ط.د. ليلى الحيمر1، أ.د. أحمد الفرحان 21
1 طالبة في سلك الدكتوراه، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية، جامعة ابن طفيل-القنيطرة-المغرب. 2 استاذ التعليم العالي بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية، جامعة ابن طفيل- القنيطرة- المغرب. بريد الكتروني: el.haimer.laila201@gmail.com HNSJ, 2024, 5(2); https://doi.org/10.53796/hnsj52/15 تنزيل الملف تاريخ النشر: 01/02/2024م تاريخ القبول: 12/01/2024م
المستخلص
تحاول هذه الدراسة عرض أهم أسس نظرية المعرفة، التي تقوم عليها الفلسفة الفينومينولوجية عند إدموند هوسرل، بحيث أن هذه الدراسة تظهر أهمية هذه النظرية المعرفية، التي تنطلق أولا بالكشف عن إشكالات جوهرية في مناهج ونظريات العلوم التجريبية؛ التي تقوم على الوقائع بدل الماهية؛ حيث تنبني نظرية المعرفة في هذا المنظور التجريبي على فرضيات مسبقة، تجعل من نتائج التجربة متناقضة مع الوقائع التي تقوم بدراستها. وبهذا تكمن أهمية نظرية المعرفة عند هوسرل، في إبراز الاختلاف القائم بين خبرة الوعي الشعورية والخبرة الحسية؛ أي الاختلاف الذي ينكشف من خلال كيفية تناول كل منهما للمعطى المباشر، الذي يشير في طبيعته إلى كونه إما ذلك المفارق أو المحايث. وبهذا المعنى تنطلق نظرية المعرفة الفينومينولوجية من تحقيق غايتها الأساسية، التي تقوم على ضرورة الانتقال من الواقعة إلى الماهية؛ كانتقال، ليس قائم على نفي العالم الحسي، ولكنه انتقال قائم على التوجه إلى الشيء ذاته؛ الذي بوصفه الظاهرة التي تسعى الفلسفة الفينومينولوجية دراسة كيفية عطائها ماهويا من خلال خبرات الوعي.
الكلمات المفتاحية: نظرية المعرفة، الماهية، خبرة الوعي، الشيء ذاته
Edmund Husserl’s theory of knowledge from real existence to essence
Laila HAIMER1, Ahmed FERHANE2
1 PhD student, Faculty of Social Humanities, Ibn Tofail University – Kenitra – Morocco.
2 Professor of Higher Education, Faculty of Humanities and Social Sciences, Ibn Tofail University – Kenitra – Morocco.
HNSJ, 2024, 5(2); https://doi.org/10.53796/hnsj52/15
Published at 01/02/2024 Accepted at 12/01/2024
Abstract
This study aims to elucidate the fundamental principles of phenomenological epistemology as formulated by Edmund Husserl. The study underscores the pivotal importance of this cognitive framework, initially revealing inherent challenges within the methodologies and theories of empirical sciences. Critiquing paradigms grounded in factual observation rather than essential understanding, the study highlights the incorporation of a priori assumptions, leading to incongruities between experimental outcomes and the intrinsic nature under investigation. The significance of Husserl’s phenomenological theory of knowledge lies in accentuating the distinction between conscious experientiality and sensory perception. This dichotomy is manifested in how each cognitive mode engages with immediate data, revealing either divergence or convergence. In this context, the phenomenological theory of knowledge pursues its cardinal objective by underscoring the imperative shift from the empirical to the essential. This transition, far from negating sensory reality, entails a reorientation towards the essence itself—a phenomenon scrutinized by phenomenological philosophy through the experiences of consciousness.
Key Words: Theory of Knowledge, Essence, Conscious Experience, the Thing Itself.
مقدمة
لطالما طرحت الفلسفة مجموعة من القضايا المعرفية، التي كانت تعبر عن حركية الفكر الفلسفي؛ كتطور للعقل البشري تاريخيا، فإنه، سرعان ما ألزمت هذه الحركية على الفلسفة ضرورة الانتقال من العقل إلى التجربة، وخصوصا أن الفلسفة بعد توجهها إلى إعمال أولوية التجربة على العقل، فإنها صنعت أزمتها بنفسها؛ التي تجلت في استقلال العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية عنها. وهكذا فلم تعد الفلسفة في تفكيريا تقليدية بالمعنى الذي يتطلب منها أن تكون دوما، وإنما حاجتها إلى أن تصبح فلسفة تجريبية؛ فقد جعلها بالضرورة تتعارض مع أسسها المعرفية القائمة في الفلسفة المثالية، أي ما فرض عليها هذا الوضع ظهور مجموعة من الإشكالات المعرفية.
ومنه فإن هذه الإشكالات تطلبت من الفلسفة التفكير بضرورة مواكبة التطور العلمي، الذي أصبح يمر جانبيا دون الخضوع لسلطتها الفكرية؛ التي كانت تمارس من قبل على كل هذه المعارف؛ كمعارف نمت في حضن الفلسفة؛ ما أدى هذا الوضع الجديد إلى أن تفكر الفلسفة جديا في استعادة مشروعيتها في فرض رقابتها على هذه المعارف، وذلك بأن لا تعود إلى الوراء بقدر ما ستفكر بتأسيس نفسها كعلم جديد؛ يعمل على تقويض المناهج والنظريات التجريبية، التي أصبحت متناقضة معرفيا مع ما تطمح له الفلسفة في بناء نظريات ذات دقة موضوعية.
وعليه فإن إقامة هذه الفلسفة بوصفها علما صارما، كان لا بد من تأسيسها ضمن إطار منطقي؛ يجعلها تتمتع بالدقة والصرامة المنطقية، وهي الخطوة التي تأسست عليها الفلسفة الفينومينولوجية مع هوسرل؛ كمذهب جديد؛ ينظر إلى ضرورة تأسيس نظرية للمعرفة تتميز بدقة تامة. وبالتالي فإن هذه الخطوة الصريحة، هي بمثابة تجاوز لكل الإشكالات المعرفية السابقة، لكن إلى أي حد سينجح إدموند هوسرل بتأسيس نظرية معرفية تتميز بالدقة والصرامة؛ بحيث أنها ستكون قادرة على تقديم حل جذري لأهم الإشكالات المعرفية القائمة في العلوم التجريبية؟
للجواب عن هذا الإشكال سنتناول في مقالنا هذا أهم النقاط التالية:
- الفينومينولوجية ليست قطعا سيكولوجية
- خبرة الوعي الشعورية
- كيفية عطاء الشيء ماهويا
الفينومينولوجية ليس قطعا سيكولوجية
يحاول هوسرل من خلال كتابه»الفلسفة علما دقيقا«؛ أن يقدم فلسفته الفينومينولوجية على أنها علم صارم؛ ينأى عن كل مناهج الفكر الموضوعي القائم داخل نظريات العلوم التجريبية، وذلك بأن المشكل الأساسي بالنسبة لهوسرل لا يكمن فقط داخل هذه العلوم، وإنما أيضا داخل علم النفس التجريبي، الذي يعتمد في دراسته للتجربة النفسية على تطبيق مناهج هذه العلوم الطبيعية. حيث نتج عن هذه المقاربة المنهجية تناقضات معرفية جمة؛ جعلت من علم النفس التجريبي، يرى من خلال دراسته للأحداث النفسية على أنها تنتمي لأحداث فيزيائية خارجية.
وإن هذا النظرة السيكوفيزيائية هي من الإشكالات، التي ينطلق منها هوسرل في تحديد الفينومينولوجية على أنها ليست قطعا سيكولوجية، لأنه، بنظره إذا أردنا أن ننشئ فلسفة بوصفها علما للظاهريات، فإنها بالضرورة يجب أن لا ترتبط هذه الفلسفة بالنزعة السيكولوجية؛ كون أن هذه الأخيرة هي مجرد نزعة ريبية. وفي هذا الشأن يعتبر إدموند هوسرل في كتابه»أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص وللفلسفة الظاهراتية« أن”الفرق بين علاقة علم الظاهريات بعلم النفس يتحدد بصورة أكثر جذرية مما هو عليه في هذه المقارنة مع العلاقة بين علم الهندسة وعلم الطبيعة”1؛ أي أن هذا الأخير، فهو من جهة أخرى علم للظواهر الطبيعية، أما علم الهندسة فيختلف عن العلوم الطبيعية، كونه يستند إلى الأحكام الكلية الخالصة التي نحكم بها على الأشكال الهندسية بشكل عام، وليس بشكل فردي كأن نشير مثلا إلى ماهية المثلث تم إلى كونه موضوعا.
وعليه فإن ما يؤكد الفرق الشاسع بين الفينومينولوجيا والسيكولوجيا؛ هو أن علم النفس يهتم بالأحداث النفسية القائمة على علاقات فردية تحدد داخل البعد السيكوفيزيائي؛ ما يجعل من المعطى النفسي لذوات مختلفة يتعارض فيما بعضه البعض؛ كما يتعارض مع الوقائع الفيزيائية المتغيرة بالأساس؛ أي أنه بنظر هوسرل”إذا تصورنا الإدراكات الحسية موزعة بين ذوات مختلفة-أن يجرب من قبل كثرة من الذوات بوصفه ذا هوية فردية، يمكن أن توصف بأنه نفس الموجود على نحو مشترك بين الذواتintersubjektiv selbiges. إن الحقائق الواقعية(الأشياء، والحوادث. الخ) تقوم أمام أعيننا جميعا، ويمكننا جميعا تحديدها وفقا”لطبيعتها” لكن”طبيعتها” هذه تعني: مثولها في التجربة بمظاهر ذاتية تتغير على أنحاء شتى”2.
وإن هذا يعني أن المعطى السيكوفيزيائي؛ لا يقدم تفسيرا لإدراكات حسية مشتركة بين جميع الذوات، كون أن طبيعة الظواهر الفيزيائية الخارجية هي متغيرة وثابتة، وإن هذا الثبات والتغير تتحكم فيه القوانين السببية. بينما الحياة النفسية هي ذات وجود نفسي يتعارض مع طبيعة الموجود الفيزيائي؛ الذي هو قابل لأن يجرب من حيث إدراك خصائصه (المتغيرة والثابتة) حسيا؛ وبهذا فإن الوجود النفسي ليس قائما على طبيعة فيزيائية، أي لأنه في نظر هوسرل”ليس ثمة تمييز في المجال النفسي بين المظهر والوجود، وإذا كانت الطبيعة موجودا يظهر في المظاهر، فإن هذه المظاهر نفسها(التي يحسبها، عن يقين، عالم النفس مظاهر نفسية) لا تؤلف وجودا يظهر هو نفسه عن طريق مظاهر تقوم وراءه، على نحو ما يتبين في تأمل الإدراك الحسي لأي مظهر من المظاهر”3؛أي أن الوجود النفسي هو ذو طبيعة روحية لا مادية، ما يجعله عير قابل لأن يدرك حسيا، أو يجرب.
ومن هنا نستنتج أن رفض هوسرل لأن تتحدد الفينومينولوجية كسيكولوجية؛ هو أن السيكولوجية في تطبيقها لهذه المناهج تقوم على تفسير المعطى النفسي كنتيجة لوجود عوامل خارجية- طبيعة فيزيائية_ تأثر فيه كبنية نفسية، وبهذه النظرة السيكوفيزيائية فإن علم النفس التجريبي يخلط بين الوقائع والماهية، ما يجعل من علم النفس بقدر حاجته بأن يصبح علما ماهويا، بقدر ما أن الأمر يجعله فقط”مقصورا على المعارف الماهوية ولا يعلم أي وقائع على الإطلاق”4.
وعليه فإن الماهية في علم النفس؛ تحدد في أبعاد تخيلية؛ كوقائع نفسية-روحية لا يمكنها أن تتطابق مع أية وقائع تجريبية. بينما الماهية هي في نظر هوسرل مرتبطة بعلوم المنطق، ولهذا فإن التحديد الذي يعطيه هوسرل للفينومينولوجيا من خلال إبعادها عن علم النفس، يتمثل في أن الظواهر المعطاة ماهويا فهي في المقام الأول ليست وقائع، تنطوي على طبيعة ومظهر كما هي عليه في علوم الطبيعة، لأن الظواهر المعطاة ماهويا فهي معطاة في حدوس أصلية وليست حسية؛ أي حدوس تدل على أن ماهية الظاهرة تتمثل في الظاهرة نفسها لا غير، كما أنها أيضا، ليست مجرد خيالات روحية، بحيث أن المعطى الأصلي كظاهرة فهو يعطى في الخبرة الشعورية للوعي، والتي تتضمن إمكانية عطاء الظواهر في كليتها.
وبهذا الخصوص نستنتج أن أساس أو غاية إبعاد الفينومينولوجية من السيكولوجية؛ فهو بمثابة توجه فينومينولوجي من الواقعة إلى الماهية، وإن هذا التوجه ينبني على تحديد للمفاهيم التي قد يقوم عليها كل علم، كمفهوم (التجربة، الشعور، الماهية…الخ)؛ لأن هذه المفاهيم هي في نظر هوسرل يجب تخليصها من تشكيلات الفكر الطبيعي-الموضوعي؛ أي بوصفها مفاهيم يجب أن تكون خالصة؛ بحيث أنها تتشكل من علم متعالي أو ترنسندنتالي، أو بمعنى أخر، يجب أن تكون الفينومينولوجية علما كليا؛ بوصفه فلسفة ترسنتدنتالية يقوم على منهج خاص به، وهو المنهج الإيبوخي القائم على تعليق الحكم، والذي لا نفهم الظواهر المعطاة ماهويا إلا من خلاله؛ ولكن كيف نحقق معرفتنا بالظواهر بواسطة خبراتنا الشعورية في الوعي؟
خبرة الوعي الشعورية
في السياق الفلسفي التاريخي لمفهوم الماهية، نكتشف أن الاهتمام بمفهوم الماهية كان يقوم على التصور المثالي وليس على التصور الحسي، وذلك بأن الماهية تعني”منطقيا: بالمعنى الإدراكي جملة المحددات التي تحدد موضوعا فكريا-عندئذ يتعارض الجوهر والوجود مثلما يتعارض العقلاني ومعطيات الاختبار، أو عندما يتقابل الممكن والحاضر. ثانيا بالمعنى الإسمي، لا يوجد جوهر، بل يوجد ما أسماه الواقعيون والإدراكيون بهذا الاسم، وهو ليس سوى جملة المزايا المتضمنة في كلمة. مثل الجليد الذي يحفظ جوهره حين يتكدس، ويفقده حين يذوب(لوك)”5.
ومنه فإذا كانت الماهية أو الجوهر ليس موجودا بالنسبة للتجريبيين، فإنها إذن، بالنسبة للمناطقة موجودة من حيث أن وجودها يقوم على أساس عقلي وليس تجريبي، وإذا تمعنا في الأمر سنجد أن الماهية عند هوسرل قائمة أيضا على مسألة الفصل بين الواقع والماهية، بالرغم من أن هوسرل قد يبدو مبدئيا، أنه يتجه إلى التدليل على استحالة الفصل بينهما، إلا أن تقويم المعرفة داخل خبرة الوعي الشعورية؛ يجعله بالأساس ينتقل إلى الماهية كإمكانية لعطاء الظواهر في أصليتها للوعي، لأن الإشكال في نظره هنا، يشير إلى أن التجربة الحسية في تأسيسها الواقعي، فهي تقوم على أفكار مسبقة جاهزة، والتي هذه الأخير لا توصلنا إلى هذا العطاء الماهوي الأصلي للظواهر التي يتم الوصول إليها معرفيا.
وبهذا يرفض هوسرل الأفكار المسبقة في نقده للنتائج العملية المسبقة الذي يتشكل عليها كل علم وضعاني؛ إذ يعتبر أن”الأفكار السابقة تعمي البصيرة، ومن لا يرى إلا وقائع التجربة، ولا يسلم بأية قيمة داخلية إلا للعلم المؤسس على التجربة، لن تقلقه النتائج المحالة التي لا يمكن، تجريبيا، إثبات أنها تناقض وقائع الطبيعة”6. وبالتالي، فإن التجربة الحسية في الفكر الموضوعي-الطبيعي هي في نظر هوسرل؛ ستكون دائما قائمة على أساس الأفكار المسبقة التي تحمل نتائج متناقضة مع ما يمكنه أن يوصلنا إلى تحقيق علم كلي بالظواهر؛ أي لأن”»الفكر الطبيعي« لا شأن له بالمعوقات الخاصة بإمكان المعرفة لا في الحياة ولا في العلم- أما »الفكر الفلسفي«، فيتحدد بموقفه من مشكلات إمكان المعرفة”7.
وإن هذا يوضح أن الفكر الطبيعي لا يوصلنا إلى معرفة كلية بالظاهرة، إذ يظل حاملا لكل المواقف الساذجة التي لدينا عن الأشياء، مما يتطلب هذا الأمر في نظر هوسرل بأن نتخلص من هذه المعارف الساذجة، وذلك عن طريق القيام بـمنهج الرد؛ الذي يبدأ بـ” »الإبوخية« epochéأو »تعليق الحكم على المعتقدات«suspension of beliefsالتي تتعلق بالواقع حينما نكون في حالة الموقف الطبيعي الساذج، أي تعليق الحكم على كل معتقدات الحس المشترك التي تسلم بواقعية العالم الخارجي بما فيه من أشياء وأحداث: إن عالم الموقف الطبيعي هو عالم الواقع الزماني المكاني الذي أجده منتشرا أمامي، وهو عالم خبرتي الساذجة أو نظرتي الأولى التي ترى العالم على النحو الذي يوجد عليه بوصفه قائما هناك، يتجاوزني”8.
وعليه، فإن هذا يؤكد أن العالم الطبيعي الملقى أمامنا يبقى بالضرورة متعلقا بالموقف الساذج، والذي يحجب عنا الحدس الماهوي للظواهر، وأن ممارسة الوعي لهذه الإيبوخية(تعليق الحكم)؛ فهو بهذه الوسيلة يخلصنا من هذا الموقف الساذج، ويوصلنا بالضرورة إلى حدس هذه الكلية الماهوية؛ أي ما يعني أن”الفينومينولوجيا عندما تدعو إلى العودة للأشياء وإلى التحرر من الفروض المسبقة، فإنها تدعو إلى البدء بما يكون معطى لنا في الخبرة المباشرة، وعدم تجاوزه، ولكن بشرط ألا نفهم الخبرة المباشرة هنا على أنها تلك الخبرة الحسية، وألا نفهم المعطى على أنه المحسوس أو تلك الكيفيات الحسية التي يتحدث عنها التجريبيون والظاهريون”9.
يكمن هنا إذن الفرق بين الخبرة الشعورية للوعي والخبرة الحسية؛ عن طريق مفهوم المباشرالذي يشكل مفهوما لصيقا بالخبرتين معا، وذلك بأن التجربة الحسية تٌقدم على أنها تجربة مباشرة للأشياء في العالم الحسي، لكنها تتعلق بالوقائع في نظر هوسرل؛ والتي لا يمكن لهذه الأخيرة، أن تكون شرطا لتحصيل القضايا المعرفية الصحيحة؛ ما يعني أن المعرفة الناتجة عن هذه الوقائع كوجود فردي-عرضي يجعلها لا تبلغ الصحة الماهوية، لأنها مجرد معرفة مسبقة وجاهزة، أي بما أن”علوم التجربة علوم وقائع. وأفعال المعرفة المؤسسة للتجريب تضع الشيء الواقع بوصفه فردا. إنها تضعه موجودا في المكان والزمان بصفته شيئا ما يوجد في موضع زماني مشار إليه وبمدة معينة مشار إليها وبمضمون حقيقي. وهو بمقتضى طبيعته يبقى كذلك في كل موضع زماني كان يمكن أن يوجد فيه”10؛ وإن هذا الترتيب التجريبي المسبق لهذه الوقائع؛ لا يصل إلى ضبطها كونها تتمتع بخصائص فيزيائية متغيرة.
وبهذا الخصوص يأتي هوسرل هنا بمجموعة من الحجج، التي تظهر أن المعطى المباشر يخضع لبناء مسبق في التجربة الحسية، ومن بين هذه الحجج؛ فإذا نظرنا إلى الزعم الذي يأتي به العالِم التجريبي؛ أن علم الماهيات-العلم الحقيقي هو مجرد أشباح ميتافيزيقية، بحيث أنه يرى أن الأحكام العقلية تبقى غريبة عن التجربة؛ في محاولته بناء أحكام تجريبية-مسبقة لأنها بنظره تتضمن وجها من الصحة، وإن هذا بنظر هوسرل يشير إلى أن:”(صاحب) الحجاج التجريبي في كونه يوحد بين الحاجة الضرورية للعودة إلى الأشياء ذاتها وبين الحاجة إلى التأسيس التجريبي لكل معرفة بواسطة التجربة أعني أنه يستبدل حاجة العودة إلى الأشياء بحاجة العلوم التجريبية إلى التأسيس على التجربة، فعنده أن التجربة هي الفعل المعطِي الوحيد للأشياء ذاتها لا غير”11.
وعليه، فإن هذا يعني أن عطاء الأشياء ذاتها عند العالِم التجريبي؛ تتضمن إمكانية تجريبية وليست ماهوية، فلكي يعطى الشيء ذاته في التجربة الحسية المباشرة؛ يجب أن يتضمن ترتيبات تجريبية_كما بينا سابقا_تخضع لأحكام مسبقة، بحيث أن هذا يجعل من نتائج التجريبية التي تنبني عليها نظرية المعرفة؛ تتعارض بالأساس مع الوقائع، والتي هذه الأخير هي متغيرة، وإن كان تباتها وتغيرها يجد تطابقه في هو مشار إليه في الفروض المسبقة، إلا أن هذه الفروض غالبا ما تبرر ضمن هذه الأحكام المسبقة؛ أي أنه إذا اعتبرنا في نظر هوسرل على أن التجربة يجب أن تتحرر من كل الأحكام العقلية، فلأن”العلم الحقيقي وتحرره الحقيقي من الأحكام المسبقة يقتضيان أن تكون الأدلة من حيث قاعدة(البناء العلمي) أحكاما مباشرة صحيحة من حيث هي ما هي أحكاما تستمد صحتها وقيمتها من حدوس معطية أصلية”12.
ومنه فإن الأحكام المسبقة التي تنطوي عليها التجربة هي في الأصل متناقضة مع الوقائع التجريبية، ما يعني أن الأحكام الحقيقية في نظر هوسرل يجب أن تستمد صحتها من حدس ماهوي مباشر للظواهر، والذي لا يجب أن يعتبر من حدس تجريبي؛ بحيث أن”الحدس التجريبي أو الحدس الفردي يمكن أن يحول إلى حدس ماهوي(استمهاء)-وهي إمكانية لا ينبغي أن نفهمها بصفتها إمكانية تجريبية بل هي إمكانية ماهوية. وما ندركه هو إذن الماهية الخالصة أو الصورة المطابقة سواء كانت الجنس الأعلى أو ما خصص منه نزولا إلى التعيين التام”13.
يشير إذن هذا المعنى عند هوسرل، إلى أن الوجود الفردي كظاهرة لا يمكن أن يحول إلى معطى تجريبي، إلا بإمكانية ماهوية، لأن هذا قطعا يدل على أن المعطى الأصلي للوعي لا يدل على هذا الوجود الفردي لأنه وجود عرضي، لأن خلاف هذا يوصلنا غالبا إلى معرفة عرضية كونها تتضمن ما هو (فردي أو جزئي)، وهذا ما يجعل من التجربة الحسية هي متناقضة معرفيا فينظر هوسرل، مع أنها قد تبدو مبدئيا ضرورية كمعطى أولي، إلا أن قيامها على الحدس التجريبي فهو يجعل من هذه المعرفة المحصلة تقوم على المفارقة التي هي مرفوضة من جهة الوعي، لأن هذا الأخير يوجب بأن تكون”المعرفة الحضورية للفكر (cogitatio) محايثة، والمعرفة التي في العلوم الموضوعية، علوم الطبيعة وعلوم الروح ولكن كذلك العلوم الرياضية إذا نظرنا إلى الأمر عن قرب، مفارقة”14.
وعليه فإن المعرفة الخالصة المحصلة في خبرة الوعي ليست معرفة حسية، لأنها لا تتضمن موضوعات معرفية تجريبية، وإنما تتضمن موضوعات متأصلة في الخبرة الشعورية للوعي، وإذا أردنا أن نتحدث عن خبرة شعورية تتعلق بالوعي في نظرية المعرفة، سنقول بأن النقد الفينومينولوجي لنظرية المعرفة الحسية، أنه قائم على كشف التناقض بين نتائج التجربة والوقائع التي تدرسها. بينما في تجربة الوعي، فإن المعرفة التي يتم تحصيلها على نحو محايث؛ فهي تتضمن أحكام مباشرة مستمدة من الحدوس الماهوية، التي تشكل فيها نتائج الخبرة الماهوية تطابقا مع ما تم تحصيله معرفيا على جهة المحايثة، لكن كيف يتم عطاء هذا المعطى الأصلي المباشر للوعي؛ كعملية للانتقال التام من الواقع للماهية؟
كيفية عطاء الشيء ماهويا
يبدو أن السؤال عن ما معنى أن تكون لدينا خبرة مباشرة غير حسية، فإنه يطرح مبدئيا إشكالا على النظر العقلي، الذي أصبح يعرض علينا مسألة التوجه إلى شيء ما، أي أننا ما دمنا اعتدنا مع التجريبية القول بأن المباشر هو ذلك المعطى الحسي، الذي يعطى لنا في واقعنا كمجموعة من الأشياء العينية-الحسية، وبهذا فإننا هنا قد نواجه بعض الصعوبات في فهم هذا المباشر حينما نستدل عليه معرفيا؛ بأنه ذلك الموضوعي المحايث، بكونه معطى أصلي في خبرة الوعي. وبالتالي تبدو هذه المسألة في غاية التعقيد ما دمنا أننا لم نفهم كيفية عطاء الشيء للوعي في ماهية أيدوسية.
بادئ ذي بدء يشير المباشر إذن عند هوسرل إلى ذلك الأمر المحايث؛ كمعطى، ولكن ليس من جهة اعتباره موجودا في الوعي؛ أي كما لو كان ذا وجود مادي معطى بكيفياته الحسية، أو بعبارة أخرى فـ”أول ما نلاحظه هو أن ارتباط الوعي بموضوعه يعني توجه الوعي نحو موضوعه، وليس محايثة الموضوع في الوعي. فعلاقة الوعي بموضوعه لا ينبغي أن تُفهم على غرار العلاقة المكانية؛ فالموضوعات لا تكون في الوعي على نحو ما تكون الأشياء في صندوق ما”15.
و بهذا فإن العطاء الماهوي هو أوثق بالنسبة لهوسرل؛ كوننا نباشر فيه الشيء ذاته في ماهية الأيدوسية خالصة، والذي يشير إلى أن الوعي عندما يتجه إلى موضوعاته، فإن هذا التوجه يعني أنه يتجه نحو صورة الموضوع، وإن هذا التوجه هو ما يعني مباشرتنا للشيء في صورته الماهوية المعروضة على وعينا، ولا يعني مباشرتنا لموضوعات تجريبية خارج الوعي، أي أن”ما هو محايث فعلا يعتبر واثق الوجود من قِبل أنه لا يشهد لغيره، لا »يقصد خارج« نفسه شيئا، لأن ما هو مقصود هاهنا هو كذلك معطى بنفسه وبنحو مطابق تماما. في بادئ الأمر ليس لضرب آخر من الانعطاء بالنفس غير ما هو محايث فعلا أن يدخل أفق النظر”16.
ولكن المحايث قد يشير مبدئيا إلى إشكالية؛ فهم معنى المعطى المباشر لذكرى معينة تتعلق بعلاقة مكانية زمانية؛ فعلى سبيل المثال إن حديثي مع الأخر حول ذكرى معينة يوجب استحضارها في أبعاد علاقات مكانية زمانية، إلا أن هوسرل حينما يتحدث عن كيفية عطاء هذه الموضوعات كالذكرى مثلا، فإنه يوجب بأن يتضمن هذا الاستحضار صورة الماهوية؛ بحيث أن هذا يضمن بأن يكون الموضوع المستحضر كذكرى في معطى واحد(تحث ماهوية أيدوسية) لي أنا وللأخر.
وعليه فإن العطاء الظواهري لي أنا والأخر، فهو يتشكل من طبيعة استحضار الوعي لموضوع ما؛ تحث عملية استبصارية-مباشرة؛ حيث يعتبر هوسرل أن: هذا”»الإبصار« المباشر(ولا أعني) مجرد الإبصار الحسي أو الإبصار التجريبي بل الإبصار عامة من حيث هو وعي معط أصلي الإبصار هو بمقتضى نوعه المصدر الأخير لشرعية كل الأحكام العقلية. وهو لا يحوز على وظيفة إضفاء الشرعية إلا لأنه معط إعطاء أصليا وبقدر ما هو كذلك”17.
وعليه فإن الإبصار كأسلوب لمباشرة الوعي موضوعاته؛ فإن المعطى يكون مباشرا مستحضرا بشكل فوري في هذه العملية الاستبصارية، فكما يتم أثناء حواري مع الأخر باستحضار الموضوع (كذكرى مثلا)، حيث يتم هذا بشكل فوري ولا يستند لترتيبات مسبقة؛ وكما حددنا سابقا أن التجربة الحسية تجرب الشيء وتمنحه عطاءه في طبيعة معينة ضمن ترتيبات تجريبية، وبالتالي فإن الوعي إذا كان مقوما لموضوعاته من خلال الرد الماهوي، فهو بهذا لا يتدخل في أصليتها الماهوية، إلا من جهة اعتبارها؛ أنها بحاجة لأن تظهر في أصليتها المستخلصة من الصورة الماهوية، التي لا يشوبها النقص الذي يسكن ما هو عرضي، أي ما يٌعتبر بأن”الرد الماهوي هو ذلك الإجراء الذي فيه ننتقل من واقعة الوجود إلى الماهية، بهدف الوصول إلى الطابع المميز للظاهرة المعطاة لنا بعد تنقيتها مما هو فردي وعرضي”18.
وعليه فإن هذا يؤكد إذن على أن عطاء الأشياء ماهويا يكون منعكسا في صورة ماهوية، عكس ما تتميز به الأشياء الخارجية الممتدة، والتي تظهر في كل مرة متغيرة بشكل عرضي في أبعادها الشكلية، فالامتداد يطال الأبعاد المكانية(تموضع الأشياء)، كما الأبعاد الزمانية. وبالتالي فماهية الأشياء الحسية هي ماهية غير ثابتة، أي ما يعني أن تحويلها إلى ماهوية كلية يتطلب فصلها عن كل وقائعها المتغيرة؛ بحيث يعني هذا أن”قضية »كل الأشياء المادية ممتدة«، فإن لها الصحة الاستمهائية. ويمكن أن نفهمها فهما استمهائيا في حدود عزل موضوع القضية عن وضعه موجودا عزلا تاما. وتعني هذه القضية ما هو خالص في ماهية الشيء المادي وما له أساس في ماهية الامتداد وما»يمكننا أن نجعله مفهوما بصفته عندنا ذا صحة استمهائية غير مشروطة(بوضعه موجودا)”19
وإن هذه الصحة الاستمهائية تتضمن أن منظورية الشيء المعروضة على الوعي، فهي تحيل إلى أن الاستمهاء يؤدي إلى عرض هذا التغير في تقوم ذاتي، أي من جهة التوجه القصدي للموضوعات الماهوية، فهو يعرض الامتداد في منظورية الأشياء بصورة مخالفة لكل منظورية فيزيائية متغيرة من جهة الكيف والنوع، ما يعني أن”الامتداد بصفته فرق الشيء الأساسي، يتقوم أيضا بصفته خاصية ماهوية أو صفة أيدوسية. فهو التعبير الأيدوسي عن تواجد الوجود المادي أو الفيزيائي، ولذلك فإن تلك الصفة تفهم على أنها إمكانية مثالية تقترح مدخلا لفهم تقوم شيئية الوجود المادي”20.
وعليه؛ فإن هذه الصحة الاستمهائية التي يعرضها هوسرل، فهي توصلنا إلى فهم القيمة الموضوعية لنظرية المعرفة في دراستها للشيء ذاته كظاهرة معطاة في صورة خالصة، بحيث أن هذه القيمة الموضوعية المضافة، فهي تعرض الامتداد في ماهية أيدوسية، والتي يتشكل من خلالها فهم ومعرفة امتداد الوجود المادي، الذي ندرك من خلاله الفرق بينه وبين ما هو ماهوي خالص(كفرق بين المحايث والمفارق)، وذلك بأنه عن طريق الرد الماهوي؛ فإنه يتم إدراك هذا الوجود الحسي على أنه مختلف عن الخبرة الوعي الشعورية، بحيث يعتبر”هذا الرد هو مدخل تلك الأنطولوجيا بما أنه يكشف عن البعد المحدد للوجود. فهو ينقلنا من علاقة خارجية بين موجودين أحدهما ذات والأخر موضوع، إلى تأويل الوعي بصفته وجود الموجود، فهو وجود يكون به كل الموجود وتكون به الموجودات كلها. ولذلك فهو بنية تلك الموجودات، من حيث هو يضمن بداهتها وعطاء معناها المطلق”21.
وعليه فإنه بقدر ما يحمل الوعي معنى عطاء الموضوعات، بقدر ما أنه كقيمة موضوعية؛ سيصبح أوثق من الوجود الحسي عند هوسرل، بحيث أننا ننتهي إلى أن عطاء هذه الأشياء ذاتها داخل هذا الوعي كتيار-وجود، فهو عطاء أصلي ثابت لها، بحيث لا يطالها التغير الذي يلحق الأشياء التي في الخارج، فعلى سبيل المثال، نجد أن”الشجرة التي أدركها-قد يطرأ عليها تغيير، فالشجرة قد تفقد أزهارها وتتغير ألوانها وظلالها بفعل الشمس والسحب، بل قد تدمرها النار، ومع ذلك تبقى الشجرة التي تمثلت لوعيي على حالها !ومعنى ذلك أن الموضوعات القصدية لا تتأثر بالتغيرات التي تطرأ على نظائرها في العالم الواقعي، فهي تتأثر فقط بما يطرأ على أفعال الوعي أو القصد من تغيير أو تعديل، أي بما يحدث داخل تيار الوعي ذاته”21.
وهنا نفهم أن الوعي كتيار تتأصل من خلاله الموضوعات ضمن خبراته الشعورية، فهو وجود توجد به هذه الموضوعات الثابتة، بحيث أن تيار الوعي يؤصل ماهية الشيء ذاته، في وضع يجعله لا يتأثر بما هو خارج الوعي؛ أي الخارج الذي يطاله التغيير ويدمر أصالته الطبيعية(كالمتغيرات التي تطرأ على الشجرة مثلا). وبهذا فإن الوعي في هذا التأصيل الماهوي للأشياء فهو يحمل بصمة الوجود الحسي على نحو استمهائي، التي لا تتغير حتى وإن اتصل هذا الوعي بشكل مباشر مع هذا الوجود الحسي؛ فإنه يعبر عن خبراته الشعورية المنفصلة انفصالا تاما عن كل ما هو حسي.
نستنتج هنا إذن أن استبعاد الوجود الحسي عن كل تقَوم معرفي للموضوعات داخل تيار الوعي، فهو لا يعني نفيه بصورة كلية كما تفعل الديكارتية، أي أنه إذا كان”الرد الفنومنولوجي يستبعد كل تعال أي كل واقعية تتعالى عن الوعي. فكل ما يوجد وكل ما يمكن أن يوجد إنما تنكشف دوما في تجربة الوعي أو في بناه القصدية الترنسندنتالية”23، وبهذا فإن العالم يبقى فرضية أمام الوعي، لكن هذا الأخير لا يمكن أن يفندها، بل يثبتها من خلال اعتبار أن الذات هي سابقة عن العالم، وأن المعرفة المؤسسة عن العالم هي الأوثق، لأنها تقوم على عرض العالم في كيفية عطاء الشيء ذاته في ماهوية خالصة.
خاتمة
ختاما، يمكن القول أن بلوغ فكرة الشيء ذاته في نظرية المعرفة عند هوسرل؛ تضمنت غاية تأسيس الفينومينولوجية؛ التي ليست بوصفها سيكولوجية ولا بوصفها علما طبيعيا، وإنما بوصفها علما صارما يتأسس على بنى نظرية معرفية تتجاوز أهم الإشكالات المعرفية، التي تتحدد في تشييئ الشعور كما لو كان جزءا من كل خبرة حسية، ما تضمن ضرورة الكشف عن الفرق بين مفهوم الخبرة الشعورية للوعي والخبرة الحسية؛ التي هذه الأخير ليست قطعا خبرة شعورية، بحيث أن هذا الفرق يشير إلى أن أساس نظرية المعرفة هو قائم على خبرة الوعي الخالصة، والتي نصل فيها إلى كلية الظواهر التي تتقوم بفعلية استمهائية كلية.
وبهذا فإن الشيء كظاهرة فإنه داخل نظرية المعرفة عند هوسرل، يتأسس على معنى عطاءه في صورة ماهوية للوعي، والتي نفهم فيها هذا العطاء الكلي على أنه يختلف عن كل صورة حسية متغيرة؛ كصورة للامتداد، لكن هذا الأخير، يبقى فهمه مطلبا أساسيا ضمن العملية المعرفية، التي تقوم عليها نظرية المعرفة للشيء ذاته، بحيث أن هذا يؤدي إلى إدراك الفرق بين المعطى الحسي والمعطى الماهوي، والذي نصل من خلاله إلى الماهية الكلية التي تشكل طبيعة المعطى الكلي للظواهر الخالصة.
وعليه، فإننا نستنتج من خلال هذه الدراسة أن هوسرل استطاع من خلال بناءه لفلسفة فينومينولوجية؛ أن يضع نظرية المعرفة في أفق ترنسندنتالي، استطاعت من خلاله الفلسفة بوجه عام مراجعة نظرياتها المعرفية؛ وذلك بأنه، حتى وإن كانت الفينومينولوجية فيما بعد، ستواجه بعض الانتقادات؛ كونها سقطت في مثالية ديكارت، إلا أنها استطاعت أن تفتح أفق النقاش والتفكير الفلسفي في صياغة المفاهيم من جديد، وبهذا فإن الفينومينولوجية كانت السباقة في التفكير في هذا الاتجاه؛ بحيث أنها قامت بجعل المفاهيم الفلسفية ذات قدرة على التفاعل مع تيار الوعي؛ كحركة شعورية، والتي هذه الأخير حملت في الأساس روح الخبرة الفينومينولوجية؛ كخبرة عملت على تجاوز مناهج ونظريات العلوم الطبيعية؛ كونها تقوم على نظرة ساذجة في تناول الأشياء والعالم. وبهذا فإن حركية الوعي الشعورية في نظرية المعرفة عند هوسرل لا تصبح فعلية بدون قصدية الفعل؛ التي تقوم على توجيه الوعي باستمرار نحو الشيء ذاته، بوصفه الشعار الأساسي لتحقيق الفينومينولوجية نظرتها المعرفية بالأشياء ذاتها.
الهوامش
1 -هسرل إدموند، أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص وللفلسفة الظاهراتية، تر: أبو يعقوب المرزوقي، جداول، لبنان، ط1، 2011، ص21.
2- هسرل إدموند، الفلسفة علما دقيقا، تر: محمود رجب، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2002، ص56.
3-المصدر نفسه، ص58-59.
4- هسرل إدموند، أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص وللفلسفة الظاهراتية، المصدر السابق، ص22، 23.
5– أندريه لالند، موسوعة لالاند الفلسفية، تر: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، باريس، ط2، 2001، ص366.
6-هسرل إدموند، الفلسفة علما دقيقا، المصدر السابق، ص33.
7-هسرل إدموند، فكرة الفينومينولوجيا، تر: فتحي إنقزو، توزيع مركز الدراسات الوحدة العربية، بيروت، أغسطس، ط1 2007، ص31.
8-توفيق سعيد، الخبرة الجمالية-دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، لبنان، ط1، 1412هـ-1992مـ، ص35.
9-المرجع نفسه، ص25.
10-هسرل إدموند، أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص وللفلسفة الظاهراتية، المصدر السابق، ص30.
11– المصدر نفسه، ص61.
12-المصدر نفسه، ص62.
13-المصدر نفسه، ص32.
14-هسرل إدموند، فكرة الفينومينولوجيا، المصدر السابق، ص33.
15– توفيق سعيد، الخبرة الجمالية-دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية، المرجع السابق، ص31.
16 -هسرل إدموند، فكرة الفينومينولوجيا، المصدر السابق، ص34.
17– هسرل إدموند، أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص وللفلسفة الظاهراتية، المصدر السابق، ص62.
18-توفيق سعيد، الخبرة الجمالية-دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية، المرجع السابق، ص36.
19– هسرل إدموند، فكرة الفينومينولوجيا، المصدر السابق، ص39.
20– الزراعي محمد محسن، مدخل إلى الفينومينولوجيا هوسرل والمسألة المثالية، الجزء الأول، ط1، 2005، ص193.
21-المرجع نفسه، ص188.
22– توفيق سعيد، الخبرة الجمالية-دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية، المرجع السابق، ص33.
23– الزراعي محمد محسن، مدخل إلى الفينومينولوجيا هوسرل والمسألة المثالية، المرجع السابق، ص167.