الإطار العام لترسيخ الديمقراطية في التشريعات الوضعية

سفيان علي عبود1

1 كلية الحقوق- الجامعة الاسلامية في لبنان

اشراف الأستاذ الدكتور/ أمين عاطف صليبا

HNSJ, 2024, 5(10); https://doi.org/10.53796/hnsj510/22

تحميل الملف

تاريخ النشر: 01/10/2024م تاريخ القبول: 15/09/2024م

طريقة التوثيق


المستخلص

هدف هذا البحث الى دراسة مدى مواءمة التشريعات الوضعية في صورتها الحالية لمفهوم الديمقراطية. توصل البحث الى عدة نتائج أهمها أن بناء ثقافة سياسية وطنية تؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية يستلزم وقتاً وممارسة في آن واحد، إذ من الممكن بناء حلقات هذه الثقافة وعناصرها وفق عملية تدريجية تضمن احترام مبادئ الديمقراطية التعددية من جهة وحماية قواعدها وتوفير الأطر الثقافية المناسبة من جهة أخرى. كذلك توصل البحث الى ان الاستقرار السياسي والاجتماعي اليوم، في الكثير من البلدان العربية والإسلامية، بحاجة إلى حزمة من الإجراءات والخطوات السياسية، التي تستهدف رفع الاحتقانات الداخلية وبلورة الأطر والمؤسسات للمشاركة الشعبية وإعادة تأسيس العلاقة بين متطلبات الحرية ومشاركة الناس في شؤون حياتهم المختلفة. أوصى البحث بأن الديموقراطية التي ينادبي بها أي نظام سياسي يجب أن لا تقاس من خلال عدد الأحزاب التي أجيز لها أن تمارس العمل السياسي، وإنما من خلال التداول السلمي والفعلي للسلطة بين الجميع، وعبر الطبقات الاجتماعية المختلفة، مما يترتب على ذلك من آثار على المستوى الواقعي بحيث تتاح المشاركة الشعبية، وتكافؤ الفرص لكافة أفراد المجتمع دون تمييز.

الكلمات المفتاحية: الديموقراطية، التشريعات الوضعية.

المقدمة

تتميز الدولة الحديثة عن سواها بالمدى الواسع لمشاركة الناس في السياسة وتأثرهم بها عبر وحدات سياسية واسعة النطاق يأتي في طليعتها الأحزاب والقوى السياسية، كما أن العصرنة السياسية تتحقق بمشاركة فئات اجتماعية في السياسة فوق مستوى القرية أو المدينة في نطاق المجتمع الوطني و القومي أحيانا بشكل فاعل حيث أن الزيادة الحادة في المشاركة السياسية تؤدي إلى استنهاض عدم الاستقرار السياسي، ثم أن استقرار أي نظام سياسي يستند إلى العلاقة بین مستوى المشاركة السياسية ومستوى المؤسساتية السياسية والمشاركة تكون في مختلف تنظيمات المجتمع السياسية والاجتماعية (أحزاب، نقابات جمعيات، مؤسسات المجتمع المدني والأهلي..)).

إن الأنظمة السياسية ذات المستويات المتدنية من المؤسساتية والمستويات العالية من المشاركة تكون فيها القوى الاجتماعية فاعلة بشكل مباشر في المجال السياسي باستخدام أساليبها الخاصة (الأنظمة الشعبية) وعلى العكس فان الأنظمة حال التي ترتفع فيها نسبة المؤسساتية مقابل المشاركة يمكن أن تدعى بالأنظمة المدنية”([1]) . عدم توافر المؤسسات السياسية القادرة على استيعاب القوى الراغبة في المشاركة السياسية تحدث الأزمات السياسية للأنظمة والدول.

كما أن المشاركة السياسية تتطلب هامشا كبيرا من الحريات العامة (حرية الرأي والتعبير، حرية المعتقد وحرية إنشاء الأحزاب …).

فالديمقراطية تقوم على المشاركة السياسية الفعالة وتحقيق المصالح الحيوية للشعوب والنظام الديمقراطي هو الذي يضمن للمواطنين حقوقا متساوية دون الإشارة إلى المعتقدات الدينية والسياسية والعرق والأصول فالديمقراطية تضمن حرية المواطن في المشاركة والتعبير وتولي المناصب كما تتطلب تحقيق عدالة اجتماعية وتكافؤ فرص أمام المواطنين والمساواة أمام القانون فلا معنى لوجود حقوق قانونية وسياسية على الورق ان لم يتوافر الحد الأدنى من ضمان ممارستها على أرض الواقع في الأمور التالية : التقارب النسبي في الدخل والثروة والمكانة الاجتماعية – المستوى التعليمي – توفير فرص العمل والتعليم والرعاية الصحية والاجتماعية”([2])…) هذه الأمور تجعل من الديمقراطية عملية مشاركة ممكنة وفعالة، وليست مجرد ديكور للاستحواذ والاقصاء والاحتواء من قبل فرد أو قلة من الناس باسم الديمقراطية على حساب قيم العدالة والانصاف والمساواة.

إشكالية البحث:

تعد الديمقراطية واحدة من أبرز الظواهر السياسية في القرن العشرين. ففي حين لم يتجاوز عدد الدول الموصوفة بالديمقراطية عدد أصابع اليد الواحدة في بداية القرن الماضي، فإن هذا القرن لم ينته إلا وقد أصبح أكثر من ثلثي دول العالم موصوفاً بالديمقراطية.

بناءً على ما تقدم تظهر إشكالية البحث في تساؤل رئيسي سنحاول من خلال هذا البحث الإجابة عنه: ما مدى مواءمة التشريعات الوضعية في صورتها الحالية لمفهوم الديمقراطية؟

المبحث الأول

الصور التشريعية المنظمة للديمقراطية

يقوم مفهوم الانتخاب كأحد أدوات الديمقراطية على قيام أفراد الشعب الذين يتمتعون بالشروط الواجبة للانتخاب، والتي يحددها الدستور والقانون باختيار ممثلين عنهم لممارسة السلطة نيابة عنهم، حيث تعد الانتخابات أهم الوسائل التي يستطيع من خلالها أفراد الشعب المشاركة في الحكم كونهم مصدراً للسلطات حيث يصبح لهم ممثلين في البرلمان ويتخذون قرارات تصب في صالح الشعب، وقد ساد في النظم السياسية أكثر من نظام للانتخاب([3]).

ووفقاً لما سبق سنقسم هذا المبحث إلى مطلبين: سنتحدث في المطلب الأول عن أثر الانتخابات على الديمقراطية، أما المطلب الثاني سنخصصه للبحث في دور الأحزاب السياسية في ترسيخ الديمقراطية

المطلب الأول

أثر الانتخابات على الديمقراطية

إن العلاقة بين الديمقراطية والانتخاب هي علاقة وثيقة ولا يمكن الفصل بينهما فسلطة الحكام لا يمكن القبول بشرعيتها ما لم تكن مخولة من قبل المحكومين الذين قاموا بانتخابه، فالإنسان بحاجة إلى أن يحكم لكنه في الوقت نفسه يريد ان يحكم باختياره وبحريته فهو يبدي رأيا في السلطة ومن ثم بشرعيتها.

ووفقاً لما سبق يمكن القول أن أغلب الدساتير أخذت وأقرت حق الانتخاب لصبغ صفة الشرعية والديمقراطية على مضامينها وهنا يمكن ملاحظة أن ممارسة حق الانتخاب قد يضيق أو يتسع مداها وفاعليتها تبعاً لديمقراطية النظام أو تسلطه وسنقوم من خلال المطلب التالي بالبحث في العلاقة القائمة بين الانتخاب والنظم السياسية([4]).

ثانياً: علاقة الانتخاب بالنظم الديمقراطية

إن اي نظام ديمقراطي يستلزم بالضرورة الإقرار للأفراد بالحريات السياسية والتي في مقدمتها حق الانتخاب فالحكم الديمقراطي يقوم على أساس ان الجماعة مصدر السلطة ومستقرها وان الحكام يجب ان يختاروا من لدنهم وان ينفذوا مشيئتها فأول دليل واشارة الى الحكم الديمقراطي الانتخابات النزيهة([5])وأجمع الرأي الدولي حول المعايير اللازمة ﻹجراء انتخابات ديمقراطية والتي يصدق عليها القول بأنها انتخابات حرة ونزيهة وهذه المعايير تتمثل بالمساواة والشفافية والدورية وسيتم بحثها تباعاً([6]).

  1. المساواة

إن من أعلى القيم المرتبطة بشخص الانسان هي المساواة لذا بات من المؤكد ان يكون مكانها الطبيعي في صلب الدساتير، لأن النص عليها في القوانين العادية دون ذكرها في الدستور يجعل تلكم الحقوق عرضه للتعديل والتبديل بسهولة بخلاف ما تتطلبه الدساتير الجامدة من شروط خاصة لتعديلها.

وللمساواة قيمة أساسية في مجال تطبيق الحريات، فالحرية اذا لم تكن في متناول الجميع فلا يصدق القول بوجود حرية.

ومن هذا المنطلق تعدّ المساواة ركيزة اساسية لكل حرية ومنها حرية الانتخاب وهذا ما أكده الإعلان العالمي لحقوق الأنسان “إن ارادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة ويعبر عن هذه الارادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على اساس الاقتراع السري وعلى قدم المساواة بين الجميع ” ([7]).

والمساواة في بحثنا هذا تتخذ معنيين المعنى العام وهو المساواة بين الاشخاص دون فرق بسبب الجنس أو اللون أو العنصر([8])، وهذا ما دعت اليه القوانين الدولية وفي مقدمتها الاعلان العالمي لحقوق الانسان ” لكل انسان حق التمتع بالحقوق كافة والحريات الواردة في هذا الاعلان دون تمييز كالتمييز بسبب العنصر او اللون او الجنس او اللغة او الدين او الرأي السياسي او أي رأي اخر او الاصل الوظيفي او الاجتماعي او الثروة او الميلاد او أي وضع اخر دون أية تفرقة بين الرجال والنساء“([9]).

اما المعنى الخاص للمساواة فهو المساواة في قوة التصويت فلكل مواطن صوت له ثقل معادل لثقل صوت مواطن اخر وهنا تبرز اهمية الدوائر الانتخابية، فالدائرة الانتخابية هي (الموقع الجغرافي الذي يضم الناخبين لاختيار من يمثلهم التي تحدد لها المقاعد الانتخابية المعبرة عنها) لذلك يجب ان تحدد هذه الدوائر على اساس منصف بما يجعل النتائج تعكس بشكل أدق واشمل ارادة الناخبين جميعهم.

فكثير ما كانت الدول تعمد على تقسيم البلاد الى دوائر انتخابية بصورة تهدف الى تشتيت الاصوات التي لا تريد الحكومة تمثيلها في البرلمان بصورة يكون ظاهرها مشروعاً وباطنها غير مشروع بهدف تمكين أنصار الحكومة من الفوز.

وقد ذهبت اغلب الدول الى تحديد الدوائر الانتخابية في قوانينها الانتخابية لكي تكون بعيدة عن تلاعب السلطة التنفيذية كما في قانون الانتخاب اللبناني رقم( 171) لسنة 2000([10])،وايضاً قانون الانتخاب العراقي رقم (16) لسنة 2005 اذ جاء فيه “تكون كل محافظة وفقاً للحدود الادارية الرسمية دائرة انتخابية تختص بعدد من المقاعد يتناسب مع عدد الناخبين المسجلين في المحافظة على وفق انتخابات 30 / كانون الثاني / 2005 (المعتمد على نظام البطاقة التموينية)” ([11]).

إن اجراءات تحديد الدوائر الانتخابية او التسجيل او الاقتراع التي ترمي الى الانتقاص من اصوات افراد معنيين او مجموعات او مناطق جغرافية معينة امر غير مقبول في ضوء القاعدة الدولية القاضية بالمساواة في الاقتراع، فللأصوات كلها وزن متساوي بهدف استيفاء عنصر النزاهة في الانتخاب([12]).

ثانياً: شفافية الإدارة الانتخابية:

الإدارة الانتخابية هي الجهة الانتخابية المسؤولة عن تنظيم وادارة الانتخابات بكل جوانبها لهذا يجب ان تمتاز هذه الادارة بالشفافية بأن تكون بعيدة عن التأثيرات الحزبية والسياسية ولا يمكن أن تتحقق هذه الميزة الا اذا كانت نشأتها ليست بيد الحكومة – السلطة التنفيذية – وهذا ما يجري حالياً اقراره بعده خطوة مهمة لبناء ثقة الناخبين والمرشحين على حد سواء وهذه هي الخطوة الاولى التي خطاها نحو الديمقراطية الدستور العراقي النافذ لسنة 2005 اذ عدّ المفوضية العليا المستقلة للانتخابات هيأة مستقلة تخضع لرقابة مجلس النواب([13]).

ومما تجدر الاشارة اليه ان جنوب افريقيا سلكت مسلكا جديدا تمثل بان تكون لجنة الانتخابات متألفة من اعضاء عدة دوليين من كندا وزيمبابوي وارتيريا وهذا ما عزز ثقة المواطن الافريقي بحيادية اللجنة([14]).

الى جانب ذلك يمكن ملاحظة ان بعض الدول لم تأخذ بفكرة الاستقلال وانما اعتمدت على اساس التوازن بان يعين اعضاء يتمتعون بثقة الاحزاب جميعهم وهذا ما اخذت به المانيا الشرقية اذ تألفت لجنة الانتخاب الوطني من (48) عضواً ممثلين لكل حزب من الاحزاب الاربعة والعشرين المشتركة في الانتخابات وشهد لها بالاستقلال وعدم التحيز.

فالمسألة هنا ليست الاستقلالية بقدر ما هي الشفافية والتدخل غير الحكومي فحيثما كانت ادارة الانتخابات في ايدي الحكومة داخل حزب واحد او نظام تسلطي إذ لا توجد معارضه فان ثقة الناخبين تكون مزعزعة ولا تستقر إلا إذا اختير ممثلو احزاب المعارضة ضمن إدارة الانتخاب.

  1. دورية الانتخابات

ارتبطت نزاهة الانتخابات بدوريتها وهذا ما اكده الاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية([15]).

ويقصد بالدورية التواتر على نحو منظم والهدف الأساس من الدورية هو استبعاد النظم التسلطية، فالانتخابات التي تجري مرة واحدة وعلى سبيل المثال في اوقات استقلال البلد او انتقاله من نظام إلى آخر تؤدي بمرور الوقت الى فقدان تأييد الشعب.

ويجب ان تكون الدورية قائمة على أساس ان لا تكون المدد الفاصلة بين الانتخابات قصيرة جداً بما يضعف استقلال اعضاء البرلمان في مواجهة الناخبين او طويلة جداً بحيث تنقطع الصلة بين الشعب ونوابه انما تكون بتواتر يكفي لتأمين ان تبقى السلطة الحاكمة تعكس ارادة الشعب والتي هي اساس شرعية الحكم.

وهذا ما انتهجته اغلب الدول ومثالها الدستور العراقي لسنة 2005 اذ جعل مدة دورة مجلس النواب اربع سنوات تبدأ بأول جلسة له و تنتهي نهاية السنة الرابعة([16]).

هذا مع ملاحظة انه لا يمكن تأجيل الانتخابات إلا اذا تطلبت مقتضيات الوضع الامني للبلد وهذا ما نص عليه قانون الانتخابات العراقي لسنة 2005 ” يجوز تأجيل الانتخابات في دائرة او اكثر اذا اقتضت ذلك الظروف الامنية “([17]).

ومما تجدر الاشارة اليه اخيراً ان في كل مرة يتحدد فيها اجراء انتخابات لا بد ان تحدد السقوف الزمنية بالنسبة لكل مرحلة من مراحل العملية الانتخابية ويجب ان تمتاز هذه السقوف بالوقت الكافي للقيام بحملة وجهود فعالة لإعلام الجماعة واطلاع الناخبين والمرشحين ويجب ان ينشر الجدول الزمني للانتخابات على الجميع بوصف ذلك جزءاً من انشطة الاعلام الوطني من اجل الشفافية وتعزيز ثقة الجمهور.

المطلب الثاني

دور الأحزاب السياسية في ترسيخ الديمقراطية

لقد ارتبط في الأذهان أنه لا وجود للديمقراطية بدون الأحزاب السياسية حيث تعتبر الأحزاب السياسية هي الطريق الموصول إلى ديمقراطية الحكم وعليه نرى مدى الارتباط الوثيق بين النظام الديمقراطي وبين الأحزاب السياسية.

وسنقوم في هذا المطلب بالبحث في دور الأحزاب في ترسيخ الديمقراطية من خلال ما يلي:

أولاً: بالنسبة للعراق:

تعتبر السمة الأبرز لغالبية لأحزاب العراقية قبل عام 2003 هو فقدانها مبدأ الشفافية وقبول الرأي الآخر، وإلغاؤها مبدأ النقد الذاتي، فالذهنية السائدة لدن أغلب قيادات هذه الأحزاب تدعى معرفة الحقيقة التي لا تقبل الشك أو المراجعة بين الأفراد والجماعات، أما التفاعل والحوار إن وجد فإن هدفه ليس التوصل إلى حلول وسط وتقريب وجهات النظر بل العكس، حيث إن هدفه هو إظهار وتأكيد الحقيقة الواحدة وهي رأي قائد الحزب([18]).

إن سلوكاً كهذا إن وجد لدى بعض قيادات الأحزاب العراقية، فإننا نراه يقترب من سلوك قيادات الأحزاب الشمولية، حيث العلاقة بين القائد والاتباع مبنية على أساس الانتماء إلى الحزب بقطع النظر عن قناعة أو خوف أو مصلحة وأن الأعضاء ملزمون بالطاعة العمياء وتنفيذ أوامر وأهداف القيادات من دون مناقشة، فالأوامر بمنزلة نص مقدس.

وعند قرائتنا قراءة موضوعية للظروف التي عاشتها أغلب الأحزاب العراقية، وتحديداً قبل (۲۰۰۳) نجد ما يسوغ سلوك هذه الأحزاب البعيدة عن أصول وقواعد واليات الديموقراطية في انتخاب القيادات السياسية، فأغلب هذه الأحزاب كانت تعيش خارج الوطن وتمارس العمل السياسي السري خوفاً من مطاردة السلطة العراقية الحاكمة آنذاك([19]).

وبناء على ما تم طرحه يمكن القول إن أزمة الديموقراطية في العراق عامة، وذات طبيعة ثانية فهي لا تتوقف على قيادات الأحزاب والكتل والجماعات لعدم إيمانها بالديموقراطية، وإنما يقابله أيضاً هو ايمان شعبي فهناك شعب غير مشبع بروح الديموقراطية، فالأغلبية الشعبية لا تعي أهمية الديموقراطية وضروراتها في حياة الأفراد والجماعات، فهذه الأغلبية لها اهتماماتها المطلبية من مذهبية ودينية ومناطقية يفوق بشكل كبير اهتمامها بموضوعة الديموقراطية، مما دفع القيادات السياسية العراقية إلى أن تتمادى في سلوكها الانفرادي بعيداً عن الديموقراطية إذا ما أخذنا بالحسبان أن الديموقراطية بناء تراكمي اجتماعي وهذا ما لم يحصل في العراق مع ولادة التعددية الحزبية مثلما لم يتولد بإرادة شعبية ان القوى والأحزاب السياسية العراقية التي انخرطت في العملية السياسية وأعلنت تمسكها بالديموقراطية مارست العمل السياسي من خلال مراحل عدة تمثلت في مجلس الحكم الانتقالي والجمعية الوطنية وكذلك الحكومة المؤقتة والانتقالية ثم مجلس النواب والحكومة الدائمة([20]).

في حين كانت ممارسات أغلبها بعيدة عن أصول وقواعد الديموقراطية ويتجلى ذلك من خلال صراعها السياسي القائم على الأسس الإثنية حيث تعالت مطالب بعضهم بضرورة الأخذ بنظام التمثيل السياسي القائم على أساس نظام الحصص (الكوتا) بدل من الاحتكام إلى نتائج الانتخابات بل انتجوا أكثر من أحد ابرز ما يميز النظام الديموقراطي ونقصد به الأخذ بنظام (التصويت) كوسيلة ديموقراطية لممارسة العمل السياسي وحجم القضايا الخلقية بل ركنوا إلى أسلوب (التوافق) أو ما يسمى (بالديموقراطية التوافقية) التي سبق أن عرفها، في محاولة الارضاء جميع القوى السياسية، هذه الديموقراطية التي تعد النموذج الأفضل للمجتمعات المتعددة كالعراق، وهي الأفضل بما لا يقارن بين حالتي الديكتاتورية أو الفوضى السياسية العارمة، وتكون بمنزلة مرحلة انتقالية قادرة على تطوير ديموقراطية مدنية تتضمن

المساواة بين جميع أفرادها ولكن العراق لم يجن منها سوى السلبيات التي انعكست على الواقع السياسي، حيث ساهم الائتلاف الواسع القائم على الديموقراطية التوافقية) في إيجاد معارضة صغيرة أو ضعيفة أو عدم وجودها أصلاً في مجلس النواب؛ مما أخل بقواعد المحاسبة والمراقبة، كما ساهم الحكم بواسطة الائتلاف إلى بطء صنع القرارات وتلكئها وحتى تجميدها بسبب الاعتراض المتبادل، ناهيك باعتماد النسبية كمعيار للتوظيف في الإدارات الحكومية بدل الكفاءة فتراجعت فعالية أجهزة الدولة الإدارية)([21]).

وعليه أضحت الديموقراطية العراقية حبيسة قناعات بعض قادة وزعماء الأحزاب والكتل والتيارات السياسية وفي ظل الظروف التي مر بها العراق منذ سنة (٢٠٠٣) وحتى الآن يمكن القول إن البحث عن الديموقراطية داخل الأحزاب العراقية بعد نوعاً من الترف الفكري.

قانون الأحزاب السياسية العراقي رقم (36) لعام 2015 النافذ([22]):

تضمن هذا القانون الأحزاب السياسية (61) مادة موزعة على 9 فصول تضمنت هذه الفصول السريان والتعاريف والأهداف، المبادئ الأساسية، أحكام التأسيس، إجراءات التسجيل، الحقوق والواجبات، التحالف والاندماج، توقف النشاط السياسي، الأحكام المالية، الأحكام الجزائية، أحكام عامة وختامية([23]).

هذا ولم يغفل القانون الإشارة للنظام الداخلي فقد نصت المادة 28 منه على أنه ما يأتي:

  1. يجب أن يكون لكل حزب نظام داخلي وبرنامج سياسي خاص به يعد من قبل الحزب ويقر من قبل الهيئة العامة في أول اجتماع لها.
  2. يتضمن النظام الداخلي للحزب الآتي:
  3. القواعد المنطقة بشؤونه السياسية والتنظيمية والمالية والادارية بما يتفق وأحكام الدستور والقانون.
  4. تحديد عنوان المقر الرئيسي للحزب ومقاره الفردية وألا يكون أي منها ضمن أماكن العبادة أو مقر أي مؤسسة عامة أو خيرية أو دينية أو تعليمية أو نقابية أو عسكرية أو قضائية.
  5. قواعد النظام المالي للعزب وتحديد موارده واسم المصرف الذي تودع ايه هذه الأموال والإجراءات المنظمة للصرف وقواعد واجراءات حسابات الحزب وكيفية مراجعتها وإقرارها وإعداد ميزانيته السنوية واعتمادها وأوجه اتفاقها.
  6. نورد على هذا النص الملاحظات الآتية: إذ على الرغم من أن هذه المادة قد جاءت لتعالج الأمور التنظيمية الداخلية للحزب، وعلى الرغم مما يوح لنا من أول وهلة من تكرار البند أولاً من هذه المادة المتعلقة بامتلاك الحزب النظام الداخلي بحسبان أن المادة (۱۱) ثانيا (أ) من القانون نفسه أوجبت تقديم النظام الداخلي للحزب مع طلب التأسيس، إلا أن هذا القول غير صحيح على إطلاقه وذلك لاختلاف متطلبات تأسيس الحزب عن متطلبات اعتماد النظام الداخلي؛ إذ إن البند المذكور آنفاً جاء ليعالج كيفية إقرار النظام الداخلي، إذ أوجب على الحزب أن يكون له نظاماً داخلياً وبرنامج سياسي يقر في الاجتماع الأول للهيئة العامة([24]).
  7. وبناء على ما تقدم فإنه على الرغم من التوجه المحمود الذي اعتنقه المشرع العراقي إلا انه مما يؤخذ عليه هو عدم دقة الصياغة التشريعية لوجود كثير من الكلمات الزائدة، كما هو الحال في استعماله عبارة (من قبل)، فكان الأجدر أن يحذف كلمة (قبل) لعدم انسجامها مع القواعد اللغوية الرصينة.
  8. وفضلاً عن ذلك فإن مسألة إلزام الحزب بقرار البرنامج السياسي في أول اجتماع الهيأة العامة بعد محل نظر إذ إن البرامج السياسية متغيرة على وفق الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لذا فإنه مع تأييدنا لمسألة إقرار النظام الداخلي في أول جلسة، إلا أننا لا نؤيد إقرار البرنامج السياسي للحزب في هذه الجلسة، لكونه يُعد من الأمور المتغيرة
  9. كما يُلاحظ أن المشرع قد أغفل مسألة غاية في الأهمية وهي إلزام الحزب بنشر النظام الداخلي وبرنامج الحزب في صحيفة محلية ليتمنى للجمهور الاطلاع على أفكار وتنظيمات الحزب.

المبحث الثاني

السبل الدولية المتبعة في ترسيخ الديمقراطية

إن تنوع الأنظمة السياسية في المجتمع الدولي قد أدى إلى قيام نظام قانوني دولي قائم على حرية كل بلد في اختيار نظامه السياسي. هذه المبدأ اعتبر أساسيا للتعايش السلمي بين الدول وأدى إلى عدم وجود نظرية الشرعية الحكومات في القانون الدولي. لهذا، فإن الأمم المتحدة لم تصدر يوماً ما يتعارض مع هذا المبدأ، لأن هدفها ضمان التعايش السلمي بين أعضائها، وبالتالي فقد كان من المستحيل عليها تفضيل نموذج سياسي على آخر، أو حصر الشرعية في نوع معين من أنظمة الحكم في فترة الحرب الباردة

وعليه ووفقاً لما تقدم سنقسم هذا المبحث إلى مطلبين، سنتحدث في المطلب الأول عن دور الأمم المتحدة في تطبيق الديمقراطية، أما المطلب الثاني سنخصصه للبحث في مدى انسجام الوسائل الدولية مع التشريعات الوطنية

المطلب الأول

دور الأمم المتحدة في تطبيق الديمقراطية

رفضت الأمم المتحدة فكرة مساعدة الدول على تنظيم انتخابات عامة فقد جاء في إحدى رسائل أمينها العام أن «الانتخابات تقع ضمن الاختصاص الداخلي للدول، والتي يُمنع على الأمم المتحدة التدخل فيها، وذلك بموجب المادة 7/2من الميثاق”([25]).

لكن انتهاء الحرب الباردة وانتشار الديمقراطية، بوصفها أيديولوجيا، على ما يبدو، من سياسات الأمم المتحدة ومن قناعات القائمين عليها. فقد أشار أمينها العام السابق بطرس غالي عام ۱۹۹۷ إلى أن «ظاهرة انتشار الديمقراطية قد تركت أثرها الواضح في أنظمة الأمم المتحدة”([26]).

في الواقع، تميز عالم ما بعد الحرب الباردة بأمرين: الأول هو إعادة الحياة إلى نظام الأمن الجماعي([27])، والثاني هو دخول الأفكار الديمقراطية إلى خطاب الأمم المتحدة وأفعالها، خلافاً مبدأ عدم التدخل المنصوص عليه في المادة ۲/۷ من الميثاق. كانت إعادة إحياء نظام الأمن الجماعي ملحوظة من حيث الكم ومن حيث الكيف. فمنذ إنشاء الأمم المتحدة عام ١٩٤٥ حتى العام ۱۹۸۸ نجد أن عدد المرات التي قامت فيها الأمم المتحدة بإرسال قوات حفظ سلام م يتجاوز الخمسة عشر مرة، بينما وصل العدد لما يقارب الخمسين مرة في السنوات الخمس شره التي تلت نهاية الحرب الباردة.

كذلك كان التطور ملحوظاً فيما يتعلق بتوعية عمليات حفظ السلام. فالوظيفة التقليدية لهذه العمليات كانت تتعلق بضمان احترام وقف إطلاق النار بين المتحاربين، وذلك بإقامة ما يُشبه السد بين القوات المتحاربة، وهي على هذا النحو لم تكن تمثل عمليات شرطة دولية تهدف إلى وقف انتهاك السلم والأمن الدوليين أو إلى فرض تنفيذ عقوبات أحد أجهزة الأمم المتحدة وتحديداً من مجلس الأمن. ولكن، مع بداية التسعينيات من القرن الماضي تغيرت الوظيفة التقليدية لعمليات حفظ السلام فصار الحديث عما يسمى لجيل الثاني ([28])والجيل الثالث من هذه العمليات، فتحوّلت المهمة من حفظ للسلام إلى فرض من للسلام من دون نص صريح على ذلك في الميثاق([29]).

لقد أصبح من الآن فصاعدا، يمر عبر الممارسات الديمقراطية”([30]) قناعة” من الأمم المتحدة بأن الديمقراطية تشكل وسيلة” للسلام، قامت بعدد من العمليات لإقامة أو إعادة إقامة الديمقراطية في عدد من البلدان، الأمر الذي يتطلب دراسة هذه الحالات لتحديد طبيعتها وأهدافها، وكذلك تقييمها من الناحية القانونية لمعرفة ما إذا كانت قد أدت إلى ظهور قواعد قانونية دولية جديدة.

أولاً: عمليات الأمم المتحدة الرامية إلى فرض الديمقراطية أو حمايتها:

أدت موجة الدمقرطة التي اجتاحت العالم مع نهايات القرن المنصرم إلى ظهور العديد من المبادرات القانونية الهادفة إلى تأطير آلية التعامل مع هذه الموجة، خلال اجتماع القمة في مجلس الأمن الذي عُقد في ۱۹۹۲/۱/۳۱، والذي جمع لأول مرة رؤساء الدول الأعضاء في المجلس، تم تكليف الأمين العام للأمم المتحدة بإعداد تقرير حول الوسائل المثلى والضرورية لجعل الأمم المتحدة أكثر فاعلية في قيامها بمهمتها المتعلقة بحفظ الأمن والسلم الدوليين([31]). بناءً على هذا التكليف، أعد الأمين العام السابق تقريراً عنوانه «أجندة لأجل السلام»، شمل برنامج عمل شاملاً لما يجب أن تقوم به الأمم المتحدة في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين. في العام ۱۹۹۸ أكد الأمين العام على الحاجة إلى وجود فعال للأمم المتحدة على الأرض لتوفير الشروط الضرورية لخلق عملية ديمقراطية دائمة. كما أكد في ((تقريره أجندة لأجل السلام)) أن الديمقراطية ضرورية في كل المستويات الإحلال السلام في حقبة جديدة من العدل والازدهار. لتطبيق هذه الاستراتيجية، دخلت الأمم المتحدة في سلسلة من العمليات التي تهدف إما إلى خلق دول ديمقراطية، وإما إلى الدفاع عن الديمقراطية.

ثانياً: الأمم المتحدة وعمليات خلق الدول الديمقراطية:

وجود دولة في حالة تحلل أو ما اصطلح على تسميتها الدول الفاشلة (Failed States) مثل، منذ فترة طويلة، تحدياً كبيراً للسلم والأمن الدوليين. لمواجهة هذا التحدي وهذا الخطر، تدخلت الأمم المتحدة، في مرات عديدة، وقامت بالوظائف التي عادة ما تقوم بها الدولة في الظروف العادية بالنتيجة، دخلت الأمم المتحدة في عمليات معقدة ومتعددة الأغراض انطلاقاً من فكرة إقامة إدارة دولية لبعض الأقاليم، هدفها النهائي خلق دول ديمقراطية([32]).

أول محاولة من هذا النوع كانت في الصومال في عام ١٩٩٣. فقد جاء في قرار مجلس الأمن الرقم ٨١٤ أن المجلس مقتنع بضرورة إجراء مشاورات موسعة في الصومال بغرض الوصول إلى مصالحة وطنية عبر اتفاق قائم على المبادئ والإجراءات التي تؤدي إلى إقامة مؤسسات ديمقراطية تمثيلية

ثالثاً: الأمم المتحدة والدفاع عن الديمقراطية:

صرح الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي في العام ۱۹۹۳ بأن: «الديمقراطية حلم عالمي، والصلة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان يجب أن تصبح جزءاً من القانون النافذ. إنها مسؤولية الدولة لدعم والدفاع عن الديمقراطية، ولكن في حال فشلها، على الأمم المتحدة واجب أخلاقي للتدخل وتعويض النقص الذي تحدثه الأنظمة غير الديمقراطية ([33]).

بهذا الخطاب الأكثر وضوحاً في المناداة بضرورة القيام بتدخلات ديمقراطية جماعية، أقام الأمين العام السابق القاعدة النظرية للجيل الثالث من عمليات حفظ السلام. فهذه العمليات، لا تهدف إلى الحفاظ على وقف إطلاق النار كما الحال مع الجيل الأول لعمليات حفظ السلام، ولا إلى إقامة الديمقراطية كحل سياسي لأزمة داخلية وهو ما يشكل الجيل الثاني من هذه العمليات، وإنما إلى الدفاع عن الديمقراطية عندما يتم التعدي عليها داخلياً.

رابعاً: القيمة المعيارية لتدخلات الأمم المتحدة المتعلقة بفرض الديمقراطية أو الدفاع عنها:

بادئ ذي بدء يجب الإشارة إلى أنه، وإلى الآن لا توجد نظرية مستقلة تتعلق بالإدارة الدولية البعض الأقاليم، وحتى بعض الدراسات القليلة التي حاولت التنظير لهذه الفكرة تفادت تناول السؤال المتعلق بالنتائج المعيارية الاحتمالية لهذه التجربة([34]). اكتفت هذه الدراسات بالإشارة إلى أن عمليات الإدارة الدولية تجد أسسها في نظام الوصاية المنصوص عليه في الفصلين الثاني عشر والثالث عشر من ميثاق الأمم المتحدة، وبأن أي محاولة لتأسيها على أسس أخرى تمثل تعسفاً في تفسير النصوص([35]).

لم يتردد مندوب يوغسلافيا في الأمم المتحدة، أمام مجلس الأمن، في وصف النظام الذي أقامته المنظمة الدولية في كوسوفو بأنه «محمية ظاهرة أو مخفية))

ويبدو أن بعض المحاكم الوطنية قد تبنت وجهة النظر هذه. فقد جاء في حيثيات حكم للمحكمة الدستورية البوسنية عام ۲۰۰۰ بأنه ((أخذاً بعين الاعتبار وضع البوسنة ووظيفة الممثل السامي كتائب عن المجتمع الدولي، فإن هذا الوضع لا يخلو من السوابق فقد وجدت وظائف مشابهة في بلدان أخرى عاشت ظروفاً سياسية خاصة. الأمثلة الواضحة لهذه الأوضاع هي أنظمة الانتداب وفقاً لنظام عصبة الأمم. فعلى الرغم من الاعتراف بسيادة الدول التي خضعت للانتداب إلا أنها وضعت تحت رقابة دولية أشرفت عليها سلطات أجنبية باسم المجتمع الدولي)).

بالتأكيد، يوجد تشابه بين نظام الإدارة الدولية للأقاليم وبين نظامي الوصاية والانتداب وذلك بالنظر إلى الأهداف التي تتوخاها وهي حفظ النظام وضمان الأمن وتشجيع التطور الاقتصادي والسياسي للأقاليم المعنية، ولكن لا يبدو دقيقاً اعتبار نظام الإدارة الدولية نموذجاً آخر لنظام الوصايا. فمن الناحية الشكلية نجد أن الجمعية العامة للأمم المتحدة هي المخولة بإقامة والإشراف على نظام الوصايا، في حين نجد أن الإدارات الدولية التي سبق الإشارة إليها قد تم إنشاؤها بقرارات من مجلس الأمن.

أياً كان الأساس القانوني لنظام الإدارة الدولية، فإن هذا التعامل الدولي لا يمكن النظر إليه على أنه دليل على شرعية التدخلات الديمقراطية، وذلك بأن رضى الدول المعنية كان دائماً شرطاً مسبقاً الإقامة هذه الإدارات الدولية، ثم إن هذا التعامل كان في الواقع رداً دولياً على حالات خاصة يصعب تعميمها.

خامساً: خلق الدول الديمقراطية، عمل دولي رضائي:

جاء في حيثيات حكم محكمة العدل الدولية في قضية الأعمال العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراغوا أن جوهر التدخل المحرم دولياً هو عنصر الإكراء، ففكرة فرض الديمقراطية بالقوة هي ما يجعل من أي تدخل ديمقراطي فعلاً غير مشروع دولياً، في حالات الإدارة الدولية التي سبق دراستها فإن عملية الفرض غير موجودة على الإطلاق. ففي كل منها كان رضي الدول المعنية شرطاً مسبقاً لإقرار نظام الإدارة الدولية. في حالة كمبوديا فإن اتفاق باريس بين الأطراف المتصارعة هو ما نص على ضرورة أن يكون النظام السياسي في كمبوديا نظاماً ديمقراطياً، ثم إن الاتفاق هو نفسه من كلف بعثة الأمم المتحدة بمسؤولية تنظيم انتخابات عامة في هذا البلد. وقد نصت المادة الرابعة من الملحق الخامس في الاتفاق المتعلق بالمبادئ الحاكمة للدستور الجديد لكمبوديا.

سادساً: إقامة الدول الديمقراطية، رد عملي على أزمات خاصة:

يرى بعض الباحثين أن عمليات الأمم المتحدة المتعلقة بالإدارة الدولية هي عبارة عن حوادث تاريخية حدثت نتيجة تردد بعض الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في اعتماد إدارة الأقاليم ما بعد الصراعات ضمن اختصاصات الأمم المتحدة))([36]). فبالنظر إلى طول فترة التحضير لعمليات كهذه، إضافة إلى حجم الإمكانات البشرية والمادية المطلوبة لها، فإن هذه العمليات لا يمكن الموافقة عليها إلا بشكل استثنائي وغالباً ما يتم ذلك في ظل عمليات حفظ السلام الدولية. ويرى الأخضر الإبراهيمي، وهو أحد أبرز قادة عمليات حفظ السلام الدولية، أن عمليات حفظ السلام وما يماثلها من عمليات تقوم بها الأمم المتحدة لا تتشابه. فكل واحدة منها هي فريدة وفي كل مرة يجب اختراع آلية عمل مؤقتة))، أما مارتي كوسكيتيمي (Marti Koskenniemi)، أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي الفلندي الشهير، فيلخص وضع عمليات الإدارة الدولية بالقول إنها حبيسة تناقض غريب يتمثل بحاجتها إلى إيجاد نموذج واستحالة إيجاد هذا النموذج([37])..

في الحقيقة، لم يسبق للأمم المتحدة نفسها أن أظهرت أي رغبة في اعتبار عملياتها في كمبوديا وتيمور الشرقية وكوسوفو كسوابق لعمليات مستقبلية، وقد أشار تقرير مجموعة الدراسة حول عملیات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، إلى أن عمليات الإدارة الدولية يجب النظر إليها كحلول لمشاكل خاصة وذلك عندما تكون السلطات المحلية غير موجودة أو غير قادرة على ممارسة مهماتها.

فالأمم المتحدة لا تُريد – على ما يبدو – أن تخلق سابقة ترتب عليها التزاماً بالتحرك في كل مرة تحدث فيها ظروف مشابهة لظروف عملياتها السابقة، كما أنها لا تريد أن تعطي حقاً للدول التي تمر بظروف كهذه تُطالبها بإقامة نظام إدارة دولية على غرار ما حدثت في كمبوديا، وتيمور الشرقية وكوسوفو. لهذا تبدو الأمم المتحدة انتقائية في إقامتها عمليات الإدارة الدولية، بكل تأكيد إن هذه الانتقائية تولد صعوبة في تبريرها وتطرح أكثر من علامة استفهام حول عدم انسجام، بل وعدم عقلانية هذه العمليات ٣٠، ولكنها تخدم الأمم المتحدة في أن القيام بها لا يخرق أي قانون وأن عدم القيام بها لا يُعد تجاهلاً للقانون. يبقى التساؤل قائماً حول سبب جعل خلق مؤسسات سياسية ديمقراطية هدفاً رئيسياً لكل عمليات الإدارة الدولية للأقاليم. البعض يرى أن ذلك يرجع إلى حقيقة أن هذه العمليات قد وقعت بسبب وجود مشكلة تتعلق بالحكم وبنوعية الحكم الممارس في كل إقليم.

بينما يرى فقهاء آخرون أن السبب يعود إلى أن هذه العمليات تصطدم بالسؤال الذي لا يمكن تفاديه المتعلق بالقانون الواجب التطبيق وبأساس شرعية المؤسسات والسلطات التي تتركها هذه الإدارات بعد أن تغادر، والحقيقة أن اعتماد بناء مؤسسات ديمقراطية في الأقاليم محل الإدارة الدولية كهدف أساسي لهذه العمليات يعود إلى حقيقة أن قوة الديمقراطية تكمن في قدرتها على إعطاء الإجابة الأكثر إقناعاً للسؤال المتعلق بشرعية السلطة ومن له الحق في أن يحكم. فللحفاظ على حيادتيها لا تستطيع الأمم المتحدة، وليس لديها الحق، تحديد من يحكم في إقليم بلا حكومة كما الحال في تيمور الشرقية وكوسوفو، أو في إقليم حكومته ممزقة بين أطراف عديدة متنازعة كما في كمبوديا سابقاً، لهذه الأسباب العملية والقانونية فإن الأمم المتحدة وجدت نفسها ملزمة باللجوء إلى الشعب في كل إقليم تحت إدارتها لاختيار حكامه وتحديد مصدر السلطة عنده، ولكن الأمم المتحدة لا تستطيع أن تفرض إجابة كهذه في دولة اختارت مسبقاً نظامها السياسي وإن لم يكن ديمقراطياً، لان سؤال من يحكم ليس مطروحاً أصلاً، فتعليم السلوك القويم للنشء، يظل دائماً أسهل من فعله مع البالغين الذين تبنوا سلوكيات خاصة بهم.

المطلب الثاني

تقييم الديمقراطية في العراق

أن تجربة الديمقراطية التوافقية في العراق هي تجربة حديثة، فإن الحديث عن تقديمها ومستقبلها في العراق يواجه صعوبات عديدة، والسبب هو حداثة التجربة وعدم خبرة وكفاءة النخب السياسية، فمن خلال متابعة السلوك السياسي العراقي منذ عام 2003 إلى يومنا هذا، يتضح بأن النهج السياسي العراقي غير واضح من حيث آلية وممارسة الديمقراطية إلى الدرجة التي يُصعب وصفه بأنه نهجاً ديمقراطياً توافقياً أم دون ذلك للمعطيات والمبررات الآتية:

  1. الجانب الدستوري: إن قراءة في مواد ونصوص الدستور العراقي الصادر عام 2005 تلاحظ فيه حالة من الإرباك في قضية الديمقراطية التي أشارت إليها الفقرة (ب) من المادة (2)، على أنه “لا يجوز من قانون يتعارض ومبادئ الديمقراطية”. بينما يتضح من الفقرة (أ) من المادة ذاتها أنه “لا يجوز من قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام([38]).

يتضح مما تقدم أنَّ الديمقراطية من المفاهيم الحديثة التي لا تمت للتراث الإسلامي بصلة، وهناك من ينكر الانسجام بين الديمقراطية والإسلام على أساس أن الديمقراطية هي حكم الشعب، وبذلك يستطيع مجلس النواب أن يسن قانون دون الرجوع إلى كتاب الله، وهو أمر يتناقض مع الإسلام، وإذا وجد هذا التناقض لمن الأسبقية لثوابت الإسلام أم لمبادئ الديمقراطية، فضلاً عن ماهية ثوابت الإسلام ومن هي الجهة التي تحدد هذا الثابت وبما لا يتناقض مع مبادئ الديمقراطية؟ لا سيما في ظل الاختلافات المذهبية والطائفية فضلاً عن ذلك، فإلى الإشارة إلى الديمقراطية في الدستور العراقي جاءت بعمومية مطلقة دون أن تحدد أو تصوغ أسس ونوعية هذه الديمقراطية، الأمر الذي لا يعطينا الحق في القول بأن الديمقراطية التي أقرها الدستور العراقي هي الديمقراطية التوافقية، كما أننا لا نستطيع إنكارها.

وهو ما يدفعنا نحو البحث في مضامين ومواد الدستور الأخرى لتقصي حقيقة التوافقية العراقية وإذا أمعنا النظر بعيداً عن الأطر العامة في الدستور العراقي، نجد أنه أثر ديمقراطية الأغلبية وليس الديمقراطية التوافقية، وهذا ما أشارت إليه آليات عمل السلطات وإصدار القوانين والاعتراض عليها في المواد الآتية من الدستور (55،59/1,2/أولاً وسادساً وثانياً/أ، ب، ه،/63/ب، 64/ أولاً، 65، 70/ أولاً وثانياً، 76/رابعاً/1، 92/ ثانياً، 105،118، 126،137([39]).

إن قراءة في المواد أعلام تبين أنها تؤكد على (الأغلبية المطلقة، والأغلبية البسيطة، وأغلبية الثلثين)، وهي بذلك نفر ديمقراطية الأغلبية وليست الديمقراطية التوافقية، والمثال الأوضح جاء في نص المادة (٦٧) أولاً إذ أشارت على: “يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددا تشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ انتخاب رئيس، ولم يشر إلى التوافق في تشكيل أي منصب أو وزارة معينة.

فضلاً عن ذلك، فإن المادة الأولى أشارت إلى نظام الحكم، ونصت على أن نظام الحكم يكون جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي، وبذلك أقر الدستور الديمقراطية النيابية كنظام للحكم في العراق وليس الديمقراطية التوافقية والفرق بين الاثنين أن الأولى تأخذ بالنظام الأغلبية، بينما الثانية تأخذ بالرضا المتبادل أما من الناحية العلمية، فإن القائمين على العملية السياسية قد تجاوزوا النصوص الدستورية في كثير من المواقع وأخذوا بالديمقراطية التوافقية بدلاً من ديمقراطية الأغلبية، والأكثر من ذلك، إن بعض مواد الدستور فيها مضامين الديمقراطية التوافقية لا سيما في (93/أولاً)، والتي نصت على يتكون مجلس النواب من عدد من الأعضاء بنسبة مقعد واحد لكل مائة الف نسمة من نفوس العراق يمثلون الشعب العراقي بكاملة انتمائهم بطريقة الاقتراع العام السري المباشر، ويراعى تمثيل سائر مكونات الشعب العراقي”، هذا إشارة واضحة بأنه تراعى سائر مكونات الشعب فيه، وليس الانتخاب هو الحكم.

من هنا جاءت الكوتة للأقليات كلك المادة التاسعة: أولاً:” تتكون القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي بما يراعي توازنها وتماثلها دون تمييز وإقصاء” والملاحظ على هذه المادة أنها تراعي التوافقية بين مكونات الشعب، وإن كانت على صعيد الواقع العملي غير ذي جدوى لأنها لم تحدد آلية في كيفية تحقيق تلك التوازن، ومن هي الجهة التي تحدد التوازن.

كذلك حال المادة (142) الخاصة بتعديل الدستور تؤكد: يشكل مجلس النواب في بداية عمله لجنة من أعضائه تكون ممثلة للمكونات الرئيسية في المجتمع العراقي مهمتها تقديم تقرير إلى مجلس النواب خلال مدة لا تتجاوز أربعة أشهر. فيضمن توقيعات بالتعديلات الضرورية التي يمكن إجراءها على اللجنة بعد البت في مقترحاتها واستكمالاً لمستلزمات الديمقراطية التوافقية فقد تم تشكيل المجلس السياسي للأمن الوطني، وهو مجلس غير دستوري ولم تشكيله أي مادة دستورية كي يحظى بالشرعية وإنما جاء تشكيله كما جاء في نص المشروع من أجل النهوض بالمسؤولية الوطنية لخدمة الشعب العراقي، وجدت الكتل الوطنية الممثلة للشعب العراقي في مجلس النواب إن المصلحة الوطنية العليا تقتضي تشكيل هيئة تسمى “المجلس السياسي للأمن الوطني” بناء على اتفاق كل الكتل السياسية والوطنية.

أما أركان الديمقراطية التوافقية في السلوك السياسي العراقي: يبدو أن القائمين على العملية السياسية العراقية أرادوا تشكيل ائتلاف كبير وهو أحد أركان الديمقراطية التوافقية بتشكيل المجلس السياسي للأمن الوطني السالف الذكر، بيد أن هذا الائتلاف لم يكن دستورياً، لأن الدستور العراقي لم يشر إلى تشكيله لا ضمن السلطة التشريعية، أو التنفيذية، وبالتالي، فإن قراراته ليست الزامية. وتميز عمله بالضعف وتعم الفاعلية ومحدودية الدور السياسي، لا سيما أثناء الأزمات السياسية كما حدث في إصدار قانون تعديل قانون الانتخابات رقم (16) لعام 2005.

فضلاً عن ذلك، فقد حددت المادة السادسة من القانون نهاية عمله بانتهاء الدورة الانتخابية الحالية لمجلس النواب، إذ أشارت على: ” تنتهي أعمال المجلس السياسي للأمن الوطني بانتهاء أعمال الدورة الانتخابية لمجلس النواب”([40]).

وبذلك فقد شكل المجلس السياسي للأمن الوطني محاولة خجولة في إطار تشكيل ائتلاف كبير لتسيير الأمور السياسية المعقدة في البلاد، ولم يتمكن من حل أية إشكالية من الإشكاليات الكبيرة التي تواجه العراق، لا سيما المصيرية منها والتي ربما تهدد العملية السياسية برمتها، ومستقبل العراق الجديد، كما أن صيغته المؤقتة شكلت تناقضاً وخرقاً كبيرين لأركان الديمقراطية التوافقية التي تقتضي استمرار الائتلاف الكثير في إحدى السلطات الرئيسة للدولة (التشريعية أو التنفيذية)، وذلك لترسيخ الديمقراطية التوافقية في البلاد كما هو الحال في سويسرا وغيرها من الدول التوافقية أما الركن الثاني المتعلق بالفيتو، فقد حدد الناحية الدستورية في مجلس الرئاسة. كما جاء في المادة (138/خامساً)، وهذا المجلس بطبيعة الحال لا يمثل كل مكونات المجتمع العراقي، وإنما البعض منها، وتشكل من المكونات الفائزة بالانتخابات، الأمر الذي ترك الأقليات وممثلي الكيانات الأخرى من دون فيتو، وتحقق طائلة مخاطرة طغيان الأكثرية أو الفائزين بالانتخابات، وهو ما عرقل الانسجام السياسي بين المكونات السياسة العراقية.

فضلاً عن ذلك، فإن هذا الفيتو ليس دائماً وإنما حدد في الدستور العراقي بدورة انتخابية واحدة، إذ أشارت الفقرة الأولى من المادة (138) يحل تعبير مجلس الرئاسة محل تعبير رئيس الجمهورية أينما ورد في هذا الدستور، ويعاد العمل بالأحكام الخاصة برئيس الجمهورية دورة واحدة لاحقة لنفاذ هذا الدستور”، أما الركن الثالث الخاص بالتناسب فعلى الرغم من الجهود التي بذلت لمحاولة تحقيق التناسب في الحكومات العراقية، لا سيما في توزيع المناصب وفي المؤسسات السياسية والأمنية وتوزيع الخدمات إلا أن ذلك لم يتحقق على الصعيد العملي، بل إن هناك محافظات في العراق ليس لها ممثل في مجلس النواب أو حتى سفير أو وزير أو وكيل وزير ، واقتصر الأمر على عدد محدود من المتنفذين في الأحزاب السياسية دون تحقق التناسب المطلوب.

أما الاستقلال القطاعي: فعلى الرغم من إقرار الدستور بالنظام الفدرالي كما جاء في مادته الأولى أن جمهورية العراق دولة اتحادية، أشارت المادة (116) منه على: يتكون النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمة وأقاليم ومحافظات لا مركزية وإدارات محلية، بيد أن هذه النصوص لم تطبق إلا في إقليم واحد (إقلیم کردستان) كما جاء في نص المادة (117) بقر هذا الدستور عقد نفاذه إقليم كردستان وسلطاته القائمة إقليما اتحادياً، ولم يشكل في العراق إقليما آخراً على الرغم من محاولات بعض القرى السياسية التشكيل إقليم الجنوب أو إقليم الوسط والجنوب، ولم تتمكن هذه الدعاوى من تشكيل أقاليم أخرى في العراق، وبقيت المناطق الأخرى حتى دون تطبيق مستوى أقل من الفدرالية، وبقيت مركزية مفرطة([41]).

يتدخل رئيس الوزراء حتى في تعيين رؤساء الجامعات وبعض المسؤولين الأمنيين مثل قائد الشرطة والجيش في بعض المحافظات، وحتى دون رغبة مجلس المحافظة المنتخب من الشعب، وحتى بعد إقرار قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم التي تخوّل مجالس المحافظات صلاحيات واسعة، وهو ما خلق حالة إرباك كبير في النظام السياسي عموماً.

فكرة التوافقية في الواقع العراقي: إن جوهر فكرة الديمقراطية التوافقية تؤكد على أن الميول الصراعية الموجودة في التعددية الاجتماعية تقابلها ميول تعاونية على مستوى زعماء المجموعات المكونة لها، وإن من شأن السلوك التعاوني النخبوي كبح جماح العنف المجتمعي والملاحظ على السلوك السياسي للنخب السياسية العراقية ميولاً صراعية أعنف وأشد لتحقيق الاستقرار السياسي ” قسوة من الميول الصراعية في المجموعات الاجتماعية فالنخب السياسية إلا باستثناءات محدودة وكان أغلب القادة السياسيين مؤججين للميول الصراعية الاجتماعية إلى الدرجة التي ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء والضحايا من الشعب العراقي من خلال الاغتيالات والحروب الطائفية التي قدر عدد ضحاياها بنحو مليون شخص بل إن هناك ميول تعاونية اجتماعية بين مكونات الشعب العراقي بددتها الميول الصراعية للنخب السياسية، وفتت وشائج اجتماعية عراقية عريقة وكثيرة. وقد وصل الخلاف بين القادة السياسيين من مرحلة الخفاء وفي أروقة السياسة إلى العلن في وسائل الإعلام، وأخذت الديمقراطية التوافقية نصيبها في ذلك كونها خياراً للشعب العراقي أم لا، وبغض النظر عن هذه الصراعات وأسبابها، فإنَّها توضح بأن هناك عدم اتفاق على الديمقراطية التوافقية بين الكتل السياسية العراقية، وإذا ما علمنا أن أكثر ما تحتاج له الديمقراطية التوافقية لنجاحها هو (الرضا والتوافق)، وفي حالة عدم الاتفاق، فلا شك أنها لن تحقق النجاح والاستقرار للتبلد لأنها لا تعبر عن قناعة، وإنما مفروضة، إما بحكم الظروف أو الضغوط، وبالتالي ستكون عرضة للاهتزاز والتردي. والغريب أن أغلب التوافقيات السياسية التي حدثت في العراق، لم تكن بجهد القادة السياسيين والنخب، وإنما تمت من خلال ضغط الولايات المتحدة على هذا الطرف أو ذاك، وبالتالي فإن ميول تعاونية مفروضة وليست عن قناعة، وهو ما انعكس سلباً على تحقيق الاستقرار السياسي في العراق.

وصحيح أن الديمقراطية تعني حكم الأغلبية، وهو فهم صحيح وثابت في المجتمعات الديمقراطية الغربية إلا أن المنادين بالأغلبية لا يعون بأنها في العراق تأخذ معنى آخر غير معنى الأغلبية المعمول بها في الدول الديمقراطية الأخرى، فالأغلبية العراقية مفهوم ديني أو مذهبي، وليس مفهوماً سياسياً حتى تشكيل الأحزاب السياسية في العراق لم تكن أحزاباً سياسية قائمة على برنامج سياسي، وإنما خليط من الاعتبارات المذهبية والعرقية بعيدة عن الوطنية بمفهومها الجمعي.

الخاتمة

الاستقرار السياسي في جوهره ومضمونه، ليس وليد القوة العسكرية والأمنية، مع ضرورة ذلك في عملية الأمن والاستقرار، وإنما هو وليد تدابير سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، تجعل من كل قوى المجتمع وفئاته عينا ساهرة على الأمن ورافد أساسي من روافد الاستقرار وتخطأ الدول وترتكب حماقة تاريخية بحق نفسها وشعبها، حينما تتعامل مع مفهوم الاستقرار السياسي بوصفه المزيد من تكديس الأسلحة أو بناء الأجهزة الأمنية، فالاستقرار الحقيقي يتطلب خطوات سياسية حقيقية تعمق من خيار الثقة المتبادلة بين السلطة والمجتمع، وتشرك جميع الشرائح والفئات في عملية البناء والتسيير.

ولذلك نجد أن الدول المتقدمة عسكريا وأمنيا والمتخلفة سياسيا، هي التي يهتز فيها الاستقرار السياسي لأبسط الأسباب والعوامل، أما الدول التي تعيش حياة سياسية فعالة، وتشترك قوى المجتمع في الحقل العام وفق أسس ومبادئ واضحة، هي الدول المستقرة والمتماسكة والتي تتمكن من مواجهة كل مؤامرات الأعداء ومخططاتهم فقوة الدول واستقرارها اليوم، لا يمكن أن تقاس بحجم الأسلحة وقوة الترسانة العسكرية أو عدد الأجهزة الأمنية، وإنما تقاس بمستوى الرضا الشعبي وبمستوى الثقة وبمستوى الحياة السياسية الداخلية، التي تفسح المجال لكل الطاقات والكفاءات للمشاركة في الحياة العامة فالاستقرار السياسي اليوم، لا يتأتى بالمزيد من الإجراءات الاحترازية أو تكثير لائحة الممنوعات والاستثناءات، وإنما ببناء حياة سياسية حقيقية تتنافس فيه الأفكار والتصورات والمشروعات بوسائل سلمية ديمقراطية وبناءً على ما تقدم فقد توصلنا إلى جملة من النتائج والتوصيات والتي سنوردها وفقاً لما يلي:

النتائج:

  1. أن بناء ثقافة سياسية وطنية تؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية يستلزم وقتاً وممارسة في آن واحد، إذ من الممكن بناء حلقات هذه الثقافة وعناصرها وفق عملية تدريجية تضمن احترام مبادئ الديمقراطية التعددية من جهة وحماية قواعدها وتوفير الأطر الثقافية المناسبة من جهة أخرى، وأن زج المواطن فردياً ومن خلال الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في النشاط المرتكز إلى الحوار والتسامح وممارسة حقه الانتخابي بحرية والتمتع بحقوقه وحرياته الأساسية كله يسمح في نهاية المطاف بتشكيل وعي ثقافي ملازم للديمقراطية، وبالتالي تحقيق الوحدة الوطنية.
  2. الاستقرار السياسي والاجتماعي اليوم، في الكثير من البلدان العربية والإسلامية، بحاجة إلى حزمة من الإجراءات والخطوات السياسية، التي تستهدف رفع الاحتقانات الداخلية وبلورة الأطر والمؤسسات للمشاركة الشعبية وإعادة تأسيس العلاقة بين متطلبات الحرية ومشاركة الناس في شؤون حياتهم المختلفة وحاجات الاستقرار والنظام بحيث لا تقود خطوات الإصلاح إلى فوضى، بل إلى بناء متراكم وعمل وطني متواصل، يستهدف تطوير التجربة وتحديثها، وإزالة عناصر الخلل والضعف منها.

التوصيات:

  1. يجب على الديمقراطية التي ينادي بها أي نظام سياسي أن لا تقاس من خلال عدد الأحزاب التي أجيز لها أن تمارس العمل السياسي، وإنما من خلال التداول السلمي والفعلي للسلطة بين الجميع، وعبر الطبقات الاجتماعية المختلفة، مما يترتب على ذلك من آثار على المستوى الواقعي بحيث تتاح المشاركة الشعبية، وتكافؤ الفرص لكافة أفراد المجتمع دون تمييز.
  2. ضرورة إلغاء المحاصصة الطائفية في الحكم ومغادرة الديمقراطية التوافقية القائمة على أسس طائفية ومذهبية وقومية إلى ديمقراطية الأغلبية التي تستند إلى الأغلبية السياسية وليس الأغلبية المجتمعية التي تعتمد على الطائفية أو القومية في حصد أصوات الناخبين، وهذا لا يتحقق إلا من خلال مد جسور الثقة بين المكونات المجتمعية ونخبها السياسية وإجراء الحوار والمصالحة الوطنية الشاملة، حيث أنه من دون مصالحة وطنية والتي هي مصالحة سياسية بالأساس لا يمكن إنهاء دوامة العنف وتحقيق الاستقرار وبناء دولة صحيحة.

قائمة المصادر والمراجع

الكتب:

أحمد سعيفان, قاموس المصطلحات السياسية والدستورية والدولية, الطبعة الأولى، مكتبة لبنان، لبنان,2004.

جاي سي جودين – جيل , الانتخابات الحرة النزيهة، ترجمة احمد منيب وفايز حكيم الثقافة الديمقراطية ، السنة الاولى, العدد الثاني ، كانون الاول ، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ,2004

جواد الهنداوي، مراجعة تصحيحية لنصوص الدستور الاتحادي العراقي، الطبعة الأولى، المؤسسة الوطنية للتنمية والتطوير، دار الرافدين، بغداد، 2006.

حامد سالم الزيادي، القيادة والقائد، الطبعة الأولى، دار الجواهري، بغداد، 2013.

حسين عبيد، المجتمعات المتعددة الأقليات وإشكالية التعايش، الطبعة الأولى، دار المنهل اللبناني، بيروت،2014.

خالد حميد حنون، الأنظمة السياسية، مطبعة الفائق، بغداد، 2008.

رعد ناجي الجدة، تشريعات الجمعيات والأحزاب السياسية في العراق، دار الحكمة، بغداد، 2002.

زهير الحسيني، التدابير المضادة في القانون الدولي، جامعة قاريونس، ليبيا.

سليمان الغويل، الانتخاب والديمقراطية، دراسة قانونية مقارنة، منشورات أكاديمية الدراسات العليا، ليبيا، 2003

سليمان محمد الطماوي، النظم السياسية والقانون الدستوري، دراسة مقارنة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998

الصواني يوسف محمد وريكاردو رينيه لاريمونت، الربيع العربي والانتفاضة والإصلاح والثورة، مندى المعارف، بيروت، 2013.

عبد الحميد العبدلي، قانون العلاقات الدولية، مجمع الاطرش للكتاب المختص، تونس، 2014.

عبد العزيز رمضان الخطابي، تغيير الحكومات بالقوة، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2012.

علي محرر الكواري، ازمة الديمقراطية في البلدان العربية: اعتراضات وتحفظات على الديمقراطية في العالم العربي، دار الساقي، بيروت، 2004.

فتحي احمد سرور، العالم الجديد بين الاقتصاد والسياسة والقانون، دار الشروق، القاهرة، 2005.

محمد إبراهيم العساف، الديمقراطية في الفكر العربي المعاصر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،2013.

محمد حسنين هيكل، الإمبراطورية الامريكية والاغارة على العراق، دار الشروق، 2003.

مكيافللي، كتاب الأمير، مكتبة الساعي، الرياض، 2014.

منذر الشاوي، فلسفة الدولة، الطبعة الثانية، الذاكرة للنشر والتوزيع، بغداد، 2013.

منصف المزروقي، اختراع الديمقراطية: التجربة التونسية، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2014.

منصور محمد محمد الواسعي، حقا الانتخاب والترشيح وضماناتها، دراسة مقارنة، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، 2009.

نعمان أحمد الخطيب، الوسيط في النظم السياسية والقانون الدستوري، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2011

وفيق رؤوف، العرب وطبائع السلطة: كواليس الشرعية المتضاربة، مندى المعارف، بيروت، 2013.

المواثيق الدولية والقوانين الوطنية

الاعلان العالمي لحقوق الانسان 1948

العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966

الدستور العراقي لعام 2005.

قانون الانتخاب العراقي لسنة 2005.

قانون الأحزاب السياسية العراقي رقم (36) لعام 2015 النافذ.

الهوامش:

  1. () حسين عبيد، المجتمعات المتعددة الأقليات وإشكالية التعايش، الطبعة الأولى، دار المنهل اللبناني، بيروت،2014، ص276.

  2. () حسين عبيد، المجتمعات المتعددة الأقليات وإشكالية التعايش، المرجع السابق، ص277.

  3. () سليمان الغويل، الانتخاب والديمقراطية، دراسة قانونية مقارنة، منشورات أكاديمية الدراسات العليا، ليبيا، 2003، ص26.

  4. () منصور محمد محمد الواسعي، حقا الانتخاب والترشيح وضماناتها، دراسة مقارنة، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، 2009، ص22.

  5. () نعمان أحمد الخطيب، الوسيط في النظم السياسية والقانون الدستوري، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2011، ص 278.

  6. () سليمان محمد الطماوي، النظم السياسية والقانون الدستوري، دراسة مقارنة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998، ص 208.

  7. () المادة (21\3 ) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان 1948 وينظر ايضا المادة (25) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966

  8. () ويقصد بالتفرقة العنصرية (وضع قيود صارمة على مجموعة افراد فتجعلهم في عزلة عن بقية العناصر الاخرى وتقييد حركتها وحريتها وحقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية)

  9. () المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 .

  10. () ينظر المادة (2) من قانون الانتخاب اللبناني رقم (171) لسنة 2000.

  11. () المادة (15\ ثانياً) من قانون الانتخاب العراقي لسنة 2005.

  12. () أحمد سعيفان, قاموس المصطلحات السياسية والدستورية والدولية, الطبعة الأولى، مكتبة لبنان، لبنان,2004, ص173.

  13. () ينظر المادة (102) من الدستور العراقي لعام 2005.

  14. () ينظر جاي سي جودين – جيل , الانتخابات الحرة النزيهة، ترجمة احمد منيب وفايز حكيم الثقافة الديمقراطية ، السنة الاولى, العدد الثاني ، كانون الاول ، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ,2004 ، ص29.

  15. (( ينظر المادة (21\ 3) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان 1948 والمادة (25 \ ب ) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 .

  16. () ينظر المادة (56\أولاً) من الدستور العراقي لعام2005.

  17. () المادة (4\ثانياً) من الدستور العراقي النافذ هذا مع العلم أن توقف الدورية ينتهك المعايير الدولية لنزاهة الانتخابات في الحالات جميعها فيما عدا الحالات الاستثنائية الخطيرة على ان يكون التأجيل مؤقتاً يزول بزوال الظرف.

  18. () جواد الهنداوي، مراجعة تصحيحية لنصوص الدستور الاتحادي العراقي، الطبعة الأولى، المؤسسة الوطنية للتنمية والتطوير، دار الرافدين، بغداد، 2006، ص54.

  19. () حامد سالم الزيادي، القيادة والقائد، الطبعة الأولى، دار الجواهري، بغداد، 2013، ص102

  20. () رعد ناجي الجدة، تشريعات الجمعيات والأحزاب السياسية في العراق، دار الحكمة، بغداد، 2002، ص56.

  21. () خالد حميد حنون، الأنظمة السياسية، مطبعة الفائق، بغداد، 2008، ص99.

  22. () قانون الأحزاب السياسية العراقي رقم (36) لعام 2015 النافذ.

  23. () انظر قانون الأحزاب السياسية العراقي رقم (36) لعام 2015 النافذ

  24. () انظر المادة (11) من قانون الأحزاب السياسية العراقي رقم (36) لعام 2015 النافذ.

  25. () عبد العزيز رمضان الخطابي، تغيير الحكومات بالقوة، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2012، ص137.

  26. () وفيق رؤوف، العرب وطبائع السلطة: كواليس الشرعية المتضاربة، مندى المعارف، بيروت، 2013، ص232

  27. () منذر الشاوي، فلسفة الدولة، الطبعة الثانية، الذاكرة للنشر والتوزيع، بغداد، 2013، ص167.

  28. () الصواني يوسف محمد وريكاردو رينيه لاريمونت، الربيع العربي والانتفاضة والإصلاح والثورة، مندى المعارف، بيروت، 2013، ص299.

  29. () سرور احمد فتحي، العالم الجديد بين الاقتصاد والسياسة والقانون، دار الشروق، القاهرة، 2005، ص 233.

  30. () العبدلي عبد الحميد، قانون العلاقات الدولية، مجمع الاطرش للكتاب المختص، تونس، 2014، ص168.

  31. () منذر الشاوي، فلسفة الدولة، المرجع السابق، ص198.

  32. () محمد إبراهيم العساف، الديمقراطية في الفكر العربي المعاصر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،2013، ص113.

  33. () مكيافللي، كتاب الأمير، مكتبة الساعي، الرياض، 2014، ص164.

  34. () منصف المزروقي، اختراع الديمقراطية: التجربة التونسية، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2014، ص212.

  35. () محمد حسنين هيكل، الإمبراطورية الامريكية والاغارة على العراق، دار الشروق، 2003، ص188.

  36. () زهير الحسيني، التدابير المضادة في القانون الدولي، جامعة قاريونس، ليبيا، ص267.

  37. () علي محرر الكواري، ازمة الديمقراطية في البلدان العربية: اعتراضات وتحفظات على الديمقراطية في العالم العربي، دار الساقي، بيروت، 2004، ص235.

  38. () انظر المادة (2) من الدستور العراقي النافذ لعام 2005.

  39. () انظر المواد أعلاه من الدستور العراقي النافذ لعام 2005.

  40. () ينظر قرار تشكيل المجلس السياسي للأمن الوطني في جريدة الصباح العراقية في 17 حزيران 2009.

  41. () انظر المواد (116، 117) من الدستور العراقي النافذ لعام 2005.