د. سلمى خبان1
1 جامعة القرويين المملكة المغربية
بريد الكتروني: khoubbane1989@gmail.com
HNSJ, 2023, 4(6); https://doi.org/10.53796/hnsj4618
تاريخ النشر: 01/06/2023م تاريخ القبول: 22/05/2023م
المستخلص
يدرس المقال مسألة الهيرمينوطيقا أو التأويلية التي استطاعت أن تلقي بظلالها على مختلف الظواهر الإنسانية الخطابية منها وغير الخطابية في مجالات فكرية متعددة، والتي عدت فيها الهيرمينوطيقا براديغما جديدا للعلوم الإنسانية.
وفي هذا السياق، يأتي البحث لتحقيق جملة من الأهداف، من بينها محاولة رصد الدلالات الثاوية تحت مصطلح هيرمينوطيقا، ومن ثمة تتبع البواعث التاريخية التي كانت وراء تشكل مجاله المعرفي، ثم وصف التحولات الكبرى التي طرأت عليه في الفكر الفلسفي الحديث وخاصة عند أهم مفكر وهو شليرماخر الذي شكل نقطة تحول في مدارج التكوين الهيرمينوطيقي الحديث.
الكلمات المفتاحية: الهيرمينوطيقا –شليرماخر-الفهم –التأويل النحوي – التأويل التقني -الدائرة التأويلية .
Hermeneutics or the art of understanding ) a reading in Schleiermacher’s theoretical and conceptual framework(
Salma Khoubbane1
1 Al-Qarawiyyin University, Kingdom of Morocco
Email: khoubbane1989@gmail.com
HNSJ, 2023, 4(6); https://doi.org/10.53796/hnsj4618
Published at 01/06/2023 Accepted at 22/05/2023
Abstract
The article examines the issue of hermeneutics or hermeneutics, which was able to cast a shadow over the various human phenomena, rhetorical and non-rhetorical, in various intellectual fields, in which hermeneutics is considered a new paradigm for the human sciences.
In this context, the research comes to achieve a number of goals, including an attempt to monitor the secondary connotations under the term hermeneutics, and then trace the historical motives that were behind the formation of his field of knowledge, then describe the major transformations that occurred in him in modern philosophical thought, especially with the most important thinker, Schleiermacher. Which constituted a turning point in the runways of modern hermeneutical formation.
Key Words: hermeneutics – Schleiermacher – understanding – grammatical interpretation – technical interpretation – the interpretive circle.
تقديم:
يعنى المقال بالبحث في التأويل INTERPRETATIONوالهيرمينوطيقاHERMENEUTICS عند شليرماخر الذي يمثل معلما بارزا في تطور الهيرمينوطيقا.
فقد شكلت رؤيته أفقا جديدا للفكر التأويلي عامة، بل التأويلي اللساني [1].
فكيف أسهم شليرماخر في تأسيس تأويلية علمية تبنى على قواعد دقيقة ومضبوطة؟
وما علاقة الهيرمينوطيقا بعملية الفهم؟
- الهيرمينوطيقا المفهوم والتطور:
يتميز التأويل في الدراسات الغربية بعنايته لمختلف الظواهر الإنسانية الخطابية منها وغير الخطابية ، جاعلا منها جميعا نصوصا تقبل القراءة والتحليل والاستنطاق ، وقد ارتبط هذا المفهوم في بداية تأسيسه بالتأويل الرمزي أو الباطني ، الذي كان يهتم بتفسير الكتب المقدسة ، ثم تطور هذا المفهوم ليشمل ثورة منهجية لكثير من القضايا الفكرية والأدبية ، حيث شكل تحليل النصوص الأدبية وتفسيرها، محورا جوهريا لامتحان خصوصية التأويل ، من حيث كونه استخراج إعادة بناء وتصور للمعنى وليس بوصفه بحثا عن المعنى [2].
وعلى هذا الأساس فإن التأويل ظاهرة إنسانية عامة، تشمل ميادين الفكر الإنساني المعرفية والثقافية؛ كالدين، واللاهوت ، والفلسفة ، والفن ، والآداب ، واللغة ، وغير ذلك من المجالات الفكرية، التي تعنى بدراسة معضلة تفسير النص، سواء أكان نصا تاريخيا أو دينيا ، أي علاقة النص بالتراث والتقاليد ثم علاقته بالمؤلف، وبالأساس فإن الهيرمينوطيقا تركز اهتمامها على النص في علاقته بالمفسر (أو الناقد في حالة النص الأدبي) ، وهذا التركيز هو نقطة البدء والقضية الملحة عند فلاسفة الهرمنيوطيقا منذ القدم إلى الآن.
- الهيرمينوطيقا والكتاب المقدس:
تعد الهيرمنيوطيقا مصطلحا قديما، استخدم أولا في الدراسات اللاهوتية، ليشير إلى ضوابط فهم النص الديني (الكتاب المقدس) وذلك منذ 1654، وتشير كلمة هيرمنيوطيقا إلى الكلمة اليونانية هرمنوس، التي تعني المفسر أو الشارح أو المترجم ، وهي ترتبط ارتباطا وثيقا بالآلهة هرمس المعروف عند اليونان بوصفه إلها من الآلهة الاثنا عشر في جبل الأوليمبوس ، فهو مكلف بإيصال رسائل الآلهة إلى البشر الذين خصصت الرسالة لهم . وكان عليه أن يفهم ويؤول لنفسه ما أرادت الآلهة نقله قبل أن يتواصل بترجمة نقل أو بتفسير قصدها للبشر ولغرض وصف مختلف الجوانب المهمة المنوطة بهرمس.
ونشير إلى أن الهيرمينوطيقا في طابعها اللاهوتي قد اتسمت بصفات هرمس فقد اقترنت بالتواصل بين عالمين :عالم الآلهة وعالم البشر .
فقد نشأت الهيرمينوطيقا [3] في كنف النظر في نصوص الكتب المقدسة وتأويلها، ويرجع أول ظهور للكلمة في كتاب دانهاور سنة 1615مhermeneutica sacra sive methodus exponendarum الهيرمنيوطيقا أي الهيرمنيوطيقا المقدسة أو منهج تفسير النصوص المقدسة sacracum literarum [4]الذي ميزها عن التفسير واعتبرها منهجا في التأويل[5]، فهي بمثابة القواعد أو المناهج أو النظرية التي تحكم التفسير، وظل هذا التعريف مرتبطا بالكتاب المقدس ونما بمقتضياته ، ثم اتسع فيما بعد ليشمل مختلف حقول المعرفة[6].
فانتقلت الهيرمنيوطيقا من عالم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتساعا تشمل كافة العلوم الإنسانية، ثم تطورت مع الإصلاح البروتستانتي مع مارتن لوثر في ألمانيا، وهولدريخ روينكلي في سويسرا، وجون كالفن في فرنسا، ليصبح البحث عن المعنى الإنجيلي لحظة هامة، خاصة بعد ظهور المطبعة وعدم التقيد بالمعنى الكنسي ، ثم ما لبث البحث في مبادئ التأويل يتسع ليشمل نظريات مرتبة ترتيبا تاريخيا:
- نظرية تفسير الكتاب المقدس.
- ميثودولوجيا فقه اللغة العام.
- علم كل فهم لغوي.
- الأساس المنهجي للعلوم الإنسانية الروحية.
- فينومينولوجيا الوجود والفهم الوجودي.
- انساق التأويل التي يستخدمها الإنسان للوصول الى المعنى القابع وراء الأساطير والرموز.[7]
وتعد هذه النظريات مرحلة تاريخية، ولحظة هامة من لحظات التأويل أو مدخلا إلى مشكلات التأويل.
كما أن كل نظرية تمثل وجهة نظر خاصة، يمكن من خلالها النظر إلى الهرمنيوطيقا، ويسلط الضوء على جانب أو أكثر من فعل التأويل ، وبخاصة تأويل النصوص ، والحق أن محتوى التأويل نفسه يعتريه التغير بتغيير هذه الوجهة من النظر .
وكان لجهود شليرماخر دور كبير في تطور الهرمنيوطيقا.
فكيف تحددت الهرمنيوطيقا عند شليرماخر؟
وماهي مناهجها؟
- الهرمنيوطيقا بوصفها المنهج اللغوي:
انتهجت الهيرمنيوطيقا منهجا جديدا يميزها عن المذهب التأويلي القديم، وهذا المنهج هو استخدام آليات التحليل اللغوي للحصول على المعنى وفهمه، وقد بدا ذلك واضحا خلال القرن الثامن عشر حيث أثرت نشأة فقه اللغة الكلاسيكي والمذهب العقلي على الهيرمنيوطيقا الدينية.
ذلك أن نشأة المذهب العقلي متزامنا معه ظهور فقه اللغة الكلاسيكي في القرن الثامن عشر، أثر بارز على تأويل الكتاب المقدس، حيث نشأ المنهج التاريخي في اللاهوت ، وأكدت المدرسة اللغوية والتاريخية في التفسير، أن المناهج التأويلية السارية على الكتاب المقدس يمكن تطبيقها على من سواه من الكتب، وعلى هذا الأساس فقد ساهم تأويل الكتاب المقدس في تطوير تقنيات للتحليل اللغوي بلغت مستوى رفيعا للغاية، وألزم المفسرون أنفسهم أكثر من أي وقت مضى بمعرفة السياق التاريخي لروايات الإنجيل.[8]
وهكذا أصبحت هرمينوطيقا الكتاب المقدس تشير إلى نظرية تفسير الكتاب المقدس، أما الهرمنيوطيقا بصفة عامة حين تقال غير مقيدة، فكانت مرادفة للمنهج الفقهي اللغوي.
وخلال هذه الفترة الزمنية بالذات، تحولت الهرمنيوطيقا بوصفها إنجيلية إلى الهرمنيوطيقا بوصفها القواعد العامة، للتفسير الفيلولوجي الفقهي اللغوي، شاملة الكتاب المقدس كموضوع واحد بين موضوعات أخرى يمكن أن تطبق عليها هذه القواعد.
و يعد شليرماخر أول من نقل الهرمنيوطيقا من مجال علم اللاهوت لتكون “علما” أو “فنا” لعملية الفهم وشروطها في تحليل النصوص، واعتبر النص وسيطا لغويا، ينقل فكر المؤلف إلى القارئ، لأن هناك علاقة جدلية بين الفكر الذاتي للمبدع واللغة، فالجانب الأول ذاتي بينما الثاني (اللغة) موضوعي، وللمفسر الاختيار في الانطلاق من أي الجانبين شاء: فإما أن ينطلق من اللغة من أحد جانبيها: -جانب إعادة بناء تاريخية موضوعية للنص (كلية اللغة).
لتشكل بذلك الهيرمينوطيقا نظرية نسقية في الفهم أي محاولة لتمثل طبيعة الفهم الإنساني.
وعملية الفهم لابد أن تنبع من فهم العناصر الجزئية المكونة له للوصول إلى الفهم الكلي للنص ، وهذا ما يسمى ب”الدائرة التأويلية” ، وهي دوران في جزئيات النص وتفاصيله للوصول إلى كليته.
كما أكد شليرماخر على ضرورة فهم المفسر لقصدية المؤلف، بغية مقاربة الفهم الصحيح للنص.
وانطلاقا مما سبق يتضح لنا أن شليرماخر المؤسس الفعلي للهيرمينوطيقا، حيث وضع لبناتها العلمية الأولى، وقد استفاد منه أغلب من جاء بعده من مفكري التأويلية ( كدلثاي وهيدجر وجادامر).
حيث انتقل بالهرمينوطيقا من آلية للتحليل اللغوي إلى نظرية عامة تخدم مبادؤها تأويلات جميع النصوص، فتجاوز بذلك النظرة التقليدية للهيرمينوطيقا بوصها تجميعا للقواعد اللغوية ، وانتقل بها من طريقة في البحث إلى نظرية في الفهم، تبحث في القوانين والمعايير التي تؤدي إلى تفسير صحيح ، وانتهت في تطورها الأخير إلى وضع نظرية في تفسير النصوص وتأويلها ، فباعد بذلك بين كونها تفسيرا للكتاب المقدس وطريقة بحث في فقه اللغة الكلاسيكي ، لتصبح بذلك علما قائما بنفسه يؤسس عملية الفهم على اعتبار أن النص وسيطا لغويا ينقل فكر المؤلف إلى القارئ[9] .
- الهرمنيوطيقا نظرية تأويلية للفهم :
- الفهم والتأويل لدى شليرماخر:
يتبنى شليرماخر من خلال هذه النظرية منهجان في الممارسة التأويلية: فهم للحديث بوصفه شيئا مستمدا من اللغة ، وفهمه بوصفه واقعة في تفكير المتحدث ، تنتمي اللحظة اللغوية إلى التأويل اللغوي ، وتعد إجراءا سلبيا وعاما يفرض حدودا ويقدم البنية التي يعمل الفكر في إطارها ، وأما التأويل السيكلوجي فيرمي إلى فرادة المؤلف وعبقريته الخاصة ، وهو من أجل ذلك يتطلب اندماجا وجدانيا بالمؤلف ولا يفرض حدودا، ويعد الشق الإيجابي بحق في عملية التأويل ،لأن المؤلف نفسه بإزاء لغة لابد له من أن يضع بصمته عليها ، ومثلما أن دائرة الهرمنيوطيقا تتضمن الجزء والكل، كذلك التأويل اللغوي والسيكلوجي كوحدة واحدة يتضمن هو أيضا الخاص والعام، هذا الصنف من التأويل هو العام.[10]
انطلاقا مما سبق يقدم شليرماخر فرقا ذي أهمية بالغة للهيرمينوطيقا فقد اعتقد أن فهم ملفوظ ما ، سواء أكان منطوقا أم مكتوبا ، ينطوي بالضرورة على جانب مزدوج هو اندماج لمستويين مختلفين تماما ، يعنى الأول بفهم التعبير فقط في ضوء علاقته باللغة التي يشكل هو جزءا منها ، وهكذا ، لابد من رؤية كل ملفوظ بوصفه يشكل جزءا من نسق لساني بيشخصي interpersonnel.
لكن في الوقت نفسه، لابد من فهم التعبير بوصفه جزءا من سيرورة حياة المتكلم، أي تاريخه الباطني أو الذهني.
ولهذا يرى شليرماخر أن ”ثمة تعريفان للفهم: إذ يفهم كل شيء حينما لا يبقى أي من الهراء، ولا شيء يفهم إذا لم يكن غير قابل للفهم” [11]
- منهجه:
يرى شليرماخر أن الفهم لا يحدث إلا عند اندماج اللحظتين الآتيتين:
- لايمكن فهم فعل التكلم بوصفه لحظة في تطور الشخص ما لم يفهم ضمن علاقته باللغة، فاللغة وعاء للفكر.
- لايمكن فهم فعل التكلم بوصفه تعديلا للغة مالم يفهم بوصفه لحظة في تطور الشخص.
وهما وجهان لعملة واحدة، إذ لايمكن أن يحدث أي منهما بمعزل عن الآخر مطلقا فاللحظة الأولى يطلق عليها شليرماخر تسمية النحوي، والثانية هي لحظة السيكلوجي أو التقني.
وأدرج شليرماخر تحت مصطلح السيكلوجي أو النحوي، جوانب الفهم اللفظي كلها التي لا تحمل طابعا نحويا تماما، لكنها تشكل خاصية الملفوظ الفردية، أي كيفية ارتباط هذا الملفوظ بفردانية المؤلف ، وجنسه genre الخاص والظروف التاريخية التي يجسدها هذا الملفوظ ولفهم مفهوم المؤلف ”المتكلم’ ‘عند شليرماخر ، لابد من التعامل مع هذا المفهوم ضمن سياق اللسانية [12]، على النحو الذي تصورها بها شليرماخر :
فالمؤلف الأصيل ليس ثابتا، بل حركيا إنه الفعل الذي ينطلق منه العمل، فهو يتضمن نسق اللغة ونسق الفكر الباطني.
المؤلف هو كينونة لسانية تتمفصل فيه اللغة، إنه ذهنية متطورة باستمرار ولا يمكن فهم كلامه إلا بوصفه لحظة في حياته الذهنية.
إن شليرماخر من خلال هذا النسق التصوري يجمع بين منظورين أحدهما بنيوي والآخر ظاهراتي.
إذ ”لايمكن فهم الكلام، بوصفه واقعة ذهنية، إن لم يفهم بوصفه تدليلا signification لسانيا ، لأن طابع اللغة الفطري هو الذي يعدل ذهننا”
فالجانب القصدي غير متحرر من اللغة ، فهو مشروط دائما بشكلها اللساني.
انطلاقا من هذه الازدواجية المنهجية للهيرمينوطيقا حدد شليرماخر الإطار النظري والمفاهيمي للتأويلية بوصفها ”فنا للفهم”إلى الحد الذي يتصاعد فيه الفهم ليصبح فنا للحقل المعرفي.
ويقابل جانبي الفهم نمطين متميزين هما:
- التأويل النحوي
- التأويل التقني
ولهذا السبب يمكن القول إن شليرماخر يجمع بين منظورين أحدهما بنيوي والآخر ظاهراتي.
ذلك أن الوقائع الذهنية التي تمفصلت على شكل كلام، ليست مستقلة عن اللغة، فهو يعد التكلم ، والفهم مرتبطان .
- التأويل النحوي:
يعتمد على سمات الخطاب التي تشيع في ثقافة ما، فهو معني بالسمات اللغوية المتميزة عن المؤلف، ويطلق عليه صفة الموضوعي، لأنها تهتم بالجانب اللغوي، أي بنية النص، و يطلق عليها شليرماخر reconstruction objective historical : إعادة البناء التأريخي الموضوعي وهي نقطة البداية للجانب اللغوي التي تعتد بكيفية تصرف النص في كلية اللغة ، وتعتبر المعرفة المتضمنة في النص نتاجا للغة .[13]
كما أن هنالك عملية مرافقة لها هي إعادة البناء التنبؤي الموضوعي وهي عملية تحدد كيفية تطوير objective divinary reconstructionالنص نفسه للغة[14]، لكنه سلبي لأنه يشير إلى حدود الفهم، وتؤثر قيمته النقدية في أخطاء معنى الكلمات.
فالتأويل النحوي يستهدف كل الأنماط الخاصة بالتعبيرات والأشكال اللغوية للثقافة التي أنتج فيها المؤلف نصه وكانت شرطا لتفكيره.
إذ يعالج بذلك منهج النص أو أي تعبير كان انطلاقا من لغته الخاصة، فهو يضطلع بتحديد المعنى وفقا لقوانين موضوعية عامة، وهو بذلك يتبنى نظرة إقليمية من خلال اللغة (أي تركيب نحوي، شكل أدبي)، ويحدد دلالات الكلمات انطلاقا من الجمل التي تركبها، فهذا المنهج يتبنى تأويلا لغويا لإيجاد المعنى الدقيق لخطاب معين انطلاقا وبمساعدة اللغة.[15]
إن شليرماخر من خلال هذا المنهج يؤكد أن الهرمنيوطيقا هي فن الفهم ، وهذا الفن هو فن واحد من حيث ماهيته، سواء أكان النص نصا تشريعيا أو نصا دينيا أو عملا أدبيا، صحيح أن هناك فروقا مؤكدة بين هذه المجالات العديدة من النصوص، مما يستدعي أن يطور كل مجال أدواته النظرية الملائمة لمشكلاته الخاصة، غير أنه من وراء هذه الاختلافات تكمن وحدة أصيلة، إذ إن جميع هذه النصوص لدى شليرماخر تتمثل في جسد لغوي، ومن ثم فلا بد من استخدام النحو لكشف معنى العبارة، فالفكرة العامة تتفاعل مع البنية اللغوية لتكون المعنى أيا ما كان صنف النص ، فإذا أمكن صياغة مبادئ كل فهم لغوي فإن هذه المبادئ تشكل هرمينوطيقا عامة، ويمكن لهذه الهرمنيوطيقا العامة أن تكون الأساس والجوهر لكل هرمينوطيقا خاصة.
- التأويل السيكلوجي أو التقني:
يهتم بفردانية رسالة الكاتب وعبقريته، فهو يشير إلى الفهم الفني أو النفسي لذهنية المؤلف أو لنبوغه، إذ يستهدف موضوعات نقدية في نشاط المقاربة الشخصية الفردانية، أو بمعنى آخر هو موضوع المبدع وشخصيته.
هذا التأويل يعتمد على بيوغرافيا المؤلف حياته الفكرية والعامة، والدوافع والحوافز التي دفعته للتعبير والكتابة، فهو يموقع النص في سياق الحياة الخاصة بالمؤلف أي السياق التاريخي الذي ينتمي إليه .[16]
والمتأمل في نظرية الفهم لدى شليرماخر، يجدها تنبني على فعل حواري، نقطة بدايته هذا السؤال العام:
كيف يتم على وجه الدقة فهم أي عبارة أو أي قول سواء أكان قولا منطوقا أو مكتوبا؟
يرى شليرماخر أن كل فعل حواري يجري، فإن عملية صياغة قول ما وإصداره هي شيء، وعملية تلقي هذا القول وفهمه هي شيء آخر مختلف ومتميز كليا.
الهرمنيوطيقا أو فن الفهم ينصب على العملية الثانية وحدها ـ عملية الفهم ـ أي تلقي القول وفهمه، ويتجلى لنا ذلك من خلال هذه العلاقة الحوارية [17]حيث نجد طرفان :الطرف المتحدث وهو من يشيد الجملة لكي يعبر عن المعنى الذي لديه ، والطرف الثاني المستمع وهو من يتلقى سلسلة من الكلمات ، ولكنه فجأة ومن خلال عملية باطنة وسرية يمكنه أن يستشف معانيها ، هذه العملية الباطنية الإشرافية هي عملية التأويل أي الفهم، فهي عملية إعادة معايشة للعمليات الذهنية لمؤلف النص ، فهي عكس التأليف؛ لأن المستمع ينفذ إلى داخل بناء الجملة وبناء الفكرة ، وبذلك يتكون لديه الفهم والتأويل، أما المبدأ الذي تنهض عليه إعادة البناء هذه ، فهو مبدأ الدائرة التأويلية hermenetical ، وهو يتأسس انطلاقا من لحظتين متفاعلتين: اللحظة اللغوية واللحظة السيكولوجية المرتبطة بنفسية المؤلف.[18]
الجملة على سبيل المثال: هي وحدة كلية ونحن نفهم معنى الكلمة المفردة داخل الجملة بإحالتها إلى الجملة الكلية، والجملة الكلية بدورها يعتمد معناها الكلي على معنى كلماتها المفردة، وتمتد هذه العلاقة التبادلية لتشمل المفاهيم الذهنية؛ فكل مفهوم مفرد يستمد معناه من السياق أو الأفق الذي ينسلك فيه ، ومع ذلك فإن الأفق أو السياق إنما يتكون في حقيقة الأمر من العناصر نفسها التي يضفي عليها معناها.
ومن خلال هذا التفاعل الجدلي بين الكل والجزء يمنح كل منهما الأخر معناه ومغزاه، فالفهم عند
شليرماخر عملية دائرية، والمعنى في الحقيقة لا ينهض إلا داخل هذه الدائرة إنها دائرة الفهم والتأويل.
- الدائرة التأويلية أو الحلقة الهيرمينوطيقية:
وهي تعني الانتقال من التخمين عن المعنى الكلي للعمل إلى تحليل أجزائه عبر علاقتها بالكل، ويعقب ذلك العودة إلى تعديل فهم العمل ”كله” وتجسد الحلقة الاعتقاد بأن الأجزاء والكل يعتمد أحدهما الآخر وأنهما يرتبطان بعلاقة عضوية ضرورية.
فهذه الدائرة عند شليرماخر تتجاوز التفكير الخطي لعملية الفهم، لأنها تدخل عنصر الحدس والتوقع، لأن عملية الفهم إحالية من جهة، وحدسية من جهة أخرى، ولكي تعمل على الإطلاق فهي بالضرورة تفترض عنصرا حدسيا.
ومن الضروري وجود فهم مشترك أثناء هذه العملية، فمادام كل تواصل هو علاقة حوارية فهو يفترض منذ البداية وجود معنى مشترك بين المتحدث والسامع.
ولا يقتصر عمل دائرة الهيرمينوطيقا إذن على المستوى اللغوي ، بل تعمل أيضا على مستوى المادة المقدمة أو المضمون الفكري ، ولا بد لكل من المتحدث والمستمع أن يلتقيا على صعيد واحد، ويجب أن يشتركا في لغة القول وموضوعه أيضا .
هكذا يتبين أن مبدأ التفاعل والإضاءة المتبادلة بين الجزء والكل هو مبدأ أساسي لشقي التأويل اللغوي والسيكلوجي، وهكذا يتجلى هدف التأويل كما يراه شليرماخر وهو إعادة بناء الخبرة الذهنية لمؤلف النص.
لقد كان يصبو إلى إعادة معايشة ما عايشه المؤلف ولا ينظر في قول من الأقوال بمعزل عن قائله.
ومن الجدير بالذكر أن هذه المعايشة الثانية ليست بالضرورة تحليلا نفسيا للمؤلف، بل هي مجرد تذكير بأن الفهم هو فن إعادة بناء للتفكير الخاص بشخص آخر.[19]
وعلى هذا الأساس فإن غاية شليرماخر ليست تحديد دوافع المؤلف السيكولوجية، بل إعادة تشييد الفكر نفسه الخاص بشخص آخر من خلال تأويل حديثه.
لقد كانت جهود شليرماخر التأويلية ترمي إلى تحويل الفهم إلى علم منظم منهجي يمكن أن يرشدنا في عملية استخلاص المعنى من نص ما[20].
ينظر شليرماخر إلى لا نهائية التفسير باعتبار أن اللغة تشير دائما لانهائية من الماضي والمستقبل اللذان يتداخلان في لحظة التفوه بالكلام، وهذا ما يجعل من تفسير النصوص مهمة لا متناهية.
خاتمة:
لقد كانت جهود شليرماخر التأويلية ترمي إلى تحويل الفهم إلى علم منظم منهجي يمكن أن يرشدنا في عملية استخلاص المعنى من نص ما.
لقد ارتكزت هيرمنيوطيقا شليرماخر إلى التفرقة بين جانبين جانب لغوي وآخر نفساني، يرجع الأول إلى تقاليد اللغة التي كتب بها النص، ويرجع الثاني إلى فكر المؤلف ومقاصده ونفسانيته، لذا فإن هدف الهرمنيوطيقا لدى شليرماخر هو الوصول إلى فهم حقيقي لمقاصد المؤلف المبثوثة لنا عبر النص بتركيبه اللغوي، فنظريته في واقع الأمر ترتكز على جانبين للفهم: الأول هو الفهم النحوي لكل الأنماط الخاصة بالتعبيرات والأشكال اللغوية للثقافة التي أنتج فيها المؤلف نصه وكانت شرطا لتفكيره.
والثاني هو الفهم النفساني للمؤلف.
لائحة المصادر والمراجع:
- شليرماخر، الملاحظات 1809
- طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة، المركز الثقافي العربي ،1995
عادل مصطفى، فهم الفهم: مدخل إلى الهيرمينوطيقا نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، مؤسسة هنداوي ،2017
- ميجان الرويلي وسعد البازعي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، ط الثانية، 2000، الدار البيضاء وبيروت
- محمد عناني، المصطلحات الأدبية الحديثة، مكتبة لبنان، بيروت1996
نصر حامد ابو زيد، إشكالية القراءة واليات التأويل، المركز الثقافي العربي ،2014
Frank’s study das individuelle Allgemeine and his introduction to the volume Shleirmacher.hermneutik und kritit 1977
RICHARD ET PALMER, HERMENEUTICS, Northwestern, university press 1969
The Encyclopedia of Religion, Macmillan publishing Company
New York, 1987, vol.6see
الهوامش:
-
M .Frank ‘s study das individuelle Allgemeine and his introduction to the volume shleirmacher.Hermeutik und kritit 1977 ↑
- طه عبد الرحمن،فقه الفلسفة، المركز الثقافي العربي ،1995ص38 ↑
- الهيرمينوطيقا :هو لفظ في اليونانية بمعنى المرسل الذي يتقن اللغة ويتواصل بين الآلهة والبشر ، فهو ذلك الوسيط اللغوي ، وهذا اللفظ هرمينوطيقا مأخوذ من الأصل اليوناني هيرمس وهو يوحي بعملية الإفهام ، وبخاصة حين تشمل هذه العملية على اللغة ، فاللغة هي الوسيط الأساسي في هذه العملية ، وهذا الإفهام الذي تتوسطه اللغة هو العنصر المشترك لمعنى لفظة هرمينوطيقا، وهذه اللفظة في اليونانية تتضمن ثلاثة اتجاهات للفعل يؤول :
الاتجاه الأول:يعبر بصوت عال في كلمات ،أي يقول أو يتلو
الاتجاه الثاني:يشرح كما في حالة شرح موقف من المواقف
الاتجاه الثالث:يترجم كما في حالة ترجمة لغة أجنبية.
غير أن كلا منها يمثل معنى مستقلا من معاني التأويل ، غير أن المرء يلاحظ أن العملية الهيرمسية أو التأويلية، قائمة على الحالات الثلاث جميعا .بمعنى ثمة شيء بحاجة إلى العرض أو الشرح أو الترجمة يصبح بطريقة ما معقولا أو مستوعبا ، ثمة شيء ما قد تم تأويله.
ينظر : عادل مصطفى ،فهم الفهم : مدخل إلى الهيرمينوطيقا نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر ،، مؤسسة هنداوي ،2017ص21 ↑
- محمد عناني، المصطلحات الأدبية الحديثة،مكتبة لبنان، بيروت1996،ص116 ↑
- تتميز الهرمينوطيقا عن التفسير لأنها منهج هذا التفسير وأوله وأحكامه ، فإذا كان التفسير وقفا على الشرح أو التعليق الفعلي ، فإن الهرمينوطيقا هي قواعد هذا التفسير أو مناهجه أو النظرية التي تحكمه . ↑
- تعد الهرمينوطيقا بأشكالها المعرفية صيغات جديدة لقضايا فلسفية ومعرفية موغلة في القدم ،سايرت النص منذ نشأته وبالتحديد منذ نشأة النص المقدس ، حيث بذلت الكثير من الجهود لتأويل النصوص الدينية على أنها رموز تخفي شيئا وراءها. ↑
- فهم الفهم ،ص40 ↑
- فهم الفهم ،ص40 ↑
- نصر حامد ابو زيد، إشكالية القراءة واليات التأويل، المركز الثقافي العربي ، ط2014ص20 ↑
- ينظر:فهم الفهم ،ص52 وما بعدها ↑
- شليرماخر،الملاحظات 1809 ↑
- فهم الفهم ،ص59 ↑
- نصر حامد ابو زيد اشكالية القراءة واليات التأويل،ص21 ↑
- نفسه،ص22 ↑
- The Encyclopedia of Religion , Macmillan publishing Company
New York,1987, vol.6see,p.281 ↑
- لكن هذه النظرة الاقليمية تضع شليرماخر اما تناقض وانقسام في الرؤية حيث يعتمد شكلين من التأويل أحدهما بالبنية الدلالية والنحوية ويتعلق الاخر البنية النفسية للكاتب ومحيطه الاجتماعي ↑
- RICHARD ET PALMER, HERMENEUTICS , Northwestern ,uneversity press 1969,PP 94-97 ↑
- ميجان الرويلي وسعد البازعي : دليل الناقد الأدبي ، المركز الثقافي العربي ، ط الثانية ، 2000 ، الدار البيضاء وبيروت،ص48 ↑
- فهم الفهم ،ص59 ↑
-
اشكاليات القراءة واليات التأويل، ص21 ↑