محطّات في ظلال سورة النور وبلاغة مفرداتها

ماهر إيبك1

1 إجازة (الليسانس) في اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق 1996م، مدرّس اللغة العربية للناطقين بغيرها في جامعة إسطنبول 29 مايو، تركيا. بريد الكتروني: Habrma1@gmail.com
HNSJ, 2024, 5(2); https://doi.org/10.53796/hnsj52/9
تنزيل الملف
تاريخ النشر: 01/02/2024م تاريخ القبول: 12/01/2024م

المستخلص

موضوع المقالة هو دراسة في آيات سورة النور متنوعة المقاصد وهذه المقاصد سُمّي كل واحد بمحطة حيث كانت المحطة الأولى تتحدث عن معلومات هامة ومهمة عن سورة النور من سبب تسميتها بسورة النور وتفصيل أسباب نزول الآيات فيها والمحطة الثانية كانت للحديث عن الفوائد والعبر والأحكام المستنبطة من سورة النور وسميت هذه المحطة بين يدي سورة النور أحكام وعبر والمحطة الثالثة محطة كان لابد من الوقوف عندها لأنّها تشكل مدخلاً للمحطات التي تأتي بعدها وهي تتحدث عن تعريف الترادف ورأي العلماء فيه ثمّ تأتي المحطة الرابعة بعنوان نماذج من بلاغة الكلمة في سورة النور وتبحث في خصوصية معاني بعض المفردات الواردة في بعض آيات سورة النور وبيان ما فيها من تميّز يجعلها أكثر دلالة في سياقها من كلمة أخرى مرادفة لها في المعنى ثمّ جاء بعد هذه المحطّة المحطّة الخامسة وهي تتحدث عن بلاغة الضمير في الآية 45 في سورة النور وأظن أنّ الله هداني إلى معنى فيه إعجاز لم أجد له ذكراً في التفاسير المشهورة التي وقعت بين يديّ ثمّ تأتي المحطة السادسة تتحدث عن بلاغة الاسم النكرة في الآية 45 من سورة النور أيضاً.

الكلمات المفتاحية: المحطة، مرادفة، بلاغة الكلمة، بلاغة الضمير، بلاغة النكرة.

Research title

STATIONS IN THE SHADOWS OF SURAH AN-NUR AND THE ELOQUENCE OF ITS VOCABULAR

Maher Ipek1

1 Bachelor’s Degree in Arabic Language and Literature from the University of Damascus, 1996. Teacher of Arabic to non-native speakers at Istanbul University, May 29, Turkey.

Email: Habrma1@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(2); https://doi.org/10.53796/hnsj52/9

Published at 01/02/2024 Accepted at 12/01/2024

Abstract

The article delves into a comprehensive analysis of the diverse themes within the verses of Surah An-Nur. Each thematic aspect is designated as a “station,” with the initial station presenting vital insights into Surah An-Nur. It covers the rationale behind its nomenclature, intricacies of verse revelation, while the subsequent station, titled “Judgments and Lessons,” explores the practical benefits, profound lessons, and legal rulings derived from Surah An-Nur. The third station plays a pivotal role, serving as a gateway to subsequent stations, discussing the definition of synonymy and scholars’ perspectives. The fourth station, “Examples of Eloquence in the Language of Surah An-Nur,” scrutinizes nuanced meanings of specific words in the verses, emphasizing their distinctive significance compared to synonymous terms. Following this, the fifth station delves into the eloquence of pronouns in verse 45 of Surah An-Nur, unveiling a miraculous aspect absent in popular interpretations. Finally, the sixth station delves into the eloquence of indefinite nouns in the same verse.

Key Words: Station, Synonymy, Word Eloquence, Pronoun Eloquence, Indefinite Noun Eloquence.

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المرسلين، هذا بحثٌ يتناول سورة النور وهذا البحث له فروعٌ عديدةٌ خاض غمارها العلماء والباحثون وكتب فيها السابقون واللاحقون إلا أنني لم أجد كتبًا متخصصة في شأن بلاغة الكلمة في القرآن الكريم فيما يتعلق بالكلمة ذاتها لتعليل ورودها بشكلها الذي جاءت عليه فيما يتعلق بخصوصية المعنى الذي يميزها عن مرادف آخر قد يتبادر إلى ذهن المتلقي إضافة إلى تفسير أمورٍ متعلقةٍ ببنية الكلمة ذاتها من حيث التعريف والتنكير أو الارتباط بضمير أو عكس ذلك وإنما هي دراسات متناثرة في طيات دراسات بلاغية عامة ولعل أكثر من طرق باب التخصص في هذا اللون البحثي الدكتور فاضل السامرائي في كتابه بلاغة الكلمة في التعبير القرآني ومع الجهد الكبير والعلم الغزير الملموس في كتابه ذاك والتخصص الواضح في باب بلاغة الكلمة إلا أنني لمست من خلال قراءتي لكتابه أنه يقدّم القاعدة النحوية في كثير من الأحيان فآثرت أن تكون دراستي مقتصرة على بلاغة الكلمة فقط دون الدخول في موضوع البلاغة بشكل تفصيلي أو النحو وأبوابه وآثرتُ أن أتناول السورة في محطّات ستة بدأتها بمعلومات مهمّة عن السورة قبل الولوج في صلب الموضوع الذي كان الدّافع الأول للمقالة وهو بلاغة الكلمة، ولأن هذا الموضوع واسع جدًا فقد اخترتُ بعض الألفاظ من آيات سورة النور نموذجًا لتلك الدراسة سائلًا الله تعالى السداد والتوفيق وبعد دراسة تأمُّليّة لسورة النور تمَّ من خلالها اختيار عيّنةٍ من الكلمات التي ستخضع للبحث والدراسة والتأمّل فقد تمخّض عن ذلك أسئلة البحث التي تدور حولها الدراسة والتي اصطلح على تسميتها بالمحطات :

1- ما سبب تسمية السورة وأسباب نزول آياتها ؟

2- ما هي الأحكام والعبر المهمّة في هذه السورة ؟

3- ما رأي العلماء في مسألة الترادف ؟

4- لماذا وردت كلمةٌ بعينها دون مرادفٍ آخر في سياقها ؟

5- ما وجه الإعجاز في ارتباط الضمير وحذفه في الآية 45؟

6- ما وجه الإعجاز في الأسماء النكرة في الآية 45 ؟

أسباب اختيار الموضوع:

من أهم الدوافع لاختيار هذا الموضوع ندرة الدراسات التي تناولت هذا الجانب من جوانب البلاغة إضافة إلى أن هذه الدراسات على ندرتها تناولته مختلطاً بموضوعات أخرى بلاغية أو نحوية أوغير ذلك ومن أهم ما قاد إلى البحث في هذا الموضوع أيضاً رغبة كامنة في حنايا نفس الباحث لسبر أغوار بعض الكلمات القرآنية التي كانت تستوقفه في آيات القرآن الكريم، ويرى أنَّ تسليط الضوء على هذه الكلمات شرحاً وبياناً لبلاغة اختيارها تحديداً من قبل منزّل القرآن العزيز ربِّ السماوات والأرض له عظيم الأثر في نفوس القرّاء ترسيخاً لإيمانهم وتعميقاً لتعلقهم بكتاب ربهم.

أهمية البحث:

تتجلى أهمية هذه الدراسة في جانبين:

1_ الجانب النظري: فهي تقدم للقارئين والدارسين تفسيراً لسورة النور في حلّةٍ جديدةٍ بلاغية تسلّطُ الضوء على المعاني العامة التي ركزت عليها سورة النور وما فيها من حكم وأحكام، إضافة إلى الإعجاز الكلمي من خلال عينة مختارة من هذه السورة الكريمة وشرحها شرحاً بلاغياً واضحاً.

2_ الجانب العملي: أنها مساهمة في سدِّ فجوةٍ في الدراسات البلاغية القرآنية من خلال تناولها لموضوع لم يطرق بشكل تخصصي إلا حديثاً ونادراً وقد تفتح تلك الدراسة في سورة النور الطريق لدراسات مشابهة في سور القرآن الأخرى للوصول مستقبلاً إلى دراسة تخصصية في بلاغة الكلمة القرآنية تشمل سور القرآن جميعها.

منهجية البحث:

اتّبع البحث المنهج الاستقرائيّ في اختيار وجمع الكلمات والتي تُمثِّلُ عينة البحث إضافةً إلى المنهج الوصفي في عرض آراء السابقين حول ما تم بحثه في سورة النور والمنهج التحليلي في دراسة الكلمات التي وقع الاختيار عليها والمنهج الاستنتاجي واستنباط الدلالات.

حدود الدراسة:

تدور الدراسة في القرآن الكريم وفي فلك سورة النور تحديداً وهي وسورة مدنية وهي السورة الرابعة والعشرون من سور القرآن الكريم وتقع في الجزء الثامن عشر تسبقها سورة المؤمنون وتليها سورة الفرقان وعدد آياتها أربع وستون آية وهي سورة هامة في بناء المجتمع الإسلامي بناء سليماً. تتحدث الدراسة عن سبب تسمية سورة النور وفضلها والأحكام الواردة فيها ثم تنتقل للدراسة حول كل كلمة مختارة من تلك السورة ضمن ضوابط أسئلة البحث التي تمت الإشارة إليها بالاعتماد على مراجع تناولت موضوع البحث مع الاجتهاد الشخصي للباحث في الترجيح بين أقوال العلماء أو الاستنباط المباشر على الكلمة موضع البحث اعتماداً على فهم اللغة العربية والمسلمات المنطقية.

الدراسات السابقة:

تتنوّع الدراسات وتتشعّب في ميادين البلاغة والإعجاز في القرآن الكريم ولذلك آثر الباحث انتقاء ما يخدم البحث من الدراسات ذات العلاقات المباشرة والواضحة التي قام بها ومن أهمها:

1_التعبير القرآني للدكتور فاضل صالح السامرائي: في هذا الكتاب يجري السامرائي مقارنات بين العديد من الآيات من القرآن الكريم مركزاً على الاختلاف أو على التشابه في التعبير وعلى التقديم والتأخير والذكر والحذف إضافة إلى أمور متعلقة بالبلاغة أو المعنى مسلطاً الضوء على دقة التعبير وعلوّه كل ذلك لإبراز عظمة البيان القرآني وإعجازه.

2_ بلاغة الكلمة في التعبير القرآني للدكتور فاضل صالح السامرائي: وتدور أبحاث هذا الكتاب حول المفردة في القرآن الكريم فتناول أحوال الذكر والحذف في المفردة القرآنية مثل توفاهم وتتوفاهم وتنزلوا وتتنزلوا وأحوال الإبدال مثل يضرّعون ويتضرعون ويذّكرون ويتذكرون ومثل استخدام الإفراد والتثنية والجمع كالنخل والنخيل وتعاور المفردات مثل العاكفين والقائمين في قوله تعالى: (أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود)، وقوله: (وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود).

3_ لمسات بيانية في نصوص من التنزيل للدكتور فاضل صالح السامرائي: تناول في هذا الكتاب جوانب عديدة من الإعجاز في التعبير القرآني فكان يتنقّل من الإعجاز اللغوي الجمالي إلى الإعجاز العلمي فالتاريخي فالنفسي فالتربوي فالتشريعي مسلطاً الضوء على الإعجاز في التعبير القرآني من مناحٍ عديدة.

المحطّة الأولى: معلومات عامة ومهمّة عن سورة النور:

هذه السورة العظيمة استحقت هذه التسمية المتميزة (سورة النور) لأنها احتوت على آية عظيمة وهي قوله تعالى: (۞ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ٣٥سورةالنُّور: ﵕﵓﵜ

فبنور الله العظيم أشرقت الأرض والسموات وعرف كل مخلوق طريقه الذي لا يعتريه الضلال ولعلّ مما يُلبس هذه السورة هذا الاسم المتميز الجميل ما جاء فيها من إرشادات تجعل حياة الناس تسير وفق أنوار هدى القرآن الكريم بشرحها للآداب المنظمة لحياة الناس الاجتماعية على منهاج الفضيلة والسمو في الأخلاق وقد شرعت هذه السورة قواعد وأحكام تضبط تلك الحياة الاجتماعية بين الناس وتنظمها أيّما تنظيم وحُقّ لها أن تكون سورة النور. (الزحيلي، 1418ه، 18/118).

وقد ذكر المفسرون في أسباب النزول في الآية الثالثة من هذه السورة قوله تعالى: (ٱلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوۡ مُشۡرِكَةٗ وَٱلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوۡ مُشۡرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) ٣ سورة النُّور: أنّه حين جاء المهاجرون وكان فيهم فقراء إلى المدينة المنورة كان في المدينة نساء يمتهنّ الزنا ويكسبن من ذلك مالاً وفيراً وهذا ما دفع ناساً من المهاجرين الفقراء بالرغبة في الزواج منهنّ واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية تبيّن الحكم في تحريم نكاح الزانية لحفظ المؤمنين. (الواحدي، 1411هـ، 1/325)

وقد جاء في سبب نزول الآية السادسة )وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ أَزۡوَٰجَهُمۡ وَلَمۡ يَكُن لَّهُمۡ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمۡ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمۡ أَرۡبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ( سورة النُّور: أنّ سعد بن عبادة رضي الله عنه وهو سيد الأنصار عندما سمع قوله تعالى (وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ) ٤ سورة النُّور, اشتد عليه ذلك وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم هل هكذا نزلت الآية فتعجب الرسول صلى الله عليه وسلّم من سؤاله وقال ألا تسمعون يا معشر الأنصار إلى ما يقول سيدكم فذكر الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم أن سيدهم شديد الغيرة على نسائه وأنّه لم يتزوج إلا بكراً ولا يجرؤ أحد أن يتزوج امرأة طلقها سعد من شدة غيرته وقال سعد رضي الله عنه يا رسول الله والله إني لأعلم أن قول الله حق ولكني تعجبت كيف لرجل أن يأتي بأربعة شهداء فلو ذهب ليأتي بهم يكون الرجل قد قضى حاجته وانقضى الأمر ولم يلبث الصحابة إلا يسيراً حتى جاء هلال بن أمية رضي الله عنه إلى بيته عشية فوجد رجلاً عند زوجته ورآه بعينه وسمع بأذنه وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الصباح وكره الرسول صلى الله عليه وسلم ما سمعه من هلال واشتد عليه وقال سعد رضي الله عنه سيبطل الرسول صلى الله عليه وسلم شهادة هلال ويضربه ودعا هلال ربّه أن يجعل له مخرجاً مما هو فيه وقال يا رسول الله إنّ الله يعلم أنّي لصادق فلما همّ الرسول صلى الله عليه وسلم بضربه نزل الوحي بالآية التي جعل الله فيها فرجاً ومخرجاً لهلال رضي الله عنه (الواحدي، 1411هـ، 1/337).

أما في سبب نزول قوله تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ) ١١سورةالنُّور: فهو حادثة الإفك التي ترويها السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: ” كَانَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي. فَخَرَجْتُ مَعَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأَنْزِلُ فِيهِ مَسِيرَنَا، حَتَّى فَرَغَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مِنْ غَزْوِهِ وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، أُذِنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ وَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وأقبل الرهط الذين كَانُوا يَرْحَلُونَ [بِي] فَحَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَّلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَتِ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يُهْبَلْنَ، وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَّلُوهُ وَرَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، ووجدت عقدي بعد ما اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ القوم سيفقدوني ويرجعون إليّ فبينا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ [ثُمَّ] الذَّكْوَانِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيَّ الْحِجَابُ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي بِكَلِمَةٍ وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أتينا الجيش بعد ما نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، وَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِيَّ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُهَا شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَذَلِكَ يُحْزِنُنِي، وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حتى خرجت بعد ما نَقِهْتُ وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَلَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التَّنَزُّهِ وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ- وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ، خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَابْنَةُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَمَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ بَدْرًا؟ قَالَتْ: أي هَنَتَاه، أو لم تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي وَدَخَلَ عَلَيَّ رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم [فَسَلَّمَ] ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ، قُلْتُ: تَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟ قَالَتْ: وَأَنَا أُرِيدُ حِينَئِذٍ أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ لِي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ: يَا أُمَّاهْ، مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ، هوِّني عليك، فو اللَّه لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ أوَقَدْ تحدث أليس بِهَذَا؟ [وَبَلَغَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟ قَالَتْ: نَعَمْ] قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي، وَدَعَا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ، يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ مِنَ الْوُدِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُمْ أَهْلُكَ، وَمَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، قَالَتْ: فَدَعَا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بَرِيرَةَ فَقَالَ: يَا بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ شَيْئًا يَرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟ قَالَتْ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ. قَالَتْ: فَقَامَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، فَقَالَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ في أهلي، فو اللَّه مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا. وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ. قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ- فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، إِنَّكَ لَمُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ. فَثَارَ الْحَيَّانِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ. قَالَتْ: وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي. قَالَتْ: فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا وَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي. قَالَتْ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثُمَّ جَلَسَ، وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ. قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مَقَالَتَهُ، قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فِيمَا قَالَ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي [عَنِّي] رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ هَذَا، وَقَدِ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ فَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ: إِنِّي بَرِيئَةٌ- وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ- لَا تُصَدِّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر واللَّه يعلم أني منه بريئة- لتُصَدِّقُني، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي. قَالَتْ: وَأَنَا وَاللَّهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيَّ بأمر يتلى، ولكني كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ تَعَالَى بها. قالت: فو اللَّه مَا رَامَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مَنْزِلَهُ، وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى على نبيه صلى اللَّه عليه وسلم فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِي، مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ [مِنَ الْوَحْيِ] قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ وَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي بَرَّأَنِي. قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الْعَشْرَ الْآيَاتِ: فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيات فِي بَرَاءَتِي قَالَ [أَبُو بَكْرٍ] الصِّدِّيقُ- وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ وَفَقْرِهِ- وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قال لعائشة: قالت: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: واللَّه إني لأحِبّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النفقة التي كان ينفق عَلَيْهِ وَقَالَ: لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ.” (الواحدي، 1411هـ، 1/329 – 330 – 331 – 332)

وأما في أسباب نزول قوله تعالى: (وَلَوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ قُلۡتُم مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبۡحَٰنَكَ هَٰذَا بُهۡتَٰنٌ عَظِيمٞ ١٦سورةالنُّور: فممَّا جاء على لسان عائشة رضي الله عنها أنّ أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه حين أخبرته زوجته بما يتناقله الناس من أهل الإفك عن عائشة رضي الله عنها أنّه قال: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، فنزلت الآية تخلد هذا الموقف العظيم لهذا الصحابي الجليل (الواحدي، 1411هـ، 1/333)

وأما في سبب نزول قوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ٢٧سورةالنُّور: وقوله تعالى: (فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَدٗا فَلَا تَدۡخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤۡذَنَ لَكُمۡۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ٱرۡجِعُواْ فَٱرۡجِعُواْۖ هُوَ أَزۡكَىٰ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ ٢٨سورة النُّور: وقوله تعالى: (لَّيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ مَسۡكُونَةٖ فِيهَا مَتَٰعٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ ٢٩سورةالنُّور: أنّ امرأة من الأنصار جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرت له أنها تكون في بيتها على حال لاتحبُّ أن يراها عليه أحد من أهلها غير زوجها وسألت الرسول صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ فنزلت هذه الآية وحين نزلت سأل أبوبكر الصديق رضي الله عنه عن الخانات والمساكن التي تكون في طرق الشام وليس فيها أحد فنزل قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونه…) (الواحدي، 1411هـ، 1/334-335)

أما قوله تعالى: (وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ) ٣٣سورةالنُّور: ” نَزَلَتْ فِي غُلَامٍ لِحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، يُقَالُ لَهُ: صُبَيْحٌ، سَأَلَ مَوْلَاهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ، فَأَبَى عَلَيْهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هذه الآية، فكاتبه حُوَيْطِبٌ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، وَوَهَبَ لَهُ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا، فَأَدَّاهَا، وَقُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فِي الْحَرْبِ. [325] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً… الْآيَةَ. [33]. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ فِي مُعَاذَةَ ومُسَيْكَة، جَارِيَتَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ، كَانَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى الزِّنَا لِضَرِيبَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُؤَاجِرُونَ إِمَاءَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قَالَتْ مُعَاذَةُ لِمُسَيْكَةَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ: فَإِنْ يَكُ خَيْرًا فَقَدِ اسْتَكْثَرْنَا مِنْهُ، وَإِنْ يَكُ شَرًّا فَقَدْ آنَ لَنَا [أَنْ] نَدَعَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. «6431» م- وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي سِتِّ جَوَارٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ- كَانَ يُكْرِهُهُنَّ عَلَى الزِّنَا، وَيَأْخُذُ أُجُورَهُنَّ- وَهُنَّ: مُعَاذَةُ، وَمُسَيْكَةُ، وَأُمَيْمَةُ، وَعَمْرَةُ، وَأَرْوَى، وَقُتَيْلَةُ. – فَجَاءَتْ إِحْدَاهُنَّ ذَاتَ يَوْمٍ بِدِينَارٍ، وَجَاءَتْ أُخْرَى بِبُرْدٍ فَقَالَ لَهُمَا: ارْجِعَا فَازْنِيَا، فَقَالَتَا: وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ، قَدْ جَاءَنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَحَرَّمَ الزِّنَا، فَأَتَيَا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وَشَكَتَا إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ..” (الواحدي، 1411هـ، 1/335 – 336 – 337)

وأما قوله تعالى: (وَإِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُم مُّعۡرِضُونَ) ٤٨سورةالنُّور. قال المفسرون نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي في خلافهما على أرض وكان اليهودي يريد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنافق يريد حكم كعب بن الأشرف (الواحدي، 1411هـ، 1/337)

أما قوله تعالى: (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ) ٥٥سورة النُّور. فقد جاء في سبب نزولها أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم مكث في مكة عشر سنين خائفاً هو وأصحابه وبعد الهجرة إلى المدينة كانوا يصبحون ويمسون في السلاح فقال رجل من الصحابة متى يأتي ذلك اليوم الّذي نأمن فيه ونضع السلاح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن تلبثوا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة فأنزل الله تعالى هذه الآية وقد تحقق ذلك بفضل الله وكرمه (الواحدي، 1411هـ، 1/338)

أما قوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسۡتَـٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَبۡلُغُواْ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَٰثَ مَرَّٰتٖۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَآءِۚ ثَلَٰثُ عَوۡرَٰتٖ لَّكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ وَلَا عَلَيۡهِمۡ جُنَاحُۢ بَعۡدَهُنَّۚ طَوَّٰفُونَ عَلَيۡكُم بَعۡضُكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ) ٥٨ سورة النُّور. ” قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَجَّهَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم غُلَامًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: مُدْلِجُ بْنُ عَمْرٍو- إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقْتَ الظَّهِيرَةِ، لِيَدْعُوَهُ. فَدَخَلَ فَرَأَى عُمَرَ بِحَالَةٍ كَرِهَ عُمَرُ رُؤْيَتَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَدِدْتُ لَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا وَنَهَانَا فِي حَالِ الِاسْتِئْذَانِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. «649» – وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ مَرْثَدٍ، كَانَ لَهَا غُلَامٌ كَبِيرٌ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا فِي وَقْتٍ كَرِهَتْهُ، فَأَتَتْ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّ خَدَمَنَا وَغِلْمَانَنَا يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا فِي حَالٍ نَكْرَهُهَا- فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.” (الواحدي، 1411هـ، 1/339)

وأما قوله تعالى: (لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ إِخۡوَٰنِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَعۡمَٰمِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخۡوَٰلِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمۡ أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ أَوۡ صَدِيقِكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُواْ جَمِيعًا أَوۡ أَشۡتَاتٗاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ) ٦١ سورة النُّور, ” قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ تَحَرَّجَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ مُؤَاكَلَةِ الْمَرْضَى وَالزَّمْنَى [وَالْعُمْيِ] وَالْعُرْجِ، وَقَالُوا: الطَّعَامُ أَفْضَلُ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَالْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ مَوْضِعَ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ [وَالْأَعْرَجُ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُزَاحَمَةَ عَلَى الطَّعَامِ] وَالْمَرِيضُ لَا يَسْتَوْفِي الطَّعَامَ. فأنزل اللَّه تعالى هَذِهِ الْآيَةَ. وقيل فيها أنّها أنزلت فِي أُنَاسٍ كَانُوا إِذَا خَرَجُوا مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وَضَعُوا مَفَاتِيحَ بُيُوتِهِمْ عِنْدَ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ وَعِنْدَ أَقَارِبِهِمْ، وَكَانُوا يَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا فِي بُيُوتِهِمْ إِذَا احْتَاجُوا إلى ذلك، فكانوا يقفون أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا، وَيَقُولُونَ: نَخْشَى أَنْ لَا تَكُونَ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ طَيِّبَةً. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.” (الواحدي، 1411هـ، 1/339 – 340)

وقوله تعالى (….. لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُواْ جَمِيعًا أَوۡ أَشۡتَاتٗاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ) ٦١ سورة النُّور. قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي حَيٍّ مِنْ كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لَيْثِ بن عمرو، فكانوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَحْدَهُ، فَرُبَّمَا قَعَدَ الرَّجُلُ وَالطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الرَّوَاحِ- وَالشَّوْلُ حُفَّلٌ، وَالْأَحْوَالُ مُنْتَظِمَةٌ- تَحَرُّجًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ، فَإِذَا أَمْسَى وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا أَكَلَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.

«6541» م- وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ إِذَا نزل بهم ضعيف إِلَّا مَعَ ضَيْفِهِمْ، فَرَخَّصَ [اللَّهُ تَعَالَى] لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا كَيْفَ شَاءُوا جَمِيعًا:

مُتَحَلِّقِينَ أَوْ أَشْتَاتًا مُتَفَرِّقِينَ.” (الواحدي، 1411هـ، 1/341)

المحطّة الثانية: بين يدي سورة النور أحكام وعِبر:

قيل إنّ آياتها جميعها مدنية وعلى ذلك الإجماع واستثنى القرطبي الآية 58 فقال إنّها مكيّة وجاءت بعد سورة المؤمنون للتوضيح والتفصيل للآية الخامسة والسادسة في سورة المؤمنون: (وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٥سورةالمُؤۡمِنُون: ﵕﵜ (إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ) ٦ سورة المُؤۡمِنُون, فجاءت سورة النور تالية لها مبينة ما يقع من أحكام على الزانية والزاني ومن يقع في قذف المحصنات وقصة الإفك والأمر بغض البصر والاستئذان كما جاء في هذه السورة الحثّ على حفظ الفرج بالإنكاح أو بالاستعفاف لمن لم يجد القدرة على ذلك كما جاء النهي عن إكراه النساء على الزنا. (الآلوسي، 1415ه، 9/273)

وبعد قراءة لآيات السورة وتدبر نخلص إلى فوائد مستوحاة من هذه السورة العظيمة فوائد تعود على من يتلقاها بالقبول بالسعادة والطمأنينة والراحة في الدنيا والفوز بالآخرة ونستطيع أن نجمل الفوائد بالنقاط التالية:

1- إنّ قذف النساء من غير دليل قوي واضح ورميهن بالتهم الباطلة يعد من الجرائم الأخلاقية الشنيعة التي تستحق العقاب وعلى المسلم إحسان الظن بالمسلمات وجاء ذلك واضحاً في قوله تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡغَٰفِلَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ) ٢٣ سورة النُّور.

2- جاء التحذير الرباني في هذه السورة الكريمة من الاشتراك في نشر الأخبار الكاذبة والفواحش في المجتمع الإسلامي خشية فساده وهدم العلاقات الطيبة فيه فستر المسلم على أخيه أمر واجب (إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ) ١١ سورة النُّور,

3- تبرئة أمنا عائشة رضي الله عنها مما خاض فيه أصحاب الإفك وأرباب الزور فهي العفيفة الطاهرة ولا يشك في هذا إلا كافر بما أنزل الله في هذه السورة الكريمة: (لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيۡرٗا وَقَالُواْ هَٰذَآ إِفۡكٞ مُّبِينٞ) ١٢ سورة النُّور.

4- بيان آداب الاستئذان قبل دخول البيوت أو الغرف داخل البيوت وقاية وسلامة للنفوس وتحصيناً لها من سبل الغواية ووساوس الشياطين: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ) ٢٧ سورة النُّور.

5- حذرت السورة من اتباع خطوات الشيطان الذي يقود الإنسان خطوة خطوة ليؤدي به إلى نار جهنم: (۞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ وَمَن يَتَّبِعۡ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَإِنَّهُۥ يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۚ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ أَبَدٗا وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ) ٢١ سورة النُّور,

6- بيّنت السورة حكم كبار السن من النساء اللواتي لا يطمع الرجال بالزواج منهنّ وما يتعلق بحدود لباسهنّ وحجابهنّ فجاء ذلك في قوله تعالى: (وَٱلۡقَوَٰعِدُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لَا يَرۡجُونَ نِكَاحٗا فَلَيۡسَ عَلَيۡهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعۡنَ ثِيَابَهُنَّ غَيۡرَ مُتَبَرِّجَٰتِۭ بِزِينَةٖۖ وَأَن يَسۡتَعۡفِفۡنَ خَيۡرٞ لَّهُنَّۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ) ٦٠ سورة النُّور,

7- جاء التأكيد في سورة النور على أنّ المسجد مركز ينطلق منه الصلاح وتأوي إليه قلوب طالبي الفلاح جاء ذلك في قوله تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ) ٣٦ سورة النُّور (رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ) ٣٧ سورة النُّور.

8- وفي سورة النور ذكر لعظيم خلق الله سبحانه وتعالى وأنّ كل ما أوجده الله يسير وفق مشيئته ويخضع لأمره وفق نظام دقيق وحكمة عظيمة ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ فَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ بَطۡنِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ رِجۡلَيۡنِ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰٓ أَرۡبَعٖۚ يَخۡلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ) ٤٥ سورة النُّور.

9- بينت السورة صفات المنافقين كما بينت صفات المؤمنين وعلو أدبهم وطاعتهم لله وجاء ذلك في عدّة آيات ففي المنافقين يقول الله عزَّ وجلَّ: (وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعۡنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٞ مِّنۡهُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَۚ وَمَآ أُوْلَٰٓئِكَ بِٱلۡمُؤۡمِنِين) ٤٧ سورة النُّور. (وَإِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُم مُّعۡرِضُونَ) ٤٨سورة النُّور. (وَإِن يَكُن لَّهُمُ ٱلۡحَقُّ يَأۡتُوٓاْ إِلَيۡهِ مُذۡعِنِينَ) ٤٩ سورة النُّور. (أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ٱرۡتَابُوٓاْ أَمۡ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَرَسُولُهُۥۚ بَلۡ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ) ٥٠ سورة النُّور. أمّا المؤمنون فقد وصفهم الله تعالى بقوله: (إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ) ٥١ سورة النُّور,

10- أكد الله وعده للمؤمنين به الطائعين لأوامره والمنتهين عن نواهيه بأنّه سيجعلهم الخلفاء في الأرض وينصرهم على القوم الكافرين وذلك في قوله تعالى: (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ) ٥٥ سورة النُّور,

11- بينت هذه السورة الكريمة آداب استقبال الضيوف والعلاقة بين الأقارب والأصدقاء وكيفية تقديم الضيافة والاجتماع على الطعام وكان ذلك في قوله تعالى: (لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ إِخۡوَٰنِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَعۡمَٰمِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخۡوَٰلِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمۡ أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ أَوۡ صَدِيقِكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُواْ جَمِيعًا أَوۡ أَشۡتَاتٗاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ) ٦١ سورة النُّور.

12- أكدث السورة في آخر آية على أنّ المرجع سيكون إلى الله يوم القيامة حيث الحساب والثواب والعقاب فهو مالك كل شيء وهو بكل شيء عليم: (أَلَآ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قَدۡ يَعۡلَمُ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ وَيَوۡمَ يُرۡجَعُونَ إِلَيۡهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ) ٦٤سورة النُّور.

المحطّة الثالثة: تعريف الترادف ورأي العلماء فيه:

إن ما يلاحظ في اللغات الأخرى غير العربية أنّه يكون للمعنى الواحد كلمة واحدة تدلّ عليه على الأغلب ولكنّ عوامل قد تنشأ فتتولّد كلمات عديدة للدلالة على معنى واحد وهذا ما حدث بشكل ملحوظ في اللغة العربية حيث يقول سيبويه شارحاً ذلك: “قد يختلف اللفظان ويختلف معهما معنى كل لفظ عن الآخر وقد يختلف اللفظان ويتفقان في المعنى وقد يتشابه اللفظان ومعنى كل لفظٍ يختلف عن الآخر”. (سيبويه، 1988م، 7/1)

ويشرح ذلك أيضاً قطرب حيث يقول: “إنّ كلام العرب ينقسم إلى أقسام ثلاثة، الأول منها وهو الشائع الأكثر في كلامهم وهو أن يختلف اللفظان ويختلف معهما المعنيان ومثال ذلك قام وقعد واليوم والليلة والمرأة والرجل ولا يمكن إحصاء ألفاظ هذا الباب لكثرته وغلبته على مفردات اللغة. والقسم الثاني من كلام العرب وهو أن يختلف اللفظان مع اتفاقهما في المعنى الواحد ومثال ذلك قعد وجلس، وسِيْد وذئب وحمار وعَيْر. أما القسم الثالث فهو أن يكون اللفظان متفقين لفظاً ولكنّ معناهما مختلف بحيث تكون كلمة واحدة ذات دلالات عديدة مثل لفظ الأمّة فهذه الكلمة قد يفهم منها معنى الأمّة من الأمم أو الأمّة القامة قامة الإنسان أو الأمّة الرجل الواحد الذي يقتدي به الناس، ومن هذا النوع من الكلمات ما قد يأتي اللفظ وضدّه أيضاً” (قطرب، 1984م، 69-70) ومثال ذلك كلمة ظنَّ التي تأتي بمعنى اليقين تارة والشكِّ تارة أخرى كما في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّيٓ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٢٤٩﴾ سورة البَقَرَةِ. ﴿ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ ٤٦﴾ سورة البَقَرَة.

فهذا مدح للمؤمنين الموقنين بلقاء ربهم فقد ذكر الطبري في تفسيره ما مفاده: “لو قال امرؤٌ: كيف يُخبر الباري عزّ وجلَّ عن المؤمنين الموصوفين بالخشوع أنّهم يظنّون بلقاء الله ظنًّا والذي يشكُّ في لقاء ربّه كافرٌ بالإجماع فيقال له: إنَّ العربَ كما تُسمّي الشكَّ ظنًّا فهم يسمّون اليقين ظنًّا والسّياق هو الذي يبرز المعنى المقصود من بين المعنيين”. (الطبري، 2000م، 1/17-18) أما قوله تعالى (إن هم إلا يظنون) فهذا ذمٌّ للمكذبين فظنّ هنا بمعنى كذّب وأنكر وقد جاء في تفسير الطبري فيها ما مفاده: “أنَّ الظنَّ في هذه الآية معناه الشكُّ”. (المصدر السابق، 2/262-263)

واللغة العربية لغة متفوقة على أخواتها بقية اللغات في غناها بتلكم المفردات من الأنواع الثلاثة سالفة الذكر وما يهمنا في بحثنا هو الكلمات التي تدل على معنى مشترك واحد وتسمى المترادف وهذا النوع زاخر في معاجم اللغة العربية وقد فطن علماء اللغة العربية في القرنين الثاني والثالث الهجريين إلى هذه الظاهرة اللغوية المسماة بالترادف أحياناً مثل كتاب الألفاظ المترادفة لأبي الحسن علي بن عيسى الرماني وأحياناً أخرى سمّيت بما اختلفت ألفاظه واتفقت معانيه مثل كتاب ما اختلفت ألفاظه واتفقت معانيه للأصمعي.

وقد اختلف العلماء في إثبات ظاهرة الترادف فمنهم مقرٌّ بها ومنهم منكرٌ لها ومنهم من بالغ في إثباتها وذُكر أن الأصمعي قال في حضرة هارون الرشيد إنّه يحفظ للحجر سبعين اسماً. (السيوطي، 1998م، 1/325)

وقد قادت ظاهرة المبالغة في تبنّي الترادف والتفاخر بحفظ المسمّيات العديدة للمعنى الواحد إلى ظهور تيار معارض لوجود الترادف في اللغة ومن هؤلاء أبو حسين أحمد بن فارس (المتوفى سنة 395 هجري) وأبو محمد عبدالله بن جعفر بن درستويه (المتوفى سنة 330 هجري) وأبو عبدالله محمد بن زياد الأعرابي (المتوفى سنة 231 هجري) وأبو علي الفارسي (المتوفى سنة 230 هجري) وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب (المتوفى سنة 291 هجري) وكمثال على إنكارهم للترادف ما يروى عن أبي علي الفارسي أنه قال: إنّ ابن خالويه قال في حضرة سيف الدولة إنّه يحفظ للسيف من الأسماء خمسين اسماً فعارضه أبوعلي الفارسي مبتسماً وقال أما أنا فلا أحفظ للسيف إلّا اسماً واحداً وهو السيف فردّ ابن خالويه فأين الصارم والمهند وغير ذلك؟ فأجابه أبو علي الفارسي إنّما هذه صفات السيف وعليك أن تفرّق بين الاسم وصفته. (السيوطي، 1998م، 1/36)

وخلاصة القول: إنّ العلماء انقسموا في مسألة الترادف إلى فريقين:

الفريق الأول هم من يسمّون بالاشتقاقيين وهم لا يوافقون على وجود الترادف الكامل ويصرُّون على أنّ هناك فروقاً بين الألفاظ التي تظهر وكأنّها مترادفة ومن أئمة هذا المذهب العسكري والفارسي وثعلب وابن فارس والمبرد ومثال ذلك درجات الشعور بالعطش يعبّر عنها في اللغة العربية بألفاظ مختلفة ولكل لفظ دلالة على درجة العطش الذي يُشعر به.

“فالعطش هو الإحساس بالحاجة إلى الماء والظمأ حين يشتدّ العطش وزيادة شدّة العطش يعبّر عنها بالظمأ ثمَّ بالصدى وزيادة الصدى الغُلَّة وزيادة الغلّة اللُّهبة وبعدها الهُيام ثمَّ الأوام وإذا اشتدَّ الأوام سُمّي الجواد وهذه الدرجة قاتلة”. (الثعالبي، 2002م، 125-126) فلو سمعت أن فلاناً عطشانٌ فأنت تفهم حاجته للماء من غير ضرورة للإسراع في جلب الماء إليه أمّا الهائم فيكاد العطش يقضي عليه فلا بدّ من الإسراع في نجدته.

وذكر العسكريّ الفرق بَين الذرء والخلق كما يلي: “الْإِظْهَار هو أصل معنى كلمة ذرأ وإذا أظهر الله خلقَهُ بإيجادهم فقد ذرأهم من العدم ولظُهُور البياض وكثرته يقال الذراة ويقال للملح الأبيض ذراني وكلمة ذرو بدون همزة معناها أن يُفرّقَ بين شيئين”. (أبو هلال العسكري، دون تاريخ، 1/138)

وذكر أيضًا الْفرق بَين الْبُرْء والخلق كما يلي: “إذا ميّز الله صور مخلوقاته فقد برأهم فالبرء هو تمييز صورة المخلوق وَأَصل المعنى الْقطع وَمِنْه جاءت كلمة الْبَرَاءَة أي أن تُقطَعَ الْعلقَة وبرئ فلانٌ من مرضه أي أسباب المرض انْقَطَعت ويقالُ برئ فلانٌ من الدّين ويقالُ عن اللَّحْم برأه فلانٌ من الْعظم إي قطعه وإِذا انْقَطَعت عن رجلٍ عصمةُ رجلٍ آخر فقد تبرّأ الأخير من الأوّل”. (المرجع السابق، 1/138)

الفريق الثاني وهم الذين أكّدوا على وجود الترادف الكامل وحجتهم أننا لو أنكرنا وجود الترادف التام لما أمكننا تفسير الألفاظ بألفاظ أخرى مرادفة لتقريب المعنى وتوضيحه ومثالاً على ذلك شرح لاريب فيه بـلاشكّ فيه ولو لم تكن كلمة الشكّ مرادفة لكلمة الريب لما أمكن تفسيرها بها ومن أئمة هذا المذهب الفخر الرازي والتاج السبكي وابن خالويه والفيروز آبادي.

وهناك من يميل إلى التوسّط في هذه المسألة حيث يرى أنّ الترادف نقرّه ليتعامل به الناس في حياتهم العامة ويكفي فهمهم الذي لا يفرّق بين الدلالات الخفيّة في كل لفظ من الألفاظ التي تسمّى بالمترادفات أمّا حين يتعامل مع الألفاظ عالمٌ أو ناقد يغوص في أعماق المعاني لاستخراج لآلئ من دقائقها وإبداع التعبير والتصوير في كل لفظ بما يختصّ به من معنى فلا بدّ حينئذ من تلمّس الفروق اللغوية وبناءً على ما سبق ننطلق في رحلة بحث في آيات خلق الإنسان وما نعثر عليه من كنوز الفروق اللغوية ممّا جاء في ألفاظ فيها والفروق بينها وبين ما يبدو أنّه مرادف لها.

المحطة الرابعة: نماذج من بلاغة الكلمة في سورة النور:

جاء في قوله تعالى: (ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) ٢ سورة النُّور. (ولا تأخذكم بهما رأفة..) ويتساءل القارئ إذا كانت الرأفة مرادفة للرحمة فلماذا لم يستخدم البيان الإلهي العظيم كلمة الرحمة في هذا السياق واستخدم كلمة الرأفة والذي يظهر من البحث في معاجم اللغة أن هناك فرقاً دقيقاً بين الرحمة والرأفة فكما يذكر ابن منظور في لسان العرب أن الرأفة هي أشد الرحمة وينقل عن الزجّاج تفسيره لهذه الآية بأن لا يرحم من يطبق أمر الله في إقامة الحد على أولئك فتؤدي رحمتهم إلى إسقاط الحد فالرأفة أخص من الرحمة وأكثر دقة (ابن منظور، 1414ه، 9/112)

وفي هذه الآية بلاغة أخرى في تقديم الزانية على الزاني ويذكر الألوسي في تفسيره لهذا التقديم بأنّ الأنثى لولا تمكينها للزاني لم يزن (الآلوسي، 1415هـ، 9/277)كما يذكر الألوسي أنّ قوله تعالى في هذه الآية (إن كنتم تؤمنون بالله..) يخرج عن معنى الشرط إلى معنى التهييج والإلهاب كما لو قيل لرجل لا يشك في رجوليته إن كنت رجلاً فافعل كذا فالمخاطبون في هذه الآية هم مؤمنون ولا شكّ في ذلك وإنما جيء بهذا الأسلوب تحريكاً لحميتهم ليجتهدوا في تطبيق أحكام الله على وجهها الدقيق وماهذا إلا ليقاوموا نوازع الرأفة في تطبيق أمر الله على من استحق إقامة الحد عليه (الآلوسي، 1415هـ، 9/282).

أما كلمة طائفة في قوله (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) فقد ذكر مجاهد أنّ الطائفة تكون دون الألف. (ابن منظور، 1414هـ، 9/226)

والذي يظهر والله أعلم أنّ المراد من هذه اللفظة دون غيرها أنّ الذين يحضرون تطبيق الحد لا إلزام في تحديد عددهم بل يكون بحسب ما يتيسر من الواحد إلى الألف

وفي الآية: (وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ أَزۡوَٰجَهُمۡ وَلَمۡ يَكُن لَّهُمۡ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمۡ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمۡ أَرۡبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ) ٦ سورة النُّور. فإنّ كلمة يرمون تبين شدة وقع ذلك الفعل على الزوجة ومقدار الإيذاء الذي تتعرض له جرّاء ذلك فقد جاءت الكلمة معبرة أيّما تعبير عن فداحة اتّهام الزوجة في شرفها وعفتها

يقول الشوكاني في تفسير كلمة (يرمون) إنّ الله سبحانه وتعالى استعار الرمي بالتعبير عن الشتم بفاحشة الزنا فهو جناية بالكلام ويذكر شاهداً من قول النابغة (وجرح اللسان كجرح اليد) كما يسمى الشتم بالفاحشة (قذفاً) وقيل إنَّ الآية تشمل الرجال والنساء بمعنى قذف الأنفس المحصنات (الشوكاني، 2015م، 18/998)

وفي الآية: (إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ) ١١ سورة النُّور, تستوقفنا كلمة الإفك التي هي مرادفة للكذب وفي البحث عن المعنى القاموسي للكملة نجد ابن فارس في مقاييس اللغة يقول (أَفَكَ الشيء قلبه وصرفه عن جهته وأَفِكَ شخص إذا كذب فلا نلمس في شرح الكلمة فرقاً بين الإفك والكذب إلا أنّ الكلمة تحمل أيضاً معنى قلب الحقائق وصرف الأنظار إلى ما يختلقه الكذابون من زور وبهتان. (ابن فارس، 1979م، 1/118)

أما في معنى العصبة فقد جاء أن الخليل حددهم بعشر رجال ولا يقال عصبة لأقل من عشرة وسميت بالعصبة لأنّها عُصبت أي ربط بعضها ببعض. (ابن فارس، 1979م، 4/339)

وهذا المعنى يقودنا إلى دقة التعبير القرآني في هذه اللفظة للإشارة إلى معنيين مهمين الأول: أنّ الذين وقعوا في مستنقع الإفك عدد قليل من مجتمع الصحابة والمعنى الثاني: أنّهم كانوا على صلة فيما بينهم واتفاق في تناقل خبر الإفك والخوض فيه وذلك معنى مستنبط مما تحمله كلمة عصبة من معنى ربط جزء بآخر

وذكر ابن عاشور في تفسيره أنّ الإفك كذب لا شك فيه وبهتان يفجأ من يسمع به وهو مشتق من الأَفك بفتح الهمزة وهو قلب الشيء وعلى ذلك سمي أصحاب المؤتفكة بهذا الاسم لأنَّ قراهم قلبت حتى صار أسفلها أعلاها ولهذا فالإخبار بكذب يقلب الحقيقة يسمى إفكاً. (ابن عاشور، 1984م، 18/169)

وللوقوف على قصة الإفك كاملة يمكن قراءتها في الجزء الثامن عشر الصفحات 70 – 71 في كتاب التحرير والتنوير لابن عاشور

والعصبة كما ذكر جمهور أهل اللغة هم الجماعة بين العشرة والأربعين وقيل بين الثلاثة والعشرة كما روي عن ابن عباس أنهم أربعة (ابن عاشور، 1984م، 18/171)

وفي الآية: (إِذۡ تَلَقَّوۡنَهُۥ بِأَلۡسِنَتِكُمۡ وَتَقُولُونَ بِأَفۡوَاهِكُم مَّا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ وَتَحۡسَبُونَهُۥ هَيِّنٗا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٞ) ١٥ سورة النُّور. وتلقونه بمعنى تتلقونه والتلقي هو التكلف في أخذ الشيء وتلقي الخبر إنّما يكون بالأذن وجعلت الألسن هي وسيلة التلقي على سبيل الاستعارة المكنية بعلاقة الأيلولة وهذا على سبيل التوبيخ للذين لم يتريثوا وبادروا بنقل الأخبار وأما قوله تعالى: (تقولون بأفواهكم..) والقول لايكون إلا بالأفواه فهذا تمهيد لما يأتي بعده وهو قوله تعالى (ماليس لكم به علم) فهو مجرد قول من غير تثبُّت وعلم يجري على الأفواه للمتسرع وبعيداً عن التثبُّت والعلم (ابن عاشور، 1984م، 18/178)

وفي الآية: (وَلَوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ قُلۡتُم مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبۡحَٰنَكَ هَٰذَا بُهۡتَٰنٌ) عَظِيمٞ ١٦ سورة النُّور, لماذا جاءت كلمة بهتان: جاء في مقاييس اللغة لابن فارس أنّ الفعل بَهَتَ البهت هو الحيرة والدهشة (ابن فارس، 1979م، 1/307)

فليست الكذبة مجرد كذبة عابرة إنّما هي كذبة تجعل الحليم حيران وقد جاء في التحرير والتنوير لابن عاشور أنّ البهتان هو الخبر الكاذب الذي يبهت السامع (ابن عاشور، 1984م، 18/181)

ومع ما تحمله هذه الكلمة من تصوير لعظم ما جاء به أصحاب الإفك جاء الوصف بعد هذه الكلمة بأنّه ليس مجرد بهتان أيضاً بل بهتان عظيم مبالغة في تقريع من انغمس في هذا الأمر المشين

وفي قوله تعالى: (وَلَا يَأۡتَلِ أُوْلُواْ ٱلۡفَضۡلِ مِنكُمۡ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤۡتُوٓاْ أُوْلِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَلۡيَعۡفُواْ وَلۡيَصۡفَحُوٓاْۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٌ) ٢٢ سورة النُّور. ذكر الراغب الأصفهاني أنّ الصفح أبلغ من العفو فقد يعفو الإنسان ولا يصفح فالصفح هو ترك التثريب (اللوم) (الراغب الأصفهاني، 1412هـ، 1/486)

وقد ذكر ابن عاشور أنّ العفو يكون بترك معاقبة المذنب أما الصفح هو مصدر من صفح صفحاً إذا قام الإنسان بالإعراض عن شيء مولياً صفحة وجهه وهذا مجاز يقصد منه عدم مواجهة المذنب وتقريعه بذنبه وعدم لومه فالصفح أبلغ من العفو (ابن عاشور، 1984م، 1/671)

وفي الآية: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ) ٢٧ سورة النُّور, فإنّ التعبير بكلمة تستأنسوا كناية عن الاستئذان فهي كناية لطيفة يقصد منها طلب الأنس من صاحب البيت والتأكد من انتفاء الوحشة والكراهية فكانت كلمة تستأنسوا أبلغ من تستأذنوا في هذا المقام فسبحان الله من أنزل القرآن المعجز بدقة بيانه (ابن عاشور، 1984م، 18/197)

المحطة الخامسة: في بلاغة الضمير:

﴿وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ فَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ بَطۡنِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ رِجۡلَيۡنِ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰٓ أَرۡبَعٖۚ يَخۡلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٤٥﴾ سورة النُّور.

في هذه الآية الكريمة يلاحظ المتمعِّن في كلماتها إعجازًا في استخدام الضَّمير المتَّصل في كلمة بطنه وعدم استخدام الضَّمير المتَّصل في كلمة رجلين وقبل الإشارة إلى ما يُستنبط من إعجاز في هذه المسألة نستعرض تفسير هذه الآية كما جاء في فتح القدير: “أنّ كل دابَّة يعني أيّ مخلوق يدبّ على الأرض ويُذكر أنّ التاء للمبالغة وأنّ معنى من ماء أي النُّطفة أو الماء المعروف فقد خُلق آدم كما هو معلوم من الطين والماء ولأنّ بعض الحيوانات لا تتولد من النُّطفة فجاء التعبير بالماء للتغليّب ومثال ذلك الملائكة عليهم السلام فقد خلقوا كما هو معلوم من نور والجن خلْقُهم كان من نار وتلك المخلوقات بعضها كالحيَّات والدُّود تمشي على بطنها وبعضها كالإنسان والطَّير يمشي على رجلين وبقية الحيوانات تمشي على أربع ويخلق الله من المخلوقات ما يشاء أن يخلق فهو القادر على كل شيء. (الشوكاني، 2015م، ص1020- 1021)

فقد فسّر الشوكاني أنّ من الحيوانات من يمشي على بطنه وذكر مثالًا على ذلك الحيَّات وأنّ منها من يمشي على رجلين وذكر على ذلك الإنسان وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: لماذا جاءت كلمة بطنه مرتبطة بالضمير الغائب (ه) الذي يعود على جنس الحيوان المتَّصف بهذه الصفة وهي المشي على بطنه أما حيث جاءت كلمة رجلين للإشارة إلى جنس المخلوق الّذي آلة مشيه الرجلين كالإنسان لماذا جاءت كلمة رجلين غير مرتبطة بضمير الغائب العائد على جنس هذا المخلوق؟ وهذا التَّساؤل لم أعثر له في كتب التفسير التي وقعت بين يديَّ على إجابةٍ وهذا ما قادني إلى التَّفكُّر والتَّأمُّل الذي بدورهِ قادني إلى التَّفسير التَّالي: إنّ الحيوان الذي يمشي على بطنه لا يمكنه إلا أن يمشيَ على بطنه هو ولو تعطل هذا البطن لتعطلت حركته ولو أُزيل هذا البطن لتوقف عن الحركة وغالبًا يموت أما الإنسان كمثال على من يمشي على رجلين ففي حال تعطُّل أو إزالة رجل أو الاثنتين معًا فإنَّنا نرى في واقعنا المعاش من يمشي على أرجل مستعارة وهي ليست برجليه فسبحان الله المعجز في بيانه في كلِّ كلمة من كلمات قرآنه فلو قال على رجليه لفُهم أنّه لا يستطيع المشي إلا برجليه ولا يمكنه المشي بأرجل مستعارة ففي حذف الضمير في كلمة رجلين إعجاز وفي إثبات الضمير في كلمة بطنه إعجاز وهذا دليل يضاف إلى أدلة لا حصر لها على أن هذا القرآن كلام الله الخالق المبدع الذي لا يأتيه الشكّ ولا يخالطه الخلل كلام معجز عظيم من لدن خالق كريم.

المحطّة السادسة: في بلاغة الاسم النكرة:

الاسم النكرة يُستخدم للدَّلالة والإشارة إلى شيء بشكل عامّ من غير تحديد وهذا خلاف الاسم المعرفة الّذي يدل على شيء محدَّد وفي الآية التالية سيشار إلى بعض النكرات الواردة فيها مع الإشارة إلى بلاغة ورودها نكرة في السياق الّذي وردت فيه (الغلاييني، 2000م، 1/147)

﴿وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ فَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ بَطۡنِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ رِجۡلَيۡنِ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰٓ أَرۡبَعٖۚ يَخۡلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٤٥﴾ سورة النُّور.

جاء في الآية الكريمة (كل دابَّة من ماء) والتنكير هنا في كلمة دابَّة لإفادة العموم أي تشمل كل ما يدبّ على الأرض ويذكر الألوسي أنّ التاء في كلمة دابَّة ليست للتأنيث وإنّما لنقل الكلمة إلى الاسمية وقد قيل في وصف الدابَّة دابَّة واحد فيدخل في عموم معنى دابَّة على ما جاء في التفاسير الحيوانات التي تدبّ على الأرض ومنها الإنسان وأدخلوا الطير والسمك في عموم معنى هذه الكلمة وبعض أئمة التَّفسير أدخلوا الجنَّ والملائكة في عموم معنى كلمة دابَّة.

فتنكير دابَّة لإفادة العموم كما يظهر وتنكير ماء للإفراد النَّوعي فتنكير الماء يشير إلى أنّ حقيقة الماء هي مبدأ أيِّ شيء حيٍّ وكذلك تنكير كلمة رجلين وكلمة أربع تشير إلى عموم كلّ مخلوقات الله التي تمشي على رجلين كالإنسان والطير وكل ما يمشي على أربع والأمثلة على ذلك كثيرة. (الآلوسي، 1415هـ، 9/384-385).

الخاتمة

وفي الختام فلايزال القرآن الكريم كلما ورد الواردون إلى معينه العذب من الباحثين عن كنوز البلاغة ولآلئ المعاني وجدوا فيه ما يخلب الألباب ويسترعي الإعجاب وعلى كثرة الدراسين الباحثين عن أسراره والمنقبين عن عجائبه وفرائده ورغم ما وصلوا إليه وصدروه لنا في كتب عديدة فإن كل باحث يغوص في أعماق هذا البحر الزاخر يحظى من كرم الله بكنوزٍ جديدةٍ وجواهر فريدة في ميدان البلاغة والفصاحة وقد آثرتُ أن أخوض عُباب هذا البحر وأغوص عند شواطئ آيات سورة النور محددًا هدفي في البحث في محطّاتٍ استوقفتني في هذه السورة العظيمة منها ما يخصُّ اسمها وأسباب نزول آياتها ثمّ عرّجتُ على جانبٍ من جوانب البلاغة ألا وهو بلاغة الكلمة في هذه السورة من خلال مختارات من مفرداتٍ فيها والذي دفعه إلى ركوب سفينة البحث في هذه السورة تساؤلاتٌ كانت تقرعُ أبواب التفكُّرِ لديَّ كلّما قرأتُ في سورة النور ومن هذه التساؤلات كوّنت محطّاتٍ في ظلال هذه السورة فكانت المحطة الأولى تبحث في سبب التسمية وأسباب النزول والثانية تعدّدُ الأحكام والعبر المستوحاة من السورة والثالثة كانت مدخلا لما بعدها من بلاغة الكلمة حيثُ ذكرت آراء العلماء في مسألة الترادف ثم جاءت المحطة الرابعة لتتناول بلاغة الكلمة من خلال المقارنة بين بعض المفردات ومرادفاتها وثبّتُّ معاني هذه المرادفات بما وجدته في قواميس اللغة ثم عقدت مقارنة بين مدلولاتها معتمدًا على مصادر اللغة والتفسير ثم جاءت المحطة الخامسة عن الضمير ذكره وحذفه في الآية 45 من هذه السورة ودوره البلاغي في هذه الآية وأدّعي فيما يبدو لي بعد بحث في كتب التفسير والبلاغة التي استطعت الوصول إليها أنّني توصّلت إلى اكتشاف بلاغة فريدة وإعجاز عظيم في دقّة التعبير القرآني عن مخلوقات الله في تلك الآية وبعد ذلك ختمتُ بالمحطّة السادسة والأخيرة حيث تناولت النكرات الواردة في الآية 45 سالفة الذكر ودورها البلاغي. ومن أهمِّ النتائج التي توصّلت إليها:

1- الكلمة القرآنية الواردة في هذه الآية لها في سياقها مدلول خاص تتفرّد به وتتميّز عن أخواتها من المرادفات

2- والضمير لم يكن مذكورًا أو محذوفًا إلا لتحقيق غاية معنويّة وبلاغية أو إعجازيّة

3- وكذلك الاسم النكرة لم يكن نكرة إلا لإفادة العموم غالبًا ليخدم سموّ المعنى وكماله في السياق الذي جاء فيه

وأخيرًا أوصي كلّ باحثٍ من طلّاب العلم أوّلًا بتقوى الله قبل كلّ شيءٍ ثمَّ الالتفات إلى هذا الجانب المهمِّ والممتعِ من الدراسات لإغنائه وسبر أغواره وإخراج كنوزه ونفائسه ومع ما كان من جهدٍ ممتع ووقتٍ استغرقه هذا المقال فلا أرى نفسي إلّا وقد اغترفت من بحر محيط غرفةً تزيد من أوامِي للمزيد من البحث وتفتح للباحثين آفاق البحث في تلك الآيات أو غيرها وخصوصًا في مضمار بلاغة الكلمة والله وليّ التوفيق.

المصادر والمراجع

ابن عاشور، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر. (1984م). التحرير والتنوير “تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد”. تونس: الدار التونسية للنشر.

ابن فارس، أحمد. (1979م) معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون. بيروت: دار الفكر.

ابن منظور، محمد بن مكرم. (1414هـ). لسان العرب، ط3. بيروت: دار صادر.

أبو هلال العسكري، الحسن بن عبد الله. (دون تاريخ). الفروق اللغوية، تحقيق وعلق عليه محمد إبراهيم. القاهرة: دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع.

الألوسي، شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني. (1415هـ). روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، تحقيق: عليّ عبدالباري عطية، ط1. بيروت: دار الكتب العلمية.

الثعالبي، عبد الملك بن محمد أبو منصور. (2002م). فقه اللغة وسرّ العربيّة، تحقيق: عبد الرزّاق المهدي، ط1. بيروت: إحياء التراث العربي.

الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد. (1412هـ). المفردات في غريب القرآن، تحقيق صفوان عدنان الداودي، ط1. دمشق: دار القلم، الدار الشامية.

الزحيلي، وهبة. (1418هـ). التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، ط2. دمشق: دار الفكر المعاصر.

السامرائي، فاضل. (2006م). بلاغة الكلمة في التعبير القرآني. ط2. القاهرة: شركة العاتك لصناعة الكتاب.

السامرائي، فاضل، (2003م). لمسات بيانية في نصوص من التنزيل. ط3. عمّان: دار عمّار.

السامرائي، فاضل، (2006م). التعبير القرآني. ط4. عمّان: دار عمّار.

سيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر. (1988م). الكتاب، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون. ط3. القاهرة: مكتبة الخانجي.

السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر. (1998م). المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق: فؤاد علي منصور، ط1. بيروت: دار الكتب العلمية.

الشوكاني، محمد بن علي. (2015م). فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، اعتنى به وراجع أصوله يوسف الفوشي، ط7. بيروت: دار المعرفة.

الطبري، محمد بن جرير. (2000م). جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط1. بيروت مؤسسة الرسالة.

الغلاييني، مصطفى. (2000م). جامع الدروس العربية، ط38. بيروت: المكتبة العصرية.

قطرب، محمد بن المستنير. (1984م). الأضداد، تحقيق الدكتور حنا حداد. الرياض: دار العلوم للطباعة والنشر.

الواحدي، علي بن أحمد. (1411ه). أسباب نزول القرآن، تحقيق كمال بسيوني زغلول، ط1. بيروت: دار الكتب العلمية.