أثر الموقع النحوي على والوظيفة الدلالية (دراسة وصفية تحليلية لنصوص من دلائل الإعجاز)

د. نيكسون جونسون بونا1

1 أستاذ مساعد تخصص اللغة العربية (علم اللغة) جامعة بحر الغزال – دولة جنوب السودان

بريد الكتروني: nixonjohnson79@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(3); https://doi.org/10.53796/hnsj53/13

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/03/2024م تاريخ القبول: 20/02/2024م

المستخلص

هذا بحث في الأثر الذي يحدثه الموقع النحوي للكلمة على الدلالة من حيث نشؤ علاقات سياقية جديدة للكلمة تكسبها دلالة جديدة، فالبحث يسعى إلى بيان أثر العلاقات غير المعتادة على الدلالة في التركيب النحوي اعتمادا على نصوص من كتاب دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني. اعتمد البحث على المنهج الوصفي التحليلي. خلصت الدراسة إلى عدد من النتائج من أهمها: أن للموقع النحوي أثر مهم في تحديد المعنى الدقيق في النظم، الموقع النحوي يوسع الدلالة الأصلية للكلمة عن طريق التشبيه والمجاز …، وتحديد الموقع النحوي يحتاج إلى عقل مبدع.

الكلمات المفتاحية: الكلمة / اللفظ / العلاقات / الوظيفة.

Research title

The effect of grammatical location on semantic function (A descriptive and analytical study of texts from evidence of miracles)

Dr. Nixon Johnson Bona1

1 Assist. Professor Specialized in Arabic Language (Linguistics) – University of Bahr El-Ghazal – South Sudan

Email: nixonjohnson79@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(3); https://doi.org/10.53796/hnsj53/13

Published at 01/03/2024 Accepted at 20/02/2024

Abstract

This is a research into the effect that the grammatical position of the word has on its connotation in terms of the emergence of new contextual relationships for the word that give it a new meaning. The research seeks to explain the effect of unusual relationships on the connotation in the grammatical structure based on texts from the book Dala’il al-I’jaz by Abd al-Qahir al-Jurjani. The research relied on the descriptive analytical method. The study concluded with a number of results, the most important of which are: The grammatical location has an important impact in determining the precise meaning in systems. The grammatical location expands the original meaning of the word through simile and metaphor…, and determining the grammatical location requires a creative mind.

Keywords: word / pronunciation / relationships / function.

المقدمة.

الحمد لله حمدا يليق بجلال قدره، والصلاة والسلام على النبي العربي مفلق البيان،

أما بعد،

هذا بحث في بيان أثر الموقع النحوي للكلمة على وظيفتها الدلالية بالتركيز على نصوص من دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني في تناوله أسباب الفصاحة والبيان في كلام العرب، والبحث محاولة للوقوف على الأثر الذي يتركه موقع الكلمة فعلا أو فاعلا أو مفعولا أو حالا… ألخ، على الوظيفة الدلالية للكلمة. وندرك تماما أن كل لفظ له دلالة معجمية معينة وله إستخدام إجتماعي معين في سياق معين، ولكن عندما يتغير هذا السياق الموقعي يكتسب اللفظ وظيفية دلالية جديدة مستمدة من دلالتها الحقلية، لذا يعتبر السياق – بأشكاله المختلفة من بين العناصر المهمة في عملية توصيل المعنى أما الجانب الثاني في هذه العملية فهو “اختيار الكلمة المنطوقة التي تشغل الوظيفة النحوية لتصبح صالحة للدخول في علاقة نحوية معينة مع كلمة أخرى تشغل وظيفة أخرى في الجملة الواحدة”([1])، فالإبداع عند المتكلم يكون في اختيار كلمة محددة لشغل موقع نحوي محدد لأداة وظيفة دلالية معينة بظهور علاقات تركيبية جديدة غير معتادة تجعل المعنى أكثر تأثيرا.

موضوع البحث.

الأثر الذي يتركه الموقع النحوي على دلالة الكلمة من حيث نشوء علاقات سياقية جديدة للكلمة تكسبها دلالة جديدة.

مشكلة البحث.

بيان اثر العلاقات غير المعتادة في التركيب على الدلالة.

حدود البحث.

نصوص من كتاب دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني والدراسات اللغوية المعاصر.

أهداف البحث.

يهدف هذا البحث إلى دراسة أثر الموقع النحوي للكلمة على الوظيفة الدلالية اعتمادا على نصوص من كتاب دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، لأهمية العلاقات النحوية في التركيب على الوظيفة الدلالية للكلمة.

منهج البحث.

اعتمد البحث على المنهج الوصفي التحليلي.

هيكل البحث.

جاء البحث في مقدمة ومبحثين ثم الخاتمة مشتملا على النتائج وأخيرا قائمة المراجع والمصادر.

الدراسات السابقة.

المفردة بين الدلالة الوظيفية والتركيبية عند عبد القاهر الجرجاني، دكتور تراث حاكم مالك الزيادي، بحث منشور في مجلة القادسية في الآداب والعلوم التربوية العددان (1 – 2) المجلد (7)، 2008م.

وقد توصلت الدراسة إلى النتائج التالية:

  • يستخدم المتكلم المبدع أنواع الاحتمالات النحوية الممكنة عقلا في خلق أنماط تركيبية جديدة.
  • ترتيب الدوال داخل السياق يضفي عليها أهميتها.

المبحث الأول.

أهمية الموقع النحوي.

إنّ المعاني النحوية من فاعلية ومفعولية وغيرها…، عند النحاة، هي عند أصحاب نظرية الحالة الإعرابية أدوار دلالية تُمثَل معرفياً حتى تتميز عما للألفاظ من خواص الدلالة المعجمية. يقول صاحب الخصائص أنّ غاية النحو هي: “معرفة النسبة من صيغة النظم وصورة المعنى”([2]). فالعلاقات بين الكلمات في العبارة أو الجملة تأخذ معناها من سياق الكلام. وأبواب النحو ما هي إلاّ تعبير عن الوظائف النحوية التي تنظمها لغة من اللغات مثل:

  • وظيفة الفاعل.
  • وظيفة النائب عن الفاعل.
  • وظيفة المبتدأ.
  • وظيفة الخبر.
  • وظيفة المستثنى…ألخ.

وهذه الوظائف هي وظائف دلالية في الواقع تكتسبها الألفاظ من خلال علاقاتها في النظم. كما نجد أحياناً في النظم تعدد الوظائف النحوية للمكون الواحد، “ليس لوحدات اللغة علاقة ثابتة بالوظائف النحوية كما هو الشأن في علاقة الوحدات بالمعاني، فالعلاقة بين الوحدات اللغوية والمعاني متغيرة، فقد يتعدد المعنى للفظة الواحدة كما قد تؤدي وحدة لغوية واحدة عديداُ من المعاني في التراكيب المختلفة. وهذا بطبيعة الحال راجع إلى زيادة المعاني عن عدد الوحدات اللغوية في اللغة الواحدة وفقاً لمبدأ كفاءة العقل البشري ومدى استيعابه لعدد محدود من الوحدات”([3]). ففي التركيب النحوي للجملة هناك ما يقتضيه الكلام من تناسب ومطابقة بين الألفاظ المقتضية والموضع الإعرابي الذي يشغله لأنّ اللفظ بما يحمله من دلالة لأبد أنْ يناسب الموضع الذي يشغله، فالقيمة المعنوية للفظ تكون بحسب الموضع البنيوي الذي تحتله. وذلك بشكل خاص لأنّ نقل المعنى من المعنى الأصلي للفظ إلى المعاني الإضافية له يتكون من خلال تلك العلاقات. أو كما يُقال في الدراسات النحوية أنّه: توجد بِنية دلالية مصدر وأبنية دلالية مشتقة. مما يطرح التساؤل الآتي:

  • هل جميع العلاقات المعنوية التي تظهر في السطح تعود في تأويلها إلى ما هو أصلي أم أنّه توجد معانٍ جديدة لا علاقة لها بهذا الأصل؟

إن المشكلة التي واجهت اللغويين المحدثين ولا سيما أصحاب النظريات النحوية الحديثة ، هي” تحديد مكان الدلالة، هل تكمن في المعاني المعجمية للمفردات المكونة للتراكيب، أو أنها تكمن في الوظائف النحوية لهذه المفردات، أو في طبيعة العلاقات الرابطة بين وظائفها”([4]).

وكما يبدو من خلال النماذج اللغوية والألفاظ المكونة لها أنّ اللفظ يكتسب دلالات إضافية من خلال العلاقة، تلك الدلالات قائمة على الدلالة الاصلية. فإنّ الجرجاني لم يخرج في هذه المسألة –الموضع النحوي- عن الفكرة التي وضعها الخليل ووضحها سيبويه أكثر ، نعني فكرة المسند والمسند إليه والعلاقة بينهما كأساس لتكوين جملة لغوية أو (عبارة لغوية)، حيث يوضح الجرجاني أنّ العلاقة بين المسند والمسند إليه تقوم على مفهوم: الإثبات والنفي.

رغم أنّه يمكن إعتبار الموقع النحوي أو العلاقات النحوية جزءً من السياق، فإنّما نحن هنا نقصد الروابط الدلالية بين كلمةٍ وأخرى من حيث المفهوم النحوي، فالدرس النحوي “هو العلم الذي يبحث في وظائف الكلمة من خلال العلاقات السياقية اللغوية”([5]). أمّا السياق اللغوي فنقصد به العلاقة السياقية في المنطوق اللغوي كله. وقد وضّح الجرجاني هذا الأمر في النص التالي عن الخبر في الجملة الاسمية: “أوّل ما ينبغي أنْ يُعلم منه أنّه ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة، لا يتم الفائدة دونه، وخبرٍ ليس بجزء من الجملة، ولكنّه زيادة في خبرٍ آخر سابق له.

فالأوّل خبرُ المبتدأ كمنطلقٌ في قولك : زيدٌ منطلقٌ. والفعلُ كقولك: خرجَ زيدٌ. فكلُّ واحد من جزءٌ من الجملة، ولكنه زيادةٌ في خبرٍ آخر سابقٍ له.

والثاني هو الحالُ كقولك: جاءني زيدٌ راكباً. وذاك أنّ الحال خبرٌ في الحقيقة من حيثُ إنّك تُثبت بها المعنى لذى الحال كما تُثبتُ بخبر المبتدأ للمبتدأ، وبالفعل للفاعل. ألا تراك قد أثبتَّ الركوب في قولك: “جاءني زيداً راكباً) لزيدٍ؟ إلا أنّ الفرق أنّك جئتَ به لتزيدَ معنىً في إخبارك عنه بالمجئ وهو أنْ تجعله بهذه الهيئة في مجيئهِ، ولم تجردْ إثباتك للركوب ولم تباشره به …، وإذ قد عرفت هذا الفرق فالذي يليه من فروق الخبر هو الفرق بين الإثبات إذا كان بالاسم وبينه، إذا كان بالفعل. وهو فرق لطيفٌ تمسُّ الحاجةُ في علم البلاغة إليه. وبيانه أنّ موضوع الاسم على أنْ يُثبت به المعنى للشئ من غير أنْ يقتضي تجدُّده شيئاً بعد شئ . أمّا الفعلُ فموضوعه على أنه يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئاً بعد الشئ. فإذا قُلتَ زيدٌ منطلقٌ. فقد أثبتَّ الانطلاق فعلاً له من غير أْن تجعله يتجدَّدُ ويحدث منه شيئاً فشيئاً. بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك: زيدٌ طويلٌ وعمرو قصيرٌ. فكما لا تقصد ها هنا إلى أنْ تجعل الطُّول أو القصر يتجدّدُ ويحدث، بل توجبهما وتثبتهما فقط، وتضي بوجودِهما على الإطلا، كذلك لا تتعرضُ في قولك: زيدٌ منطلق لأكثر من إثباتهِ لزيد”([6]).

نستخلص من كلام الجرجاني أنّ الموقع النحوي سبب أساسي في تحديد المعنى الدقيق في (النظم)، فننظر إلى اللفظ من حيث الوظيفة التي تؤديه في النظم ومن ثَمّ دلالته. لذا قد يُلاحظ من خلال العلاقات التركيبية أنّ وظائف الألفاظ في التركيب هو البحث في العلاقات المعنوية داخل الأبنية النحوية وبحث في الدلالات المعجمية لمكونات الجملة حينما تكوِّن علاقات فيما بينها في مستوى السطح (البنية السطحية). وهناك عدة مؤشرات يُنظر منها إلى هذه العلاقات، من أهمها([7]):

  • المؤشر الأول: ما يقتضيه الفعل من تناسب ومطابقة بين اللفظ والموضع الإعرابي الذي يشغله. فاللفظ بما له من أساس مقولي إعرابي معجمي يرد إلى اِحدى الحالتين: إمّا أنْ يناسب الموضع البنيوي الذي تحتله، ولا وجود لدلالة نمطية مجرّدة تصلح لهذا الموضع أو ذاك بنفس الكيفية، لذا فإنّ إختيار اللفظ المناسب لهذا الموضع المعين يتيح علاقة معنوية وثيقة بينه والألفاظ الأخرى ينتج عنها دلالة معبرة.
  • المؤشر الثاني: نقل المعنى من أصل إلى فرع على إعتبار أنّه توجد بنية دلالية أصلية وأبنية دلالية مشتقة منها متحولة عنها. وقد جرى تساؤل بين الدارسين حول: هل جميع العلاقات المعنوية التي تظهر في السطح تعود في تأويلها إلى ما هو أصلي أم أنّه توجد معانٍ جديدة لا علاقة لها بهذا الأصل؟ وهل وظيفة النحو في العلاقات المعنوية السطحية هي نفس الوظيفة المجردة التي نجدها في البنية العميقة؟

وقد أشرنا في الإجابة إلى هذه التساؤلات في سطورٍ سابقة وذلك بوجود اتجاهين في التحليل والتعليل:

  1. الإتجاه الذي يعيد جميع العلاقات المعنوية إلى ما هو أصلى. فقد إعتبر تشومسكي أنّ البنية العميقة أصل تنتج بواسطة قواعد الإعراب، والبنية السطحية تنتج خاصة بواسطة قواعد التحويل، لذا فإنّه يعتبر أنّ جميع العلاقات المعنوية في البنية السطحية متحولة عن البنية العميقة لأنّ ما يتطلبه الفعل من متعلقات متولدٌ من جهة الدلالة عمّا هو موجود في البنية العميقة ([8]).
  2. الإتجاه الثاني يخالف تشومسكي ومن تبعه فيما ذهب إليه ومن الذين خالفوه : (كارتز)* و(لاكوف)**، على إعتبار أنّ البنية السطحية قد تتضمن علاقات معنوية ونحوية لا أصل لها([9]).

فإذا نظرنا إلى قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] ، من باب الإستعارة في العلاقة بين الإشتعال والرأس والإشتعال والشيب، نلاحظ العلاقة الأصلية لأن الآية تريد جانباً من صفات النار وهي الإشتعال، يقول الطبري نقلاً عن غيره: تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (18/ 143)

نصب الشيب على التفسير، لأنه يقال: اشتعل شيب رأسي، واشتعل رأسي شيبا، كما يقال: تفقأت شحما، وتفقأ شحمي. ففي الإشتعال أرادت الآية جانباً من صفات الاشتعال وهو الشمول، ونسبة لهذه العلاقات المتسلسلة جاء الإعجاز في هذه الآية لوجود علاقة معنوية بين البنية السطحية والبنية العميقة على إعتبار أنّ الدلالة في البنية السطحية مستمدة من البنية العميقة مما أدّى بالألفاظ إلى اكتساب وظائف جديدة.

من هنا ندرك أنَ الموقع النحوي للكلمة يوسع الدلالة الأصلية للكلمة لذا نجد أنّ: “ثم أعلم أنْ ليست المزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق ، لكن تُعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعضٍ واستعمال بعضها مع بعض”([10]). فهكذا يوضح الجرجاني أهمية الموقع النحوي بالنسبة للوظيفة التي تؤديها اللفظ في التركيب، ولا ندرك تلك الوظيفة الناتجة عن العلاقات بين الألفاظ إلاّ من خلال النظر إليها كوحدة متكاملة. يقول الجرجاني: “واعلم أنّ مما هو أصل في أن يَدقَّ النظرُ، ويغمُضَ المسلكُ في توخِّي المعاني التي عرفتَ أن تتخذَ أجزاءُ الكلام، ويدخل بعضها في بعضٍ، ويشتدَّ ارتباطُ ثانٍ منها بأولَ، وأن يحتاج في الجملة إلى أنْ تضعها في النفس وضعا واحداً، وأن يكون حالُك فيها حال الباني، يضع بيمينهِ ها هنا في حالِ ما يضعُ بيسارهِ هناك”([11]). فاجرجاني هنا يضع فرقاً بين النحو وتوخي معاني النحو، فالنحو يبحث في بيان التركيب الصحيح في الجملة العربية التركيب الذي يطابق القواعد النحوية المعروفة، ونظرية النظم عند الجرجاني يقوم على توخي معاني النحو أي إختيار الأساليب التي تفي بغرض المتكلم. وقد مثّل الجرجاني لذلك ببعض الأبيات المشهورة في الشعر العربي ذلك مثل قول امرئ القيس:

كأنّ قلوب الطير رطباً ويابساً لدي وَكْرِها العُنَّابُ والحَشفُ البالي.

وبيت الفرذدق:

والشِّيبُ ينهَضُ في الشَّبب كأنّهُ لَيْلٌ يصيحُ بجانبيهِ نهارُ.

وبيت بشارٍ:

كأنّ مُثارَ النَّقْعِ فوق رؤوسنا وأسيافَنَا ليْلٌ تهاوى كواكِبُه.

وقول زياد الأعجم الذي استحسنه الجرجاني على غيره:

وإنّا وما تُلْقِي لنا إنْ هجوْتَنا لكالبَحْرِ مَهْما يُلْقَ في البَحْرِ يَغْرقِ.

ويقول فيه : “وإنّما كان أعجبَ لأنّ عمله أدقُّ، وطريقه أغمضُ ووجه المشابكة فيه أغربُ”([12]). فجاء وجه الجمال هنا لأنّه كأنّه يقول:

  • نحن بحرٌ مهما يلقى فينا يغرق.

حين أخذ صفة من صفات البحر وهي الاحتواء، فالموقع الذي احتله لفظ (البحر) اكسبه وظيفية جديدة وعلاقات جديدة وترتب على ذلك دلالة جديدة، فالعلاقة بين البحر الحقيقي والبحر المجازي أدت إلى أنْ تحتوي لفظ (البحر) على وظيفة دلالية جديدة وعلاقة أوسع خارج الحقل الدلالي- لعل هنا يكون الغموض الذي ذكره الجرجاني – فأتت التشاكل بين الطرفين:

البحر الحقيقي البحر المجازي

لتأخذ صفة من الصفات وتنشأ بينها روابط وعلاقات، وهنا صفة الإحتواء والصفات الثانوية المتعلقة بها والداعمة لها، فلكي يكون الشئ محتوياً كل ما يلى عليه لأبد أن يكون واسعاً وعميقاً…، وهذا ما نقصدها بالصفات الداعمة. وهذا ما يقودنا إلى منحًى آخر وهو: أنّ لبعض المكونات النحوية تأثير في تحديد دلالة الجملة العربية، “فبعض تلك المكونات تمثل قيداً متسلطاً على بنية الترتيب النحوي فتخصص دلالته وتوجه تأويل السامع له بناء على ما تنسجه من علاقات دلالية وشكلية ومقامية”([13]). يذكر الجرجاني أنّه: “فليس الفضل للعلم بأنّ الواو للجمع، والفاء للتعقيب بغير تراخٍ، و(ثّمّ) له بشرط التَّراخي. و(إنْ) لكذا و(إذا) لكذا، ولكن لأن يتأتى لك إذا نظمتَ شعراً وألّفتَ رسالةً أنْ تُحسن التخيُّر وأن تعرف لكلٍّ من ذلك موضعه”([14]). فالتخيُّر مهم لأنّ كل لفظٍ يتأثر بغيره، أي أنّ لكل لفظٍ ظلال على الألفاظ الأخرى في التركيب، وهذه الظلال تتفاوت بتفاوت رتبة كل لفظ في التركيب مثل: ظل الفعل المتعدي أقوى على الفاعل من المفعول، وكذلك الأمر في حروف المعاني على ما ذكر الجرجاني في القول السابق. وهذه الظلال تقوم بما يشبه القيود غير المباشرة على بقية الألفاظ، ذلك لأنّ هناك علاقة اسلوبية ينشأها المبدع بين الألفاظ ، وهذا موطن البلاغة إذ يجعل المبدع للألفاظ وظائف دلالية جديدة مبدعة من خلال تلك العلاقات، فهو يُحْكِم العلاقة بين الشكل والمعنى. والمتلقي يعيد تفكيكها ثم تركيبها للوصول إلى تلك المعاني. من هنا يظهر مدى ارتباط الألفاظ بالمعاني ومدى قدرة المبدع في إظهار هذا الارتباط من خلال إنشاء علاقات جديدة ووظائف واسعة للكلمة، ليشمل بعد ذلك مجموع العلاقات بين الألفاظ في النص ككل، لتكوين الصورة الشاملة. فالمتلقي هو من يكتشف العلاقات بين الدوال ومدلولاتها والوظائف الموجودة لكل لفظٍ . هكذا نجد أنّ إعجاز القول عند الجرجاني يتشكل كلأتي:

  1. العقل المبدع أو المعنى الذهني أو البنية العمية عند التوليديين.
  2. اللفظة كوحدة بناء.
  3. النحو كوسيلة ربط تجميع الدلالات وإنشاء الوظائف.
  4. التركيب أو النظم عند الجرجاني أو البنية السطحية عند التوليديين.

وتجري العملية من المتكلم إلى المتلقي كالآتي:

هذا يعني أنّه “لا يكف في معنى الفصاحة أنْ تنصب لها قياساً ما، وأن تصفها وصفاً مجملاً، وتقول فيها قولاً مرسلاً، بل لا تكون في معرفتها في شئ حتى تفصل القول وتحصِّل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم، وتعدها واحدة واحدة وتسميها شيئاً شيئاً ، وتكون معرفتك معرفة الصنَّع الحاذق الذي يعلم علم كلِّ خيط من الإبريسم الذي في الديباج وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع، وكلُّ آجرة من الآجر الذي في البناء البديع”([15]). هذا يعني أنّ الموضع النحوي الصحيح للألفاظ يؤدي إلى نماذج الدلالات الموجودة في كلِّ لفظ عبر العلاقات المتبادلة بينها وصولاً إلى الوحدة المعنوية في التركيب كغاية نهائية “واعلم أنّ مَثَل واضع الكلام مَثَل من يأخذ قطعاً من الذهب أو الفضة فيذيبُ بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدةً. وذلك أنَك إذا قلتَ: (ضرَبَ زيدٌ عمراً يومَ الجمعة ضرباً شديداً تأديباً له) فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم كلها على مفهوم، هو معنى واحدٌ لا عدة معانٍ، كما يتوهمُه الناسُ. وذلك لأنك لم تأتِ بهذه الكلم لتفيدهُ أنْفُسَ معانيها، وإنّما جئت بها لتفيده وجوه التعلق التي بين الفعل الذي هو (ضَرَبَ) وبين ما عُمِلَ فيه، والأحكام التي هي محصولُ التعلق”([16]). وبالتالي فإنّ النظم وبلاغته أنْ تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو”واعلم أن ليس (النظم) إلّا أنْ تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، تحفظ الرسوم التي رُسمت لك فلا تخلّ بشئ منها”([17]). يمكننا الول هنا أنّ الامر الفاصل بين الفصاحة على إعتبار أنها المعنى الذهني عند المتكلم قبل أنْ تكون منطوقاً، والكلام الفصيح (المنطوق)، هو قدرة المتكلم المجردة وبين إنجاز هذه القدرة الفعلي أثناء الإنتاج أو الفهم. أي التفاوت ما بين البنية العميقة والبنية السطحية. فكلما كان المتكلم قادراً على الربط بين البنية العميقة والبنية السطحية كان الكلام بليغاً والعكس بالعكس. وفي هذا الأمر هناك اختلاف عند اللغويين المحدثين بالمقصود بقدرة المتكلم أو السامع ، ويتلخص في الآتي:

  1. تنحصر القدرة لدى منظري التيار الصوري* في المعرفة اللغوية الصّرف في مجموعة القواعد الصرفية والتركيبية والدلالية والصوتية. وقد تضاف إلى هذه المعرفة اللغوية معرفة عامة متمثلة في درة نحوية وقدرة تداولية**.
  2. أمّا التيّار الوظيفي (أصحاب النحو الوظيفي)، فلا تمييز بين درة نحوية وقدرة تداولية وإنّما هي عندهم عبارة عن قدرة تواصلية تتضمن معرفة النسق اللغوي تتمثل في المعارف السياقية الآنية والمعارف السياقية العامة ([18]).

المبحث الثاني.

العلاقة بين المسند والمسند إليه والوظيفة الدلالية فيهما.

نجد أنّ الجملة العربية تتألف من صورتين:

  • المسند : الفعل في الجملة الفعلية، نحو : انطلق في جملة : انطلق زيدٌ. والخبر في الجملة الاسمية، مثل: منطلقٌ في قولهم : زيدٌ منطلقٌ.
  • المسند إليه: الفاعل في الجملة الفعلية، نحو: زيدٌ في جملة: انطلق زيدٌ. والمبتدأ في نحو قولهم: زيدٌ منطلقٌ.

فالعلاقة التي تربط المسند والمسند إليه والوظيفة التي يقوم بها كل من المسند والمسند إليه في التركيب هي التي تشكل دلالة التركيب. فقد أشار الجرجاني إلى هذا في النقاط الآتية:

  1. “أنْ ليس النظم شيئاً إلّا توخي معاني النحو وأحكامِه ووجوهه وفروقه فيما بين معاني الكلم”([19]).
  2. “وأنّك قد تبينتَ أنّه إذا رُفع معاني النحو وأحكامُه مما بين الكلم حتى لا تُراد فيها في جملة ولا تفصيل ٍ خرجت الكلم المنطوقُ ببعضِها في أثرِ بعضٍ في البيت من الشعر والفصلِ من النثْرِ عن أنْ يكون لكونها في مواضعها التي وضعت فيها مُوجبٌ ومُقتضٍ، وعنْ أنْ يتصور أنْ يقال في كلمة منها مرتبطة بصاحبةٍ لها، ومتعلقة بها، وكائنةٌ بسبب منها، وأنّ حسنَ تَصوُّرك لذلك قد تثبَّت فيه قدمك وملأ من الثقة نفسَك وبأعدَك من تحِنّ إلى الذي كنت عليه”([20]).

ج- “اعلم أنْ معاني الكلام كلها، معانٍ لا تُتصوَّر إلاّ فيما بين شيئن والأصلُ الأول هو الخبر, وإذا أحكمتَ العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع. ومن الثابت في العقول والقائم في النفوس أنّه لا يكون خبرٌ حتى يكون مخبرٌ به ومخبرٌ عنه، لأنّه ينقسم إلى إثباتٍ ونفي. والإثبات يقتضي مُثبتاً ومُثْبتاً له. والنفي يقتضي ابحاولت ما لا يصح في عقل ولا يقع في وهمٍ ومن أجل ذلك امتنع أنْ يكون لك قصدٌ إلى شئ مُظْهَرٍ أو مُقدّرٍ مُضْمَر. وكان لفظك به إذا أنت لم تُرد ذلك وصوتٌ تصورتُه سواء”([21]).

بالتالي فإن عملية بناء التركيب اللغوي تقوم عند الجرجاني على المراحل التالية([22]):

1/ الإختيار. أي إختيار الوجدات من مخزونه اللغوي.

2/ الترتيب. أي تحديد موقع كل وحدة لغوية وفق ما يقتضيه غرض المتكلم.

نجد أنّ الجرجاني قد بيّن دلالة الألفاظ في التركيب النحوي الأساسي للغة العربية (المسند والمسند إليه) في:

من هنا تتكون وظيفة كل وحدة (لفظ) ، ومن هذه الوظيفة تتشكل العلاقات. يقول الجرجاني: “ولما كان الأمر كذلك أوجب ذلك أنْ لا يعقل إلاّ من مجموع جملة فعل واسم كقولنا: خرج زيدٌ، أو اسم واسم كقولنا: زيدٌ منطلقٌ. فليس في الدنيا خبرٌ يعرفُ من غير هذا السبيل وبغير هذا الدليل”([23]). ويضيف “وإذ قد عرفت أنّه لا يُتصوّر الخبر إلاّ فيما بين شيئن مخبر به ومخبرٌ عنه، فينبغي أنّ يُعْلَمَ أنّه يحتاج من بعد هذين إلى ثالثٍ. وذلك أنّه كما لا ستصوَّر أنْ يكون ها هنا خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه. كذلك لا يتصوّر أن يكون له مخبرٌ يصدر عنه، ويحصل من جهته، ويكون له نسبة إليه، وتعود التَّبعةُ فيه عليه. فيكون هو الموصوف بالصدق إنْ صدقاً، وبالكذب إنْ كان كذباً حتى يكون مثبتُ ونافٍ يكون مصدرُهما من جهته ويكون المُزْجي لهما”([24]). فموقع الألفاظ في التركيب النحوي كالآتي:

  • مسند + مسند إليه.
  • فعل + اسم.
  • اسم + اسم.
  • خبر + مخبر عنه.
  • موصوف + صفة.
  • خبر + إثبات أو خبر + نفي.

مصدر هذه التراكيب يعود إلى المعنى الذهني عند المتكلم، ويشير الجرجاني أنْ دلالات الألفاظ في التركيب تتبيّن وتتشكل من خلال الوضع النحوي لكلٍ وذلك: “إذا كان هذا كذلك عُلم منه أنّ ليس الأمر على ما قالوه من أنّ المعنى في وضعنا اللفظ بأنه خبرٌ أنّه قد وضع لأن يدل على وجود المعنى أو عَدَمِه، لأنّه لو كان كذلك لكان ينبغي أن لا يقع من سامعٍ شكٌ في خبر يسمعُه، وأنْ لا تسمع الرجلَ يثبتُ وينفي إلّا علمتَ وجود ما أثبتَ وانتفاء ما نفى. وذلك مما يُشكُّ في بطلانِهِ وجب أنْ يُعلم أنّ مدلول اللفظ ليس هو وجود المعنى أو عدمه، لكن الحكم بوجود المعنى أو عدمه وأنّ ذلك أي الحكم بوجود المعنى أو عدمِه حقيقة الخبر”([25]). معنى ذلك أنّ الوضع النحوي للكلمة هو الذي يحدد وظيفة اللفظ وبالتالي دلالة اللفظ، فأنت لا تدرك المعنى إلّا من خلال الوضع النحوي ، والدلالة الفردية للمفردة تأخذ شكلها من العلاقات المتبادلة في التركيب. لعل هذا ما جعل أحمد المتوكل يطراح التسأؤلات التالية: ” هل ثمة علاقة ما بين وظيفة اللغة وبنيتها؟ هل ثمة ترابط ما بين نسق اللغة (المعجمي والصرفي والتركيبي…) والدور الذي يُفعل لتأديته”([26])، ذلك لأنّ “الدلالة على الشئ هي لا محالة إعلامُك السامع إيّاه، وليس بدليل ما أنت لا تعلم به مدلولاً عليه. وإذا كان كذلك وكان مما يُعْلم ببدائه المعقولِ أن الناسَ إنّما يكلِّم بعضهم بعضاً ليعرفَ السامِعُ غرض المتكلم ومقصوده، فينبغي أن يَنْظُرَ إلى مقصودِ المُخْبر من خبرِه وما هو؟ أهو أن يُعلم السامعَ وجود المخبر به من المخبر عنه؟ أم أن يعلمَه إثبات المعنى المخبرَ به للمخبَرِ عنه؟ فإنْ قيلَ: إن المقصودَ إعلامُه السامعَ وجودَ المعنى من المخبر عنه. فإذا قال: ضربَ زيدٌ، كان المقصود أنْ يُعلمَ السامع وجود الضرب من زيدٍ، وليس الإثباتُ إلّا اعلامه السامع وجود المعنى…، واعلم أنّه لزمهم ما قلناه من أنْ يكون الخبر على وقف المخبر عنه أبداً من حيث إنّه إذا كان معنى الخبر عندهم إذا كان إثباتاً أنّه لفظٌ موضوعٌ ليدل على وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه أو فيه، وجب أنْ يكون كذلك أبداً، وأنْ لا يصحَّ أنْ يُقال: ضربَ زيدٌ، إلّا إذا كان الضربُ قد وُجِد من زيدٍ. وكذلك يجب في النفي أنْ لا يصح أنْ يقال: ما ضربَ زيدٌ، إلّا إذا كان الضربُ لم يوجد منه، لأنّ تجويز أنْ يقال: ضربَ زيدٌ، من غير أنْ يكون قد كان منه ضربٌ، وأنْ يقال: ما ضربَ زيدٌ، وقد كان منه ضربٌ يُوجب على أصلهم إخلاء اللفظ من معناه الذي وُضِعَ ليدل عليه، وذلك ما لا يُشكُّ في فساده، ولا يلزمنا على أصلنا لأنّ معنى اللفظ عندنا هو الحكم بوجود المخبر به من المخبر عنه أو فيه، إذا كان الخبر إثباتاً والحكم بعدمِه إذا كان نفياً. واللفظ عندنا لا ينفكُّ من ذلك ولا يخلو منه “([27]). ويؤكد ما ذهب إليه بقوله: “وأنّه لا يتصور مثبتٌ من غير مثبتٍ له، ومنفيٌّ من غير منفي عنه، فلما كان الأمر كذلك أوجبَ ذلك أنْ لا يعقل إلّا من مجموع جملة فعلٍ واسم كقولنا: خرج زيدٌ، أو اسم واسم، كقولنا: زيدٌ خارج. فما عقلناه منه وهو نسبة الخروج إلى زيدٍ لا يرجعُ إلى معاني اللغات، ولكنْ إلى كون ألفاظ اللغات سماتٍ لذلك المعنى، وكونها مُراءة بها…، وإذ قد ثبت أن الخبر وسائر معاني الكلام معانٍ يُنْشئها الإنسان في نفسه، ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه ويراجعُ فيها لُبُه، فاعلم أنّ الفائدة في العلم بها واقعةٌ من المنشئِ لها صادرة عن القاصدِ إليها، وإذا قلت في الفعل إنّه موضوع للخبر لم يكن المعنى فيه أنّه موضوع لأنْ يعلم به الخبرُ في نفسه وفي جنسه ومن أصله وما هو. ولكن المعنى أنّه موضوع حتى إذا ضمّته إلى اسمٍ عُقِل منه، ومن الاسم أنّ الحكم بالمعنى الذي اشتقَّ ذلك الفعل منه على مسمى ذلك الاسم واقعٌ منك أيها المتكلم”([28]). فإذا رجعنا إلى المسند والمسند إليه سنجد أنّ الجملة التي مسندها فعلٌ إنّما تدل على الحدوث تقدم الفعل أو تأخر، والجملة التي مسندها اسم تدل على الثبوت تقول مثلاً:

  • يجتهدُ زيدٌ. (حدوث) / زيدٌ مجتهدٌ. (إثبات).
  • يحفظُ زيدٌ (حدوث) / زيدٌ حافظٌ (اثبات([29]).

لذا نجد أنّ للألفاظ خصائص ذاتية – متعلقة باللفظ – ووظائف هذه الخصائص تتمثل فيما تكونها من علاقات، والخصائص الذاتية هي التي تميّز لفظٍ عن آخر كالخصائص الصوتية للفظ، . ولعل هذا ما حاول ابن جني بيانه حين رأي أنّ الدلالات الثلاث: لفظية كدلالة (قام) بلفظه على مصدره، وصناعية كدلالة (قام) أيضاً بصيغته على الزمن الماضي، ومعنوية كدلالة معنى هذا الفعل على ضرورة وجود فاعل له ([30]). وتصور وجود فاعل فاعل إنّما يأتي من خلال النظر إلى اللفظ من حيث الموضع النحوي، وذلك لإنشاء علاقة بين الدلالة المفردة للفظ والدلالة التركيبية (دلالة الجملة)، فالمعنى صورة ذهنية وهو المقصود بلفظ معين ويكون مفرداً إذا كان خاصاً في اللفظ المفرد، ويكون مركباً إذا دخل في علاقات مع غيره مما يجعل له وظيفة أو وظائف معينة. وهذا ما ذكره دي سوسير بقوله: “وفي الخطاب تقيم الكلمات ضمن تعاقدها فيما بينها علاقات مبنية على صفة اللغة الخطية تلك التي تستثنى إمكانية لفظ عنصرين في آنٍ، وهذان العنصران إنّما يقع الواحد منهما إلى جانب الآخر ضمن السلسلة الكلامية ويمكن تسمية الأنساق التي يكون لها التراكيب”([31]). ولعل هذا ما حدا بعلماء البلاغة لدراسة الألفاظ من حيث الحقيقة والمجاز، وبحث خصائص التراكيب لأنّ الألفاظ في علاقاتها مع غيرها ومن خلال وظائفها في التركيب تكتسب دلالات إضافية – كما سبق ذكره – إلى المعنى الأصلي أو كما قال علماء البلاغة دلالات مجازية، فحين بحثوا في هذا الأمر جعلوا بين المعاني الجديدة والمعاني الاصلية علاقات مثل: المشابهة والاستعارة والمجاز المرسل. وقد جرى بين علماء النحو والبلاغة والفلاسفة الكثير من المناظرات في هذا الشأن، منها تلك المناظرة الشهيرة التي جرتْ بين متى بن يونس المنطقي وأبي سعيد السيرافي النحوي في حضرة الوزير ابن الفرات، منها قول متى: (لا حاجة بالمنطقي إلى النحو وبالنحويّ حاجة إلى المنطق، لأنّ المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإنْ مرَّ المنطقي باللفظ فبالعرض، وإنْ عبر النحويّ بالمعنى فبالعرض والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أصح من المعنى)، وإنتشار مثل هذه الأفكار جعل الجرجاني يفكر في وضع حدٍ لها من خلال نظريته في النظم. لأننا كما مرّ علينا في مذهب الجرجاني، فإنّ النحو عبارة عن نظم للمعاني وما الألفاظ إلّا أوعية للمعاني. وقد صنّف (أولمان) المعنى في كتابه (معنى المعنى Meaning of meanings) ، ويبدو أنّه متأثر في ذلك بنظرية دي سوسير في تبدلات المعنى (غير أنّه أغفل التبدلات ذات الجذور التاريخية الخارجة عن الدلالة والمعزوة إلى غريزة المحافظة التي للغة، وفي رأيه تحدث انتقالات أو تبدلات للاسم أو انتقال للمعنى أو تبدلات التراكيب، تشمل الاسم والمعنى على السواء وذلك عن طريق التماثل أو التجاور ويقسم التبدلات إلى:

  1. تبدلات تعود إلى التحفظ الدلالي.
  2. تبدلات ناشئة عن التجديد الدلالي.

فانتقالات الاسم تكون على الوجه التالي:

  1. عبر التماثل بين المعاني.
  2. عبر التجاور بين الأسماء)([32]).

وهو يريد بالتماثل بين المعاني كما في كلمة (ورقة) بمعنى ورقة الشجرة وبمعنى ورقة الكتابة، والتماثل هنا في الشكل. أمّا التجاور فيحدث غالباً نتيجة لميول المتحدث إلى الإيجاوز كما في معنى كلمة (العاصمة) إذ أنّ المقصود بها (المدينة العاصمة).

نجد أنْ كل من (ستيرن وأولمان) قد قاما (بوضع نظريتين لتبدلات المعنى، النظرية الأولى: (معنى المعنى Meaning of Meaning) لـ (أولمان). والنظرية الثانية: (المعنى وتبدلات المعنى Meaning and Changes of Meaning) لـ (ستيرن)، وقد أقام (ستيرن) نظريته هذه انطلاقاً من زاويتين هما: السببية والوظيفية المستمدة من مثلث (أوجدن وريتشاردز)، وميّز (ستيرن) بين نوعين من التبدلات:

  1. تبدلات خارجية تكمن جذورها في تبدل المرجع، مثل كلمة (عين) للجاسوس وعين الماء.
  2. تبدلات لغوية عبارة عن تبدل فعلي للاسم أو للمعنى داخل نظام اللغة، ومن نماذج ذلك:
  3. نقل العلاقة الفعلية أو الاسمية.
  4. نقل العلاقة المرجعية أو علاقة المعنى مثل تشابه صوتي يؤدي إلى تبدل الاسم نتيجة لتماثل صوتي.
  5. نقل العلامة الذاتية بين الكلمة والمتكلمين، كما في المجاز المرسل والكناية ([33]).

ولا نرى في هذا الذي ذهب إليه (ستيرن) نوعاً من تبدل المعنى، إنّما توسعاً في المعنى الأصلي للفظ نتيجة لعلاقاته مع غيره ونتيجة لوظيفة اللفظ في النظم. والدلالة الجديدة للفظ ما هي إلّا فرع من الدلالة الأصلية، وقد تختلف العلاقة بين الفرع والأصل من فرعٍ إلى آخر، فـ (الاسم المفرد الواقع فاعلاً على سبيل المثال يتميز معجمياً بقيامه على مبدأ الاقتران الدلالي، وذلك لأنّ محله التركيبي بنية مجردة قابلة لأنْ تحمل أي كائن لغوي من البدائل التجريدية للاسم التي تقبل الوسم الوظيفي لمعنى الفاعلية في مستوىالتركيب المنجز)([34]) ، ولكن من ناحية أخرى إذا نظرنا إلى المنجز اللغوي من الناحية السياقية سنجد أنّه ليس هناك كلمة تأخذ مكان كلمة أخرى بنفس الدلالة على مستوى الموضع النحوي. وهذا ما جعل العلماء حريصين على إظهار الفروق الدقيقة بين الألفاظ المستعملة، ولعل أوّل من أُثر عنه ذلك بشكل واضح هو ابن قتيبة (ت 276) في كتابه (أدب الكاتب)، فقد أفرد لهذه الألفاظ باباً خاصاً سماه: باب معرفة ما يضعه الناس غير موضعه . فذكر طائفة من الألفاظ المتقاربة في المعنى وذلك تبعاً لدلالاتها الأصلية في اللغة كالظل والفئ، والآل والسراب، والحمد والشكر…، على مستوى اللفظ المفرد أو الدلالة المعجمية. ومتى ما انتظم اللفظ في علاقات نحوية وسياقات مختلفة تظهر حقيقة الفروق بين دلالاتها، كما أنّ كل دلالة تتخذ لنفسها دلالات إضافية تتوسع دلالات اللفظ على النحو التالي:

وهكذا يستمر اللفظ في التوسع الدلالي مما يعطي للغة إمكانيات تعبير لا محدود. لذا نجد أنّ دلالة اللفظ ووظيفته وعلاقاته في الموضع النحوي تأخذ الشكل التالي:

نموذج عمل اللفظ في وظيفته وعلاقاته

من هنا تبرز مسألة السياق كجزء خطير في المسيرة الدلالية للفظ في النظم، ولكن قبل الخوض في هذه المسألة لأبد من دراسة العلاقة بين الفكر الفردي و الجماعي وما يترتب عن ذلك من مسائل تتعلق بدلالة اللفظ في النظم، لأنّ الجرجاني قد ذكر في هذا الشأن قوله: (ودليل آخرٌ وهو أنّه لو كان القصدُ بالنظم إلى نفسه دون أنْ يكون الغرض ترتيب المعني في النفس ثمّ النطق بالألفاط على حذوِها لكان ينبغي ألّا يختلف حال اثنين في العلم بحسن النظم)([35]). فهو يذكر هنا أنّ المعاني تكون في ذهن المتكلم قبل أنْ تكون ألفاظاً وعبارات وجملاً، أي أنّ العلاقات والوظائف النحوية تترتب في ذهن المتكلم أولاً، وكما هو معروف فذهن الإنسان متعلق بوجوده كفرد ووجوده في المجتمع، أي أنّ التكوين الذهني للإنسان تتشكل بالعملية التبادلية في المفهومات بين الفرد والمجتمع، أو بشكل أوسع (البيئة حول الفرد). لذا سنحاول في المبحث التالي دراسة علاقة اللغة بالفكر الفردي والجماعي والذي منهما يتشكل السلوك اللغوي الفردي والجماعي.

الخاتمة والنتائج.

نجد أن عبد القاهر الجرجاني يشير في كثير من النصوص إلى أن دلالات الألفاظ في التركيب تتبين وتتشكل من خلال الوضع النحوي لك لفظ، أما الجانب الأخر لحصول الوظيفة الدلالية الكامنة للكلمة هو أن عملية اختيار الألفاظ التي ستقوم بهذه الوظيفة تحتاج إلى عقل مبدع ملم بالسياقات المختلفة، كذلك ملم بقواعد تركيب اللغة. ويمكن تلخيص النتائج في الآتي:

  1. العلاقات بين المسند والمسند إليه تقوم على مفهوم الاثبات والنفي.
  2. للموقع النحوي أثر مباشر وأساسي في تحديد الوظيفة الدلالية للكلمة.

ج- الموقع النحوي يوسع الدلالة الأصلية للكلمة عن طريق التشبيه أو المجاز اللغوي.

د- تحديد الموقع النحوي يحتاج إلى عقل مبدع الذي منه تخرج الصور اللغوية المختلفة من خلال العلاقات التي تنشأ بين عناصر التركيب.

هـ- تجرى عمليتان أثناء الاتصال بين المتكلم والمتلقي:

  1. عملية تركييبية يقوم بها المتكلم لاخراج المعنى من الذهن.
  2. عملية تفكيكية يقوم بها المتلقي للوصول إلى المعنى الذهني.

قائمة المصادر والمراجع.

  1. القرآن الكريم.
  2. أحمد المتوكل، الدكتور:
  • التركيبيات الوظيفية – قضايا ومقاربات- دار الأمان الرباط، ط1 2005م.
  1. ابن جني، أبو الفتح عثمان بن جني: الخصائص، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الرابعة، دون تاريخ.
  2. ستيفن أولمان: دور الكلمة في اللغة، ترجمة الدكتور كمال محمد بشر، مكتبة الشباب، دون تاريخ.
  3. عبد السلام السيّد حامد، الدكتور: الشكل والدلالة – دراسة نحوية للفظ والمعنى، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2002م.
  4. عبد السلام عيساوي، الدكتور: العلاقات المعنوية في البنية النحوية ، مقاربة لسانية، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، الطبعة الأولى 2010م.
  5. عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، تحقيق: د. محمد الداية ود. فائز الداية.

– عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، شرح وتعليق د. محمد التُنْجي، دار الكتاب العربي الطبعة الاولى ، 2014م.

8-عبد الواحد حسن الشيخ، الدكتور: العلاقات الدلالية والتراث البلاغي العربي (دراسة تطبيقية)، سلسلة اللغة العربية، مكتبة ومطبعة الإشعاع الفنية، الطبعة الأولى 1999 م .

9- فاضل صالح السامرائي، الدكتور: معاني النحو: شركة العاتك لصناعة الكتاب – القاهرة، دون تاريخ.

10- أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي: الخصائص، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الرابعة.

11- فرج محمد الغضّاب، الدكتور: معنى الفاعلية ودلالاته المرجعية من خلال شرح الكافية للأسترأباذي، مكتبة علاء الدين – صفاقس، الطبعة الأولى 1999.

13 – محمد حماسة عبد اللطيف، الدكتور: النحو والدلالة ، دار الشروق للنشر ، الطبعة الأولى1420هـ – 2000م.

ب/الرسائل الجامعية:

  1. ثقبات حامدة: قضايا التداولية في كتاب دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني ، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في اللغة و الأدب العربي، جامعة مولود معمري ، تيزي وزو، كليّة الآداب واللغات، قسم اللغة العربية والأدب العربي 2012م.

و/ الدوريات.

  1. إبتسام أحمد حمدان : أسس نحوية ولغوية في التفكير البلاغي عند عبد القاهر الجرجاني، ورقة منشورة في مجلة دراسات في اللغة العربية وآدابها جامعة تشرين – سوريا، العدد الثالث خريف 2010م.
  2. تراث حاكم مالك الزيّادي، الدكتور: المفردة بين الدلالة الوظيفية والتركيبية عند عبد القاهر الجرجاني، مجلة القادسية في الآداب والعلوم التربوية، العددان 1،2 المجلد السابع.
  3. عزمي إسلام: مفهوم المعنى، دراسة تحليلية ، حوليات كلية الآداب جامعة الكويت، الحولية السادسة 1405هـ/ 1985م، الرسالة الحادية والثلاثون.

الهوامش:

  1. () محمد حماسة عبد اللطيف ، النحو والدلالة، مدخل لدراسة المعنى النحوي الدلالي، دار الشروق، ط1، 2000م.
  2. () الخصائص، ص223.
  3. () ممدوح عبدالرحمن الرمالي، العربية والوظائف النحوية، دار المعرفة الجامعية – مصر، ط 1996. ص149.
  4. () تراث حاكم مالك، المفردة بين الدلالة الوظيفية والتركيبية عند عبد القاهر الجر جاني، مجلة القادسية في الآداب والعلوم التربوية، العددان (1-2) المجلد (7)، 2008، ص 61.
  5. () ابتسام أحمد حمدان، أسس نحوية ولغوية في التفكير البلاغي عند عبد القاهر الجرجاني، مجلة دراسات في اللغة العربية وآدابها، العدد (3) خريف 2010، ص23.
  6. () دلائل الإعجاز، تح: محمّد التنجي، مرجع سابق، ص123.
  7. )) عبد السلام عيساوي: العلاقات المعنوية في البنية النحوية مقاربة لسانية، ط1 2010، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية. ص43.
  8. )) عبدالسلام عيساوي، مرجع سابق. ص7.
  9. () نفسها.

    جيرولد كاتز لغوي امريكي رائد التحليل التكويني شارك في بحث بعنوان ( بنية نظرية علم الدلالة)

    جورج لاكوف، عالم لغويات المعرفية ولد عام 1941 عرف عنه أطروحته الشهيرة : أن حياة الأفراد تتأثر بشكل كبير بالاستعارات المركزية التي يستخدمها الناس لشرح الظواهر المعقدة.

  10. () دلائل الإعجاز، تح محمد التنجي. ص74.
  11. () نفسه. ص77.
  12. () دلائل الإعجاز، مرجع سابق. ص77.
  13. () منجي العمري، القيد التركيبي في الجملة العربية (دراسة دلالية لنماذج من الروابط بين النحو العربي والنحو التوليدي، الدار التونسية للكتاب، ط1، 2015. ص15.
  14. () دلائل الإعجاز، المرجع السابق. ص169
  15. () دلائل الإعجاز، مرجع سابق. ص37.
  16. () دلائل الإعجاز، تح : محمود محمد شاكر، مرجع سابق. ص412.
  17. () نفسه. ص81.
  18. () أحمد المتوكل، المنحى الوظفيفي في الفكر اللغوي العربي، الأصول والامتداد، دار الأمان، الرباط، ط1 2006. ص27.
  19. () دلائل الإعجاز، تح : محمد التنجي ، مرجع سابق. ص336.
  20. () نفسه. ص 337.
  21. () نفسها.
  22. () ابتسام أحمد حمدان، مرجع سابق، ص 31.
  23. () نفسها.
  24. () نفسها.
  25. () دلالل الإعجاز، المرجع السابق. ص338.
  26. ()أحمد المتوكل، التركيبيات الوظيفية: قضايا ومقاربات، مكتبة دار الأمان – الرباط، ط 1، 2005، ص 29.
  27. () نفسه. ص339.
  28. () نفسه. ص345
  29. () فاضل صالح السامرائي: معاني النحو ج1، شركة العاتك لصناعة الكتاب- القاهرة ، د.ت. ص15.

    *المعاني النحوية: نعني بها اتصاف الكلمة باعتبارها عنصراً في الجملة بمعنى من المعاني النحوية كالمبتدئية والخبرية والفاعلية والمفعولية والحالية، فالمعنى النحوي لكلمة (الشجرة) بصفتها عنصراً تركيبياً في الجملة هو المبتدئية المستفاد من شغل الكلمة في الجملة لوظيفة المبتدأ، والامعنى النحوي لكلمة (مثمرة) بصفتها عنصراً تركيبياً في الجملة هو الخبرية المستفادة من وقوع الكلمة في الجملة خبراً. معنى ذلك أنْ في الجملة: (الشجرةُ مثمرةٌ). يدل هذا التركيب على وصف الشجرة بالإثمار، وبتعبير آخر الإخبار عن الشجرة بأنها تحمل ثمراً.

    **المعاني البلاغية: نعني بها الأغراض أو الغاياتأو المقاصد التي من أجلها قال أو ألقى المتكلم كلامه وفق ما اقتضاه الحال أو حسبما تطلبه الموقف.

  30. () ابن جني، مرجع سابق، ج3. ص100.
  31. () العلاقةاللغوية بين قدامى العرب ودي سوسير. ص 12.
  32. () عبد الواحد حسن الشيخ: العلاقات الدلالية والتراث البلاغي العربي (دراسة تطبيقية)، سلسلة اللغة العربية، مكتبة ومطبعة الإسعاع الفنية، ط1، 1999. ص20.
  33. () نفسه. ص12.
  34. () فرج محمّد الغضاب: معنى الفاعلية ودلالاته المرجعية من خلال شرح الكافية للأستراباذي، مكتبة علاء الدين – صفاقس ، ط1 2008. ص34.
  35. () دلائل الإعجاز، مرجع سابق. ص51.