ا. د. حمزة مسعود الطوير1 1 أستاذ الدراسات العليا بالأكاديمية الليبية طرابلس و جامعتي الزاوية و غريان، ليبيا. بريد الكتروني: hamza.m.twair@gmail.comHNSJ, 2024, 5(1); https://doi.org/10.53796/hnsj51/34 تنزيل الملفتاريخ النشر: 01/01/2024م تاريخ القبول: 19/12/2023م
المستخلص
اهتم الإسلام بالنسيج الاجتماعي اهتماما منقطع النظير، فقعّد القواعد وسن القوانين التي من شأنها أن تؤلف بين المسلمين وتقوي كيان الأمة، و جعل الله التآخي في الدين من أقوى الروابط بين الناس، وقدّمه على سائر وشائج القربى والتآلف؛ لأن الدين باق وقرابته باقية وسائر القرابات قد تزول، ومن ثم كان التآخي هو السبيل الأمثل للمواطنة والتعايش السلمي وهو الكفيل بمنح أحقية عيش الكل في وطن واحد يحتضن الجميع بحيث يكون قاسما مشتركا يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات.
ومن ثم جاءت مادة هذه الدراسة موزعة على محاور، بدأتها ببيان معنى الأخوّة ، ثم تحدثت عن أنواعها؛ لأخلص إلى مفهوم الأخوّة الإيمانية ، ثم أثرها في التأسيس المجتمعي .
ثم إني ذيّلت البحث بخاتمة تحوي أهم النتائج المتوصل إليها. وألحقت به فهرس لما تم توظيفه من مصادر.
الكلمات المفتاحية: تأملات، الأُخُوَّة ، القرآن الكريم
Reflections on the meaning of brotherhood in the Holy Qur’an
Prof. Dr.. Hamza Masoud Al-Tuwair1
1 Professor of graduate studies at the Libyan Academy, Tripoli, and the Universities of Zawia and Gharyan, Libya. Email: hamza.m.twair@gmail.com
HNSJ, 2024, 5(1); https://doi.org/10.53796/hnsj51/34
Published at 01/01/2024 Accepted at 19/12/2023
Abstract
Islam has paid unprecedented attention to the social fabric, establishing rules and laws that will make Muslims compose and strengthen the nation’s being, and making God the brotherhood in religion one of the strongest bonds between people، and put him on all other bonds of kinship and harmony; for the religion is still there, and his kinship is still there, and all the other kinships may be gone، Fraternization was therefore the best way to achieve citizenship and peaceful coexistence, which would grant the right to live for all in one homeland that embraces all so that it is a common denominator in which all have equal rights and duties.
And then came the material of this study distributed on axes, started by a statement of the meaning of fraternity, and then talked about its types; to conclude the concept of faith brotherhood, and then its impact on the establishment of society .
Then I teased the search with a conclusion containing the most important findings. It attached a catalogue of the sources employed.
Key Words: Reflections, brotherhood, the Holy Quran
تقديم
إن الاهتمام بالجماعات البشرية وما يكتنف حياتها من العلاقات الاجتماعية وتكوين المجتمعات وتنظيمها من أوليات أهداف القرآن الكريم، حيث ورد في السور المكية كثير من الواجبات الاجتماعية التي دعا القرآن إلى الالتزام بها، وكان للسور المدنية اهتمامها الخاص بالعلاقات الاجتماعية وتنظيم حياة الأسر والجماعات؛ بل لقد نزلت سور بأكملها تعالج جوانب اجتماعية، وتؤطر للقضايا بما يكفل سعادة الأفراد والمجتمعات، كسورتي النساء الكبرى والصغرى وسورة المائدة وسورة النور وغيرها من السور التي عملت على محو ملامح الجاهلية وغرس المُثل والقيم الرفيعة في نفوس البشر وفق نهج فريد لا يسع البشر إلاّ الإذعان له والإعلان عن العجز التام عن مماثلته في إيجاد أسس تقوم عليها النظم الأسرية والاجتماعية من شأنها أن تحدث تغييرا تاماً في الحياة، وتنقل الناس من ضلالات الجاهلية إلى هدايات الإيمان.
ثم إن إقرار النظام وسن القوانين والأحكام التي تكفل التواطن والتعايش السلمي ضرورة اجتماعية ملحّة لابد منها لمصلحة الناس وصون حقوقهم وتنظيم علاقاتهم على أسس من العدل والتضامن الذي ينشأ وينمو تدريجياً مع وجود الجماعات وتطورها طبقاً للتغيرات والتقلبات التي تحدث في العالم، وتتطلب حلولا مناسبة من تشريعات وأحكام دينية ملائمة لعصرها.
بيد أن الملاحظ على القوانين الوضعية أنها تهمل جانب الروح في الإنسان لتركّز على الجوانب المادية، ولا يمكن لأي حضارة مهما ارتقى أهلها في سلم العلم أن تقوم على جانب دون الآخر؛ لأن ذلك يتنافى مع طبيعة الاستخلاف في الكون وفطرة المستخلَف.
كما أن التشريعات الاجتماعية والروابط الأسرية والأخلاق الفاضلة التي أقرها الإسلام ربما دعت إليها النظم الأخرى، ولكن يبقى الفارق واضحاً في أن الدين يبقي أثره متميزاً في صوغ الأحكام وبنائها؛ إذ إن دستور الأخلاق والأنظمة الاجتماعية الآتية من طريق الدين تستمد منعتها وقوتها من العقيدة ، وترتبط في ضمان تطبيقها مع الإيمان الذي يكّون رقيباً داخلياً ومحاسباً ذاتياً على الالتزام بالأخلاق، ومحاسبة النفس وإحياء الضمير في مراقبة الله تعالى في السر والعلن.
أما الأنظمة الوضعية فقد تدعو إلى الأخلاق ولكن لا تؤمّن الوسائل الكفيلة للتطبيق والتهذيب؛ لأنها لا تملك الأساليب التي تحيي الضمير الذي يحاسب النفس والذات، وقد تدعو للأخلاق ولا تؤمن بها أو لا تلتزم. ومن ثم يمكن القول: إنه ليس على وجه الأرض قوّة تكافئ قوّة الإسلام بتشريعاته ونظمه، أو تدانيها في كفالة تحقيق النظام، وضمان تماسك المجتمع واستقراره. كما أنه (( لم يبق للشك مجال يخالج به نفس الناظر في أن أهم مقصد للشريعة من التشريع انتظام أمر الأمة وجلب الصالح إليها، ودفع الضر والفساد عنها )) ( أبو زهرة محمد – 3/1357 .)مما يجعل هذه التشريعات معجزة في مادتها وماهيتها وآلية تطبيقها.
وفي هذا البحث نحاول الوقوف على معنى الأخوّة ، ومدى الترابط والانسجام بين الناس مستأنسين بجهود المفسرين وآرائهم في بيان هدايات القرآن الداعية إلى التكامل الاجتماعي القائم على الانسجام بين العقيدة والعمل والتواؤم بين الأخلاق والسلوك لتحقيق مصلحة الفرد والجماعة من خلال اتّباع الآداب العامة التي نادت بها تشريعات الدين الحنيف والتي تسهم في تحقيق الأخوّة الإيمانية القائمة على العدل والتسامح .
وسيرتكز هذا البحث على محاور تؤسس مادته، نبدأها ببيان معنى الأخوّة ، ثم بالحديث عن أنواعها لنخلص منه إلى مفهوم الأخوّة الإيمانية وأثرها في التأسيس المجتمعي ، ونذيّل البحث بخاتمة تحوي أهم النتائج المتوصل إليها.
معنى الأخوة :
لغة : من الإخاء ومنه الإخوة جمع الأخ. وآخاه مُؤاخاةً وإخاءً. وتآخَيا على تفَاعلا. وتَأَخَّيْتُ أَخاً، أي اتخذت أَخاً. وتَأَخَّيْتُ الشيء أيضاً مثل تَحَرَّيْتُهُ . (الجوهري- موقع الوراق –http://www.alwarraq.com -1/7)
ونقل عن ابن السكيت قوله:” آخيته مؤاخاة وإخاء وحكى بعضهم واخَيته وتأخّيت الرجلَ – اتخذته أخا ( ابن سيده أبو الحسن علي بن إسماعيل – 1417هـ 1996م -3/428)
وجاء في اللسان (( والاسم الأُخُوَّة تقول بيني وبينه أُخوَّة وإِخاءٌ وتقول آخَيْتُه على مثال فاعَلْته ، وتقول هذا رجل من آخائي بوزن أَفْعالي أَي من إِخواني وما كنتَ أَخاً ولقد تأَخَّيْت وآخَيْت وأَخَوْت تَأْخُو أُخُوَّة وتآخَيا على تفاعَلا وتأَخَّيْت أَخاً أَي اتَّخَذْت أَخاً وفي الحديث أَن النبي آخَى بين المُهاجرين والأَنصار أَي أَلَّف بينهم بأُخُوَّةِ الإِسلامِ والإِيمانِ . والإِخاءُ المُؤَاخاةُ والتأَخِّي والأُخُوَّة قَرابة الأَخِ والتأَخِّي اتّخاذُ الإِخْوان وفي صفة أَبي بكر لو كنتُ مُتَّخِذاً خليلاً لاتَّخَذت أَبا بكر خليلاً ولكن خُوَّة الإِسلام قال ابن الأَثير كذا جاءَ في رواية وهِي لغة في الأُخُوَّة وأَخَوْت عشرةً أَي كنت لهم أَخاً وتأَخَّى الرجلَ اتَّخذه أَخاً أَو دعاه أَخاً ، والأَخِيَّةُ والآخِيَّة بالمدّ والتشديد واحدة الأَواخي عُودٌ يُعَرَّض في الحائط ويُدْفَن طَرَفاه فيه ويصير وسَطه كالعُروة تُشدُّ إليه الدابَّة )). ( ابن منظور محمد بن مكرم –ط1 – د.ت مادة أخ و)
واصطلاحا: لا يبتعد المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي للأُخوّة كثيراً ، فهما يشتركان في أن المفهوم العام للفظ هو التآلف والتماسك، فالإخاءُ والمُؤاخاةُ والتآخي والأخوّة: تعني الألفة، والتقارب واتخاذ الإخوان.
أنواع المؤاخاة:
إن الأخوة في مفهومها العام تفيد التعاضد والتآلف والتقارب الذي ينتج عنه أنواع عديدة من الصلات الوثيقة والعلاقات المتينة التي تسمى أُخُوّة ، ومنها ما يأتي:
1-الأخوة في الجنس أي الأخوة البشرية، وهي التي عناها الله تعالى في القرآن الكريم بقوله يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وأشار إليها النبي بقوله (( كلكم لآدم وآدم من تراب )) ( الربيع بن حبيب بن عمر -1415ه – 1/170)
2- والأخ في النسب، والنسب والنسبة اشتراك من جهة أحد الأبوين وذلك ضربان نسب بالاشتراك بين الآباء والأبناء ونسب بين بني الإخوة وبني الأعمام ، وفلان نسيب فلان أي قريبه وتستعمل النسبة في مقدارين متجانسين بعض التجانس يختص كل منهما بالآخر (المناوي محمد عبد الرؤوف – ، 1410ه –ص696)
والأخ في النسب هو الذي ولده أبوك، أو ولدته أمك، أو ولداه كلاهما، ويسمى الشقيق إن كان لأبوين، والأخ لأب إذا تعددت الأمهات والأخ لأم عند اشتراك الأبناء في الأمومة. وقد ذكر القرآن أخوة النسب ، وجعلها من أقرب درجات الترابط الاجتماعي فقرنها مع الوالدين والزوج والأبناء في قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ( سورة عبس الآية 34) قال ابن عادل (( المراد : أن الذن كان المرء يفرُّ إليهم في دار الدنيا ، ويستجيرُ بهم ، فإنه يفرُّ منهم في دار الآخرة ، وذكروا في فائدة الترتيب كأنَّه قيل : : يَوْمَ يفرُّ المَرْءُ من أخِيهِ ” ، بل من أبويه ، فإنهما أقرب من الأخوين ، بل من الصَّاحبة والولد ؛ لأنَّ تعلُّق القلب بهما أشد من تعلُّقه بالأبوين )) ( ابن عادل عمر بن علي — 1419 هـ -1998 م- 20 / 171)
والأخُ في الاشتقاق الصرفي أصله أخَوٌ بالتحريك، لأنَّك تقول في التثنية أَخوانِ، ويجمع أيضاً على إخوانٍ وعلى إخْوَةٍ وأخوَةٍ عن الفرّاء. وقد يُتَّسُعُ فيه فيراد به الاثْنانِ كقوله تعالى: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ( سورة النساء الآية 176 )
3- قد يطلق لفظ الأخوّة على الأصدقاء والقرناء تجوّزاً ، فيقال الأخُ أي الصّديق وحُكي في جمعه إخوان وأُخوان وهي من الأُخوّة والإخاء . وورد في المثل (( رب أخ لك لم تلده أمك )) وأكثر ما يُستعمل الإخوانُ في الأصدقاء، والإخوةُ في الولادةِ. (ابن سيده أبو الحسن علي بن إسماعيل – 2000م- 5/314)
4-وربما أطلق اللفظ و أريد به أناس بعينهم دون غيرهم وهو ما يعرف بالأعيان الذين يتعينون أي ينحصروهم ويتحددون عما سواهم ، جاء في الصحاح : الأعْيانُ: الأخوة بنو أبٍ واحدٍ وأمٍّ واحدة. وهذه الأخوَّة تسمَّى المُعاينة. ( الجوهري –مصدر سابق- 2/10) وفي الحديث )) أعْيانُ بني الأمّ يتوارثون، دون بني العَلاَّتِ ))( البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين – 1420 هـ- 6/232 )
5- وأحياناً يأتي لفظ الأخوة للتعبير عن الاشتراك في الفعل أو الصفة بين اثنين أو أكثر، من باب الالتقاء في أمر معين ، ومنه قوله تعالى إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين (الإسراء ح246 الآية 27) لأنهم بتبذيرهم المال في المعاصي كانوا عصاة لله فاسقين عن أمره وهذه حال الشياطين فتشابهوا فكانوا إخوانا، وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلا يخطر في مشيه فقال (( إن للشيطان إخوانا )) (ابن أبي الدنيا – حديث رقم 246 – 1 /292).
وقد يوصف به من اشتهر بأمر ما حتى صار يعرف به، فيقال: أخو المروءة، وفلان أخ الصدق، ومنه قول الشاعر يصف الذئب بالغدر، وأنه شيمة ملازمة له وخصلة من الخصال التي جُبل عليها:
وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما أُخيين كانا أرضعا بلبان
وقال النابغة الذبياني يرثي رجلاً:
أَلا بَكَّرَ النَّاعِي بأَوْسِ بن خالدٍ أَخِي الشَّتْوَةِ الغَرَّاء والزَّمَن المَحْلِ
( ينظر لسان العرب مادة أخ و)
6- مؤاخاة اليتامى وهي أخوة مستمدة من قول الله تعالى وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ( سورة البقرة -الآية 220) لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ ( سورة الأنعام -الآية 152) انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ فَجَعَلَ يَفضُلُ لَهُ الشَّيءُ مِنْ طَعَامِهِ فَيَحْبِسُهُ لَهُ حَتَّى يَأكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ . فَاْشتَدَّ ذلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ ، فَذَكَرُوهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَأَنْزَلَ اللهُ هذِهِ الآيَةَ . وَمَعْنَاهَا : إِنَّ عَزْلَ مَالِهِمْ خَيْرٌ ، وَمُخَالَطَتَهُمْ خَيْرٌ ، لأَنَّهُمْ إِخْوَانٌ فِي الدِّينِ ، فقد أَبَاحَ الله مُخَالَطَةَ اليَتَامَى بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ ، وَمُعَامَلَتَهُمْ مُعَامَلَةَ الإِخْوَةِ ( اسعد حومد ايسر التفاسير 1/220)
7- وتأتي المُؤَاخاةُ بمعنى التحالف، ومنه الحديثُ : حَالَفَ بَيْنَ قُرَيْشٍ والأَنْصَارِ، أَي آخَى ، لأَنَّهُ لا حِلْفَ في الإِسْلام .( الزَّبيدي محمّد بن محمّد –د.ت – 23/ 165)
8-الأخوة في الدين ويراد بها مؤاخاة من اتُّخذ ولدا على صفة التبني في الجاهلية أو في صدر الإسلام قبل نزول آية التبني، فنظرا للفساد الاجتماعي لاسيما في الأمور الجنسية والاضطراب في علاقات الأسر في الجاهلية وما نتج عنها من اختلاط الأنساب ، وأن يولد الأبناء في بعض الأحيان مجهولي النسب، فقد أوجد الإسلام وهو بصدد إعادة تنظيم النظام الاجتماعي في حالة عدم الاهتداء إلى معرفة الآباء الحقيقيين مكاناً للأدعياء في المجتمع، قائماً على الأخوة في الدين والموالاة فيه عملا بقوله تعالى فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ( سورة الأحزاب الآية 5 ) وهي علاقة أدبية شعورية؛ لا تترتب عليها التزامات محددة ، كالتوارث والتكافل في دفع الديات وسائر التزامات النسب بالدم، حتى لا يُترك هؤلاء الأدعياء بغير رابطة في الجماعة .
9-الأخوة الإيمانية وهي التي جمعت بين صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي وأبي بكر القرشي وغيرهم من المؤمنين الذين تقاطروا على الإسلام منذ أيامه الأولى من كل بقاع الدنيا وأرجائها، وهي مدار هذا البحث، وسنتحدث أولا عن مفهوم هذه الأخوة ، وآثارها في المجتمعات البشرية .
: مفهوم الأخوّة الإيمانية
جعل الله التآلف والتعارف أساساً للعلائق بين بني البشر فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ( سورة الحجرات الآية 13) وقال (( كلكم لآدم وحواء كطف الصاع بالصاع )) ( البيهقي – 1420ه – حديث رقم4773 ) فالإنسان اجتماعي بفطرته لابد له في عيشه من التفاعل والتعاون مع من يحيط به من بني جنسه، ولا يمكن أن تستمر الصلة بين المتعايشين بشكل وُدّي إلا إذا قام هذا التعاون على المحبة والمساواة والود والإخاء المنبثقة من تعاليم الدين الحنيف.
وقد جاء ذكر الإخاء في القرآن الكريم بأنماط واشتقاقات مختلفة فيما يزيد عن التسعين مرة، يشتمل بعضها على نماذج من قصص الإخاء وما له من تأثير في العواطف والمشاعر، ويشتمل البعض الآخر على أحكام الميراث والحقوق التعاملية.
وهذه الآيات الواردة في قصص القرآن الكريم تدل على عواطف الأخوة وتأثيرها في النفوس وتوضح ما ينبغي على البشرية من التآلف والتراحم والتواد، إذ الإنسان مدني بالطبع، محتاج إلى محيط بشري به خلق كثير لتتم له السعادة الإنسانية، فهو منجذب بالطبع والضرورة إلى غيره ومضطر إلى مصاحبة الناس ومحبتهم محبة صادقة؛ لأنهم يكملون ذاته ويتممون إنسانيته، ويعملون على تنمية بواعث التعاون والتآزر فيه.
وقد لفت المفسرون أنظار القرّاء والباحثين إلى هذه المعاني الجليلة التي نادت بها تشريعات الإسلام السامية من خلال التأمل في معاني الآيات؛ فقال صاحب أضواء البيان: (( ومن هدي القرآن للتي هي أقوم هديه إلى أن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع، وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام؛ لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد)) ( الشنقيطي – 1995م- 18 / 41 ، 42 ) ويقول صاحب التحرير والتنوير: ( سياسة الأمة من أعظم مقاصد التشريع ، وهي باب في القرآن القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجامعة بقوله : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها وقوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ( ينظر ابن عاشور- 1997م- المقدمة الرابعة 1/40 )
وهو ما عناه النبي بقوله (( إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) ( القشيري مسلم بن الحجاج – باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، 4 / 199 ) مما يؤكد أن الأخوة الدينية تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية .
ويأتي النداء القرآني في قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ صريحاً بأن الحكمة في جعل الناس شعوباً وقبائل هي التعارف فيما بينهم لإحداث المحبة والتعاون على حل المعضلات وتذليل الصعاب التي تجابه حياة البشر. قال الشنقيطي (( فاللام في قوله “لِتَعَارَفُوا لام التعليل، والأصل لتتعارفوا، وقد حذفت إحدى التاءين. فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة )) ( الشنقيطي – 1995م-،18 / 46 ) فكان التعارف والتآخي الذي أمرت به الشريعة هو السبيل لإنماء المحبة بين الناس وإحداث الأخوة الدينية التي تُبنى عليها المجتمعات الخيرة، فتنعم بالرفاهية والسعادة كدأب مجتمعات السلف الذين (( فتحوا البلاد ومصروا الأمصار بالرابطة الإسلامية، لا بروابط عصبية، ولا بأواصر نسبية)) ( المصدر السابق، 12 / 68 ) وقد ذكر المفسرون أسبابا متعددة لنزول هذه الآية فساق القرطبي فيها ثلاثة أسباب لعل أصحها – إن لم تكن كلها صحيحة – ما أسند إلى ابن عباس من قوله: (( لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن ، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. قال الحارث بن هشام : ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا. وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء ، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا ، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية)) ( القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد – 1423 هـ/ 2003 – 16 / 341 ) وعقّب القرطبي على ذلك بقوله ((زجرهم عن التفاخر بالأنساب ، والتكاثر بالأموال ، والازدراء بالفقراء ، فإن المدار على التقوى. أي الجميع من آدم وحواء، إنما الفضل بالتقوى.)) ( القرطبي :المصدر نفسه ) فالنداء بروابط القوميات لا يأتي بخير؛ لأنه يسهم في إنشاء العصبية والحمية العرقية والقضاء على رابطة الإسلام، وإزالتها بالكلية لاسيما مع اتهام الإسلام بالجمود والتأخر عن مسايرة ركب الحضارة، وهذا ما يؤكده الزمخشري في الكشاف حيث يقول (( ما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلى به الآخر سواء بسواء ، فلا وجه للتفاخر والتفاضل )) (الزمخشري بو القاسم محمود بن عمر –د .ت – 4 / 377 ) ومن ثم تتجلى الحكمة في قوله تعالى في ختام الآية إن أكرمكم عند الله أتقاكم ولله در القائل ( تنسب هذه الأبيات للإمام علي رضي الله عنه وهي من بحر البسيط – القرطبي – 16/. 342 )
الناس من جهة التمثيل أكفاء … أبـــــــــــــوهمُ آدم والأم حـــــــــــــواء
نفس كنفس وأرواح مشاكلة … وأعظمٌ خلقت فيهم وأعضاء
فإن يكن لهم من أصلهم حسب … يفاخرون به فالطين والماء
ولعل من المفيد أن أذكر هنا ملمحاً تفسيرياً لطيفاً ساقه ابن عادل في معرض الردّ على من ينكر أن في الآية دليلاً على عدم اعتبار النسب في التعاملات الحياتية قبل معيار الدين، حيث يقول (( إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبراً ، وذلك في الجنس والشرع والعرف أما الجنس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس ، ولجناح الذباب دَويّ ولا يسمع عندما يكون رَعدٌ قويّ . وأما العرف فلأن من جاءه غلام ملك أقبل عليه وأكرمه فإذا جاءه مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا يلتفت إليه . وإذا علم هذه ففي الشرع كذلك إذا جاء الشرف الديني الإلهيّ لا يبقى هناك اعتبار لا لنسب ولا لسبب )) (ابن عادل أبو حفص عمر بن علي -1419 هـ -1998 م – 17 / 553 )
ولا شك أن الأخوّة الإيمانية تعمل على صلاح الأمة والتأليف بين القلوب فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله (( لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا )) (القشيري مسلم بن الحجاج – حديث رقم 6703- 8/10)
ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين، وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية: قوله تعالى لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ( المجادلة الآية 22 ) إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والابناء والإخوان والعشائر. وقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ( التوبة الآية 71) وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ( الحجرات الآية 10 ) وقوله فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ( آل عمران الآية 103) إلى غير ذلك من الآيات.
فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن التمسك بالروابط القومية والعنصرية وكل رابطة غير الإسلام أمر ذميم وممنوع بإجماع المسلمين. روى البخاري في الصحيح عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: “كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري: يا للمهاجرين فسمَّعها الله رسوله قال: “ما هذا؟ فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال النَّبي : “دعوها فإنها منتنة” ( الحميدي محمد بن فتوح – 1423هـ – 2002م – ح1562- 2/256 ). فقول هذا الأنصاري: يا للأنصار، وهذا المهاجري: يا للمهاجرين، هو النداء بالقومية العصبية بعينه، وقول النَّبي : “دعوها فإنها منتنة” يقتضي وجوب ترك النداء بها؛ لأن قوله «دعوها» أمر صريح بتركها، والأمر المطلق يقتضي الوجوب على التحقيق كما تقرر في الأصول.( الشنقيطي-18/ 43)
وفي معنى قوله تعالى إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون يكاد القارئ لا يعدم إجماع المفسرين على على فرضية التآخي بين المسلمين، فقد جاء في أيسر التفاسير (( يقرر تعالى الأخوة الإسلامية ويقصر المؤمنين عليها بين أفرادهم وعدم التساهل في ذلك ” واتقوا الله ” في ذلك فلا تتوانوا أو تتساهلوا حتى تسفك الدماء المؤمنة ويتصدع بنيان الإِيمان والإِسلام في دياره وقوله ” لعلكم ترحمون ” فلا يتصدع بنيانكم ولا تتشتت أمتكم وتصبح جماعات وطوائف متعادية يقتل بعضها بعضا . ولما لم يتق المؤمنون الله في الإِصلاح الفوري بين الطوائف الإسلامية المتنازعة حصل من الفساد والشر ما الله به عليم في الغرب الإِسلامي والشرق )) ( الجزائري موسى بن جابر- 1424ه- 4 / 122 ) ولعل مرد اختلاف المسلمين اليوم إلى عوج في الفهم تورثه علل النفوس من الكبر والعجب بالرأي، والطواف حول الذات والافتتان بها، واعتقاد أن الصواب والزعامة وبناء الكيان إنما يكون باتهام الآخرين بالحق وبالباطل، الأمر الذي قد يتطور حتى يصل إلى فجور في الخصومة، ومن ثم كان من أوليات أهداف الشريعة وغاياتها إقرار مبدأ الأخوة الدينية توحيدا للأمة وجمعا لشملها وربطها برباط أمتن من آصرة القربى. قال ابن عاشور (( وإطلاقُ وصف الأخ على المماثل في دين الإسلام تأسيسُ أصل جاء به القرآن جعل به التوافق في العقيدة كالتوافق في نسب الإِخوة ، وحَقّاً فإن التوافق في الدين آصرة نفسانية والتوافق في النسب آصرة جسدية والروح أشرف من الجسد )) ( ابن عاشور- 1997م – 2 / 121 ) لأجل ذلك أمرت الشريعة بأحكامها النزيهة المسلم أن يتواضع لأخيه ويلين له، ولا يؤذيه بكلمة قاسية أو بموقف استهتار، وأن يسامحه إن أخطأ ويصله إن قاطعه، ويحرص على رضائه وحسن الصلة به؛ حتى لا يتبلد الحسّ الأخوي في نفوس المسلمين فتمّحي من نفوسهم مظاهر التعاطف مع من يشتكي من مصاب أو يعيش في عذاب
وبالانتقال إلى ما كتبه الزحيلي في هذا الصدد نجده يبرز ما تميزت به شريعة الإسلام من تقرير أحكام الأخوة الدينية التي تعمل على رأب الصدع ولمّ الشمل، وتوحيد الصف وتقوية الشوكة، فصار المسلمون بفضل هذه التشريعات الحكيمة (( سادة البشر وأساتذة العالم ، وأنقذهم اللّه بالإسلام من الدمار والهلاك )) ( الزحيلي وهبة مصطفى -1418ه – 4/ 29)
وحرصا على تمام الأخوة واستمرارية التآخي بين المسلمين نهت الشريعة عن انتهاج سبيل الشقاق والخلاف؛ لأن المؤمنين إخوة فلا مبرر للتفرق والاختلاف بينهم، بل يتوجب عليهم المحافظة على ما امتنّ الله به عليهم من نعمة الإخاء، فقد (( كان بين العرب ومنهم الأوس والخزرج حروب كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة، وضغائن وإحن، طال بسببها قتالهم واقتتالهم، فلما جاء اللّه بالإسلام، فدخل فيه من دخل ، صاروا إخوانا متحابين بجلال اللّه متواصلين في ذات اللّه، متعاونين على البر والتقوى )) ( المصدر نفسه ) لأن الأخوّة في الدين أقوى وأدوم من أخوة النسب والصداقة، فأخوّة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب وفي ذلك يقول الحق تعالى ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾( سورة آل عمران الآية 103 ) قال ابن عاشور (( سائر الأمم الَّتي دعاها الإسلام كانوا في تفرّق وتخاذل فصار الّذين دخلوا في الإسلام إخواناً وأولياء بعضهم لبعض ، لا يصدّهم عن ذلك اختلاف أنساب ، ولا تباعد مواطن ، ولقد حاولت حكماؤهم وأولو الرأي منهم التأليف بينهم ، وإصلاح ذات بينهم ، بأفانين الدّعاية من خطابة وجاه وشعر فلم يصلوا إلى ما ابتغوا حتَّى ألَّف الله بين قلوبهم بالإسلام فصاروا بذلك التَّأليف بمنزلة الإخوان )) ( ابن عاشور محمد الطاهر – 3 / 176 )ولن يجد في الدنيا فيما سوى الإسلام تشريعا ولا نظما ودساتير تؤلف بين قلوب الخلق وتجمعهم على الحق، إذ تؤدِّي هدايات الإسلام وتشريعاته إلى التآلف وزوال الغِلِّ حتى أصبح معتنقوه – بحق وصدق – على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأوطانهم إخواناً متحابين مجتمعين على الأخوة في الله . نقل القرطبي عن قتادة قوله (( كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى ألم يسفكوا الدماء الحرام ويقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن. فالرحم على هذا رحم دين الإسلام والإيمان ، التي قد سماها الله إخوة )) ( القرطبي – 2003م- 16 / 247 ) وقوله في معرض تفسير إنما المؤمنون إخوة (( أخوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب (المصدر السابق- 16 / 323)
ثمرات الأخوة الإيمانية :
يجسد القرآن الكريم ثمرات التآخي في الدين في عديد من الآيات التي تدل على أنَّ روابط الأخوة تقرب البعيد وتدني القاصي، كقوله تعالى وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وقد بيّن الله في آية أخرى أن معاداة الناس بعضهم بعضا قبل مجيء الإسلام بسبب الحروب والاقتتال على مصادر العيش والكلأ وموارد الماء (( بلغت من الشدة أمرا عظيما حتى لو أنفق ما في الأرض كله؛ لإزالتها وللتأليف بين قلوبهم لم يفد ذلك شيئا وذلك في قوله: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( الأنفال الآيتان 63،62 )( الشنقيطي – 1995م – 4/29) فبتوفّر النية الحسنة التي يغرسها الإسلام في النفوس لا مكان للقطيعة ولا للخصام بين المتحابين، بل هو الودّ والإخاء والتآلف حتى مع اختلاف الرؤى وتنوع الأفكار حول الموضوع الواحد؛ لأن أواصر المحبة والانسجام صارت كوشائج القربى، فهي أقوى من مقومات الخلاف، فربما يحدث الاختلاف ولا يكون الخلاف, وهو ما عناه النبي بقوله ((إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا )) (البخاري محمد بن إسماعيل – 1407ه – 1987م- حديث رقم 1365 -1/ 182) إذ بإخوّة الدين تضمحل الخلافات وتزول الأحقاد ولا يسع المسلم إلا العود إلى آصرة الإخاء حتى مع حدوث السجال والجدال؛ لأن الهدي النبوي ومن قبله آيات القرآن الكريم لا ترتضي للمسلمين القطيعة والشتات إنما المؤمنون إخوة ( سورة الحجرات الآية 10) وقوله (( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام )) (السجستاني أبو داود سليمان بن الأشعث – د. ت – حديث رقم 4913- 4/ 431)
إن التماسك في النسيج الاجتماعي الآتي من طريق التآخي في الدين هو السبيل لوحدة المسلمين وعزتهم، وبه تتحقق الطموحات وتبنى الحضارات، ولذا جاء الهدي النبوي مرشداً إلى إعانة الضعيف وإغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب يقول (( من نفَّس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا نفَّس الله عن كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على مُعْسرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )) (القشيري مسلم بن الحجاج – ح 2699 )
يقول ابن عباس : ما رأيت رجلاً أوليته معروفا إلا أضاء ما بينه وبيني ، ولا رأيت رجلاً فرط لي منه شيء إلا أظلم ما بيني وبينه .
كما أن من ثمرات التآخي في الدين الإيثار بحيث يقدّم المرء غيره على نفسه في النفع له والدفع عنه وهو النهاية في الأخوة ( الجرجاني علي بن محمد – 1405ه- 1/ 59)
وأقل الإيثار أن يشرك الإنسان غيره فيما عنده، ويجود عليه بفضل ماله، يقول الغزالي إن من ثمرات التآخي في الله أن تكون منزلة من تؤاخي عندك بحيث (( تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك وهذه مرتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين )) (الغزالي أبو حامد محمد بن محمد -د.ت – 1/173)
وهذا هو الفهم السليم لروح النص في قوله – صلى الله عليه وسلم – : ” ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به ” ( الطبرانى-11983م- /259) وقوله (( من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له. قال أبو سعيد الخدري فذكر رسول الله من أصناف من المال حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل ))( القشيري مسلم بن الحجاج – ح1728)
ومن ثمرات التآخي في الإسلام : المواطنة وحسن الجوار، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال النبي : (( أتدرون ما حق الجار؟ إن استعان بك أعنته وإن استقرضك أقرضته وإن افتقر عدت عليه، وإن مرض عدته، وإن مات اتبعت جنازته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإن اشتريت فاكهة فأهد له فإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ولا تؤذه بقتار 1 قدرك إلا أن تغرف له منها، أتدرون ما حق الجار؟ والذي نفسي بيده لا يبلغ حق الجار إلا قليل ممن رحمه الله، الجيران ثلاثة: فمنهم من له ثلاثة حقوق، ومنهم من له حقان، ومنهم من له حق واحد، وأما الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الإسلام وحق الجوار وحق القرابة، وأما الذي له حقان فالجار المسلم له حق الإسلام حق الجوار، وأما الذي له حق واحد فالجار الكافر له حق الجوار)) (البرهان فوري علاء الدين علي -1401هـ/1981م – حديث رقم 24935- 9/ 59)
إن عقيدة المسلمين تقضي بألا يؤمن العبد بمبدأ الاختيار كاليهود ولا بمنح صكوك الغُفْران كالنصارى، بل هم مجتمع واحد عموده الإسلام وقيامه على الشعور بالمسؤولية الجماعية لدى كل فرد من أفراده، ومن ثم فإن معاشرة الناس بالمعروف من أعظم البر وأوثق صلات التقارب والتعايش السلمي بين الناس، وفساد الأخلاق يفضي إلى التفرق والشقاق ، ولا يكون المجتمع متماسكاً إلا بحسن الخلق الذي يدفع التنافر والتصادم فيتعايش الناس في بيئة إيمانية أساسها التآلف والتعاون وتفريج الكربات عن المسلمين عملاً بقوله”(( أحبُّ الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرورٌ يدخله على المسلم ، أو يكشف عنه كربة أو يقضى عنه دينا ، أو يطرد عنه جوعا ، ولأن أمشي مع أخٍ في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد -مسجد المدينة- شهراً )) (ابن أبي الدنيا – قضاء الحوائج – د. ت- ص80 ) فهذه النصوص تبلور الأخلاق الإسلامية وتؤطّر للأخوة الإيمانية، فتمنح الحق لكل إنسان أن يعيش فوق الأرض بدعة وسلام، وأن يعايش الآخرين وفق المنهج القويم الذي رسمه الله لخلقه حين أسند إليهم أمانة الاستخلاف في أرضه.
الخاتمة :
نخلص في ختام هذا البحث الوجيز إلى جملة من النتائج، أهمها:
– اهتم الإسلام بالنسيج الاجتماعي اهتماما منقطع النظير، فقعّد القواعد وسن القوانين التي من شأنها أن تؤلف بين المسلمين وتقوي كيان الأمة.
– جعل الله التآخي في الدين من أقوى الروابط بين الناس، وقدّمه على سائر وشائج القربى والتآلف؛ لأن الدين باق وقرابته باقية وسائر القرابات قد تزول.
– إن التآخي هو السبيل الأمثل للمواطنة والتعايش السلمي وهو الكفيل بمنح أحقية عيش الكل في وطن واحد يحتضن الجميع ويتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات.
– إن من دلائل التآخي في الله أن يعمل المؤمن على إدخال الفرح والبهجة والسرور في قلوب المسلمين ، وأن يسعى في كشف كرباتهم، وأن يجتهد في قضاء حوائجهم
قائمة المصادر.
- البخاري محمد بن إسماعيل – الجامع الصحيح – دار ابن كثير ، اليمامة – بيروت-الطبعة الثالثة ، 1407 – 1987-تحقيق : د. مصطفى ديب.
- البرهان فوري علاء الدين علي بن حسام الدين – كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال -تحقيق : بكري حياني -مؤسسة الرسالة- الطبعة الخامسة -1401هـ/1981م
– البيهقي :أبوبكر أحمد بن الحسين ، شعب الإيمان ، تحقيق محمد بسيوني ،
دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط1 ، 1420هـ ( الحاسب الآلي)
- الثعلبي أحمد بن محمد- الكشف والبيان –تحقيق محمد بن عاشور – دار الكتب العلمية – بيرت- 2000م
- الجرجاني علي بن محمد بن علي – التعريفات – دار الكتاب العربي – بيروت-الطبعة الأولى ، 1405ه-تحقيق : إبراهيم الأبياري
- الجزائري أبو بكر-أيسر التفاسير ،
- الجوهري- الصحاح في اللغة-موقع الوراقhttp://www.alwarraq.com
- الحميدي محمد بن فتوح – الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم- دار ابن حزم – لبنان/ بيروت – 1423هـ – 2002م-الطبعة: الثانية- تحقيق : د. علي حسين البواب
- الربيع بن حبيب بن عمر مسند الإمام الربيع-تحقيق محمد إدريس -دار الحكمة – بيروت – 1415ه-
- الزَّبيدي محمّد بن محمّد – تاج العروس من جواهر القاموس – تحقيق مجموعة من المحققين- دار الهداية
الزحيلي وهبة مصطفى- التفسير المنير فى العقيدة والشريعة والمنهج ، ، دار الفكر المعاصر بيروت ، ط2 ، 1418هـ
- الزمخشري أبو القاسم محمود بن عمر – الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل- تحقيق عبد الرزاق المهدي – دار إحياء التراث العربي – بيروت –
زهرة التفاسير، محمد أبوزهرة ، ط دار الفكر العربي – د. ت
السجستاني أبو داود سليمان بن الأشعث – سنن أبي داود- دار الكتاب العربي ـ بيروت د. ت
- ابن سيده أبو الحسن علي بن إسماعيل – المخصص -دار إحياء التراث العربي – بيروت – 1417هـ 1996م-الطبعة : الأولى-تحقيق : خليل إبراهم جفال
– ابن سيده أبو الحسن علي بن إسماعيل -المحكم والمحيط الأعظم -تحقيق
عبد الحميد هنداوي- دار الكتب العلمية- 2000م- بيروت
- الشنقيطي – أضواء البيان ، ، دار الفكر، بيروت ، 1995م
– الطبراني : سليمان بن أحمد ، المعجم الكبير ، تحقيق حمدي عبد المجيد ، مكتبة العلوم والحكم ، الموصل، ط2 ، 1983م ( الحاسب الآلي)
- ابن عادل أبو حفص عمر بن علي- اللباب في علوم الكتاب – – تحقيق : عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض – دار الكتب العلمية – بيروت -لبنان – 1419 هـ -1998 م – الطبعة : الأولى
ابن عاشور محمد الطاهر -التحرير والتنوير – الدار التونسية للنشر – ط 1984 م
- الغزالي محمد بن محمد الغزالي أبو حامد -إحياء علوم الدين- دار االمعرفة – بيروت
- القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد – الجامع لأحكام القرآن – تحقيق هشام سمير البخاري -دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية طبعة : 1423 هـ/ 2003
القشيري مسلم بن الحجاج – الجامع الصحيح- تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي ، بيروت
- المناوي محمد عبد الرؤوف – التوقيف على مهمات التعاريف- دار الفكر المعاصر , دار الفكر – بيروت , دمشق-الطبعة الأولى ، 1410ه-تحقيق د. محمد رضوان الداية