرْجُ أنّك إذا مِت تكون كالنائم على ما يقوله بعض الناس إنما هو الموت فهناك تكون مَيْتاً لا نائماً ولا مُنتبهاً وهو ثالث الحالين ، ومعناه غير معنى النوم والانتباه جميعا لأن الحياة موجودة بالنائم والمُنتَبه ولا حياة لميت فافترقا واختلف المعنى بعدم الحياة )) . [10]

وقد يقود هذا الأمر من زاوية معرفية إلى القول أنَّ في عملية التأصيل الإبستمولوجي للقول الشعري المتداول بين الشعراء – بعد أن لمسنا ملامح هذا الأمر- هنالك مظهر من مظاهرالاتساع منبثق عن أساليب بعض الإجراءات التحقيقية (في النص ونقده) ولاسيَّما ضمن قضية الأخذ النقدية ، وذلك للخروج بمزيَّة السَّبق غير الزمني وضدِّها التي لاقت نصيباً من الملاحظات التقويمية في إطار رصد العيوب النقدية ، وتقديم البديل الشعري الذاتي الحاضر في هذا الموضوع على نحوٍ شائع ، لغايات مألوفة من أبرزها التحقق من نسبة الجمالية في المعنى على مستوى التلقي ضمن مرحلة القراءة الأولى في النصوص الشعرية التي تفتح الباب لقراءات لاحقة ينجم عنها تأويلات متعددة ، وفي المقابل في المرحلة الثانية وبعد رصد حجم الزيادة في التأويل كمؤشر نقدي أخذ وعلى نحوٍ مغاير الاستحسان النقدي والتأويل البلاغي من لدن التجيبي إلى النص ذاته سبيلاً في إطار عملية نقد النقد اللاحقة التي تعدُّ أحد مظاهر الاتساع الذي يقوم في مفهومه على مبدأ تعدُّد القراءات التأويلية للنص ولاسيَّما تلك التي تنفي من جانبها التُهمة عن المُبدع – نقدياً وذلك بعد اقترانها بالجانب البلاغي المنتظم الأركان ، وماهو شائع في نطاق الاتساع ، فضلاً عن حضور الأُنموذج القديم في سياق المعالجة الذي قد يثير الإشكال ذاته نقدياً إذا ما تمَّ تأويله على نحو مغاير لما هو عليه في الأصل ممَّا حدى بالتجيبي في هذا المقام إلى بيانه على أتمِّ وجه من أجل تحقيق أكثر من غاية تؤشر أسباب قيام الـتأويل النصي ، إذ قال مُحقِّقاً في مجال هذه المفارقة الناجمة عن أبعاد رؤى نقدية ذاتية تستند على رصد 🙁 التَّعسف، التَّكلف ، الإغراب ، الحسن) تنبَّه إليها الناقد للنقد المنجز، وبديله المتحقق على مستوى النص جرى ذلك في إطار الرد والاستفهام الإنكاري منطلقاً من قول بشَّار : (( وأمَّا قول أبي معاذ :

جَفت عيني عن التغميض حَتى كأنَّ جُـــــفونها عــــــــــــــــــــــنها قصـــــــارُ

فمن قول جميل :

كأنَّ المُحب قصيرُ الجفونِ لِطول السُّــــــــــــهاد ولم تَقْصُرِ

إلاَّ أنَّ بشَّاراً أحسن فيه فصَار أحقَّ به ، وتناوله العَتَّابي فأفسده بقوله :

في مَآقِيَّ انقباضٌ عن جُفونهما وفي الجفون عـــــــن الأماقِ تقصيرُ

وأخذه المتنبِّي فقال :

أعِيدو صَباحي فهو عند الكواعب ورُدُّوا رقادي فهـــو لحـــــظ الحبائبِ

فإنَّ نَهــــــــــــــــــــــــــــــــــــاري ليلة مُدْلَهِمَّة على مقلةٍ مـــــــــن فقدكم فـي غياهِبِ

بعيــــــــــــــــــدة ما بيــــن الجفون كأنَّمَا عَقَدْتم أعَالي كُل هـــــــــــدبٍ بــحاجبِ

فجاء به مليحاً فأغرب اغرابا حَسَناً ، غير أنَّ ابن وكيع عاب عليه وقال : هذا تكلُّف وتعسُّف ويَدلُّ على شَعر حواجبه أنه طويل يمكن فيه العقد . قال : وكان يجب عليه أيضاً أن يذكر أنَّ لشَعرِ جَفن عينه من أسفَل ما يرتبط به حتى يَتَقَبَّحَ ، وقال ألا قال كما قلتُ وأنشد لنفسه :

لمَّا جَفَا النومُ جَفْنَ عيني فخالَفَتْ عــــــــادةَ العُيــــــونِ

لَمَسْتُ مِنها الجفونَ شَكًّا قلتُ عَسَاهَا بـــلا جُـــــــفونِ

قال إسماعيل بن أحمد : وعندي أنَّ تعسف ابن وكيع لهذا التأويل أبشع وتَكلّفه إيَّاه أشنع ولاعيب على المتنبي في بيته عندي ولايلزمه ماقاله ابن وكيع لأنَّه إنَّما قال هذا على التشبيه المجازي والتوسعة المباحة للشعر لا أنه أخبر عن العقد الحقيقي وأنَّهم فعلوا ذلك بعينه وحاجبه ، ومَجرى بيته عندي مَجْرَى بيت امرئ القيس وإن اختلف المعنيان قال امرؤ القيس :

فيَالَكَ من ليلٍ كأنَّ نجومه بكُلّ مُغَار الفتل شُدَّتْ بِيَذْبُلِ

فهل يسوغ لقائل أن يقول: هذا يَدُلُّ على أنَّ للنجوم عُرًى وفي الجبل أواخِيَّ بها يمكن العقد فيها ويستحكم السند)).[11]

ومن البديهي بعد ذلك أن نلحظ مجيء التأويل اللاحق من أجل تصحيح مسار التأويل السابق الذي يُعاب عليه الشاعر لجملة أسباب تنأى عن الفهم لأول وهلة أو تغيب عن الإدراك ، مما ولد ردّة فعل إزاءها ضمن حيِّز الاتساع في ثنائية (الشك واليقين) ، بمعنى أن أحد دوافع الاتساع الرئيسة جاءت بعد عمليات تفعيل القراءة الثانية التقويمية لمخرجات التأويل الناجز للنص الشعري والرجوع بالاحتكام إليه بوصفه نقطة ارتكاز كما ورد في النقل عن المصدر النقدي الذي تصدَّى لهذا التأويل المشكل ، والأبرز هنا أننا نجد في هذا النص توافر موقف التأييد من لدن التجيبي لهذه القراءة التقويمية – الموضوعية من المصدر فضلاً عمَّا رافقها من تفسير أفرز في المحصلة مظهراً من مظاهر الاتساع في المعنى القائم في البيت الشعري من منطلق نقدي آخر، كما أشَّرت في الوقت ذاته مفارقة لطيفة من نوعها وجمالية في مذهب من مذاهب الشعراء في هذا الغرض النمطي في أغلب الأحيان ، نقرأ (( قول الأعشى :

ونُبئْتُ قَيــــــــــــــــــــــساً ولم آتِهِ وقَد زعَموا سَـــــادَ أهلَ اليَمَـــنْ

ذكر أبو القاسم الحسين بن بِشْر الآمدي الكاتب صاحب كتاب الموازنة بين الطائِيَّيْن : أبي تمَّام حبيب وأبي عبادة البحتري أن بيت الأعشى هذا ممَّا عِيبَ عليه بالتشكُّك الذي توهّم فيه ، وقيل : إنَّ قيساً أنكره عليه فقال أبو القاسم ردًّا لذلك ومنتصراً للأعشى : هذا غلط من قائله لم يقع في بيت الأعشى تشكُك وإنما قال : – وقد زعموا سَاد أهل اليمن – ، وحكايته ليست بشَكّ بل هي من أوكد اليقين لأنه أراد أنَّ الناس زعموا فنسب الزعم إلى الكافَّة ولم يَحْكه عن نفسه كما جرت به العادة من إفراط الشاعر في مدح الممدوح وهذا معنى لطيف مستعمل ومذهب يُستحسن )) . [12]

وضمن هذه الدائرة البحثية ومن جهة التثبت والتحقق التي كانت تتم في فضاء غير بعيد نسبياً عن مفهوم الاتساع ضمن مفهومه الانفتاحي نجد حضور بعض صور (التأويل الأحادي) الذي لا يقوِّض فحوى عملية التأويل ويحجم فضاءاتها المعرفية بالقدر الذي يطمح بالدرجة الأساس إلى الوصول الآمن بالمتلقي إلى منطقة المعنى الصحيح في المنتج الشعري ، بناءً على توافر بعض الدوافع لهذا الإجراء التوجيهي المُتَّبع في النقد القديم كما مرَّ معنا قبل قليل ، وانطلاقاً من قاعدة المنطلقات التعليمية في سياق النقد العربي القديم التي تنأى بالمتلقي عن مسارات التأويل غير الصائب المصاحب للغموض الذي يلف أحياناً المعنى سواء أكان النصي المتحقق من قول الشاعر ذاته ، أم التأويلي له الناجم عن تلقيه بشكل من الأشكال في فضاء التلقي بعد ذلك ، ولاسيَّما بعد أن تنبَّه إليه النُّقاد ضمن أمثلة قولية قد تثير الإشكال ذاته في سياق تلقيها مما يستدعي موقفاً حازماً في بيانها على أتمِّ وجهٍ يذكر بعد تحديد مسارات التأويل المرسوم للمعنى في النص ضمن اتجاه واحد مزيته أنَّه يضمن قدر المستطاع عدم الوقوع في منطقة المحظور من التأويل ، بعد أن تم تحديد هذا المنزلق ، التي كانت تشغل اهتمام النقاد القدامى ، ولعلَّ هذه المداخلة بهذا الشكل جاءت بعد ملاحظة الجهة التي يعود النص إليها كما يُشار إلى ذلك ، أي أنَّ هذا الصنف من التوجيهات كانت له دوافع تذكر، نقرأ قول بشَّار بهذا الصدد :

(( قالوا حَرام تَلاقيِنا لقد كَذَبوا … البيت

(…) وأمَّا قوله قالوا : حرام تلاقينا البيت فمثله ما يحكى عن الشَّافعي -رحمه الله- انه وقفت عليه امراة برقعة فتناولها فإذا فيها :

سَلُوا المفتي المكِّيِّ هَل في تزاوُر وضَمَّــــــةِ مَحزونِ الفُــــؤاد جُـــنَاحُ

فردَّها عليها بعد أن قرأها وكتب تحت البيت :

مَعَاذَ إلهِ النَاس أن يُذْهِبَ التقَى تلاصُـــــقُ أكبادٍ بِـــــــــــــــــهنَّ جِـــراح

وأنا أرتاب بهذه الحكاية عن الشَّافعي – رحمه الله- على كثرة إسنادها إليه وتعليقها به ، على أنه قد وُجِّهَ لها وُجَيْهٌ فقيل : المعنى مَعَاذ الله أن يفعل هذا تَقِيٌّ فيُذْهِبَ تُقاهُ فعلُه إيَّاه كقولك : معاذ الله أن تفعل فيُسْقِطَ جاهَكَ شربُ الخمر وما أشبهه أي معاذ الله أن تفعل فَيسقطَ جاهك ، وفي هذا بعض الغموض فَتَنبَّه له ونحو من هذا الأسلوب وإن لم يكن المعنى نفسه ما جاء في الحديث : إذا لم تستح فاصنع ما شئت قال المازني : معناه إذا صنعتَ ما لا يُستحيا من مثله فاصنَعْ ما شئت وليس على ما تذهب العوام إليه )) .[13]

ومثل هذا الإجراء المقنَّن معرفياً قد نجده أيضاً ضمن مظاهر التعويل على دلالة اللفظ في قيام مظهر الاتساع المتطلِّب هنا التوجيه اللغوي السليم لمعناه الذي يُحمل على أكثر من مَحمل دلالي في نطاق تلقي النص وذلك عن طريق توظيف أسلوب النفي المتَّبع لهذا الغرض ، أكثر مما يتطلَّب الأمر قيام تأويل جديد على أعقاب التأويل الأسبق ، إذ نقرأ للتجيبي بعد قياس قابلية اللفظ عملياً على الانفتاح على الدوال المتعدِّدة ضمن السياق الشعري على نحوٍ مقارب مع النصوص غير الشعرية في إطار إجراء نوعي يقوم على استخدام المعرفة والخبرة في هذا المجال لدى الناقد المغربي ، إذ (( لم يكتف القارىء الناقد المغربي بتتبع مواطن الجمال في النص ، وتفريغ احساس بالجمال في ذلك وإنَّما كان فعل توجيه التلقي العام للنص واضحاً في مقاربة النص بحكم خبرته وتجاربه )) [14] : (( وقول أبي معاذ من أبيات :

تَثاقلتُ إلاّ عن يدٍ أستفيدها وزَوْرَةِ أملاك أشُدُّ بها أزْري

وقوله – إلاّ عن يد أستفيدها- هو بمعنى أُفِيدُها غيري وليس معناه أستدعيها من الناس ، وقد جاء استفعلَ بمعنى أفْعَلَ كثيراً في القرءان قال سبحانه ” كمثلِ الذي استوقد ناراً ” قيل معناه أوْقَدَ )) . [15]

أو النفي والاستدراك لغرض البيان في قوله : (( قال الراجز :

إنَّا اذا نَازَعَنَا شَرِيْبُ لنا ذَنوبٌ وله ذَنُوبُ

وان أبى كان له القليبُ

نازَعَنا هنا ليس من منازعة الخصومة ، ولكنه من منازعة الدِّلاء نحو المُسَاجَلة ينزع هذا دلواً وينزع هذا دلواً )).[16]

وفضلاً عن رصد مخرجات السياق اللغوي ، وتحديد الأصوب في هذا السياق نلمح أيضاً حضور بعض تجليات المنظومة البلاغية في إفادتها هذا الحقل ولاسيَّما مع التشبيه والتشبيه المقلوب ، ومصدر التشبيه فقد أفادت بعض إشارات الوجهة البلاغية – البيانية هذا الحقل وأسفرت عن مظهر مارس سلطته المعهودة على النَّص ، بوصفه مطلباً معرفياً لاغنى عنه يلوح في هذا الأفق ، مما حجمَّ من هالة التأويلات التي تنشأ حوله فمن التشبيه نقرأ قول ابن المعتز :

(( ومُمتدِّ غُدْرَانٍ ترى الطّير وسطها وقوعاً كَـــــــــما امتدّ الرداء المــــطيّرُ

وتشبيه هذا ماء الغدير بالرداء المطيَّر إنما هو في حال سكونه لا في حال تحرّكه وتكسّره )) . [17]

أمَّا على مستوى رصد التَّشبيه المقلوب الذي قد يثير إشكالية على مستوى التأويل في رسم أبعاد الصورة الشعرية فنقرأ بعد استدعى الأمر نقل أقوال العلماء في ذلك وإجماعهم على الأمر : (( قال الشاعر:

حتى لحقنا بهم تَعدُو فوارسُنا كأنَّنا رَعْـــــــــــــنُ قُفٍّ يـَـــــــــرفَع الآلاَ

وقال العلماء : هذا من المقلوب ، وإنما أراد الشاعر كأننا رعن قفّ يرفعه الآلُ )) . [18]

وبإزاء ما سبق ذكره قد ينصرف منحى التَّوجيه في عملية تلقي المعنى ثمَّ تلمس إمكانية تأويله في إطار اللفظ المُفَعَّل فنياً إلى منطقة الوجهة البلاغية المقترحة من لدن الناقد بعد الإنتهاء من مرحلة إنتاج النص وذلك ضمن سياق القراءة النقدية الفاعلة التي تحتمل بين طياتها وجهاً جمالياً مقبولاً لمعنى البيت ، حرص الناقد القديم على بيانه بعد تقديم البديل عن دلالة اللفظ المُتَسِّع القابل للتوظيف الجمالي المتعدد في سياق عملية التشبيه البلاغية وما توحي به من إيحاءات جمالية رصدها التجيبي قائلاً: (( قول التنوخي : – تعطف منهن علينا ما مضى- مأخوذ من قول العَجَّاج في وصف ليلة :

بِتُّ لــــــها يَقظَانَ وأقــــــــــــــــــسَأَنَّتِ إذا رجوتُ أن تــــــــــضيء اسْوَدتِ

دُوْنَ قُدَامَى الصبح وارجَحنَّتِ منها عجَا ســــاءُ إذا مــا التـــــــــــجَّت

(…) والتجَّت اختلطت مأخوذ من اللجة وهي اختلاط الأصوات ، ولو أخذه من اللجة وهو مُعظم الماء فَشَبه تراكمُ الظلمة بتراكم الماء وكثرتِه لكان حَسَناً سائغاً )) . [19]

ولعلَّ الأبعاد التي تمَّ ذكرها فيما سبق على ما توحي به من ممارسات متعددة تفرض سلطة من نوعها على مسار التأويل جاءت لغاية تنظيمية – فكرية فحسب وفي الحدود المسموح بها ، ذلك أن ثمَّة حقول إبداعية ولاسيَّما ذات المساس بالصورة لاتقبل بهذه السلطة ونمط قراءتها الصارم الذي يتعارض مع نشاط التأويل المنبثق عن الصورة ذاتها ، إذ (( لابدَّ من الاعتراف بالمبدأ الذي تطرحه علينا قراءة الصورة ، وهو مبدأ تعدد التأويلات أو جمعية التأويل ، لأن الصورة كما يقول ر. دوبري : علامة تمثِّل خاصيَّة كونها قابلة للتأويل(…) إذ تمنحنا إمكانية الحديث عنها وتقديم تأويلات متعددة حولها )) . [20]

ومن جانب الغرض الشعري ومتطلَّباته الجمالية فقد شهد الاتجاه الطامح إلى تقليص المعنى وبالتالي تقليص حجم التأويل له خارج إطار النص الأسبق في إلتفاتة ذكية بعد أن شهد أحد المعاني تناقضاً يذكر في الوصف القائم مما يستدعي بالضرورة توقف التأويل عنده ، توافر البديل الشعري الأسبق الذي يتوافق مع الهدف من التعبير ولا يخرج عن أُطُره الذي كان قد ساقه الشاعر- الناقد من نتاجه الشعري بعد عملية التلقي التي أفادت هذا المظهر القائم على المنطق المُسَّوِغ الفعلي لعملية النقد الموضوعي للاتساع على مستوى النص الشعري ، فضلاً عن بروز جانب الترويج الإعلامي لشاعرية الشاعر – الناقد القائم على هذا المُقترح النصي وما يؤول إليه من توافق في نظر الناقد من جديد على حسب طرحه له ، إذ (( ذُكر أن بشاراً أُنْشِدَ قول كُثَيَّر بن عبد الرحمن :

ألا إنَّما ليلَى عَصَا خيزرانةٍ إذا غمزوها بـــــــــــــالأكُفِّ تـَــلِين

فقال : ما لأبي صخر قاتله الله يزعم أنها عصاً ويعتذر أنها خيزرانة والله لو قال : عصا مُخٍّ أو عصا زُبْدٍ لكان قد هجَّنها بذكر العَصا ، هلاَّ قال كما قلت وأنشد – وحوراء المدامع من معد – والبيت الذي بعده )) . [21]

وانطلاقاً من بعض معطيات النَّص في أعلاه تقتضي بعض متطلَّبات البحث الحالي تسليط الضوء على بعض الدوافع من التراث التي قد تكمن وراء مظهر آخر من مظاهر تحجيم المعنى التي قد ترافق التأويل له تلك المهمة التي اضطلع بها الناقد – الشاعر ولاسيَّما حينما يتعلَّق الأمر بالمساس بنتاجه الشعري والحرص الشديد على المحافظة على ذيوعه وشهرته في إطار عملية التلقي المستقبلية لأثره ، هذا الأمر الداخل في مفهوم (احتكار المعنى) الذي قد يلقي بضلاله على التأويل بناءً على فلسفة ذاتية تجنح نحو الإحادية في العملية الإبداعية ، والتأويلية على وفق مبررات ذاتية ، نقرأ قول بشَّار: ((

من راقبَ النَاس لم يظفَرْ بِحَاجته وفَازَ بالطــــــيِّبات الفَـــــــاتكُ الــــــــلَهِجُ

قالُـــــــــــــوا حَرام تَلاقِينــــــــــــا لقد كَذَبـوا مــــــــــا في التزامٍ ولا في قُبْـــــلَة حَرَجُ

ذُكر أنَّ سلماً الخاسر كان تلميذاً لبشَّار وكان قريباً منه فلما أخذ معنى قوله : من راقب الناس لم يظفر بحاجته وقال :

من راقب الناسَ مات غَماً وفــــــــازَ باللــــــــذَّة الجَسُــــــــــورُ

غضب بشَّار عليه وأبعده عن مجلسه وأقصاه فسأله بعض أهل الأدب أن يعيده إلى منزلته وأن يعود له إلى حسن رأيه فيه فأبَى وقال لا أفعل لأنَّه يأتي إلى معانيَّ التي أتْعب في اختراعها وأسهر ليلي في ابتداعها فيأخذها ويكسوها حُلة من لفظه فتُروى له ويُطرح قولي واللهِ لا أعدتُه أبداً إلاَّ أن يأتي فأبول في أذنه ثم يُقْسِم لي أنه لا يعود إلى شيء مما فعل ، فقيل إنَّ سلماً أتى بشاراً فوقع تحت شرطه وأعاده إلى موضعه )) . [22]

وفي هذا الموضوع الحيوي الذي يمسّ (الاتساع النصي) في الحقيقة يبدو أن للتجيبي رأياً آخر يحدّ من هذا التَّعنت بأشكاله وتجلياته ، ويحفظ للطرفين الحقوق ، جاء ذلك بعد سلسلة تحقيقات نصيَّة أجراها في نطاق عملية الأخذ بين الشعراء ، ولاسيَّما تلك النماذج الشعرية التي سجَّلت إخفاقاً ملحوظاً لا يليق بالشاعر وشهرته مما دعا إلى مقول القول الموضوعي وبيان الأنموذج الشعري المناسب في هذا الميدان الذي يُذكر فيه من كانت لمعانيه مزاياها بغض النظر عن مكانته في الوسط الشعري ، قال التجيبي في أحد المعاني الشعرية : (( وأخذه أبو الطيِّب فقال يرثي فاتكاً:

كنَّا نظُنُ ديـــــــــــــــــــــــــــاره مملوءة ذهباً فمات وكــــــــــــــلُّ دار بَلْقَـــــعُ

وإذا المكارم والصـــــوارم والقنا وبَنَاتُ أعوَجْ كُلُّ شيءٍ يجمــــــعُ

فلم يأت بطائل أكثر من جمع هذه الأشياء في بيت ، وذلك لمن هو دونه سهل متسع وممكن غير ممتنع وفضل اللاحق إنما هو في حسن العبارة ووضوح الإشارة وتلخيص المعنى بأحسن لفظ وتهذيبه وإدنائه من الفهم وتقريبه ، والفضل عندي في هذا المعنى لليلى بنت طريف بالاختراع واستغراقها إيَّاه بأحسن لفظ في مصراع )) . [23]

يأتي هذا البيان في ضوء ماتمَّ لدى التجيبي من رصد مفهوم الاتساع بوصفه من بعد آخر (حركة ديناميكية) عمد إليها الشاعر ذاته في نصِّه وذلك في سياق تقليب المعنى وهو في طور الإرسال على أكثر من وجه لاتعارض بينه والذي كانت له على الساحة الشعرية نماذج عديدة كما ذهب إلى ذلك التجيبي ، مما يلقي بظلاله على جانب من مجريات عمليات التأويل لدى المتلقي على حسب إفادة كل سياق معنى من المعاني التي يصحُّ الأخذ بها نصياً ، نقرأ ما جاء في صفة الخمر : (( وقال آخر في رقَّتها وصفائها وتَشَكك هل هي في كأسها أم الكأس فارغة :

مَشمولةٌ كشعاع الشمس في قدح مثل السراب يُرى مـــــن رقّةٍ شَـــبَحا

إذا تَعاطيتَها لم تَدر مــــــــــــن لُطف راحَـــــاً بلا قدحٍ عاطــــــــــــتك أم قدحــا

وأخذه الخالديُّ فقال :

هَتَفَ الصبحُ بالدجا فاسقنيِها قهوةً تَتْرُكُ الحلــــــــــــــــــــــــــيمَ سَفيها

لســتَ تدري لرقّة وصــــــــــــــــــفاء هي في كأسِها أم الكأس فــــيها

وهذا معنى غزير على ألْسُنِ الشعراء الموّلدين منهم والقدماء )) .[24]

من جانب آخر شهد موضوع البحث الحالي بيان بعض الآليات التي تمَّ في ضوئها تحقيق الاتساع على مستوى القول الشعري ، ربما من باب التمهيد لتلمُّس تداعياته في عمليات التلقي التي حرص عليها التجيبي وما ينجم عنها من تأويلات يفترض أن تكون صائبة ، منها الاستعارة التي ذاعت في شعر القدامى والمحدثين ، نقرأ : (( وقال آخر :

كأن على أنيابها الخَـــمر شابا بماء النَّدى من آخر الليل غابقُ

وما ذقتُــــــه إلا بعينــي تَوَسُّــــــــما كما شيمَ في أعلى السَّحابة بارقُ

قوله – وما ذقتُه إلا بعيني – توسُّع في الكلام لأن الحواس الخمس كل حاسة منها مخصوصة بعضو مخصوص لا توجد بغيره : فالنظر بالعين والشمّ بالأنف والذوق بالفم ، والسمع بالأذن ، واللمس باليد ، فاربع منها بالرأس وواحدة باليد وسائر الجسد ، فإذا ذكر منها شيء بجارحة هو لأخرى فانما يستعملون ذلك عن طريق الاستعارة والتَّوسعة ، وذلك من مذاهبهم فاشٍ في شعر القدماء والمحدثين )) .[25]

فضلاً عن التَّوسع في توظيف اللفظ في سياق الكلام في مجالات أُخر تحمل الدلالة الذاتية ضمن مفارقة لغوية بعد أن انتقلت من حقل إلى آخر ضمن الوسط الاجتماعي فـ (( الكَلَب أصله داء يصيبُ الإنسان كالجنون من عضَّة الكَلْب . الكَلِب الجميع الكَلْبِي . قال الشاعر:

دِماؤهُمُ من الكَلَب الشفَاءُ

وتُوُسِّعَ فيها فصار يضرب مثلاً في البخل وشدَّة الحرص وكلاهما من شأن الكلب وخُلُقه الذي جُبل عليه )). [26]

وثمَّة مظاهر دالة لدى التجيبي على التوسع في دلالة اللفظ المحتمل التفسيرات العديدة في السياق من دون بيان الأثر الفاعل له على مستوى التوسع في المعنى في ضوء الشرح القائم له وهذا ما يعني من جانب قيام قراءة دقيقة لدى التجيبي شاملة للنصوص وذلك على نحو جمعي سواء في نطاق الألفاظ المشتركة أم من ناحية المعاني ذاتها ودلالاتها على وفق القصد الشعري ، ومقدار الـتأويل الناجم عنها ، فضلاً عن رصد بعض الآليات الفنيَّة من نحو الاختصار الذي أسهم في رسم أبعاد المعنى الشعري المكثَّف ، والإشارة إليه من منطلق ذوقي ، ولا شكَّ في أنَّ لهذا الحضور النصي غاية تفيد مجريات التأويل ، نقرأ (( قول أبي معاذ من أبيات :

تثاقلتُ إلاّ عن يـَـــــــــــــــــــــــــــدٍ أستفيدها وزَوْرَةِ أمــــلاك أشُـــــــــــــــــــــــــدُّ بها أزْري

فلا تعجبي من خارج عـــــن غَواية رأى رَشَدًا قد يـــعرض الأمر للأمرِ

فهذا اواني قــد شرعتُ إلــــــى النُّهى وماتت هموم الطــــارقات فما تَسْرِي

(…) قال إسماعيل بن أحمد : وألفاظ هذه الأبيات الثلاثة وإن كانت محتملة لمَا مَرَّ من التفسير ولأكثر منه فانَّها قريبة المعاني ، وانما مُضَمَّنُهَا أنَّه يصف نفسه بالحِجا والتَحلِّي من الصِّبا وأنَّه لا يَخِف إلاّ إلى ما كسبه فخراً وجَرَّ إليه أجرا ، وما أحسن ما أشار المُتَنبي إلى هذه المعاني واختصرها فقال :

أطعتُ الغواني قبل مَطْمَح ناظري إلى مَنْظَــــرٍ يَصْغُرْنَ عنه ويَعْظُمُ )) [27]

ومما سبق تتبين لنا بعض المظاهر الإرشادية في سبيل التلقي والتأويل منها الإشارة إلى حقيقة الاتساع القائم على توافر المعاني المتوافقة ضمن الأغراض الشعرية على الرغم من اختلاف ألفاظها التي قد توحي باختلاف المعاني ، يأتي هذا البيان للإشكال الحاصل عند هذه النقطة بعد أن تنبَّه التجيبي إلى مسألة اختلاف دلالة اللفظ باختلاف الغرض الشعري والقصد في سياق الموازنات الشعرية بين النصوص الشعرية المتناظرة وتلمُّس أثرها في المعنى الواحد الذي يجمعها جميعاً ، قال التجيبي : (( وهذه الأبيات التي أوردتها نظائر لبيت بشَّار إنها وإن اختلفت ألفاظها في الظاهر لاختلاف أغراض شعرائها ومقاصدهم فيها ، فإن معانيها متفقة في الباطن ، ومحصولها النهي والتحذير من الثقة بقول لا يصدقه فعل وخَلقٍ لا يحمله خُلُق ومنظر لا يؤيّده مخبر )) . [28]

الخاتمة

يتبيَّن على نحو بارز أثر البعد التقويمي وحضوره بعد عملية القراءة السابقة للنص ، فضلاً عن نمط القراءة الأُحادية التي تعمل على رسم المسار منذ البداية لما تليها من قراءات في تناول موضوع الاتساع لدى التجيبي في كتابه ( المختار من شعر بشَّار) ، ولكن كما يبدو لم يكن هذا التَّوجه شائعاً عند كل نص ، بل كان الحذر سِمة له ، إذ نلحظه قد تعمَّق مع تلك النصوص التي تقبل المعالجات التي تمَّ ذكرها ، ونجد أن الإجراءات النقدية المتَّبعة في هذا النمط من التَّوجه النقدي كانت على نحو عام إجراءات تطبيقية تنهل من النص ومخرجاته البلاغية والجمالية التي لاتهدف في مسارها إلى رفض فكرة الاتساع أو تسعى إلى إلغائه بل لإفادة أن هذا الحقل الذي يتطلَّب الدراية والثقافة محاط بالكثير من الإشكالات الآنية والمتجدّدة على الدوام في النص الشعري المعيَّن وفي النصوص المقاربة له أيضاً ولاسيَّما في نطاق قضية (اللفظ والمعنى) على مستوى الاتساع ، وقضية ( الأخذ) على مستوى التَّوسع ، وقد يحدُّ من هذا الانفتاح وتداعياته على مستوى التأويل توافر المرجع الموضوعي للتأويل الذي يغري المتلقي بالانسياق في فضائه والذي قد لا يبدو متسعاً بهذا القدر الذي يسمح بتعدد التأويلات ، يأتي هذا البيان في ضوء قراءات شاملة وأخرى محدَّدة للنص كان التُّجيبي قد قام بها ، فضلاً عن عرض بعض المؤشرات النقدية التي لاتؤكد هذا الانفتاح المطلق ولاتدعو إليه في ضوء توافر الموقف المتشدِّد حيناً مما وقع في هذا الحقل من مغالطات موضوعية فضلاً عن رصد دوافع ذاتية قد تكون بمجملها وجهاً آخر للتأكيد على الموقف من الاتساع أو التوسع الذي كان التجيبي مهتماً به على النحو الآنف ذكره .

المصادر والمراجع

الكتب:

– آل وادي ، د. علي شناوة ، النقد الفني والتنظير الجمالي ، دار صفاء للنشر والتوزيع ، عمَّان ، مؤسسة دار الصادق الثقافية ، بابل ، ط1 ، 2011 .

– بلعابد ، عبد الحق ، سيميائيات الصورة ( بين آليات القراءة وفتوحات التأويل ) ، بحث محكَّم منشور ضمن كتاب ثقافة الصورة في الأدب والنقد / مؤتمر فيلادلفيا الدولي الثاني عشر ، 2007 ، مراجعة وتحرير : د. صالح أبو إصبع ( باشتراك) دار مجدلاوي للنشر والتوزيع ، عمَّان ، ط1 ، 2008 .

– بو عزه ، محمَّد ، استراتيجية التأويل من النصيَّة إلى التفكيكية ، منشورات الاختلاف ، الجزائر ، دار الأمان ، الرباط ط1 ، 2011 .

– التجيبي ، أبو الطاهر إسماعيل بن محمَّد ، المختار من شعر بشَّار – اختيار الخالديين ، اعتنى بنسخه وتصحيحه وتعليق الفوائد وتخريج أبياته ووضع فهارسه السيد محمَّد بدر الدين العلوي ، دار صادر ، بيروت د. ت .

– الراعوش ، أ. د. عماد ، اتساع المعنى القرآني ، على الموقع الألكتروني : www.noor-book.com .

– راي ، دليل ميسَّر إلى الفكر والمعنى ، ترجمة حمزة بن قبلان المزيني ، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع ، عمَّان ، ط1 2019 .

– مطلوب ، د. أحمد:

– معجم المصطلحات البلاغية وتطورها ، ج1 ، مطبوعات المجمع العلمي العراقي ، بغداد ، 1983 .

– معجم النقد العربي القديم ، ج1 ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، ط1 ، 1989 .

الدوريات :

– السعيد ، د. عبد الله بن سليمان بن محمَّد ، الاتساع النصي في شعر أبي نواس – دراسة تحليلية ، مجلة العلوم العربية ، العدد الثاني والستون ، محرَّم ، 1443 .

– منصوري ، د. نجوى ، مغشيش ، د. عبد المالك ، القارئ وتلقي النص الأدبي في النقد المغربي القديم التجيبي وكتابه المختار من شعر بشاراً أنموذجاً ، مجلة علوم اللغة العربية وآدابها ، م11 ، ع2 ، 2019 .

الهوامش

  1. مطلوب ، د. أحمد ، معجم المصطلحات البلاغية وتطورها ، ج1 ، مطبوعات المجمع العلمي العراقي ، بغداد ، 1983 41-42 . معجم النقد العربي القديم ، ج1 ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، ط1 ، 1989 ، 85 .
  2. جاكندوف ، راي ، دليل ميسَّر إلى الفكر والمعنى ، ترجمة حمزة بن قبلان المزيني ، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع عمَّان ، ط1 ، 2019 ، 110 .
  3. آل وادي ، د. علي شناوة ، النقد الفني والتنظير الجمالي ، دار صفاء للنشر والتوزيع ، عمَّان ، مؤسسة دار الصادق الثقافية بابل ، ط1 ، 2011 ، 83-84 . وينظر مصدره لطفاً .
  4. ينظر : السعيد ، د. عبد الله بن سليمان بن محمَّد ، الاتساع النصي في شعر أبي نواس – دراسة تحليلية ، مجلة العلوم العربية ، العدد الثاني والستون ، محرَّم ، 1443 ، 298- 299 .
  5. الراعوش ، أ. د. عماد ، اتساع المعنى القرآني ، 23 .
  6. التجيبي ، أبو الطاهر إسماعيل بن محمَّد ، المختار من شعر بشَّار – اختيار الخالديين ، اعتنى بنسخه وتصحيحه وتعليق الفوائد وتخريج أبياته ووضع فهارسه السيد محمَّد بدر الدين العلوي ، دار صادر ، بيروت ، د.ت ، 158-164 .
  7. التجيبي ، 182-183 .
  8. التجيبي ، 294 .
  9. بو عزه ، محمَّد ، استراتيجية التأويل من النصيَّة إلى التفكيكية ، منشورات الاختلاف ، الجزائر ، دار الأمان ، الرباط ط1 2011 ، 79 .
  10. التجيبي ، 327 – 328.
  11. التجيبي ، 23-24 .
  12. التجيبي ،78-79 .
  13. التجيبي ، 48 .
  14. منصوري ، د. نجوى ، مغشيش ، د. عبد المالك ، القارئ وتلقي النص الأدبي في النقد المغربي القديم ، التجيبي وكتابه المختار من شعر بشاراً أنموذجاً ، مجلة علوم اللغة العربية وآدابها ، م11 ، ع2 ، 2019 ، 488 .
  15. التجيبي ، 180- 183 .
  16. التجيبي ، 112 .
  17. التجيبي ، 320 .
  18. التجيبي ، 316 .
  19. التجيبي ، 18 .
  20. بلعابد ، عبد الحق ، سيميائيات الصورة ( بين آليات القراءة وفتوحات التأويل ) ، بحث محكَّم منشور ضمن كتاب ثقافة الصورة في الأدب والنقد / مؤتمر فيلادلفيا الدولي الثاني عشر ، 2007 ، مراجعة وتحرير : د. صالح أبو إصبع ( باشتراك) دار مجدلاوي للنشر والتوزيع ، عمان ، ط1 ، 2008 ، 150 ، وينظر مصدره لطفاً .
  21. التجيبي ، 34 .
  22. التجيبي ، 47 .
  23. التجيبي ، 32 .
  24. التجيبي ، 127 .
  25. التجيبي ، 288 .
  26. التجيبي ، 279 .
  27. التجيبي ، 180 -186 .
  28. التجيبي ، 263 .