الجواب الجدلي بين الإمامين ابن حزم والباجي، دراسة مقارنة

إبراهيم بوستى1

1 حاصل على شهادة الدكتوراه في الفقه والأصول، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سايس. جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس

بريد الكتروني: brahimboustta1@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(11); https://doi.org/10.53796/hnsj511/13

تحميل الملف

تاريخ النشر: 01/11/2024م تاريخ القبول: 12/10/2024م

طريقة التوثيق


المستخلص

يتأسس علم الجدل على ركيزتين اثنتين تندرج تحتهما جملة من العناصر الجزئية والقضايا الفرعية، ترجع كلها إلى هاتين الركيزتين. إحدى هاتين الركيزتين هي السؤال وثانيتهما هي الجواب. وهذا المقال محاولة لمدارسة العنصر الثاني؛ أي الجواب الجدلي، سعيا نحو بيان مفهومه ومكوناته وأنواعه ومعالمه التطبيقية، خصوصا عند اثنين من الأعلام، طبقت شهرتهما الآفاق وعمت شهرتهما أنحاء المعمورة في الماضي والحاضر، هما الإمام أبو محمد بن حزم والإمام أبو الوليد الباجي، الَّلذَيْن جرت بينهما مناظرات ومطارحات في مختلف الفنون الشرعية والعقلية، حاول فيها كل منهما المنافحة عن مسلكه الاجتهادي ودحض مسلك خصمه، باعتماد الأدوات الجدلية المعروفة في هذا الباب.

الكلمات المفتاحية: علم الجدل – الجواب الجدلي – الاستدلال – الاختلاف – البناء – الهدم

Research title

The dialectic between the two imams Ibn Hazm and Al-Baji, a comparative study

Published at 01/11/2024 Accepted at 12/10/2024

Abstract

The science of dialectic is founded on two pillars under which a number of partial elements and sub-issues fall, all of which are due to these two pillars.

One of these two pillars is the question and the second is the answer. This article is an attempt to study the second element; That is, the dialectical answer, in an effort to clarify its concept, components, types, and applied features, especially with two notables, whose fame spread across the horizons and whose fame spread across the globe in the past and present, namely Imam Abu Muhammad bin Hazm and Imam Abu Al-Walid Al-Baji, between whom debates and debates took place in various legal arts. And the mentality, in which each of them tried to defend his ijtihad path and refute the path of his opponent, by adopting the well-known dialectical tools in this field.

Key Words: dialectic, Argumentative answer, Inference, the difference Building, demolition

مقدمة:

لا يمكن تصور بنية علم الجدل إلا ببيان أجزائه الأساسية المكونة له؛ لأن صورته لن تتضح إلا بهذا التفكيك والتحليل الذي يعين على فهم واستنتاج تلكم اللبنات والمكونات والعناصر التي يتركب منها.

وإن المطلع على النماذج التطبيقية للصناعة الجدلية، سواء لدى مختلف أرباب هذا الفن عامة أو لدى الإمامين ابن حزم والباجي خاصة، يلاحظ أن ثمة عناصر جزئية شتى تتفاعل فيما بينها لبلوغ الجدل غايته في الإقناع والإفهام أو القطع والإفحام، بل إن القارئ يجد أمامه حقلا من المصطلحات الحاملة لمضامين متنوعة، تتكامل مع بعضها لأداء وظائف هذه الممارسة الجدلية وبلوغ مقاصدها.

وبعد إمعان النظر و تعميق التدبر، يبدو أن سائر تلكم الجزئيات ترجع إلى ركنين كبيرين هما: السؤال والجواب؛ لأن التفاعل الجدلي يبدأ بسؤال يتوجه به شخص يسمى السائل إلى شخص آخر يسمى المجيب، يطالبه فيه بالجواب عن سؤاله، وبين هذا وذاك يوجدُ اعتراض ومعارضة ونقض واستدلال وغير ذلك.

يروم هذا المقال محاولة مقاربة عنصر الجواب الجدلي ببيان مفهومه وأنواعه وأدواته، دون إغفال معالمه التطبيقية، مع التركيز بشكل أكبر على الاشتغال الجدلي عند إمامين مبرزين حازا قصب السبق في هذا الفن وفي غيره من العلوم العقلية والنقلية، فكانا بذلك جديرين بأن يكون إنتاجهما العلمي محل اشتغال الباحثين المهتمين بالمجالات العلمية التي برع فيها الإمامان ابن حزم والباجي.

توطئة: في مفهوم الجواب الجدلي

يرجع أصل كلمة (الجواب) في اللغة العربية إلى معنى القطع، “من قولهم: هُوَ يَجُوب البلاد أي يقطعها، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي﴾ سورة الفجر الآية 9؛ أي قطعوه، وإنما سُمي به ما قابل السؤال؛ لأنه يؤدي إلى القطع؛ لأن المجيب يقطع بمعنى الخبر على طريقة الإثبات والنفي؛ فإذا قال السائل: هل أتاك زيد؟ فقد علق سؤاله بأحد أمرين: إما نعم وإما لا، فنعم للإثبات ولا للنفي، فالقاطع المجيب إما بنعم، فيقطع بأنه قد أتاه، أَوْ لَا، فيقطع على أنه لم يأته”[1].

كما أن كلمة الجواب تدل على تردد الكلام بين طرفين وعلى التحاور وما يأتي ردا على سؤال. يقول ابن فارس: “هو مراجعة الكلام؛ يقال: كلمه فأجابه جوابا، وقد تجاوَبا مجاوبة”[2].

ويقول صاحب (الصحاح): “يُقال أجابه وأجاب عن سؤاله، والمصدر: الإجابة… والمجاوبة والتجاوب: التحاور”[3].

هذا على مستوى اللغة، أما في الاصطلاح فقد عرفه الإمام الجويني بقوله: “وأما الجواب فهو الخبر المضَمَّن بمعنى السؤال، فلا جواب إلا خبر، ومن الخبر ما لا يكون إلا جوابا”[4].

أما الإمامان ابن حزم والباجي فلم يَرِدْ عند أي منهما تعريف للجواب، وهو أمر ربما يرجع إلى بداهة المفهوم وكثرة تداوله، فلا يحتاج عندهما إلى بيان.

وقبل الكلام عن خصائص الجواب عندهما ينبغي التطرق إلى مسألة وثيقة الصلة بذلك عند أهل الجدل، وهي المراد بمصطلحي: الفرض والبناء؛ ذلك أن “كل جواب إنما هو فرض أو بناء”[5] فكان من الضروري بيان هذين المفهومين.

  • الفـــــرض:

يُقصد بالفرض توجه المسؤول بالجواب عن بعض صور المسألة دون أن يشملها بالجواب عن جميع صورها وأقسامها؛ ذلك أن السؤال قد يتضمن عناصر عدة تكون مقصودة كلها بالسؤال، لكن المجيب يغض الطرف عن بعضها ويجيب عن بعضها فقط.

وهذا من أبرز عيوب الجواب، يقول الإمام ابن عقيل: “وينبغي للسائل أن ينظر إلى المعنى المطلوب في السؤال، فإن عدل المجيب لم يرض منه إلا بالرجوع إلى جواب ما سأله عنه، فإن كثيرا ممن لا يضبط الجدل ولا يَدَ لَهُ فيه، يسأل عن شيء، فيجيب عن غيره وهو يظن أنه قد أجاب، ويقنع منه السائل؛ إذْ كَان السائل أقصر منه علما بتحديد الجواب”[6].

فاقتطاعه تلك الصورة أو الصور دون غيرها هو الذي يسمى فرضا؛ “لأن الفرض هو القطع والتقدير، فكأن المستدل اقتطع تلك الصورة عن أخواتها فأجاب عنها”[7]. والفرض كما يكون في الفتوى فإنه يكون في الدليل كذلك:

أما الفرض في الفتوى، فكأن يقول السائل: “ما تقول في المرأة، هل يصح منها مباشرة عقد النكاح أم لا؟ فقال: لا يصح منها الاستقلال به، أو يصح فيما إذا وكلت فيه دون غيره، أو يصح بإذن الولي، أو يصح فيما إذا نظر الولي في مصلحة العقد ولم تبق إلا مباشرته، فكل هذه صور لمباشرة المرأة عقد النكاح، فأيها خص بالجواب كان فارضا”[8].

وأما الفرض في الدليل، فمثل أن يقول السائل: “ما تقول في البيع الفاسد، هل ينعقد أم لا؟ فيقول المستدل: لا ينعقد بيع درهم بدرهمين لورود النهي عنه”[9]. وقد اختلف الجدليون في الفرض، فمنهم من جوزه ومنهم من منعه.

فمن الذين منعوه: ابن فورك[10]، وذلك للعلة الواردة آنفا والتي نبه عليها ابن عقيل من كون الجواب مشروطا بمطابقة السؤال، والدليل مطابقا للمدلول؛ بمعنى أن من بديهيات العقول أن من سُئل عن شيء وأجاب عن بعضه فقط، دل ذلك على عجزه وتهربه من الجواب؛ إذ لم يكن غرض السائل كما هو واضح من سؤاله إلا الاستفسار عن عناصر السؤال وأفراده كافة وليس عن بعضها فحسب، فمن اقتصر في جوابه على ذلك البعض فقد أخل بمهمته ولم يقم بوظيفته خير قيام.

بينما يرى بعضهم جواز الفرض؛ “لأن المسؤول قد لا يجد دليلا إلا على بعض صور السؤال، ولأنه قد يرد على جَوابهِ العام إشكال لا يندفع فيتخلص منه بالفرض الخاص”[11].

هذا الرأي الذي جوز أصحابه الفرض يعتمد على المقصد والغاية من الجواب ومدى الفائدة التي يحققها؛ لأننا عندما نمنعه جملة وتفصيلا، فإننا بذلك نحرم السائل من فائدة كان سيستفيدها وإن لم تكن تامة؛ لذلك قال الطوفي منتصرا لهذا الرأي: “وبَيِّنٌ أن يجيب فيما ظهر له دليله دون غيره، وذلك متضمن لمصلحة محضة لا تعارضها مفسدة، فيكون متعينا؛ أما مصلحته فحصول الفائدة بجواب الصورة التي عرف دليلها، وأما انتفاء المفسدة؛ فلأن السائل عن جميع الصور سائل عن بعضها، فالجواب بالنسبة إلى ذلك البعض الذي عرف دليله مطابق”[12].

ويشير الإمام الطوفي إلى فائدة ثانية للفرض، تتجلى في كون المسؤول “قد يرد على جوابه العام إشكال لا يندفع فيتخلص منه بالفرض الخاص مثل أن يُسأل عن جواز مباشرة المرأة عقد النكاح فيقول: لا يجوز لها الاستقلال به لقصورها، فإن هذا يتمشى له، ولو أجاب عاما وعلل بالقصور لم يَتَمَشَّ له في جميع الصور؛ لأن من جملة صور السؤال أن ينظر الولي في مصلحة النكاح ويقرر مقدماته حتى لا يبقى إلا التلفظ بصيغة الإيجاب فتوجب المرأة، وها هنا القصور مأمون الغائلة، فلا يصح بمجرده أن يكون مانعا فيبطل به دليل المستدل، فَبِعُدُولِه إلى نفي خصوص الاستقلال تخلّص عن هذا الإشكال، وهاتان فائدتان جليلتان للفرض فلا يُهمَل تحصيلهما”[13].

وخلاصة القول في هذه المسألة أن من نظر إلى الأمر من حيث طبيعة كل من السؤال والجواب فقط ولم يلتفت إلى نواح أخرى، اشترط أن يدل الجواب على المطلوب دلالة مطابقة، لا دلالة تضمن، بل اعتبر الجواب المبَعَّضَ نقصاً وعجزاً من صاحبه.

أما من راعى في ذلك الغاية والمقصد، فإنه اعتبر الجواب الغير التام مقبولا ما دام يحقق فائدة البيان لبعض أفراد السؤال، إذ الجواب على بعض عناصره خير من عدم الجواب، ولا مانع عنده من ذلك رغم أن المسؤول لم يكمل الفائدة بجوابه عن بعض الأفراد دون أخرى.

  • البنـــــاء:

وهو مرتبط بالفرض وتابع له، ومعناه “أن المسؤول إذا أجاب في صورة الفرض فهل يلزمه أن يبني غيرها من صور السؤال عليها، إما بأن يقرّر عين دليلها في بقية الصور أو يجمع بين بقية الصور وبينها”[14].

يبدو ارتباط البناء بالفرض من حيث ترتبه عليه وحصوله بعده، إذ لا كلام عن البناء إلا بعد حدوث الفرض؛ ولَمَّا كان من أهداف الجواب في الجدل بيان حكم المسألة المختلف فيها، كان من الضروري مناقشة جواز بناء الحكم على الجواب بطريق الفرض؛ لأنه عند من يمنعه جواب ناقص، فلا يجوز تبعا لذلك بناء الحكم على جواب غير تام.

ومن أمثلته “أن يسأل عن فسخ النكاح بالعيوب، فيفرض الكلام في البرص ويدل عليه بالحديث المذكور[15]، ثم يبني الفسخ به كالبرص”[16] وقد اختلف المجيزون للفرض في حكم البناء.

فمنهم “من أوجبه على المسؤول توفية بعموم ما اقتضاه السؤال، أو بعموم ما ألزمه هو من الفتوى فيما إذا كان فرضه في الدليل”[17].

أصحاب هذا الرأي راعوا في مذهبهم جانب الاتساق بين الفرض والبناء؛ إذ يرون أن جواز الفرض يقتضي وجوب البناء إتماما لما يتطلبه السؤال، وحتى لا يبقى الكلام معلقا غير تام الفائدة والمعنى، إلا أن عددا ممن جوزوا الفرض لم يوجبوا البناء؛ لأن ذلك في نظرهم يعد تناقضا، بين تجويز الجواب على بعض صور السؤال وبين مطالبته بالبناء عليها للخروج بِحُكم يشمل الصور كافة.

ومن جهة أخرى فإن إلزام الفارض بالبناء دفع له إلى القول بغير علم والحكم بغير دليل وهو منهي عنه شرعا؛ “لأنا إذا ألزمناه الجواب في بقية صور السؤال مع أنه قد لا نجد دليلا إلا في بعضها، فقد ألزمناه القول بغير علم أو كلفناه ما لا يطاق وهو الجمع بين الجواب في تلك الصور وعدمه”[18].

وبعضهم فصلوا فقالوا: إذا كان الفرض في بعض صور السؤال كما تم بيانه سابقا، “كما إذا سُئل عن إزالة النجاسة بما سوى المائعات ففرض الجواب في بعضها كالخل ونحوه، لم يلزمه البناء”[19].وأما إذا كان الفرض في غير محل السؤال، “كما لو سُئل: هل يُقتل المسلم بالذمي، فقال: لا يُقتل بالمعاهد، لزمه البناء”[20].

واضح إذن أن الفرق بين الحالتين أنه في الأولى يمكن اعتبار جوابه داخلا في إطار السؤال بشكل عام؛ لذلك لم يلزمه البناء، أما في الثانية فإن جوابه خارج عن نطاق السؤال مطلقا، فلزمه البناء تبعا لذل

المبحث الأول: بنية الجواب الجدلي عند الإمام ابن حزم

يرتبط الجواب عند الإمام ابن حزم بالسؤال ارتباطا كبيرا، ويعتبر تابعا له؛ ومن ثم فإنه يستمد طبيعته وخصائصه منه، وفيما يلي عرض لتصوره للجواب عن كل نوع من أنواع السؤال على حدة.

فبخصوص السؤال بِهَلْ؟ فإنه “لابد للمسؤول حينئذ من جواب ضرورة بلا أو نعم”[21]؛ لأن هذا النوع من الأسئلة مغلق، فلا خيار له أمامه إلا أحدهما ولا مجال للتهرب أو المراوغة، وتفصيل ذلك أن الموضوع المسؤول عنه إما أن يكون من البديهيات، وإما مما لا يدرك إلا بعد نظر وفحص.

فإن كان من النوع الأول فالإمام ابن حزم ينصح بعدم مجادلة مُنْكِرِه، إذ لا فائدة من إطالة الكلام معه؛ لأنه مع إنكاره للبديهيات، فأنى يستطيع إدراك ما هو أعمق منها وأعقد، أما إن كان الموضوع من النوع الثاني، وجب بيانه وتوضيحه “حتى يثبت عنده بالدلائل، ثم حينئذ يلزمه الإقرار بموجبها”[22] لأنه لا يمكن إلزام شخص بالاقتناع بشيء أو الإقرار به، إلا بعد ثبوته عنده بالدليل والبرهان، ويصير هذا البيان والتفسير آكَدَ على السائل إذا ما قال المسؤول “لا أو قال: لا أدري”[23].

أما إذا أجاب بنعم وأثبت وجود الشيء وصححه، كان على السائل حينها أن ينتقل معه إلى المرتبة الثانية من مراتب السؤال مطالبا إياه بتحديد الماهية وذلك هو “السؤال بـ (ما هو)، وهو تالٍ للسؤال بـ (هل)”.[24] وهنا يطالب المسؤول بتحديد جوهر الشيء وصفاته التي لا تنفك عنه إما حدّا أو رسما أو بما يدل عليه برهان يقيني لا يدخله احتمال ولا ظن.

فإذا تم ذلك سُئل بـ (كيف)، فيجب على المسؤول حينئذ أن يبين حال الشيء وهيئته وكيفية وجوده، ليتم الانتقال بعد ذلك إلى المرتبة الأخيرة من مراتب السؤال والجواب عند الإمام ابن حزم وهي أن يقول السائل (لِمَ)، فيجب عليه هنا أن يستدل على الرأي الذي تبناه ويقيم الحجة على مذهبه.

وتعد هذه المرحلة أهم مراحل الجدال عند الإمام ابن حزم؛ إذ فيها “يقع الاعتراض وطلب الدلائل وإزافتها”[25]، بمعنى أن المطالب بالجواب عليه أن يحشد كل موارده المعرفية وقدراته المنهجية ويدمجها في إطار جواب محكم يستطيع به دفع ما يواجهه به خصمه.

ولتوضيح الأمر أكثر، يضرب الإمام ابن حزم مثالا يضمّنه كل ما سبق من مراتب، بقوله: “ومثال ذلك أن تقول: هل يوجد كسوف قمري أم لا؟ فيقول المجيب: نعم هو موجود. فلو قال: لا، قيل له: فهذا السواد الذي يعرض فيه ليلة النصف من الشهر ما هو؟ فإن أنكره، أنكر العيان وصار في نصاب من لا يُكلَّم، وإن أقرّ بِهِ قيل له: هو الذي نريد بقولنا: كسوف، فإذا حققت المعنى لم ننازعك في الاسم، وسألناك بعبارة ترضاها، وهي أن نقول لك: هل يوجد سواد في القمر ليلة النصف من الشهر أم لا؟

فإذا حقّق، قيل له: وما هو؟ فنقول له: هو ذهاب النور عن القمر لدخول الأرض بينه وبين الشمس والقمر التي منها يقبل النور، فيقول السائل: كيف تدخل الأرض بين الشمس والقمر؟ فيقول المجيب: بأن تكون الشمس في درجة مقابلة للدرجة التي فيها القمر مع تقاطع فلكيهما.

فيقول السائل: لِمَ كان ذلك؟ فيصف له المجيب حينئذ هيئة الفلك وانتقال الشمس وقطعها، ومدة قطعها، وانتقال القمر ومدة قطعه وما يتم به هذا المعنى، وهكذا القول في كل مسؤول عنه من كل علم”[26].

بناء على كل ما سبق يمكن الخروج بملحظ أساس يكشف النقاب عن طبيعة الجواب الحزمي، ويتجلى ذلك في عنصرين اثنين يعتبران مُرتَكَزَي الجواب عند الإمام ابن حزم، وهما الحد أو الرسم من جهة والبرهان أو الدليل من جهة أخرى.

وتنبع أهمية الحد والرسم عند الإمام ابن حزم من المساحة المهمة التي خصصها لقضية الحد وما يرتبط به في كتابه المنطقي: (التقريب)، لدرجة أنه يعتبر هذا الباب “كالمفتاح لما يأتي بعد”[27] بل “لابد لكل ما دون الخالق تعالى من أن يكون مرسوما ومحدودا ضرورة؛ لأنه لابد أن يوجَد له معنى يُميَّز به طبعه مما سواه، عرضا كان أو جوهرا”[28].

من هنا تظهر الحاجة إلى هذه الخطوة المنهجية الحاسمة؛ لأن المتكلم لا يمكن أن يُعرَف مراده بألفاظه إلا إذا أفصح عن مقصوده منها ومراده بدلالتها، بل إن ذلك يؤطر التفاعل الجدلي برمته فلا يزيغ أي طرف من طرفيه عن حدوده المرسومة، فكان من اللازم تبعا لذلك تحديد مقصود كل واحد بما يوظفه من مصطلحات.

ومما يزيد هذا الأمر تأكيداً تصريحه رحمه الله بأنه “ينبغي أن يكون الحد والرسم في كل ما ذكرنا وفي كل ما تُسأل عنه فتجيب بما يدور على محدوده ومرسومه”[29].

ومن أجل استثمار أمثل لهذا المنهج فإنه يوصي المجيب بأن يكون دقيقا في كلامه وألا يعبر بألفاظ عامة تجانب المسلك الموضوعي في النقاش، ويمكن أن تفتح عليه سُبلا عديدة يدخل عليه منها الكثير من المؤاخذة وهو في غنى عن ذلك إذا التزم بالتوجيه الآتي: “فإذا أردت أن تحقق فليكن ذلك بلفظ الإيجاب ومعناه، فإنك إذا قلت: حار، أو قلت: بارد، فقد أَثبتَّ معنى واجبا، وإذا أردت أن تنفي فليكن ذلك بلفظ النفي ومعناه؛ فإنك إذا قلت: لا حار، فلم تُثبت معنى أصلا بوجه من الوجوه، وكذلك إذا قلت: لا جسم لا عرَض. وقد يكون غير الحار باردا وقد يكون معتدلا… وإذا أردتَ أن تُقسّم فينبغي لك التحفظ من مثل هذا بأن لا تدع قسما إلا حققته، إما بحرف النفي فتُكفى المؤونة، أو بتفتيش الأقسام كلها قسما قسما، والنظر هل فيها فاسد أو زائد أو نفي محتمل… وتَهَمَّمْ بالأسماء والمسميات والكلية والجزئية وبالموصوف والصفة والكيفية والكمية والزمان وسائر الشروط”[30].

يبدو أن قضية الحد والرسم تشكل لدى الإمام ابن حزم أساس كل عملية جدلية، ولا يمكن لمن انتصب للجواب أن يذهل عن ذلك، لأنه لن يطمع بإغفاله تلك الخطوة أن يتقدم كثيرا في جداله أو ينجح في بلوغ مرامه؛ لذلك رأينا الإمام أبا محمد يوجه المجيب إلى جملة من الضوابط والمسارات التي يحسن به أن يسلكها إن رغب في تحقيق أقصى مراتب البيان لقوله، ولا يدع مجالا لسوء الفهم لدى خصمه.

ومن باب إقامة الحجة وإبراء الذمة فقد كان الدليل والبرهان هو الأساس الثاني في الجواب الجدلي عند الإمام ابن حزم، وما ذاك إلا لكون الاستدلال في الجدل الأصولي ذا قيمة كبرى وأهمية لا تخفى، دون أن ينسى التأكيد على قضية مهمة تتعلق بمنهج الاستدلال، وهي أن تُعتَمد فيه السبل القويمة ويتجنب فيه الشغب، حتى يكون له أثر محمود في العملية الجدلية، خاصة إذا علمنا أن “من الاستدلال ما يؤدي إلى مذهب صحيح إذا كان الاستدلال صحيحا مرتبا ترتيبا قويما… وقد يوقع الاستدلال إذا كان فاسدا على مذهب فاسد، وذلك إذا خولف به طريق الاستدلال الصحيح”[31].

بل إنه رحمه الله سعى بكل جهده إلى شرح وتفسير وتفصيل آليات الاستدلال وبين سبل المشغبين الذين يعتقد من لا دربة له بالجدل ولا خبرة له فيه أن كلامهم سليم قوي وهو في الحقيقة أبعد ما يكون عن العقل والحجة والدليل.

ومما يؤكد أن هذه القضية كانت شغله الشاغل، تأليفه كتابا خاصا كانت تلك غايته منه ومراده فيه، يقول رحمه الله توضيحا لذلك: “فكتبنا كتابنا المرسوم بـ (كتاب التقريب) وتكلمنا فيه على كيفية الاستدلال جملة، وأنواع البرهان الذي به يستبين الحق من الباطل في كل مطلوب، وخلصناها مما يظن أنه برهان وليس ببرهان، وبَيّنّا كل ذلك بيانا سهلا لا إشكال فيه”[32].

وكذلك كان فعلا، فإن من طالع هذا السفر المذكور ألفاه غنيا بالتوجيهات والشروط التي يلزم كل مستدل استحضارها، ومراتب ذلك وكل ما يمكن أن يوجَّه إليه من اعتراضات في ذلك وكيفية تعامله معها وما ينبغي أن يحذره منها حتى لا ينساق مع كل ما يعترض به عليه فيُخْفِق في وظيفته الجدلية؛ لَا عَنْ فقر معرفي، بل عن سوء خبرة بمنهج الجدل وطرقه وشِعابه، وفي هذا السياق يحذر الإمام ابن حزم كل مجيب من جملة مزالق يُمكن أن تُعجِز حيلته وتوهن رأيه وتجعله مضطربا واهيا.

من تلكم المحظورات التي يجب على المجيب أن ينتبه إلى خطورة الوقوع فيها:

  • أن يتجنب العناد والإصرار على الخطأ أو الرأي الذي لا يستند إلى دليل، فلا “يأتي بما لا يعقل أو بقحة ومباهتة أو بما هو من غير ما سئل عنه، جهلا أو مكابرة”[33].
  • إذا بين السائل أفراد السؤال وعناصره، ثم زاد فيها قِسْما لا يدخل فيها، كان على المجيب أن ينبهه إلى ذلك، دُون أن يفيض في مناقشة ذلك القِسم الزائد؛ لأن ذلك يُعدّ خروجا عن الموضوع، “ومن ترك ما هو فيه مع خصمه من المناظرة وخرج إلى مسألة أخرى فجاهل مشغب منقطع”[34].
  • اجتناب “معارضة الخطإ بالخطإ”[35]؛ لأن ذلك من عيوب الجواب حيث أوقع المجيب نفسه في العيب ذاته وارتكب الخطأ نفسه الذي عابه على خصمه.
  • أن يبذل قصارى جهده في “التكثير من الأدلة”[36] وحسن توظيفها لنصرة ما يراه حقا؛ لأنه لا يليق به أن يطالب خصمه بالأدلة ويقصر هو عنها.
  • أن يجتنب “مكالمة من ليس مذهبه إلا المضادة والمخالفة أو الصياح والمغالبة”[37] لأنه لا أمل فيه ولا نتيجة محمودة ترجى من مكالمته ومجادلته.
  • أن يحذر كل الحذر من “أن يحكم بحكم ثم ينقضه”[38] لأنه بذلك يهدم كل ما بناه ولا يوثق بقوله بعدها أبدا.

من خلال كل ما سبق رأينا كيف اعتنى الإمام ابن حزم بالجواب الجدلي وكيف ربط ذلك بمراتب السؤال ودرجاته ومراحله، حتى يتسنى له أداء وظيفته الجدلية ويسلم من الخلل والنقص الموجب لسقوطه، فظهر بذلك تصوره للجواب وكيفية توظيفه في التفاعل الجدلي، فماذا عن رؤية الإمام الباجي لذلك؟ وكيف نظَّر للجواب الجدلي في ممارسته الجدلية؟

المبحث الثاني: بنية الجواب الجدلي عند الإمام الباجي

أول ما يلفت الانتباه بهذا الصدد هو أن الإمام الباجي كان أشد عناية وأكثر تفصيلا لهذا الموضوع من الإمام ابن حزم، ولا أدلّ على ذلك من إفاضته الوافية في عرضه وبسط جزئياته وضرب أمثلة توضيحية لكل حالة من حالاته، سعيا منه إلى تدريب أصحابه على هذا الفن الذي لاحظ خفوت جذوته عندهم، فأراد أن يمكنهم من أدق تفاصيله، حتى يحيطوا به ويتقنوه بما لا مزيد عليه.

وقد سبقت الإشارة إلى أن أول مرتبة من مراتب السؤال عنده هي السؤال عن إثبات مذهب المسؤول، سواء سأله: هل له مذهب في المسألة ابتداءً، أو طلب منه أن يختار من بين الأقوال التي يعرضها عليه، والجواب على هذا السؤال واضح، حيث يجب على المطالَب بالجواب” إن كان له في المسألة مذهب قال: (نعم) وإن لم يتقرر له فيها مذهب أَخَّر إلى أن ينظر ويتقرر مذهبه، وإن اختار أحد القولين أجاب به أيضا، وإن اختار غيرهما، كان مُخيّرا بين أن يقول الذي اختار غيرهما وبين أن يبدأ ببيان ما يختاره من غيرهما”[39].

فالمجيب هنا مخير بين حالات عدة، كل واحدة منها تقتضي جوابا معينا، ولكن يجب عليه أن ينتبه إلى أن جواب هذا السؤال سهل مُيَسّر، إلا أن عليه يبنى كل ما يأتي بعد، فليحذر من الوقوع في التناقض المفضي إلى الزلل ومن ثم إلى الانقطاع.

هذا بخصوص السؤال الأول وجوابه، أما فيما يتعلق بالسؤال الثاني عن ماهية المذهب، سوَاء عن الحكم أو عن طريقه أو علته فالجواب عنه يكون بحسب الحالات:

“فإن كان له في المسألة قول واحد أجاب به، وإن كان له فيها قولان أو أكثر، اختار أصحّهما وأجاب به، ولا يجيب بالأضعف إلا أن يقصد بيان الطريقة وتعليم النظر، فيجوز أن يفعل ذلك ثم ينظر فيه، فإن كان مذهبه مطابقا للسؤال أجاب عنه على الإطلاق، على حسب ما وقع السؤال عليه، وإن كان جوابه يختلف وفيه تفصيل، كان بالخيار”[40].

تبدو السمة المنهجية غالبة على توجيه الإمام الباجي للمناظر في هذا النوع من الجواب، حيث يبين له مكامن القوة في طبيعة الجواب الذي عليه أن يختاره، مراعاة لمآل الجدل، حتى لا يورط نفسه في مواقف ضعف تعود على كلامه الأول بالبطلان؛ “مثل أن يُسأل الحنفي عن الإجارة: هل تنفسخ بالموت؟ فيقول: (تنفسخ)، فإذا عورض دليله بالقياس أنه عقد لازم، فلا يبطل بالموت مع سلامة المعقود عليه كالبيع، قال: (أنا أقول بموجبه، بأن عندي لا تبطل الإجارة بالموت وإنما تبطل بانتقال الملك) فيرجع عما قال”[41].

فإذا ما أحكم ذلك، وطالبه السائل بالدليل، يكون قد انتقل إلى طور آخر من المناظرة وتعين عليه أن يستدل على ما تبناه من قول بأحد الأوجه الآتية:

  • أحدهما: أن يدل على المسألة بعينها.
  • والثاني : أن يفرض[42] الدلالة في بعض شعبها وفصولها.والثالث : أن يبني[43] المسألة على غيرها”[44].

ثم يفصل الإمام الباجي هذه الأوجه الثلاثة ويبين للمسؤول احتمالات الجواب المتاحة له، دون أن ينسى ضرب المثال الأنسب لكل حال من تلك الحالات على حدة، محددا ما يجوز من الأجوبة وما لا يجوز منها موضحا علة كل حكم من تلك الأحكام التي يقررها، ليخلص بذلك إلى تصوير متميز لهذا الجانب من جوانب الجواب، لا تبقى معه شبهة ولا غموض لمن رام سلوك المسلك القويم في الجدل والمناظرة.

ويرتبط بالجواب عن الدليل جواب آخر يتعلق به ويبنى عليه وهو الجواب عن وجه الدليل.

ومعلوم أن “السؤال عن وجه الدليل هو أن يستدل بآية أو خبر، فلا يتبين دليله منه فيطالب ببيان وجه الدليل”[45]. والمسؤول مطالب بذلك إذا كان وجه الدلالة غامضا، أما إن كان واضحا[46] فإنه يقبح بالسائل أن يطالبه ببيانه؛ لأنه حينئذ يكشف عن ضعفه وقلة فهمه وإدراكه.

فإذا ما كان غامضا جاز له مطالبته ببيانه، وذلك “نحو استدلال المالكي على أن المحال لا يرجع على المحيل بموت المحال عليه مفلسا بقوله صلى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم، وإذا أُحيل أحدكم على مليء فليتبع»[47]، فيقال له: ما وجه الدليل من هذا الخبر؟ فيبين المستدل ذلك، فتحسن المطالبة بالبيان في مثل هذا؛ لأن ظاهر اللفظ لا يُنبئ عن الدليل حتى يكشف عنه بأن يقول: (شرط الملاءة في الحوالة)، ومعلوم أنه إنما شرط لئلا يتلف مال المحال، ولو كان إذا تعذر من جهة المحال عليه ثبت له الرجوع، لم يكن لشرط الملاءة معنى؛ لأنه حقه لا يتلف سواء كانت الحوالة على مليء أو غيره”[48].

يعقب الإمام الباجي على هذه المراتب المذكورة بأنها مرتبة ترتيبا ضروريا لا يصح الخروج عنه ولا تستقيم مع مخالفته؛ فلا يليق أن يبدأ المجادل بالمطالبة بالدليل أو القدح فيه ثم ينتقل بعد ذلك إلى السؤال عن المذهب؛ لأنه لما كان الغرض من الجدل هو بلوغ هدف مرسوم يعين على بناء المعرفة وتصحيحها، كان من اللازم اتباع خطة محكمة ذات خطوات يفضي بعضها إلى بعض، فاقتضى ذلك أن مخالفة الترتيب المذكور مخلة بالتفاعل الجدلي برمته.

بعد كل ذلك يصل الإمام الباجي إلى المرحلة التي يحتدم فيها النقاش ويشتد، ويصل الجدل إلى ذروته وهي مرحلة القدح في الدليل، وخلال هذه المرحلة يتبين صاحب القول القوي من صاحب القول الضعيف، بناء على الأدلة التي ينصر بها قوله وكذا قدراته المنهجية وإتقانه لتوظيفها سعيا نحو إِرْباك خصمه ودحض أدلته وكشف عوارها، مما يفضي إلى تصويب قوله هو ودحض قول مخالفه، وقد تمت الإشارة في مطلب السؤال الجدلي إلى صور هذا القدح والتي تتجلى في المطالبة[49] والاعتراض[50] والمعارضة[51]، وكيف عرفها الإمام الباجي وكذا الأحوال الواردة عليها، والذي يهم في هذا المقام هو بيان الجانب المتعلق بالجواب عنها فحسب كما يراه الإمام الباجي.

فإذا كانت المطالبة متعلقة بتصحيح الدليل وتقويته، والاعتراض متعلقا بالطعن في الدليل، والمعارضة متعلقة بإيراد دليل آخر في الموضوع ذاته، فإن الواجب على المسؤول أن يعتني بجواب كل وجه من الوجوه المذكورة بالغ العناية.

ففي المطالبة عليه تصحيح دليله.

وفي الاعتراض عليه دفع كلام السائل وتخليص دليله من الطعن الوارد عليه.

وفي المعارضة عليه بيان رجحان دليله وتهافت دليل خصمه.

لَمْ يكتفِ الإمام الباجي بهذا التوجيه المجمل، بل راح يفصل أنواعه ويشرح كُلًّا على حدة، دون أن ينسى الإشارة إلى بعض المغالطات التي تقع في هذا الباب حتى يكون المجادل على حذر منها، فكان أن خصص قرابة ثلثي كتابه (المنهاج) لأوجه الاعتراض الواردة على الأدلة الشرعية التي يمكن استثمارها في الجدل الأصولي؛ فالقسم الأول خصصه لبيان وجوه الاعتراض على الاستدلال بالكتاب[52].وذكر فيه سبعة أنواع من الاعتراض هي :

  • الاعتراض عليه بأن المستدل لا يقول به.
  • القول بموجبه والمنازعة في مقتضاه.
  • الاعتراض عليه بدعوى المشاركة في الاستدلال.
  • الاعتراض عليه بدعوى النسخ.
  • الاعتراض عليه باختلاف القراءة.
  • الاعتراض عليه بالتأويل.
  • الاعتراض عليه بالمعارضة.

ولكل نوع من تلك الأنواع من الاعتراض طريقة خاصة في الجواب يجب على المجادل أن يختار ما يتيحه الموقف الجدلي ويمكنه من تعضيد قوله وتقويته.

والقسم الثاني خصصه لبيان وجوه الاعتراض على السنة[53] وقسمه إلى قسمين:

  • أحدهما: من جهة الإسناد.
  • والثاني: من جهة المتن.

أما الثاني الذي هو من جهة المتن فالكلام فيه شبيه بما قيل في الاعتراض على الاستدلال بالكتاب والجواب عنه.

وأما الذي من جهة الإسناد فإما أن يختص بالمطالبة بتصحيح الخبر أو بالقدح فيه وتجريحه. والجواب عن ذلك يقتضي أن يكون المستدل على اطلاع واسع وضبط دقيق لكافة الجوانب المتعلقة بالأدلة التي يوظفها في نقاشه، وهو ما يرتبط في الحقيقة بأحد أهم شروط الجدل التي نص عليها الإمامان وهو ما يقتضي أن يكون المتصدي للجدل من أهل التخصص في المجال العلمي موضوع العملية الجدلية.

والقسم الثالث خصصه الإمام الباجي لبيان وجوه الاعتراض على الاستدلال بالإجماع[54]، سواء في ذلك الاعتراض على كون ما استدل به اجماعاً والمطالبة بتصحيحه، أو نقل الخلاف في ذلك. ولكل قسم من تلك الأقسام جوابه المناسب له، حيث يجب على المجيب أن يَحْرِصَ على بيان نقيض قول المعترض وتصويب استدلاله هو.

وبعد أن بين الإمام الباجي كيفية التعامل مع الاعتراض على الاستدلال بالأدلة النقلية، انتقل إلى شرح وتفصيل منهج التعامل مع الاعتراض على الاستدلال بالأدلة العقلية[55]، وتحدث فيه عن:

  • الاعتراض على الاستدلال بلحن الخطاب.
  • الاعتراض على الاستدلال بفحوى الخطاب.
  • الاعتراض على الاستدلال بالحصر.
  • الاعتراض على الاستدلال بالقياس.

وفصل كل نوع من تلك الأنواع إلى أجزائها الفرعية المكونة لها، وذكر جواب كل جزء، بما يَجْعَل المجادل على دراية تامة بأوجه الاعتراضات التي يحتمل أن ترد عليه، وما ينبغي أن يواجهها به من أجوبة تجعلها لاغية غير ذات قيمة.

ثم ختم كتابه بتوجيه المجادل المالكي إلى كيفية التعامل مع الاستدلال باستصحاب الحال[56]، وكذا مع الترجيحات[57] سواء ما تعلق منها بترجيح الأخبار من جهة الأسانيد أو من جهة المتون، وكذا ما يتعلق بالترجيح المستند إلى علة، بحسب ما يرتبط بها من أوصاف.

خاتمة: نتائج المقارنة

من خلال ما سبق يظهر أن الجواب كان أحد أهم العناصر الجدلية التي أعملها الإمامان ابن حزم والباجي في ممارستهما الجدلية وردودهما على من خالفهما، وكان لهذا العنصر حضور قوي في مؤلفاتهما، مما يسمح باعتباره ركنا ركينا وأساسا متينا من أركان التفاعل الجدلي.

وبعد هذه الرحلة الماتعة مع الإمامين الجليلين لوحظ أن ثمة أوجه تشابه واختلاف كثيرة بينهما في توظيف هذه الأداة الجدلية، ومن جملة تلكم الملاَحِظ:

  • لم يكن الجواب الجدلي عند الإمامين الجليلين واحدا من حيث شكله، بل تنوعت صيغ هذا الجواب عند الإمامين ابن حزم والباجي، تبعا لتنوع صيغ السؤال واختلاف مراحل التفاعل الجدلي.
  • اعتنى الإمام ابن حزم كثيرا بالجواب الجدلي وربط ذلك بمراتب السؤال ودرجاته ومراحله، حتى يتسنى له أداء وظيفته الجدلية ويسلم من الخلل والنقص الموجب لسقوطه، فظهر بذلك تصوره للجواب وكيفية توظيفه في التفاعل الجدلي.
  • يقوم الجواب الجدلي عند الإمام ابن حزم على عنصرين اثنين يعتبران مُرتَكَزَي الجواب عنده، وهما الحد أو الرسم من جهة والبرهان أو الدليل من جهة أخرى.
  • كان الإمام الباجي أشد عناية وأكثر تفصيلا للجواب الجدلي من الإمام ابن حزم، ولا أدلّ على ذلك من إفاضته الوافية في عرضه وبسط جزئياته وضرب أمثلة توضيحية لكل حالة من حالاته.
  • حرص الإمام الباجي حرصا كبيرا على توجيه مالكية الأندلس إلى الطريقة المفصلة للجواب على كل نوع من أنواع الاعتراض، معززا شروحه بأمثلة توضيحية تجعل المجادل في حرز من سعي خصمه إلى هدم رأيه وإفساد قوله.
  • على المستوى المنهجي كان الإمام الباجي أكثر دقة من الإمام ابن حزم، حيث جمع كافة العناصر المتعلقة بهذا الموضوع في باب واحد وفصلها تفصيلا محكما وأكثر من الأمثلة التطبيقية لكل حالة على حدة، في حين تناول الإمام ابن حزم عناصر هذا الموضوع في أماكن متفرقة، ولم ينظمها بالكيفية التي سار عليها الإمام الباجي.
  • نجد لدى الإمام الباجي مصطلحات دقيقة خاصة بهذا الجانب، أهمها المطالبة والاعتراض والمعارضة وهي تشكل أهم مراحل التفاعل الجدلي وأكثر العوامل قوة في تحديد نتيجته، أما الإمام ابن حزم فرغم توظيفه لهذه المصطلحات، إلا أن توظيفه لها كان أكثر عموما، ولم يَعْتَنِ بها نظريا كما فعل الإمام الباجي، الذي زاوج بين البيان النظري والتطبيق العملي ولم يغلب أحدهما على الآخر.

لائحة المصادر والمراجع:

  • القرآن الكريم برواية ورش عن نافع، طبعة مؤسسة محمد السادس لنشر المصحف الشريف، مطبعة فضالة، المحمدية، ط2، 2015م.
  • الإحكام في أصول الأحكام، لأبي محمد بن حزم، تحقيق فواز زمرلي وعبد الرحمن زمرلي، دار ابن حزم، ط1، 1437ه-2016م
  • البحر المحيط في أصول الفقه، لأبي عبد الله بدر الدين الزركشي، تحقيق عبد القادر العاني، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، ط2، 1413ه-1992م
  • التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، لأبي محمد بن حزم، تحقيق عبد الحق التركماني، دار ابن حزم، ط1، 1428ه-2007م
  • الجدل عند الأصوليين بين النظرية والتطبيق، مسعود بن موسى فلوسي، مكتبة الرشد، ط1، 1424ه-2003م.
  • الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عطار، دار العلم للملايين، ط3، 1404ه-1984م.
  • الكافية في الجدل، أبي المعالي الجويني، تحقيق د فوقية حسين محمود، مطبعة عيسى البابي الحلبي القاهرة ، 1399ه-1979م.
  • المنهاج في ترتيب الحجاج، لأبي الوليد الباجي، تحقيق عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، ط 5، 2014م
  • المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، ط2، 1422ه-2002م
  • مقاييس اللغة، أبي الحسين أحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، 1399ه-1979م.
  • الواضح في أصول الفقه، لأبي الوفاء علي بن عقيل، تحقيق د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420ه-1999م.

الهوامش:

  1. – الواضح في أصول الفقه، ابن عقيل ج 1 ص 300-301

  2. – معجم مقاييس اللغة، ابن فارس ج 1 ص 491

  3. – الصحاح، الجوهري ج 1 ص 104

  4. – الكافية في الجدل، الإمام الجويني ص 70

  5. – الجدل عند الأصوليين بين النظرية والتطبيق، مسعود فلوسي ص 232

  6. – الواضح في أصول الفقه ج 1 ص 301

  7. – البحر المحيط ج 5 ص 356

  8. – علم الجذل في علم الجدل ص 21-22

  9. – نفسه، ص 21. والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة والمزارعة، باب الربا، رقم الحديث 1585.

  10. – البحر المحيط، ج 5 ص 357. وابن فورك هو (الأستاذ أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني المتكلم الأصولي الأديب النحوي الواعظ…أحيا الله تعالى به أنواعا من العلوم…وبلغت مصنفاته في أصول الفقه والدين ومعاني القرآن قريبا من مئة مصنف. توفي رحمه الله عام 406هـ) وفيات الأعيان، ابن خلكان ج 4 ص 272.

  11. – البحر المحيط ج 5 ص 357

  12. – علم الجذل في علم الجدل ص 23-24

  13. – نفسه ص 24

  14. – علم الجذل في علم الجدل ص 25

  15. – يقصد قصة المرأة التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد بكشحها بياضا فقال لها: البسي ثيابك والحقي بأهلك.

    والحديث رواه الحاكم في المستدرك، كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر العالية، رقم 6808.

  16. – علم الجذل ص 25

  17. – نفسه ص 25

  18. – نفسه ص 25

  19. – هكذا وردت في الأصل، علم الجذل ص 26. والظاهر أن ثمة خطأ مطبعيا؛ لأن المعنى لا يصح إلا إذا قلنا: (كما لو سُئل عن إزالة النجاسة بما سوى الماء من مائعات) والله تعالى أعلم.

  20. – علم الجذل ص 26

  21. – التقريب ص 582

  22. – نفسه ص 582

  23. – نفسه ص 582

  24. – نفسه ص 583

  25. – التقريب ص 583

  26. – نفسه ص 583-584

  27. – التقريب ص 333

  28. – نفسه ص 335

  29. – نفسه ص 585

  30. – نفسه ص 585-586

  31. – الإحكام في أصول الأحكام ج 1 ص 45-46

  32. – نفسه ج 1 ص 38

  33. – التقريب ص 589

  34. – نفسه ص 591

  35. – نفسه ص 593

  36. – نفسه ص 595

  37. – التقريب ص 601-602

  38. – نفسه ص 604

  39. – المنهاج ص 35

  40. – المنهاج ص 36

  41. – نفسه ص 36

  42. – سبق بيان معنى الفرض في أول هذا المطلب

  43. – سبق بيان معنى البناء في أول هذا المطلب

  44. – المنهاج ص 37

  45. – المنهاج ص 39

  46. – كالنص والظاهر والعموم. يقول الإمام الباجي تعليقا على ذلك: (فبهذا يستغني بظهور وجه الدليل عن السؤال عنه، إلا أن يكون في الآية أو الخبر وجهان من الدليل، فيسأل عن أيهما يعتمد) المنهاج ص 40

  47. – سبق تخريجه

  48. – المنهاج ص 40

  49. – عرفها الإمام الجويني بقوله: (مؤاخذة الخصم بتبيين الحجة) الكافية في الجدل ص 68

  50. – عرفه الإمام الجويني بقوله: (مقابلة الخصم في كلامه بما يمنعه من تحصيل مقصوده بما بايَنه) الكافية في الجدل ص 67

  51. – عرفها الإمام الجويني بقوله: (ممانعة الخصم بدعوى المساواة، أو مساواة الخصم في دعوى الدلالة) الكافية في الجدل ص 69

  52. – المنهاج ص 42

  53. – المنهاج ص 76

  54. – المنهاج ص 138

  55. – عقد لذلك بابا سماه (الكلام على معقول الأصل) المنهاج ص 145

  56. – المنهاج ص 219

  57. – نفسه ص 221