خَلق الإنسان في القرآن الكريم (دراسة في التفسير النصي)

م.م. احمد صاحب مهدي1

1 مديرية تربية كربلاء، العراق.

بريد الكتروني: alsahraljebory@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(12); https://doi.org/10.53796/hnsj512/11

تحميل الملف

تاريخ النشر: 01/12/2024م تاريخ القبول: 11/11/2024م

طريقة التوثيق


المستخلص

بدأت فكرة هذا البحث المتواضع من ما نعانيه كمسلمين في الآونة الأخيرة من موجة إلحاد متعددة الأسباب فهناك من ينفي وجود الخالق وهناك من يقول بالتطور وهناك من يرفض الإسلام لما فيه من إختبار يخوضه المسلم كي يحصل في النهاية إما على الثواب أو على العقاب فقررت أن أختار الجانب الأخير والذي يتناول عدة مطالب أهمها هو هل الإنسان أُجبرَ على خوض هذا الإمتحان أم كان مخيراً؟ وهل تم إلقاء الحجة عليه من قبل الله جلَّ وعلى؟ والحمد لله قمت بتناول الموضوع بإختصار عبر تفسير آيات القرآن الكريم على حسب آراء المفسرين من الفريقين وإستطعت أن أجيب على هذين السؤالين ىحيث بينت في المطلب الأول والذي يعتبر تمهيداً للشروع في البحث ما هو مفهوم (الخَلق والانسان والقرآن) لغة وإصطلاحاً ومن بعدها في المطلب الثاني مراحل تكوين الإنسان من بداية تكوينه الى أن يصبح إنساناً, وفي المطلب الثالث والذي يعتبر هو المرتكز الأساسي للبحث تناولت الآيات التي تدل على أن الإنسان خُلِقَ على التوحيد بالفطرة وليس هذا وحسب بل أنه تم عرض الأمانة عليه وليس فرضها بالإجبار وقد قبلها بنفسه وقَبَلَ أن يخوض هذا الإمتحان الصعب الذي إذا نجح فيه صار أعلى منزلتاً من الملائكة وإذا فشل بات أسوأ من البهيمة وقد وُفِّقت في هذا المطلب بعد إستعراض آراء بعض المفسرين من الفريقين والتي تدل على الكثير من الشواهد على اختيار الإنسان وقبوله الأمانه وإشهاده على نفسه وإشهاد الملائكة عليه وخلقه على فطرة التوحيد, وكل هذه الدلائل تفيد بالإجابة على الشبهات المطروحة على الساحة في هذا الوقت وتخرس ألسِنَة المدعين بظلم الخالق لخلقه والعياذ بالله, وقمت بمناقشة آراء المفسرين بعد عرض آرائهم حتى يكون الأمر أكثر سهولة ويتم إستيعاب ما ذكر من جميع الشرائح, المختص منها وغير المختص فيكفي أن يكون القارئ قادر على فهم الكلام المنطقي الذي طرح بإسلوب سهل جداً, والغاية من هذا هو إيصال المعلومة لأكبر عدد ممكن من الناس المهتمين بهذه الأمور أو الذين يحملون الشبهات أو الذين هم في طريقهم للإقتناع بما يثار من شبهات زائفة الغاية منها هو إخراج أكبر عدد من المسلمين عن جادة الصواب وإدخالهم في متاهات مظلمة, وفي نهاية الملخص أُحب أن أُشير الى أن هناك أكثر بكثير من هذه الدلائل من القرآن الكريم أو ألسُنة أو الأدلة الأخرى ولكني إكتفيت بطرح هذه الدلائل كونها كفيلة بالرد على الشبهات و أيضاً من باب خيرُ الكلام ما قلَّ ودل والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين .

الكلمات المفتاحية: الخَلق, الإنسان, القرآن, التكوين, التوحيد, مراحل, الشبهة, الكلام .

Research title

The Creation of Man in the Holy Quran (A Study in Textual Interpretation)

Ahmed Sahib Mahdi1

1 Directorate of Education Karbala, Iraq.

Email: alsahraljebory@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(12); https://doi.org/10.53796/hnsj512/11

Published at 01/12/2024 Accepted at 11/11/2024

Abstract

This research paper has the aim of discussing the idea of ‘ examining   the  Islam’. It is focused on whether that  human was  forced to take this exam or it was  chosen  by God?  Has human informed completely  by God Almighty ? 

      The research is divided into three requirements. The first one will be the beginning to our research  and will shed light on the definition of  the concepts  of (Creation, Human and Koran) language and terminology. The  second one  presents  the stages of human formation from the beginning of structure until becomes a human being. The third requirement, which is the basic of the research, it dealt with the verses that show that human was created naturally  on the monotheism.

Key Words: Creation, Human, Quran, Formation, Unification, Stages, Suspicion, Speech.

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الخلق والمرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين ، نشهد في الآونة الأخيرة تصاعد في موجة الإلحاد لعدت أسباب وقد قام الكثير من العلماء والباحثين المختصين بالرد على هذه الأسباب المتمثلة (بشبهات) تتعلق في الكثير من الجوانب في الأديان عموماً والدين الإسلامي على وجه الخصوص ولعل من هذه الأسباب هو خَلق الانسان ومن هنا جاءت إشكالية البحث حيث تتمثل ب هل أن الله سبحانه وتعالى أشهد الخلق على انفسهم ؟ وهل أجبروا على خوض هذا الاختبار الدنيوي؟ ومن هنا انطلقت فكرة البحث للإجابة على هذه الأسئلة التي لا تفيد الملحد فقط وانما تفيدُ الملحد والمسلم حيثُ هي جواب لشبهات الملحدين وتقويةٌ لإيمان المسلمين وترسيخاً لعقيدتهم ، فقمت بتقسيم هذا البحث على ثلاثة مطالب الأول: المفهوم الغام لخلق الانسان في اللغة والاصطلاح والمطلب الثاني : مراحل تكوين الانسان في المنظور القرآني والمطلب الثالث : خلق الانسان مفطورٌ على التوحيد ، وحاولت أن اختصر في بيان المطالب وذلك حتى يَسهُل على كُل قارئ مهما كانت خلفيته العلمية أن يفهم ما طرحته بسهولة ويُسر ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .

المطلب الأول

المفهوم العام لِخَلق الإنسان

أولاً : تعريف الخَلق لغةً و إصطلاحاً

  1. تعريف الخَلق لغتةً :-

قال الفراهيدي في كتابه العين : (خلق : الخليقة : الخلق، و الخليقة : الطبيعة, والجميع : الخلائق، و الخلائق : نقر في الصفا . و الخليقة : الخلق و الخالق : الصانع، و خلقت الأديم : قدرته . وإن هذا لمخلقة للخير ، أي : جدير به، وقد خلق لهذا الأمر فهو خليق له، أي : جدير به . وإنه لخليق لذاك، أي : شبيه، وما أخلقه، أي : ما أشبهه ) (1)

وقال الجوهري في كتابه الصحاح : (الخلق : التقدير . يقال : خلقت الأديم, إذا قدرته قبل القطع . ومنه قول زهير : ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى وقال الحجاج : ما خلقت إلا فريت، ولا وعدت إلا وفيت . والخليقة : الطبيعة ، والجمع الخلائق) (2) .

  1. تعريف الخَلق اصطلاحاً :-

قال مصطفى الخميني : (الخلق هو الإيجاد على تقدير وترتيب، والخلق والخليقة تنطلق على المخلوق، ومعنى الخلق الإيجاد والإحداث والإبداع والاختراع) (3).

وقال قاسم علي : (إن معنى الخلق هو الإيجاد بعد العدم)(4).

ثانياً : تعريف الإنسان لغةً وإصطلاحاً

  1. تعريف الإنسان لغةً:-

قال الزبيدي : (أنس : الإنْسُ، بالكَسْر : البَشَرُ، كالإنسان، بالكسْر أَيضاً، وإنَّما لم يضبطهما لشُهْرتهما، الواحِدُ إنْسِيٌّ، بالكَسْر، وأَنَسِيٌّ، بالتحريك .

قال مُحَمَّد بن عرَفَة الواسِطِيُّ : سُمِّيَ الإنسِيُّونَ لأَنَّهم يُؤْنَسُونَ)(5).

  1. تعريف الإنسان اصطلاحاً

قال محمود عبد الرحمن : (الإنس :خلاف الجن، والأنس خلاف النفور. فالإنس : البشر واحدهم إنسىّ بكسر الهمزة وإسكان النون، وأنسىّ بفتحها حكاها الجوهري وغيره، والجمع أناس. قال : فيكون الباء عوضا عن النون ، قال : وكذلك الأناسية كالصيارفة، قال : ويقال : للمرأة : إنسان ، ولا يقال : إنسانة . والإنسان يسمّى بذلك، لأنه خلق خلقة لا قوام له إلا بإنس بعضهم ببعض، ولهذا قيل : الإنسان مدني بالطبع من حيث لا قوام لبعضهم إلَّا ببعض، ولا يمكنه أن يقوم بجميع أسبابه . وقيل : سمّى بذلك لأنه يأنس بكل ما يألفه)(6) .

وقال المناوي : (فقد قيل سمي الإنس لأنه يأنس بما يراه خيرا أو شرا)(7) .

ثالثاً: تعريف القرآن لغةً واصطلاحاً

  1. تعريف القرآن لغةً:-

عرف الزبيدي القرآن في كتابه تاج العروس بأنه :- (التنزيل العزيزُ، أَي المَقروءُ المكتوب في المَصاحف، وإنما قُدِّم على ما هو أبْسَطُ منه لشرفه)(8).

ويقول الجرجاني في كتابه التعريفات : (القرآن هو المنزل على الرسول المكتوب في المصاحف المنقول عنه نقلا متواترا بلا شبهة والقرآن عند أهل الحق هو العلم اللدني الاجمالي الجامع للحقائق كلها)(9).

وعرفه الطريحي في كتابه مجمع البحرين : ( اسم لكتاب الله تعالى خاصة لا يسمى به غيره، وإنما سمي قرآنا لأنه يجمع السور ويضمها، وقيل لأنه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض، وهو مصدر كالغفران والكفران ، يقال : فلان يقرأ قرآنا حسنا أي قراءة حسنة)(10).

  1. تعريف القرآن اصطلاحاً:-

قال الشعراوي في كتابه معجزة القرآن :- ( أنه كلام الله المنزل على رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . والمتعبد بتلاوته . والمتحدي به . والقرآن يحمل أكثر من معجزة . تحدى الله به العرب أولا. ثم تحدى به الإنس والجن . لم يتحد به الله الملائكة .لان الملائكة ليس لهم اختيارات ليعملوا بها . أي أنهم يفعلون ما يؤمرون به من الله فقط . ومن هنا فان القرآن يتحدى كل القوى المختارة أو التي لها اختيار . التي ميزها الله . بقدرة العقل والفكر والاختيار)(11).

وقال ابن خلدون في تاريخه:- (القرآن هو كلام الله المنزل على نبيه المكتوب بين دفتي المصحف وهو متواتر بين الأمة إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على طرق مختلفة في بعض ألفاظه وكيفيات الحروف في أدائها وتنوقل ذلك واشتهر إلى أن استقرت منها سبع طرق معينة تواتر نقلها)(12).

ويبدو لي ان كل مؤلف قد عرف القرآن من جهة معينة , وكل التعاريف يمكن تطبيقها اصطلاحا على لفظ القرآن الكريم .

المطلب الثاني

مراحل تكوين الإنسان في المنظور القرآني

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :- ((ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ))(13).

قد بين الله تعالى لنا مراحل تكوين الإنسان مما يدل على دقة خلقه وصنعه في مخلوقاته وهذا ما أشارت إليه الآية آنفة الذكر فقد شرح لنا الله تعالى فيها المراحل التي يمر بها ذلك الجنين من أول أمره نطفة ثم ينتقل في مراحل نموه الى علقة ثم الى مضغة ثم بعد ذلك يستمر في نموه الى مرحلة العظام ثم يكسو الله تعالى تلك العظام لحماً فيتكون الإنسان ويصير خلقاً جديداً بإذن الله تعالى ورعايته له قبل مجيئه الى العالم الدنيوي وقد أشار المفسرون الى ذلك في تفسيرهم لهذه الآية المباركة .

قال الطوسي في تفسيره التبيان :- (وقوله ” ثم خلقنا النطفة علقة ” فالعلقة القطعة من الدم إذا كانت جامدة، فبين الله تعالى أنه يصير تلك النطفة علقة، ثم يجعل العلقة مضغة، وهي القطعة من اللحم . ثم اخبر انه يجعل المضغة ” عظاما ” … ثم بين تعالى انه يكسو تلك ” العظام لحما ” ينشئه فوقها، كما تكسى الكسوة .وقوله ثم ” أنشأناه خلقا آخر ” يعني بنفخ الروح فيه في قول ابن عباس ومجاهد وقيل : نبات الأسنان والشعر، واعطاء العقل والفهم . وقيل ” خلقا آخر ” معناه ذكر أو أنثى . ثم قال ” فتبارك الله أحسن الخالقين ” ومعنى ( تبارك ) استحق التعظيم بأنه قديم لم يزل، ولا يزال، وهو مأخوذ من البروك، وهو الثبوت .

وقوله ” أحسن الخالقين ” فيه دلالة على أن الانسان قد يخلق على الحقيقة، لأنه لو لم يوصف بخالق إلا الله، لما كان لقوله ” أحسن الخالقين)(14).

وقال مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل :- (تشير الآية … إلى المراحل المدهشة والمثيرة لتدرج النطفة في مراحلها المختلفة، واتخاذها شكلا معينا في كل منها في ذلك القرار المكين، حيث تقول : إننا جعلنا من تلك النطفة على شكل قطعة دم متخثر ( علقة ) ثم بدلناها على شكل قطعة لحم ممضوغ ( مضغة )، ثم جعلنا من هذه المضغة عظاما، وأخيرا ألبسنا هذه العظام لحما : ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة

عظاما فكسونا العظام لحما . هذه المراحل الأربعة المختلفة مضافا إلى مرحلة النطفة تشكل خمس مراحل ، كل منها عالم عجيب بذاته ملئ بالعجائب بحثت بدقة في علم الجنين، وألفت بصددها كتب وبحوث عميقة في عصرنا، إلا أن القرآن تكلم عن هذه المراحل المختلفة لجنين الإنسان، وبين عجائبه يوم لم يولد هذا العلم ولا يكن له أثر . وفي الختام أشارت الآية إلى آخر مرحلة والتي تعتبر في الحقيقة أهم مرحلة في خلق البشر، بعبارة عميقة وذات معنى كبير ثم أنشأناه خلقا آخر وفتبارك الله أحسن الخالقين)(15).

وقال السيوطي في تفسيره الجلالين :- ( ( ثم جعلناه ) أي الانسان نسل آدم ( نطفة ) منيا ( في قرار مكين ) هو الرحم .( ثم خلقنا النطفة علقة ) دما جامدا

( فخلقنا العلقة مضغة ) لحمة قدر ما يمضغ ( فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ) وفي قراءة عظما في الموضعين، وخلقنا في المواضع الثلاث بمعنى صيرنا ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) بنفخ الروح فيه ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) أي المقدرين ومميز أحسن محذوف للعلم به : أي خلقا)(16) .

مناقشة آراء المفسرين :- إتفق المفسرون بما يخص مراحل التكوين للجنين ولكن كان لكل مفسر التفاته يختص بها حيث قال الطوسي فيما يخص قوله تعالى ((أنشأناه خلقا آخر)) أن المقصود من هذه الآية عدة امور منها نفخ الروح أو إعطاء الإنسان الأسنان والشعر والعقل وكذلك أورد انه من المحتمل أن يكون المقصود من الآية الكريمة هو الذكر والأنثى . وكان لمكارم الشيرازي التفاته رائعة حول كشف الله سبحانه وتعالى مراحل تكوين الجنين قبل 1400 سنة من العلم الحديث الذي أيد كلام الله سبحانه وتعالى مما يعتبر واحدة من المعجزات القرآنية . و أكد السيوطي فيما يخص الآية (أنشأناه خلقا آخر) أن المقصود منها هو نفخ الروح .

المطلب الثالث

خُلِق الإنسان مفطور على التوحيد

إن مسألة خلق الإنسان مفطوراً على التوحيد من المسائل المختلف فيها وهذا من الوضوح بمكان إذ أن أهل الإختصاص أنحو منحيين في هذا الموضوع فمنهم من ذهب الى أن الانسان خلق مجرداً عن فطرة التوحيد وقد دللو على ذلك . ومنهم من قال بأنه مفطور ومجبول على التوحيد وكذلك دللو وبرهنوا على ذلك بآيات وروايات وسنقوم بعرض مايتيسر ليتسنى فهم المطلب بوضوح بدءاً مما أفاد به القرآن الكريم .

حيث قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :- (( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)) (17)

حيث قال صاحب تفسير البرهان بأن الإنسان مفطور على التوحيد وذلك من خلال ما ذكره في تفسيره قائلاً :- (عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله ( عليه السلام )، قال : قلت : ( فِطْرَتَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) ؟ قال : « التوحيد » . وعن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله ( عليه السلام )، قال : سألته عن قول الله عز وجل : ( فِطْرَتَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) ما تلك الفطرة ؟ قال :- هي الإسلام، فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد، قال : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ قالوا : بلى، وفيه المؤمن والكافر .

وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن زرارة، قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قول الله عز وجل : ( فِطْرَتَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) قال :« فطرهم جميعا على التوحيد » )(18).

وقال الطبري في تفسيره :- ( حدثني يونس، قال : أخبرنا ابن وهب، قال : قال ابن زيد، في قوله فطرة الله التي فطر الناس عليها قال : الاسلام مذ خلقهم الله من آدم جميعا، يقرون بذلك، وقرأ : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم ؟ قالوا بلى شهدنا قال : فهذا قول الله : كان الناس أمة واحدة, فبعث الله النبيين بعد . حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد فطرة الله قال : الاسلام)(19) .

مناقشة آراء المفسرين :- يتضح من آراء المفسرَين أنهما إتفقا على أن المراد من الآية الكريمة (فطرة الله) هو التوحيد أو الإسلام وبرأيي القاصر أن الرأيان (التوحيد والإسلام) يحملان معنى واحد وهو شهادة أن لا إله إلا الله التي أتى بها كل الأنبياء والمرسلين, لأن المراد بالإسلام هنا ليس الدين الإسلامي وما جاء به من أحكام إنما المراد هنا هو التوحيد الذي حمله كل الأنبياء كرسالة من الله سبحانه وتعالى .

وقال الله تعالى في كتابه الكريم :- ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ))(20).

ذكر العياشي في تفسيره :- (عن الأصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام قال : أتاه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن الله تبارك وتعالى هل كلم أحدا من ولد آدم قبل موسى ؟ فقال على : قد كلم الله جميع خلقه برهم وفاجرهم، وردوا عليه الجواب، فثقل ذلك على ابن الكوا ولم يعرفه، فقال له : كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فقال له : أو ما تقرأ كتاب الله إذ يقول لنبيه : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) فقد أسمعهم كلامه وردوا عليه الجواب كما تسمع في قول الله يا بن الكوا ( قالوا بلى ) فقال لهم : انى انا الله لا اله الا انا وأنا الرحمن الرحيم فأقروا له بالطاعة والربوبية، وميز الرسل والأنبياء والأوصياء، وأمر الخلق بطاعتهم فأقروا بذلك في الميثاق، فقالت الملائكة عند اقرارهم بذلك : شهدنا عليكم يا بني آدم أن تقولوا يوم القيمة انا كنا عن هذا غافلين) .(21).

وقال الطبرسي في تفسيره :- (وقرئ : ” ذرياتهم، ومن أفرد فللاستغناء عن جمعه لوقوعه على الجمع، ألا ترى إلى قوله تعالى : ( وكنا ذرية من بعدهم )( من ظهورهم ) بدل من ( بني آدم) بدل البعض من الكل، ومعنى أخذ ذرياتهم من ظهورهم : إخراجهم من أصلابهم، وقوله 🙁 وأشهدهم على أنفسهم )

وقوله : ( ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) من باب التمثيل، والمعني في ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهداية، فكأنه ( أشهدهم على أنفسهم ) وقررهم وقال لهم : ( ألست بربكم )، وكأنهم ( قالوا بلى ) أنت ربنا ( شهدنا ) على أنفسنا وأقررنا بربوبيتك

( أن تقولوا ) مفعول له، أي : نصبنا الأدلة التي تشهد العقول على صحتها كراهة أن تقولوا ( يوم القيمة إنا كنا عن هذا غافلين ) لم ننبه عليه ( أو ) كراهة أن ( تقولوا ) : (إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ) فاقتدينا بهم، لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على تقليد الآباء والاقتداء بهم)(22).

وقال الثعالبي في تفسيره :- ( قوله : ( من ظهورهم ) قال النحاة : هو بدل اشتمال من قوله : ( من بني آدم )، وتواترت الأحاديث في تفسير هذه الآية عن

النبي صلى الله عليه وسلم من طرق : ” أن الله عز وجل استخرج من ظهر آدم عليه السلام نسم بنيه، ففي بعض الروايات كالذر، وفي بعضها : كالخردل ” .

وقال محمد بن كعب : إنها الأرواح جعلت لها مثالات، وروي عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” أخذوا من ظهر آدم، كما يؤخذ بالمشط من الرأس، وجعل الله لهم عقولا كنملة سليمان، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم، وأن لا إله غيره، فأقروا بذلك، والتزموه، وأعلمهم أنه سيبعث الرسل إليهم مذكرة وداعية، فشهد بعضهم على بعض، وشهد الله عليهم وملائكته ” قال الضحاك بن مزاحم : من مات صغيرا، فهو على العهد الأول، ومن بلغ، فقد أخذه العهد الثاني يعني الذي في هذه الحياة المعقولة الآن . وقوله : ( شهدنا ) يحتمل أن يكون من قول بعض النسم لبعض، فلا يحسن الوقف على قوله : ( بلى )، ويحتمل أن يكون قوله : ( شهدنا ) من قول الملائكة، فيحسن الوقف على قوله : ( بلى ) . قال السدي : المعنى : قال الله وملائكته : شهدنا ورواه عبد الله بن عمر، عن

النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله سبحانه : ( أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . . . ) الآية : المعنى : لئلا تقولوا، أو مخافة أن تقولوا، والمعنى في هذه الآية : أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد، ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته، لكانت لهم حجتان : إحداهما : أن يقولوا كنا عن هذا غافلين . والأخرى : كنا تباعا لأسلافنا، فكيف نهلك، والذنب إنما هو لمن طرق لنا وأضلنا، فوقع شهادة بعضهم على بعض، وشهادة الملائكة عليهم، لتنقطع لهم هذه الحجة)(23) .

وقال الكاشاني في تفسيره الصافي :- (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم : وقرء ذرياتهم، أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن، يعني نثر حقائقهم بين يدي علمه فاستنطق الحقائق بأسنة قابليات جواهرها وألسن استعدادات ذواتها . وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا : أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة الأشهاد على طريقة التمثيل، نظير ذلك قوله عز وجل : ( إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) وقوله جل وعلا : ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) ومعلوم أنه لا قول ثمة وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى وذلك حين كانت أنفسهم في أصلاب آبائهم العقلية، ومعادنهم الأصلية يعني شاهدهم وهم دقائق في تلك الحقائق، وعبر عن تلك الآباء بالظهور لأن كل واحد منهم ظهر أو مظهر لطائفة من النفوس أو ظاهر عنده لكونه صورة عقلية نورية ظاهرة بذاتها وأشهدهم على أنفسهم أي أعطاهم في تلك النشأة الإدراكية العقلية شهود ذواتهم العقلية، وهو يأتهم النورية فكانوا بتلك القوى العقلية يسمعون خطاب ( ألست بربكم ) كما يسمعون الخطاب في دار الدنيا بهذه القوى البدنية وقالوا بألسنة تلك العقول بلى أنت ربنا الذي أعطيتنا وجودا قدسيا ربانيا، سمعنا كلامك وأجبنا خطابك، ولا يبعد أيضا أن يكون ذلك النطق باللسان الملكوتي في عالم المثالي الذي دون عالم العقل فإن لكل شئ ملكوتا في ذلك العالم كما أشار إليه بقوله سبحانه : ( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ ) والملكوت باطن الملك، وهو كله حياة، ولكل ذرة لسان ملكوتي ناطق بالتسبيح، والتمجيد والتوحيد والتحميد وبهذا اللسان نطق الحصى في كف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبه تنطق الأرض يوم القيامة ( يومئذ تحدث أخبارها ) وبه تنطق الجوارح ( أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ ) . أن تقولوا : أي كراهة أن تقولوا، وقرء بالياء . يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين : لم ننبه عليه)(24) .

وقال محمد رضا القمي في تفسيره :- (بإسناده إلى أبي بصير : عن أبي عبد اللَّه ( عليه السّلام ) قال : قلت له : أخبرني عن اللَّه ( عزّ وجلّ ) هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال : نعم ، وقد رأوه قبل يوم القيامة . فقلت متى ؟ قال : حين قال لهم : « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى » . ثمّ سكت ساعة . ثمّ قال : وإنّ المؤمنين ليرونه في الدّنيا قبل يوم القيامة . ألست تراه في وقتك هذا ! ؟ قال أبو بصير : فقلت له : جعلت فداك ، فأحدّث بهذا عنك ؟ فقال : لا . فإنّك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقول ، ثمّ قدّر أنّ ذلك تشبيه ، كفر . وليست الرّؤية بالقلب كالرّؤية بالعين . تعالى اللَّه عمّا يصفه المشبّهون والملحدون)(25) .

وقال ابن كثير في تفسيره القرآن العظيم :- (يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه قال تعالى ” فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ” وفي الصحيحين عن أبي هريرة … قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” كل مولود يولد على الفطرة ” وفي رواية ” على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تولد بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ” وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ” وقال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله : حدثنا يونس بن الاعلى حدثنا ابن وهب أخبرني السري بن يحيى أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات قال فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد عليه ثم قال ” ما بال أقوام يتناولون الذرية ” فقال رجل يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين ؟ فقال ” إن خياركم أبناء المشركين ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها). (26).

مناقشة آراء المفسرين:- إتفق المفسرون من كلا الفريقين أن الله سبحانه وتعالى أشهد البشر من بني آدم على ربوبيته وقد إعترفوا بذلك بقولهم (بلى), ولكن لدي إستنتاج برأيي القاصر وهو أن الله سبحانه وتعالى يوضح لنا في هذه الآية أن الإنسان بصورة عامة قد تم تخييره لدخول هذا الاختبار في الحياة الدنيا قبل أن يولد عن طريق الإشهاد فمن شهد وقال (بلى) فهذا هو الذي دخل الإختبار بإرادته وإلا مات قبل أن يولد أو قبل أن يدخل سن التكليف وقد لمح الثعالبي تلميحة بسيطة في تفسيره لهذه الآية الكريمة والله أعلم .

قال الله تعالى في كتابه الكريم :- ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)) (27)

قال الطباطبائي في تفسيره الميزان :- (فالمراد بالأمانة الولاية الإلهية وبعرضها على هذه الأشياء اعتبارها مقيسة إليها والمراد بحملها والاباء عنه وجود استعدادها وصلاحية التلبس بها وعدمه ، وهذا المعنى هو القابل لان ينطبق على الآية فالسماوات والأرض والجبال على ما فيها من العظمة والشدة والقوة فاقدة لاستعداد حصولها فيها وهو المراد بابائهن عن حملها واشفاقهن منها . لكن الانسان الظلوم الجهول لم يأب ولم يشفق من ثقلها وعظم خطرها فحملها على ما بها من الثقل وعظم الخطر فتعقب ذلك أن انقسم الانسان من جهة حفظ الأمانة وعدمه بالخيانة إلى منافق ومشرك ومؤمن بخلاف السماوات والأرض والجبال فما منها

الا مؤمن مطيع)(28) .

وقال الغرناطي في تفسيره التسهيل :- (( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ والأَرْضِ والْجِبالِ ) الأمانة هي التكاليف الشرعية من التزام الطاعات وترك المعاصي ، وقيل : هي الأمانة في الأموال ، وقيل : غسل الجنابة ، والصحيح العموم في التكاليف، وعرضها على السماوات والأرض والجبال يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون اللَّه خلق لها إدراكا فعرضت عليها الأمانة حقيقة فأشفقت منها، وامتنعت من حملها، والثاني أن يكون المراد تعظيم شأن الأمانة، وأنها من الثقل بحيث لو عرضت على السماوات والأرض والجبال، لأبين من حملها وأشفقن منها، فهذا ضرب من المجاز كقولك : عرضت الحمل العظيم على الدابة فأبت أن تحمله، والمراد أنها لا تقدر على حمله ( وحَمَلَهَا الإِنْسانُ ) أي التزم الإنسان القيام بالتكاليف مع شدة ذلك، وصعوبته على الأجرام التي هي أعظم منه، ولذلك وصفه اللَّه بأنه ظلوم جهول، والإنسان هنا جنس، وقيل : يعني آدم، وقيل : قابيل الذي قتل أخاه ( لِيُعَذِّبَ ) اللام للصيرورة، فإن حمل الأمانة : كان سبب تعذيب المنافقين والمشركين، ورحمة للمؤمنين)(29) .

وقال مغنية في تفسيره الكاشف :- ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ والأَرْضِ والْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وأَشْفَقْنَ مِنْها وحَمَلَهَا الإِنْسانُ . اختلف المفسرون في معنى الأمانة ، فمن قائل : انها التكليف والطاعة, وقائل : انها كلمة « لا إله إلا اللَّه »، وقال ثالث : هي أعضاء الإنسان كسمعه وبصره ويده ورجله، وان عليه ان يستعملها فيما خلقت من أجله، وذهب رابع إلى انها الأمانة في الأموال . والذي نراه نحن انها التضحية بالمصلحة الفردية لصالح الجماعة، لا لشيء إلا لوجه اللَّه والإنسانية، لأن هذه التضحية قد بلغت من الثقل والضخامة مبلغا لو عرضت على أقوى مخلوق كالسماوات والأرض والجبال لأشفق منها على فرض أنه يحسّ ويشعر .فالغرض من ذكر السماوات والأرض والجبال هو الإشارة إلى عظمة هذه التضحية وتبعتها، وان الإنسان هو المخلوق الوحيد من بين الكائنات الذي يستطيع أن يجاهد نفسه الأمّارة وشهواتها، ويقاوم أهواءها ونزعاتها، أما قوله تعالى : « إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا » فمعناه ان الإنسان يظلم نفسه وغيره إذا خان هذه الأمانة، ويجهل العواقب السيئة التي تترتب على خيانته)(30) .

وقال مقاتل في تفسيره :- (إنا عرضنا الأمانة وهي : الطاعة ( على السماوات والأرض والجبال ) على الثواب والعقاب إن أحسنت جوزيت، وإن عصيت عوقبت (فأبين أن يحملنها ) يعني الطاعة على الثواب والعقاب، فلم يطقنها ( وأشفقن منها ) وأشفقن من العذاب مخافة ترك الطاعة، فقيل لأدم، عليه السلام : أتحملها بما فيها، قال آدم : وما فيها ، قال الله عز وجل : فلم يلبث في الجنة إلا قليلاً، يعني ساعتين … حتى عصى ربه عز وجل، وخان الأمانة، فذلك قوله عز وجل : ( وحملها الإنسان ) يعني آدم ، عليه السلام ، ( إنه كان ظلوما ) لنفسه بخطيئته ( جهولا ) بعاقبه ما تحمل من الطاعة على الثواب والعقاب)(31) .

وقال الحائري الطهراني في تفسيره مقتنيات الدرر :- (« إِنَّا عَرَضْنَا الأَمانَةَ » واختلف في المراد من الأمانة : قيل : هي التكليف وسمّي أمانة لأنّ من قصّر فيه فعليه الغرامة ومن أدّاها فله الكرامة وقيل : هو قول لا إله إلَّا اللَّه وهذا الكلام بعيد لأنّ الملك والفلك والجبال والرمال بألسنتها ناطقة بأنّ اللَّه واحد وقيل : المراد الأعضاء فالعين أمانة ينبغي أن يحفظها والاذن واليد كذلك والرجل والفرج واللَّسان وهكذا وبعض هذه الوجوه متقارب للبعض. وبعض المفسّرين فسّروا معنى « الحمل » بالخيانة قال الزجّاج : كلّ من خان الأمانة فقد حملها ومن لم يحمل الأمانة فقد أدّاها وكذلك كلّ من أثم فهو احتمل الإثم قال اللَّه : « ولَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ » وأنشد بعضهم في حمل الأمانة … قال الطبرسيّ : إنّ الظاهر لا يدلّ على ذلك لأنّه يجوز أن يكون المراد بالحمل قبول الأمانة . وقيل : المعنى في قوله « عَرَضْنَا الأَمانَةَ » أي عارضنا وقابلنا والأمانة تكاليف اللَّه من إنزال الكتب وإرسال الرسل فالمعنى أنّ هذه الأمانة في جلالة موقعها وعظم شأنها لو قيست بالسماوات والأرض والجبال وقوبلت بها لكانت هذه الأمانة أرجح وأثقل وزنا ومعنى والسماوات والأرضين ضعفن عن حملها ( وأَشْفَقْنَ مِنْها ) والشفقة ضعف القلب ولذلك صار كناية عن الخوف الَّذي يضعف عنده القلب . ثمّ قال سبحانه : هذه الأمانة الَّتي صفتها كذلك وأثقل وأعظم من السماوات والأرض والجبال تقلَّدها الإنسان فلم يحفظها وضيّعها لظلمه على نفسه ولجهله بمبلغ الثواب والعقاب. وقيل : المراد من السماوات ليس هي بأعيانها بل أهل السماوات والأرض ولم يكن إباؤهنّ كإباء إبليس لأنّ السجود كان فرضا والأمانة عرضا وإباء إبليس كان استكبارا وإباؤهنّ استصغارا . وقيل : المعنى لو كانت السماوات والأرض والجبال عاقلة ثمّ عرضت عليها وظائف التكليف لاستثقلت ذلك مع عظمها وقوّتها ولإمتنعت من حملها خوفا من القصور عن أداء حقّها . ( حَمَلَهَا الإِنْسانُ ) مع ضعف جسمه لجهله والمراد بقوله : « الإِنْسانُ » لم يرد جميع الناس بل هو مثل قوله : « إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ » « وإِنَّ الإِنْسانَ لِرَبِّه لَكَنُودٌ » والأنبياء والأولياء والمؤمنون الماحضون خارجون ولا يجوز أن يكون الإنسان محمولا على آدم لقوله : « إِنَّ اللَّه اصْطَفى آدَمَ » وكيف يكون من اصطفاه اللَّه من بين خلقه موصوفا بالظلم والجهل ومن المعلوم أنّ التكليف هو الأمر بخلاف ما في الطبيعة وهذا النوع من التكليف ليس في السماوات ولا في الأرض لأنّ الأرض والجبل والسماء كلَّها على ما خلقت عليه فالجبل لا يطلب منه السير والأرض لا يطلب منها الصعود ولا من السماء الهبوط ولا من الملائكة لأنّ الملائكة وإن كانوا مأمورين بأمور ومنهيّين عن أمور لكن ذلك لهم كالأكل والشرب لنا فيسبّحون اللَّيل والنهار لا يفترون كما يشتغل الإنسان بأمر موافق لطبعه ولذلك إذا أطاع الإنسان ما امر به وانتهى عمّا نهي عنه وأعرض عن موجبات ما كره اللَّه وانغمر في العبادة فضّل على الملك)(32) .

مناقشة آراء المفسرين :- إختلف المفسرون بمعنى مفردة (الأمانة) حيث رجح الطباطبائي بأنها تعني (الولاية الإلهية), ورجح الغرناطي عدة أمور منها (التكليف), أما محمد جواد مغنية فقد قال أن الأمانة هي (التضحية), ووصف مقاتل في تفسيره الأمانه (بالثواب والعقاب), وقد رجح الحائري (التكليف) أيضاً, ولكن الملفت للنظر هو إختلاف العلماء في الجبال والسماء والأرض هل كانت هذه المخلوقات فعلا لها إدراك أم أن الآية تريد أن تشير لعظمة الأمانة وكان لكل عالم رأيه بهذا الأمر, وبرأيي القاصر فأنا أؤيد الرأي القائل بإدراك هذه المخلوقات لما عُرِض عليها وذلك لعدة أسباب أهمها أن الله لا يظلم أحداً فمن المؤكد أن الله سبحانه وتعالى خيَّرَ الإنسان بحمله هذه الأمانة التي ينتج عنها الثواب والعقاب حتى لا تكون هناك حجة للإنسان يوم الحساب ويقول أن الأمر قد فُرِضَ عليه ومما يؤكد ذلك الآية سالفة الذكر (آية الإشهاد) التي تناولناها والتي تشير أيضاً على إلقاء الحجة على الإنسان حتى لا تكون للإنسان حجة يوم الحساب .

الخاتمة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير المرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين, في ختام هذا البحث المتواضع لا يسعني إلا أن أشكر الله العلي القدير الذي وفقني لإتمامه, أما بعد فإن هذا البحث قد تناول بنظري القاصر ثلاثة جوانب أهمها هو المطلب الثالث الذي وضحت فيه كيف أن الإنسان خلق مفطوراً على التوحيد وهو مسؤول عن كل اعماله وتروكاته؛ لأنه قد إختار هذا الطريق طريق الإختبار وقبل به وعليه فهو يتحمل نتيجة الثواب والعقاب بما فعل في هذه الحياة الدنيا, و أن الله سبحانه وتعالى لم يترك الإنسان بلا مرجح ومميز وقد أعطا للإنسان العقل الذي به يثاب وبه يعاقب فإذا استخدم العقل بما يوافق التكليف صار أعلى درجة من الملائكة وإذا استخدم العقل بما يخالف التكليف صار كالأنعام بل أضل سبيلا كون الأنعام لا تمتلك عقلا كعقل الإنسان ويبدو لي أن لهذا البحث أهمية كبيرة خاصة في وقتنا هذا حيث كثرت الشبهات حول الخلق وموضوع الجبر والتفويض في مسألة التكليف وكثر الملحدون في وقتنا الحالي بسبب هذه الشبهات لذلك وجدت أن من الضروري أن أقدم ولو شيئاً بسيطاً ومتواضعاً حول هذا الموضوع, وآخر دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين .

الهوامش

(1) الفراهيدي, الخليل بن احمد, العين,ج4, ص151.

(2) الجوهري, إسماعيل بن حماد, الصحاح,ج4, ص1470 -1471.

(3) الخميني, مصطفى, تفسير القرآن الكريم, ج4 , ص277 .

(4) الأحمدي , قاسم علي, وجود العالم بعد العدم عند الامامية, ص72.

(5) الزبيدي, محمد مرتضى, تاج العروس من جواهر القاموس, ج8 , ص186.

(6) عبد المنعم, محمود عبد الرحمن, معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية, ج1 ص309.

(7) المناوي, محمد علد الرؤوف, فيض القدير شرح الجامع الصغير, ج5, ص647.

(8) الزبيدي, محمد مرتضى, المصدر السابق, ج1 , ص218.

(9) الجرجاني, علي بن محمد بن علي, التعريفات, ص223.

(10) الطريحي , فخر الدين , مجمع البحرين, ج1, ص337.

(11) الشعراوي , محمد متولي , معجزة القرآن,ص6.

(12) ابن خلدون, عبد الرحمن, تاريخ ابن خلدون, دار احياء التراث العربي, ج1, ص431.

(13) سورة المؤمنون, الآيتان : 12-14.

(14) الطوسي , محمد بن الحسن, التبيان في تفسير القرآن,ج7, ص354.

(15) الشيرازي ,ناصر مكارم , الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل, ج10, ص429-430.

(16) السيوطي, جلال الدين, تفسير الجلالين,ص446.

(17) سورة الروم, الآية : 30.

(18) البحراني, هاشم, البرهان في تفسير القرآن, ج4, ص341-342.

(19) الطبري , محمد بن جرير, جامع البيان عن تأويل آي القرآن,ج21, ص48.

(20) سورة الأعراف , الآية : 172.

(21) العياشي, محمد بن مسعود , تفسير العياشي, ج2, ص41-42.

(22) الطبرسي , الفضل بن الحسن, جوامع الجامع, ج1, ص719-720.

(23) الثعالبي , عبد الرحمن , جواهر الحسان في تفسير القرآن,ج3, ص92-93.

(24) الفيض الكاشاني, محمد محسن, التفسير الصافي, ج2, ص250-251.

(25) القمي المشهدي, محمد بن محمد رضا, تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب, ج5, ص229.

(26) إبن كثير, عماد الدين أبو الفداء, تفسير القرآن العظيم, ج2, ص272.

(27) سورة الاحزاب, الآية : 72.

(28) الطباطبائي, محمد حسين, الميزان في تفسير القرآن, ج16, ص349.

(29) الغرناطي الكلبي, محمد بن محمد بن أحمد الجزي, التسهيل لعلوم التنزيل, ج2, ص160.

(30) مغنية, محمد جواد, التفسير الكاشف, ج6, ص244-245.

(31) مقاتل بن سليمان, تفسير مقاتل بن سليمان, ج3, ص57.

(32) الحائري الطهراني , مير سيد علي, تفسير مقتنيات الدرر,ج8, ص330-331.

المصادر والمراجع

  • القرآن الكريم
  1. الفراهيدي , الخليل بن احمد , العين, تحقيق : الدكتور مهدي المخزومي – الدكتور إبراهيم السامرائي, ط2, مؤسسة دار الهجرة, قم المقدسة, 1409هـ .
  2. الجوهري, إسماعيل بن حماد, الصحاح , تحقيق : أحمد عبد الغفور العطار , ط4, دار العلم للملايين , بيروت , 1407هـ.
  3. الخميني, مصطفى روح الله, تفسير القرآن الكريم, تحقيق : مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني, طهران, 1418هـ.
  4. الأحمدي, قاسم علي, وجود العالم بعد العدم عند الإمامية, انتشارات مولود كعبه, بدون مكان, 1422هـ .
  5. الزبيدي, محمد مرتضىى, تاج العروس من جواهر القاموس, تحقيق : علي شيري, دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت, 1414هـ .
  6. عبد المنعم, محمود عبد الرحمن, معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية, دار الفضيلة, القاهرة, بدون تاريخ .
  7. المناوي, محمد علد الرؤوف, فيض القدير شرح الجامع الصغير, تحقيق :أحمد عبد السلام, دار الكتب العلمية, بيروت, 1415هـ.

الجرجاني, علي بن محمد بن علي, التعريفات, دار الكتاب العربي, بيروت, 1405هـ .

الطريحي , فخر الدين , مجمع البحرين, مرتضوي , طهران, 1362هـ – ش .

الشعراوي, محمد متولي, معجزة القرآن, المختار الاسلامي للطباعة والنشر والتوزيع, القاهرة, 1398هـ

ابن خلدون, عبد الرحمن, تاريخ ابن خلدون, دار احياء التراث العربي, بيروت, بدون تاريخ.

سورة المؤمنون الآيتان : 12-14.

13)الطوسي , محمد بن الحسن, التبيان في تفسير القرآن , مكتب العلام الاسلامي, بدون مكان , 1409هـ .

14) الشيرازي ,ناصر مكارم , الأمثل في تفسير كلتاب اله المنزل , بدون مكان , بدون تاريخ .

15) السيوطي , جلال الدين , تفسير الجلالين , دارالمعرفة للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت , بدون تاريخ .

16) البحراني, هاشم, البرهان في تفسير القرآن, تحقيق : قسم الدراسات الاسلامية, مؤسسة البعثة, قم المقدسة, بدون تاريخ.17) الطبري , محمد بن جرير, جامع البيان عن تأويل آي القرآن, دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت, 1415هـ .

18) العياشي , محمد بن مسعود , , تفسير العياشي, المكتبة العلمية الاسلامية, طهران, بدون تاريخ.

19) الطبرسي , الفضل بن الحسن, جوامع الجامع, مؤسسة النشر الاسلامي , قم المقدسة, 1418هـ .

20) الثعالبي , عبد الرحمن , جواهر الحسان في تفسير القرآن, دار إحياء التراث العربي, بيروت, 1418هـ .

21) الفيض الكاشاني, محمد محسن, التفسير الصافي, مكتبة الصدر , طهران, 1416هـ .

22)القمي المشهدي, محمد بن محمد رضا, تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب, مؤسسة الطبع والنشر وزارة القافة والارشاد الاسلامي, بدون مكان, 1411هـ .

23)إبن كثير, عماد الدين أبو الفداء, تفسير القرآن العظيم, دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت, 1412هـ .

24) الطباطبائي, محمد حسين, الميزان في تفسير القرآن, منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية, قم المقدسة, بدون تاريخ .

25) الغرناطي الكلبي, محمد بن محمد بن أحمد الجزي, التسهيل لعلوم التنزيل, شركة دار الارقم بن ابي الارقم, بيروت, بدون تاريخ .

26) مغنية, محمد جواد, التفسير الكاشف, دار العلم للملايين, بيروت, 1981م .

27) مقاتل بن سليمان, تفسير مقاتل بن سليمان, دار الكتب العلمية, بيروت, 1424هـ .

28) الحائري الطهراني , مير سيد علي, تفسير مقتنيات الدرر, مطبعة الحيدري, طهران, بدون تاريخ .