سياقات تشكل السياسي في المغرب من القبيلة إلى الحزب وسؤال التنمية المحلية

جلدي سعد1

1 مختبر: التراب والبيئة والتنمية / مسلك علم الاجتماع تكوين الدكتوراه: اعداد المجال والتنمية الترابية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية ابن طفيل القنيطرة، المغرب.
البريد الإلكتروني: saad.jaldi@uit.ac.ma
الأستاذ المشرف: مبارك الطايعي
HNSJ, 2024, 5(2); https://doi.org/10.53796/hnsj52/26
تنزيل الملف
تاريخ النشر: 01/02/2024م تاريخ القبول: 21/01/2024م

المستخلص

تعتبر التنظيمات السياسية أساس تدبير الشأن العام في المجتمعات الحديثة، بالأخص في المجتمعات التي تنشط في إطار تعددية حزبية، لذلك فإنه من المهام الملقاة على عاتق هذه التنظيمات السياسية هو التفكير في إعداد نموذج تنموي يستجيب لمتطلبات المواطن في التمتع بحقوقه كاملة غير منقوصة ودون تجزيئ، لأن تدبير الشأن العام في آخر المطاف، هو فن تدبير قضايا المواطنين وتحسين مستوى عيشهم. كذلك يسلط المقال الضوء على الحقبة ما قبل الكولونيالية، وكيف أن المجتمع المغربي كان يدبر شؤونه السياسية بالاعتماد على التنظيمات التقليدية التي كانت، في إطار سياقها الثقافي والاجتماعي، تساهم في خلق تنمية محلية وتدبيرها للتراب. كذلك يعالج المقال الأسباب التي تحد من فاعلية التنظيمات السياسية في المغرب ومدى تأثيرها على التنمية في بعدها المحلي.

الكلمات المفتاحية: الحزب، الدولة، التشاركية، الحكامة، التنمية المحلية، التنظيمات السياسية

Research title

Contexts of political formation in Morocco from tribe to party and the question of local development

SAAD JALDI1

1 Laboratory: Soil, Environment and Development / Sociology Course Doctoral Formation: Preparation for the field and territorial development, Faculty of Humanities and Social Sciences Ibn Tofail Kenitra, Morocco. Email: saad.jaldi@uit.ac.ma

Supervising Professor: Mubarak Al-Taie

HNSJ, 2024, 5(2); https://doi.org/10.53796/hnsj52/26

Published at 01/02/2024 Accepted at 21/01/2024

Abstract

Political organizations are considered the basis for managing public affairs in modern societies, especially in societies that operate within the framework of party pluralism. Therefore, one of the tasks entrusted to this political organization is to think about preparing a development model that responds to the requirements of the citizen and his right to enjoy his rights in full, undiminished and without division. Because managing public affairs, in the end, is the art of managing citizens’ issues and improving their standard of living, The article also sheds light on the pre-colonial era, and how Moroccan society managed its political affairs. By relying on traditional organizations, all of which are contributions aimed at creating local development and land management. The article also addresses the reasons that limit the effectiveness of political organizations in Morocco, and the extent of their impact on development in its local dimension.

Key Words: party, state, participatory, governance, development

مقدمة:

هذا المقال يهدف إلى الكشف عن التجربة الحزبية المغربية منذ تأسيسها الأول في نظام الحماية مرورا بتجربة حكومة التناوب وصولا إلى تجربة حزب العدالة والتنمية، كذلك نبتغي من وراء المقال التطرق للأدبيات النظرية لمفهوم التنمية المحلية مستحضرين الجذور التاريخية والاجتماعية للتدبير المحلي بالمغرب وذلك من خلال بحث سوسيوأنتربولوجي في المؤسسات التقليدية وخصوصا القبيلة، وفي مبحث أخير سنبسط من خلاله تجربة حزب العدالة والتنمية في تدبير الشأن السياسي ما بعد ما يعرف بالربيع العربي.

المحور الأول: جذور التدبير المحلي في المغرب

إن الحديث عن الجذور الاجتماعية والثقافية للتدبير المحلي بالمغرب، لا ينفك عن ارتباطه بالمؤسسات التقليدية التي أطرت النسق السياسي العام للمجتمع المغربي، فالتدبير المحلي له جذوره الممتدة في المغرب قبل مجيء الاستعمار، ولعل استحضار مؤسسة القبيلة وما قامت به من أدوار على مستوى تدبير الشأن المحلي بالمغرب يؤكد أن المجتمعات التقليدية هي مجتمعات مارست السياسة، ومن المدافعين عن هذا الطرح أفانز بريتشارد، وإرنست كيلنر وآخرون من الانثربولوجيين الذين فندوا أطروحة أن المجتمعات الافريقية عموما هي مجتمعات بلادولة وأنها لم تمارس السياسة إلا مع دخول الاستعمار وفقا للترسيمة التطورية، ونخص فيها بالذكر لويس هنري مورغان الأمريكي وهنري مين البريطاني القائلين بتطور المجتمعات من البسيط إلى المعقد وفق خط تطوري ينطلق من التوحش والبربرية إلى الحضارة.

مبحث أول: التنظيمات السوسيو-سياسية للقبيلة لدى روبير مونتان

انطلقت مقاربة روبير مونتان للقبيلة على المستوى السياسي “من بنية الأصل: وضع جمهوري، ثم اعقبه زمن استبداد الأمغارات، تلاه تدخل المخزن، ثم في نهاية المطاف هيمنة السيبة، وهو تطور أدى إلى إفراغ البنية الأصلية من حمولتها الجمهورية إلى حد الاختفاء النهائي تحت وطأة التدخل العنيف للأمغارات والمخزن “[1].

وفي هذا جرد واضح لمسار تشكل السياسي في الحقل المغربي وتطور البنيات السوسيو-سياسية من الناحية التاريخية. وجدير بالإشارة أن روبير مونتان أول من قارب القبيلة من منظور ميكروسوسيولوجي متجاوزا التقسيمات الإدارية التي فرضها المخزن بحيث توصل “إلى وجود نظام قبلي طبيعي خالص استفاد في نشأته من المعطيات الجغرافية، فأخد له مواقع قارة وصلبة في أماكن للالتقاء والتواصل بين القيادات الكبرى كما هو الحال عند، اداوتنان، وظل كامنا لا يظهر إلا في فترات السيبة”[2].

وعليه أعتبر روبير مونتان، أن الخلية الأصلية، التي يحق لنا أخذها على أنها تشكل فضاء سياسيا حقيقيا، هي الفخذة، وتتكون من عشرين إلى ثلاثين كانونا، وبدورها تنقسم إلى دوار أو عظم، وكل ذلك يتأطر داخل القبيلة، والتي بدورها يمكن أن تشكل حلفا أو كونفدرالية تضم مجموعات قبائل متحدة كما هو الشأن بالنسبة لقبائل آيت عطا بجنوب المغرب، وبناء عليه فان أصغر وحدة اجتماعية داخل نظام القبيلة، يحق لنا وصفها ب ” النواة الحقيقية السياسية للبربر المستقرين”[3].

من جهة أخرى يعتبر مونتان “الجماعة ” الدوار أو القرية هي أصغر وحدة اجتماعية لها قائدها قد يكون من الصلحاء أومن الأعيان أو شخص كبير السن يبث في النزاعات، ورغم تجلي الطابع الديمقراطي في التسيير فانه يأخذ أبعادا اجتماعية وليست لها سلطة سياسية، فالتنظيم الذي تتحقق فيه الشروط السياسية، بالنسبة لمونتان، هو ذاك الفضاء الذي يضم أكثر من جماعة وأكثر من زعيم، بحيث يتحقق شرط صراع الجماعات والزعماء[4].

ومع ذلك يمكننا أن نسجل أن تفسير مونتان لتنظيم القبيلة، لا يمكن تعميمه على كل القبائل لأن المجال الذي أعتمده روبير مونتان لإنجاز أطروحته “المخزن والبربر” اقتصرت على الريف وسوس والأطلس الكبير وهي مجالات يغلب عليها الطابع الجبلي والتضاريس الوعرة. وهذا ما نبه اليه الباحث الأنثروبولوجي عمر إبوركي عندما أستحضر قبائل الرحامنة، ذاهبا إلى أننا “نجد طبيعة المكان التي تتواجد فيه عبارة عن أرض منبسطة، جرداء مفتوحة، وليست منطقة جبلية مغلقة، ثم أن الاستقرار داخل هذا المجال لم يكن نهائيا إلا في القرن الماضي، لأن أهم العشائر عاشت على الترحال مدة من الزمن قبل أن تتم عملية تجميع أجزاء مختلفة في زمان ومكان محددين “[5].

رغم الانتقادات الموجهة لروبير مونتان[6]، إلا أنه استطاع التأكيد على حقيقة مفادها أن المجتمعات التقليدية بالرغم من غياب مؤسسات بالمفهوم الحديث، وبالرغم من نعت هذه المجتمعات بمجتمعات اللادولة والمجتمعات اللاسياسية باعتبارها مجتمعات لم ترق بعد للحضارة من المنظور التطوري المنغمس في الاتنومركزية المفرطة، استطاع روبيرمونتان وأرنست كيلنر وجورج بلندييه التأكيد على أنها مجتمعات مارست السياسة بطريقتها ورسمت ملامح التنظيمات السياسية، التي كانت موجودة في مرحلة ما قبل حقبة الاستعمار الفرنسي.

مبحث ثاني: التجربة الحزبية في مغرب الحماية

الحديث عن التجربة الحزبية المغربية مقرون بظرف استعماري من قبل الفرنسيين امتد لأزيد من أربعة عقود وبالضبط من سنة 1912 تاريخ توقيع عقد الحماية إلى سنة 1956 تاريخ حصول المغرب على الاستقلال. وبدون شك أن الظروف التي أحاطت بالتجربة الحزبية المغربية كما سنوضح، ستنعكس على التوجهات العامة والادوار التي ستضطلع بها التجربة السياسية المغربية الفتية، وتنقسم هذه التجربة الى مرحلتين من 1934 الى 1937[7].

  • مرحلة أولى

تجدر الاشارة إلى أنه قبل الاستعمار الأوروبي للمغرب في أواسط القرن 19، كان المشرق العربي يعرف نهضة ثقافية وفكرية وسياسية، مرتكزاتها الرجوع إلى الينابيع الأولى للعقيدة الإسلامية والتراث الفكري الإسلامي، بالإضافة إلى فتح باب الاجتهاد في الفقه الإسلامي بغرض التجديد، من رواد النهضة نستحضر الطهطاوي وجمال الدين الافغاني وعبد الرحمان الكواكبي ومحمد عبده….، هذه التحولات الفكرية والسياسية التي بدأ يعرفها المشرق العربي، بلغ صداها إلى المغرب الأقصى عن طريق الصحف والمجلات والبعثات التي أرسلت من هناك، بالإضافة إلى دنو الخطر النصراني، هذه المؤثرات في النسق الفكري المغربي التقليدي حسب عبد الله العروي، ظلت “جاثمة على الأنفس مند سنة 1930”[8].

يسجل علال الفاسي في كتابه “الحركات الاستقلالية في المغرب” أن “هذا كله لم يكن له من الأثر ما أحدثه رجوع المصلح الكبير أبي شعيب الدكالي، فقد عاد وكله رغبة في الدعوة لهذه العقيدة، والعمل على نشرها وألتف حوله جماعة من الشباب النابغ يوزعون الكتب التي يطبعها السلفيون بمصر، ويطوفون معه لقطع الاشجار المتبرك بها والاحجار المعتقد فيها”[9] في اشارة الى مناهضة السلفية والأفكار النهضوية القادمة من المشرق للزوايا، لأنها معقل نشر الخرافة والجهل، على حد وصفهم.

والجدير بالذكر أن نفوذ الزوايا حتى حدود سنة 1924، كان يبلغ إلى درجة أن ” كل مغربي كان ينتمي تقريبا إلى طريقة معينة “[10].

غير أنه مع بداية تقهقر وتراجع الثورة المسلحة في الريف المغربي، بدأت تظهر الملامح الأولى لتشكل تنظيمات حزبية سياسية بالمفهوم الحديث، ومن تم بداية أفول نفوذ الزوايا في تأطير المجتمع المغربي، بعد أن تغيرت وجهة الوطنيين المغاربة من العمل المسلح إلى العمل السلمي في مقاومة الاستعمار، إلا أن النقطة التي أفاضت الكاس، وساهمت في تقارب وجهات النظر الفكرية بين كل الفرقاء في المشهد السياسي المغربي هي بروز ما يسمى بالظهير البربري سنة 1930[11].

  • أصل التجربة الحزبية المغربية

قلنا في المبحث السالف أن تشكل الحزبي في المغرب بمفهومه الحديث كان منطلقه الحداثة. والحقيقة أن فرنسا جازفت في خطوة غير محسوبة العواقب عندما استفزت شعور المغاربة خصوصا في قضايا تخص تمثلاتهم حول المقدس، الدين الإسلامي، وهو ما شكل حافزا قويا لانصهار عدد من القوى الاجتماعية رغم اختلافاتها الفكرية والايديولوجية في تنظيم سياسي واحد ليقول صراحة للمستعمر ضرورة إسقاط الظهير البربري بداية، ثم بعد ذلك أضحى لها طموح متزايد من خلال بحثها الحثيث عن برامج سياسية أخرى للعمل، مما أفضى في النهاية إلى خلق أول حزب مغربي ساهمت في تأسيسه عوامل عدة، منها التقارب مع الأحزاب الفرنسية وخصوصا اليسارية منها. ولعل البدايات الأولى لهذا التقارب ساهمت في بلورة وهيكلة أول حزب سياسي مغربي تحت اسم “كتلة العمل الوطني” في سنة 1934 نذكر من أهم عواملها:

  • دروس شكيب أرسلان وتأثر النخب المغربية بكتاباته ذات الطابع السياسي المناهض للاستعمار والداعي إلى التحرر والنهضة.
  • الالتفاف حول هيئة جريدة عمل الشعب كمنبر يعبر عن مواقف النخب السياسية المغربية في هذه الحقبة.
  • تأسيس منظمات غير سياسية من قبيل جمعيات للطلبة والجمعيات الكشفية.

والجدير بالإشارة أن الأعضاء المؤسسين لهذا التكتل السياسي الجنيني تعرضوا للاعتقال والنفي والاقامات الجبرية، فعلى إثر تصاعد الاحتجاجات بالمملكة قامت فرنسا باعتقال زعماء الحركة الوطنية علال الفاسي، عمر عبد الجليل، أحمد مكوار في 25 أكتوبر 1937، وبعدها بخمسة أيام أعتقل الوزاني، إلى جانب الكثير من الوطنيين، وبهذه الاجراءات تكون سلطات الحماية أجهضت تجربة تشكل أول تنظيم حزبي سياسي بالمغرب.

أما الطور الثاني من زمن التجربة الحزبية المغربية فقد ارتبط بمؤتمر أنفا 1942، وتداعيات الحرب العالمية الثانية، إذ أن تجربة بزوغ تنظيمات سياسية حزبية انبعثت من جديد، عقب رفع الحظر عنها، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ الأحزاب السياسية المغربية وكانت الانطلاقة مع حزب الاستقلال، فيما أسس بلحسن الوزاني حزب الشورى والاستقلال وكان مطلب الحزبين إلغاء معاهدة الحماية وتشكيل حكومة مغربية وإقرار نظام ملكي دستوري، كما شهدت الفترة نفسها مغربة الحزب الشيوعي، في يوليوز 1943 وترأسه ” علي يعتة”. ” وهو ما تأكد من خلال تخلي المناضلين الأوروبيين عن مناصبهم لمناضلين مغاربة “[12].

يمكن تلخيص هذه الحقبة التي تشكلت فيها التنظيمات السياسية المغربية في حقبة الحماية في مرحلتين:

المرحلة الأولى:

الضغط من أجل تحقيق المطالب التنموية سمتها الكتلة الوطنية المطالبة بالإصلاحات وخصوصا في شقيها السياسي والاقتصادي.

المرحلة الثانية:

تم رفع سقف المطالب وتمثل في المطالبة بالاستقلال ودعم السلطان محمد الخامس.

المحور الثاني: رهان التنمية في التجربة الحزبية في المغرب من 1956 – 2017

في ظل حصول المغرب على الاستقلال، لا مناص أن يكون الرهان الأساس للأحزاب السياسية هو خلق تنمية في ربوع الوطن، إلا أنه تجدر الاشارة أن هذا الدور كان عصيا على كل التنظيمات الحزبية السياسية، خارج الإطار الذي رسمته القوى العظمى، لا على المستوى السياسي أو الاقتصادي. والذي يهمنا في هذا المحور هو تسليط الضوء حول كيفية اشتغال المكونات السياسية في البلد بما فيها الفاعل الرسمي، أي الدولة.

المبحث الأول: الأحزاب السياسية ومساهمتها في بلورة برامج التنمية

إن المناخ السياسي والاقتصادي المتوتر بين الاقطاب الدولية عقب الحرب العالمية الثانية، تحت غطاء الاختلاف في الرؤى إزاء طبيعة النموذج الاقتصادي والسياسي في ظل ثنائية الاشتراكية والرأسمالية، أدخل المجتمع المغربي في دوامة من التجاذبات والأخذ والرد حول من يتمكن من الاستحواذ على مراكز القرار. ولا زالت تداعيات هذا الصراع أثارها النفسية والتنموية تلقي بظلالها إلى الأن، حسب تصريح أحد قادة المعارضة في حقبة حكومة التناوب 1998-2002 عبد الرحمان اليوسفي، بحيث كان لأحزاب الحركة الوطنية واليسار تصور لحلحلة المشاكل ونموذج تنموي للخروج من بوثقة التخلف، بينما رأى الفاعل الرسمي بمعية الأحزاب السياسية التابعة له كالحركة الشعبية، والأحرار المستقلين بقيادة رضا أكديرة… الانتصار للنموذج الرأسمالي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.

1-1 الطرف الأول: أقطاب أحزاب الحركة الوطنية

يتمثل تصور الطرف الأول في الاعتماد على تصنيع البلاد وإعادة هيكلة المجال الزراعي بواسطة الاصلاح العقاري وتحديث الفلاحين[13]. وتأمين وتوسيع مجال القطاع العام، وهو ما تجلى بوضوح في المخطط الخماسي 1959-1960 الذي وضعته حكومة الحركة الوطنية بقيادة عبد الله إبراهيم التي لم تعمر طويلا، فالقصر في هذه الفترة كان فتيا والحركة الوطنية كانت متجذرة في المشهد السياسي العام في المغرب، فالفاعل الرسمي كان مضطرا في السنوات الأولى من الاستقلال لتقاسم السلطة مع أحزاب الحركة الوطنية وخصوصا الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وبعدها بقليل من السنوات وخصوصا في منتصف الستينيات من القرن الماضي تم فرض حالة الاستثناء وتم حل البرلمان وحظر العمل السياسي والزج بمناضلي الأحزاب الوطنية في السجون، هذه الفترة بالذات حتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي عرف المغرب حراكا سياسيا خطيرا أدى إلى بروز تيارات سرية متشبعة بالأفكار الشيوعية نذكر من بينها منظمة “إلى الأمام”، “لنخدم الشعب”، “حركة 23 مارس” …أعضاء هذه التنظيمات تعرضوا للمحكمات والنفي والاغتراب.

إذن في خضم هذا الصراع بين الطرفين الرئيسيين المشكلين للمشهد السياسي المغربي، الأحزاب الوطنية من جهة والدولة والأحزاب المصطنعة التابعة لها من جهة أخرى. انتهى بهما المطاف إلى ما وصفه محمد الناصري “بالضربة القاصمة للمشروع الاشتراكي بذهاب حكومة أحزاب الحركة الوطنية التي قادها عبد الله إبراهيم، المدافعة عن تدخل قوي للدولة حتى تتمكن من أحداث القطيعة الضرورية مع محيط استعماري ما فتىء يحد من استقلالية قرار السلطات العمومية “[14]. وبعد سقوط حكومة عبد الله إبراهيم ومخططها الخماسي استبد الفاعل الرسمي والأحزاب الموالية له بالمشهد السياسي والاقتصادي بالبلد، وفيما يلي جملة من البرامج التنموية المعتمدة من قبل الفاعل الرسمي إلى حدود ما سمي بالتقويم الهيكلي أو سياسة التقشف التي اعتمدها المغرب في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي:

برنامج الانعاش الوطني

ينص على ضرورة إشراك رجال الأعمال في تدبير أموال الدولة وتسيير هياكلها وتنميتها … وركز فيه على ضرورة محاربة البطالة وانعاش الشغل كأساس لأي مشروع تنموي، فطرح برنامج الانعاش الوطني لمحاربة البطالة تحت وصاية وزارة الداخلية “[15]. إلا أن تبعات هذا النموذج كانت وخيمة على فئات المجتمع المغربي الأكثر هشاشة.

  • المخطط الثلاثي

تكريسا للسياسة الليبرالية التي نهجتها الدولة كخيار تنموي، طرحت الدولة “المخطط الثلاثي “بين 1965-1968 ركز الأخير على الفلاحة والسياحة ونادى المخطط بالحد من صلاحيات الدولة التدبيرية وفتح المجال للقطاع الخاص هذه المخططات من تداعياتها المباشرة تعميق الهوة بين فئات المجتمع المغربي وارتفاع منسوب الفقر والهشاشة، زد على ذلك الاحتقان السياسي الحاد المترتب عن حالة الاستثناء التي فرضتها الدولة فرضا على المكونات السياسية المتجذرة، وهو ما توج بمحاولتي انقلاب عسكري 1971و1972 باءت بالفشل المحاولة الأولى قادها الجنرال المدبوح ومحمد أعبابوا والثانية الجنرال أوفقير في هذا الصدد يقول رضا أكديرة أحد المتنفذين الكبار في المشهد السياسي الرسمي” لو وجدت بعض الفضائح فقط في المناصب العليا، حتى وإن كانت عادلة، لهان الأمر، يكفي إجراء بعض الدعاوي المدوية ويستتب النظام، لكن الأمر خطير في الفساد، إنه مثل الغنغرينا ينتشر إلى حد يغدو فيه منهجا بل إنه المنهج “[16].

  • التقويم الهيكلي

بدأ صندوق النقد الدولي انطلاقا من يوليوز 1980، يتدخل بشكل مباشر في الاقتصاد المغربي، وذلك بالتزامن مع الفترة الرئاسية ل “رونالد ويلسون ريغان “1981/1989,الذي سعى إلى تجسيد النزعة الماكرو-اقتصادية تفاديا لتراجع الهيمنة الأمريكية من جهة، وايقاف ارتفاع التضخم المالي العالمي، الذي أدى إلى كساد الاقتصاد العالمي من جهة أخرى. وكان من تداعيات سياسة التقويم الهيكلي المباشرة أحداث الدار البيضاء 1981[17]. وتمظهر انخراط المغرب في تنفيذ بنود برنامج التقويم الهيكلي والانصياع المطلق للمؤسسات المالية الدولية في تقليص الميزانية والتقليص من الواردات من خلال اقامة التعريفات الجمركية، غير أن المغرب أصبح عاجزا منذ سنة 1983، عن الاستيراد بالرغم من المساعدات الكبيرة التي تلقاها من دول الخليج عموما، مما جعله يلتجئ إلى ما سماه عبد الله ساعف ب “المعالجة بالصدمة “بخصوص تحرير القطاعات وسياسة الحماية:

اتخذت مجموعة من الإجراءات من بينها التخفيض من الحقوق الجمركية، وفرض رسوم على الاستيراد، فرض ضرائب اضافية ….. بالرغم من هذه الإصلاحات فقد تواصل انخفاض المداخيل وفي هذا السياق يشير عبد الله ساعف إلى تواصل الانهيار إلى حد تم فيه اعتبار المغرب يعيش مشكلا غير قابل للحل، ليتم الشروع في الاصلاح الضريبي سنة 1986 مع الإبقاء على إعفاء القطاع الفلاحي، إذ شمل هذا الاصلاح فقط الضريبة على الشركات سنة 1987، والضريبة العامة على الدخل في سنة 1989 ، ليستعيد بذلك المغرب توازنه الاقتصادي وبدأت الدولة تتخلص من الديون خلال هاتين السنتين، وعلى هذا الاساس لم يعد للمغرب منذ سنة 1983، أية علاقة عضوية مع صندوق النقد الدولي، فأصبحت علاقته بالأساس مرتبطة بالبنك الدولي، وفي ارتباط مع برنامج للتنمية وفق قواعد التقويم[18].

يظهر جليا التداعيات الوخيمة على التنمية المتعددة الأبعاد لسياسة التقويم الهيكلي المفروضة قسرا على الشعب المغربي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عبر مؤسساتها ونخص صندوق النقد الدولي وما ترتب عن هذه السياسة من تدهور للعملة الوطنية وتفشي البطالة … لكن مع نهاية الثمانينيات من القرن الماضي سيشهد العالم تحولات كبرى أبرزها سقوط المعسكر الاشتراكي ووصول المغرب إلى أوضاع اقتصادية صعبة، وهو ما أسماه الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي بمرحلة “السكتة القلبية” وهو ما فتح الباب على مصراعيه للمعارضة البرلمانية لتدبير الشأن العام، وهو ما جسدته فعليا حكومة التناوب.

  • حكومة التناوب وسؤال التنمية

قبل الحديث عن تجربة حكومة التناوب في المغرب وسؤال التنمية، يجدر بنا القول إن التوجهات العامة للبلد انساقت للتموقع في المعسكر الغربي الرأسمالي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، والجذير بالذكر أن البصمة التنموية الوحيدة التي حملت نفحة حزبية مند استقلال المغرب كانت تجربة عبد الله ابراهيم، لكنها تجربة أجهضت في مهدها. وطيلة أربعة عقود من الزمن استبد بالحكم في المغرب أحزاب الادارة الموالية أو المصطنعة إن صح التعبير من الفاعل الرسمي، ولعبت الأحزاب الوطنية التاريخية دور المعارضة من داخل قبة البرلمان.

كذلك الملاحظ هو أن تجربة التناوب في المغرب برزت في ظل مناخ سياسي عالمي جديد، هيمن عليه توجه ذو بعد واحد متحكم، توجه ليبرالي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وانتفاء اطروحة النضال ضد الشيوعية التي كان يروج لها المعسكر الغربي، ما يعني أن الخلفية الايديولوجية التي أطرت أحزاب المعارضة لعقود من الزمن تلاشت.

ملاحظة أخرى ذات أهمية قصوى ميزت تجربة حكومة التناوب كانت سببا رئيسيا في إخفاقاتها هي غياب اصطفافات سياسية-ايديولوجية بارزة المعالم في التجربة الحكومية، حيث نجد حكومة تتألف مثلا من مرجعية حزب الاستقلال الإسلامية، وحزب الأحرار وأحزاب الإدارة، وهو ما أدى بالضرورة إلى غياب التجانس والتماسك الحكومي وكان أمرا هاما أيضا عجل بفشل التجربة وقبول الاتحاد الاشتراكي بالمسؤولية منقوصة، ونقصد هنا الحقائب الوزارية التي اصطلح عليها ب “وزراء السيادة” وهي الداخلية، والعدل، والأوقاف والخارجية. والأدهى من ذلك أصبحت استمرارية الحكومة رهينة بيد الإدارة أو السلطة المغربية. وقد ذهب العديد من الباحثين في الشأن السياسي أن تجربة التناوب أملتها ضرورات من بينها أن المغرب تأزمت أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية وهو ما اصطلح عليه بالسكتة القلبية، ومساهمة أحزاب الكتلة في عملية انتقال الحكم بسلاسة لما تحظى به هذه الأخيرة من امتدادات ومصداقية جماهيرية. ويذهب الناصري إلى أن التدبير السياسي لحكومة التناوب، استطاع تحقيق إنجاز ملموس للمجتمع فيما يتعلق باستقرار البلاد، في محيط يتميز بالعداء البين والخفي لمصالحه، إلا أنه من الواضح أن النخب العصرية، كما كان الحال بالنسبة لنخب المخزن التقليدية، تتوفر على قدرة أكبر ونجاعة في المحافظة على التوازنات السياسية التقليدية للمجتمع على حساب تنميته[19].

ويقصد الناصري أن الفاعل الرسمي بالمغرب كان محكوما في مخططاته وبرامجه واستراتيجياته بالهواجس السياسية الأمنية، أكثر منها تنموية.

أما على الصعيد الخارجي، يتحدث الناصري عن التأثيرات الخارجية والسياسية والاقتصادية والمالية التي تحد من هامش حركة الدول في مجال التنمية. وعلى صعيد استكمال الوحدة الترابية، يضل جزء من المغرب الشمالي محتلا من طرف الإسبان، ولا زالت لوبيات الصيد والملاحة الإسبانية تتصرف بكل حرية، وتخرق الإتفاقيات المبرمة فيزداد خطرها على مصالح البلاد يوما بعد يوم، ويظل المغرب محاصرا في الشرق بسبب إغلاق الحدود مع الجزائر، ومعرضا للطعن في شرعية استعادة أقاليمه الصحراوية[20].

لقد تكالبت عوامل عدة عجلت بفشل تجربة التناوب كتجربة سياسية وتنموية، وذلك بشهادة قائدها شخصيا الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، منها داخلية وأخرى خارجية، الأولى تمثلت في جيوب المقاومة، كذلك عدم تمكينه كوزير أول من صلاحيات واسعة لإنجاح التجربة، الثانية، الأطماع الخارجية التي أفضت إلى محاصرة المغرب من الشرق بسبب إغلاق الحدود مع الجزائر منذ 1994، وتعرضه للطعن في شرعية أقاليمه الجنوبية، وفي الشمال من قبل الإسبان الذي يحكمه الحزب الشعبي الذي لا يخفي عداءه للمغرب. أمام هذه الأوضاع، بالإضافة إلى أخرى، انقلب الفاعل الرسمي على التجربة الديمقراطية الفتية في المغرب وعين حكومة برئاسة التيقنوقراطي إدريس جطو، وقرر تشكيل لجنة لإنجاز مهمة التقعيد لما يسمى “النموذج التنموي الجديد “.

مبحث الثاني: التنمية المحلية في البرامج التنموية لحزب العدالة والتنمية

ثلاثة منعطفات فارقة شهدها المشهد السياسي وكلها مجتمعة كانت الحاجة ماسة لوجودها لضمان الاستقرار السياسي بالبلاد، لكنها لم ترق لطموحات المغاربة في بعدها التنموي سواء على المستوى المركزي أو على المستوى المحلي من خلال تدبير الجماعات المحلية، ونقصد هنا تجربة عبد الله إبراهيم وعبد الرحمان اليوسفي وعبد الإله بن كيران، والغريب أن هذه التجارب مجتمعة تم الانقلاب عليها وسحب البساط من تحت أرجلها، وبما أننا سنتحدث عن حزب العدالة والتنمية كتنظيم سياسي في الحقل السياسي المغربي، كان لزاما علينا الاطلاع على الأوراق المذهبية لهذا التنظيم، ولعل وثائق مؤتمر الحزب السابع الذي انعقد في 2012، منحت حيزا هاما للتنمية في بعدها المحلي “التنمية لم تعد شأنا مركزيا يهم الدولة كشخص معنوي رئيسي، وإنما أصبحت تتعدى المقاربة المركزية التي تبثث محدوديتها، لتصبح شأنا جهويا ومحليا …فالدستور المغربي حسم في شكل الدولة التي اعتبرها ذات تنظيم لا مركزي يقوم على الجهوية المتقدمة، والجهات والمجالات الترابية يجب أن تساهم في خلق الثروة والقيمة المضافة، وليس فقط توزيع الاستثمارات العمومية بشكل حسابي ضيق على مختلف جهات المملكة ” [21].

الملاحظ أن هذه الورقة بالرغم من أهميتها خصوصا فيما يتعلق بتبني توجهات تنموية محلية تقارب التراب من المحلي، وكذلك تبني مفهوم الحكامة الشاملة دون اختزالها في بعدها المالي، كل هذه الإجراءات هي فقط ترجمة وتعبير لما جاء به دستور 2011، كما أنه بالرغم من إبراز أهمية البعد التنموي المحلي في وثيقة مؤتمر الحزب، إلا أنها لم تشر إلى أهمية التنمية في الحد من التفاوتات المجالية بين المركز والهامش، ومن تم تحقيق تنمية تراعي التوازنات بين المجالات الترابية للجهات على العكس من ذلك خلال ولايتين متتاليتين في تدبير الشأن العام.

ويظهر من خلال التصورات المذهبية لحزب العدالة والتنمية المغربي التي وردت في مؤتمره السادس والسابع، أنها لم تخرج عن الإطار العام للتجربة الحزبية بالمغرب بخصوص التنمية، فإذا ساءلنا مقررات المؤتمر السادس، يلاحظ أن تصور الوثيقة للتنمية المحلية اقتصر على مهام المجالس الجماعية والتي تسهر على تدبير الشؤون اليومية والاستجابة للحاجيات اليومية للمواطنين، وهذا التوجه امتعض منه الناصري منتقدا التجربة الجهوية التي انخرط فيها المغرب في منتصف السبعينيات إزاء الإصلاح الجماعي سنة 1976، بحيث اعتبر أن هذه التجربة لم تفضي في الواقع إلا إلى “ألبث في التفاصيل اليومية في المجال الترابي وساكنته، بحيث لا تشكل مشروعا حقيقيا لتنمية البلاد، بل تسعى قبل كل شيء إلى التحكم في الموارد وتوزيعها”[22].

ونسجل ونحن بصدد مساءلة وثائق ومقررات المؤتمرين المذكورين، حدوث طفرة في بنود المؤتمر السابع، بحيث منحت أهمية ملحوظة لقضية ربط البعد الجهوي بنجاعة التنمية المحلية، أكثر من أي ورقة مذهبية أخرى حتى من تلك التي صادق عليها المؤتمر الثامن سنة 2017، وما يفسر ذلك، هو أن المؤتمر السابع جاء في سياق النقاش حول الجهوية المتقدمة التي جاءت في خطاب الملك 2010، وعززه دستور 2011، حيث استحوذ موضوع الجهة على فصل كامل خاص به.

أمام هذا الوضع، المفعم بالتحولات في الشأن الدستوري بالمغرب، لم يستطع مؤتمر الحزب الثامن مسايرة هذه التحولات فلم يتعدى الاشارة إلى “وضع سياسات شمولية من أجل الحد من مظاهر التفاوت الاجتماعي وإعطاء الأولوية لسياسات تنموية واجتماعية لفائدة الجهات والفئات الأكثر تضررا”[23].

وفي موضع آخر تحدثت الوثيقة المذهبية لذات المؤتمر عن “إعمال مبدأ التضامن الاجتماعي وتحويله إلى سياسات وبرامج باعتباره وسيلة من الوسائل لتقليص حدة الفوارق الاجتماعية والتفاوتات الفاحشة بين الأفراد والفئات والجهات في مجتمع تحث مبادؤه وثقافته على ذلك “[24].

وعليه وبعد مساءلتنا لجزء من الأوراق المذهبية لحزب العدالة والتنمية خصوصا المؤتمر السادس والثامن، لم تعطى لبرامج التنمية المحلية أهميتها إزاء تحقيق تنمية متوازنة بين كافة المجال الترابي للمملكة، وقد استثنينا مقررات المؤتمر السابع الذي كان أكثر تقدمية لتزامنه كما أسلفنا مع الخطاب الملكي 2010 ودستور 2011 هاتين المحطتين اعتبرتا طفرة نوعية بشهادة أغلب النقاد والباحثين في الشؤون السياسية. والحقيقة لو تم تنزيل مضامين دستور 2011 لكان المغرب سيخطو خطوات مهمة وفارقة في مجال التنمية في بعدها الشامل.

نقطة أساسية لا بد لنا من الوقوف عليها وتتعلق بالتحولات العميقة التي عرفها المغرب وخصوصا فيما يتعلق بالزحف الإسمنتي، وبروز مدن جديدة بجوار المدن الكبرى، وما شكلته من ضغوطات ديموغرافية وعقارية قوية، الإجابة التنموية عن هذه التحولات، لم تكن في مستوى التطلعات، بحسب التقرير الصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي في سنة 2017، ويتجلى ذلك على وجه الخصوص في “استمرار تسجيل ضعف البنيات التحتية، وانتشار المناطق المعزولة، وضعف الولوج إلى الخدمات الأساسية، وضعف البنيات التحتية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، في سياق يشهد تزايدا لظاهرة الهجرة القروية والتحول الديمغرافي، وارتفاع نسبة الأمية في صفوف الساكنة، واستمرار الفقر والهشاشة 79,4 في المائة من الفقراءِ و64 في المائة من الاشخاص في وضعية هشاشة يعيشون في العالم القروي، وهذا معناه أن النمو لفائدة الفقراء ينبغي أن يسير في اتجاه أن يصبح نموا لفائدة الساكنة القروية في بلادنا[25] .

استنادا إلى هذه التقارير، الجذير بالذكر أنها تقارير رسمية مختصة علاوة على اعتراف ملك البلاد في خطبه بفشل البرامج التنموية المتبعة في الحد من التفاوتات المجالية بين المركز والهامش وقد توقع الخبير المغربي محمد الناصري قبل 20 سنة، في المؤلف الجماعي “التحولات الإجتماعية بالمغرب” فشل هذه السياسات حتى بعد تجربة التناوب الثالثة والمقصود بها حكومة عبد الاله بنكيران التي جاءت وفق سياقات امتصاص غضب الشعب المغربي تجاوبا مع ما اصطلح عليه بالربيع العربي إذن في اعتقادنا، أن تجربة “الإسلاميين” لم تكن يحكمها هاجس خلق التنمية وتقليص الهوة بين طبقات المجتمع المغربي التي اتسعت بشكل مخيف، بل على العكس من ذلك تجربة حزب العدالة والتنمية كانت محكومة بهواجس أمنية وتمرير قرارات لم تستطع حتى الأحزاب الإدارية طرحها حتى للنقاش من قبيل تسقيف ثمن المحروقات، اصدار عفو عن المفسدين ومختلسي المال العام، السطو على القدرة الشرائية للمجتمع المغربي …. وهو ما يعني أن الدولة لازالت مستمرة في حساباتها التقليدية لهيكلة المجال الترابي، من أجل الحفاظ على التوازنات السياسية والاجتماعية التقليدية ربما تفاديا للمس بالمصالح التقليدية للأعيان، التي شكلت القاعدة الصلبة لحفظ استقرار البلاد منذ الاستقلال.

أمام هذه الأوضاع المقلقة، وإخفاق التجارب الحزبية في تدبير الشأن العام منذ حصول المغرب على استقلاله، واستحواذ اقلية اوليغارشبة مالية على مقدرات البلد كان الناصري قد توقع أن المغرب سيتحول من مغربين إلى أربع ويقصد هنا أن المغرب سينتقل من ثنائية مغرب ينقسم إلى قسمين، مغرب يخضع لسلطة المخزن المباشر والآخر في الهامش، وهو ما سماهم روبير مونتان، بسكان البربر بالجبال كما وضحنا سلفا، هذا التقسيم كان قبل الحقبة الاستعمارية، وفي ظل الحماية قسم المغرب إلى مغرب نافع ومغرب غير نافع، وبعد فشل المشاريع التنموية في تحديث البلاد ودمج مجالاتها بشكل متوازن تنمويا. يتحدث الناصري في ظل وضع العولمة الحالي قائلا ” أنه لربما أن تقسيم المجالات إلى أربع، ينطلق من الواقع الترابي لاختلالات أكثر رجحانا، إذ ستدفع سيرورة العولمة المجال الترابي المغربي إلى التشكل على المستويات التالية:

  • مغرب مؤهل ومندمج في “الجغرافية – الافتراضية” والمستقبلية للعالم، وهو مغرب نخبة صغيرة تضمن تواجدها على مستوى العالم.
  • مغرب حضري يتكون من طبقة متوسطة أنهكتها التحولات الاقتصادية والثقافية، وانفصلت عن سوق الشغل بسبب تكوينها، وإكراهات الحركية المهنية، ومرونة إعادة التشغيل وسيصير هذا المغرب الحضري مفصولا أكثر عن العالم القروي. فالطرق السيارة التي ستربط المدن الرئيسية لن تسمح له بادراك الفقر الذي يمس القرى والضواحي الحضرية، ولو على سبيل المعاينة السريعة من داخل السيارات المارة بسرعة كبيرة.
  • مغرب ضواحي المدن، وسيجعل منه الإقصاء وسوء التجهيز والاكتظاظ في مساكن غير لائقة، وصعوبة المواصلات، ثم تردي شروط العيش، قنبلة موقوتة على أبواب المدن.
  • مغرب قروي سيعيش في الفقر والعزلة. ومغرب قروي سيعيش في مزارع صغيرة وفقيرة وسوف يتقوقع في اطار اقتصاد لاكتفاء الذاتي شبه مستحيل إن لم يكن مستحيلا[26].

انطلاقا من هذه الإستشرافات أو التوقعات المستقبلية للشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي المغربي لمحمد الناصري ونحن نتصفح مرجعه “التحولات الاجتماعية بالمغرب”، نجد أن جزء كبيرا من تحليلاته وتوقعاته حقيقة ثابتة لا جدال فيها، وهي حقيقة تؤكدها حتى تقارير حزب العدالة والتنمية الساهر على تدبير الشأن العام خلال ولايتي 2011- 2016 و2016 – 2021، في سياق محاولة إبراز إيجابية النتائج التنموية التي حققتها حكومة عبد الاله بنكيران التي يمكن إجمالها في عنصرين أساسين:

  • الأول: الانخراط في سياسات الأوراش الكبرى فيما يخص البنيات التحتية بمواصفات دولية.
  • الثاني: دعم فرص الاستثمار.

الهدف من هاذين التوجهين حسب مذكرة الحزب تقليص معدل الفقر، تقدم الولوج للخدمات الأساسية لا سيما الماء والكهرباء وهذا ما أشار إليه الناصري في توقعاته حول المغرب الجديد الذي سيعرف فروقات كبيرة بين فئاته وهو ما قد يؤدي إلى حدوث خضات اجتماعية.

بالمحصلة نخلص إلى أن حزب العدالة والتنمية على غرار الأحزاب التي تقلدت المسؤولية في تدبير الشأن العام، وكذلك الأحزاب الوطنية التي كانت لها شرعية تاريخية وسياسية لم يستطيعوا لعب أدوار فعالة بخصوص مسار تنمية البلد خاصة في شقها المحلي ولعل سبب هذا الإخفاق مرده إلى أن التوجهات التنموية الكبرى عادة ما تكون متحكما فيها من قبل الدولة على سبيل المثال ورش الجهوية المتقدمة ومشروع التنمية البشرية. سبب آخر رئيسي في هذا الإخفاق بالنسبة لكل الأحزاب السياسية المغربية دون استثناء هو غياب ديمقراطية حقيقية داخل الأحزاب تتيح لهم مناقشة البرامج والقرارات في جو من التنافسية والشفافية. والحقيقة أن الشعب المغربي أضحى فاقداً للثقة في تنظيماته السياسية، وتوجه للتظاهر حول حقوقه المطلبية من خلال تنسيقيات وإطارات جماهرية جمعوية بعيدا عن السياسة.

قائمة المراجع:

عبد الله العروي الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1830-1912.

روبير مونتان، الحياة الاجتماعية والسياسية للبربر، ترجمة محمد ناجي بن عمر، افريقيا الشرق، 2014.

عمر الابوركي، الظاهرة القائدية القائد العيادي الرحماني نموذجا، 2000.

عبد الله العروي، الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1912_1930، المركز الثقافي العربي، الطبعة الاولى، 2016.

ابو بكر القادري، مذكرات في الحركة الوطنية المغربية، من 1930الى1940 الجزء الأول، الطبعة الاولى، 1992.

روبير رزيت، الأحزاب السياسية في المغرب، منشورات المحلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، الطبعة الاولى، 1992.

التحولات الاجتماعية بالمغرب، محمد الناصري، ترجمة جلال الحكماوي، الطبعة الأولى، الناشر مركز طارق ابن زياد للدراسات والأبحاث، 2000.

مريم الخياري، النموذج التنموي المغربي خلال نصف قرن بين الطموح الداخلي والاكراهات الخارجية، www.marocdroit.com, نشر بتاريخ الجمعة 5سبتمبر2017.

جيل بيرو، ترجمة مشيل خوري، صديقنا الملك، الطبعة الأولى 2002, الناشر ورد للطباعة والنشر للتوزيع.

مجموعة مؤلفين، ترجمة أحمد حالي والطيب غوردو، الهيمنة الأمريكية والمنظمات الدولية.

عبد الله ساعف، الإدماج والإقصاء في الحقل السياسي المغربي http,: // www.aljabriabed.net/n02_01saaf.htm

وثيقة المؤتمر السابع لحزب العدالة والتنمية، ص 60’66.

المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، تنمية العالم القروي التحديات والافاق، 2017.

الهوامش:

  1. عبد الله العروي الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1830-1912، ص 230.
  2. المرجع نفسه، ص 230.
  3. روبير مونتان، الحياة الاجتماعية والسياسية للبربر، ترجمة محمد ناجي بن عمر، افريقيا الشرق، 2014، ص 49.
  4. المرجع نفسه ص 52و53.
  5. عمر الابوركي، الظاهرة القائدية القائد العيادي الرحماني نموذجا، 2000، ص 97.
  6. كان روبير مونطان رجلا علميا وميدانيا ممن لم يدخروا جهدا في خدمة المشروع الاستعماري الفرنسي، وليس ثمة تعارض، في نظره، بين ان يكون المرء في الوقت نفسه باحثا واستعماريا. كان هدف مونطان هدف واحد الا هو خدمة فرنسا الاستعمارية. كان ليوطي يراقب الحقل العلمي عن كتب، وكان ماهرا في اكتشاف الباحث المتألق والمفيد، وقد سمع عن مونطان فاستدعاه وادمجه في فريق المعهد العالي للدراسات المغربية ثم كلفه، بعد ذلك بجمع المعلومات حول التنظيم السياسي والاجتماعي عند الامازيغ.
  7. من السنة التي تأسس فيها أول تنظيم حزبي في المغرب الى السنة التي تم فيها حظر العمل الحزبي من قبل الفرنسيين، على إثر أحداث بوفكران اقتصرت هذه الحقبة بالمطالبة بالإصلاحات، فيما المرحلة الثانية امتدت من سنة 1943 الى 1956، تميزت هذه المرحلة برفع سقف المطالب الحصول على الاستقلال.
  8. عبد الله العروي، الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1912_1930، المركز الثقافي العربي، الطبعة الاولى، 2016, ص262.
  9. ابو بكر القادري، مذكرات في الحركة الوطنية المغربية، من 1930الى1940 الجزء الأول، الطبعة الاولى، 1992,ص244.
  10. روبير رزيت، الأحزاب السياسية في المغرب، منشورات المحلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، الطبعة الاولى، 1992، ص 81.
  11. الظهير البربري المؤرخ ب 16 ماي 1930 والذي حاولت من خلاله سلطات الحماية المساس بالذين الإسلامي كمعتقد وفي الآن نفسه تفكيك المجتمع إلى بربر وعرب ليشكل الظهير البربري الشرارة الأولى في انصهار المجتمع المغربي ضد جلاء الاستعمار.
  12. روبير روزيت، الاحزاب السياسية في المغرب، المرجع السابق، ص 181.
  13. التحولات الاجتماعية بالمغرب، محمد الناصري، ترجمة جلال الحكماوي، الطبعة الأولى، الناشر مركز طارق ابن زياد للدراسات والأبحاث، 2000, ص 43.
  14. التحولات الاجتماعية بالمغرب، محمد الناصري، مرجع سابق، ص 43.
  15. مريم الخياري، النموذج التنموي المغربي خلال نصف قرن بين الطموح الداخلي والاكراهات الخارجية، www.marocdroit.com, نشر بتاريخ الجمعة 5سبتمبر2017.
  16. جيل بيرو، ترجمة مشيل خوري، صديقنا الملك، الطبعة الأولى 2002, الناشر ورد للطباعة والنشر للتوزيع، ص 137.
  17. مجموعة مؤلفين، ترجمة أحمد حالي والطيب غوردو، الهيمنة الأمريكية والمنظمات الدولية، ص 350.
  18. عبد الله ساعف، الإدماج والإقصاء في الحقل السياسي المغربي http,: // www.aljabriabed.net/n02_01saaf.htm
  19. التحولات الاجتماعية بالمغرب محمد الناصري، مرجع سابق، ص 58.
  20. التحولات الاجتماعية بالمغرب، محمد الناصري، مرجع سابق، ص 60.
  21. وثيقة المؤتمر السابع لحزب العدالة والتنمية، ص 60’66.
  22. التحولات الاجتماعية بالمغرب محمد الناصري، مرجع سابق، ص49.
  23. وثيقة المؤتمر الثامن لحزب العدالة والتنمية، ص 25.
  24. المرجع نفسه، ص 28 دونما أدنى إشارة واضحة إلى أهمية التنمية المحلية في أبعادها المتعددة والشاملة.
  25. المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، تنمية العالم القروي التحديات والافاق، 2017، ص39.
  26. التحولات الاجتماعية بالمغرب محمد الناصري مرجع سابق، ص 62- 63.