الرواية التاريخية الحديثة: من تسريد التاريخ إلى تأريخ السرد – دراسة في الكتابة الروائية عند الأديب الموريتاني أحمدو بن عبد القادر

أحمدو لكبيد محمدو1

1 أستاذ باحث بجامعة نواكشوط/ مويتانيا

بريد الكتروني: alarya1959@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(3); https://doi.org/10.53796/hnsj53/17

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/03/2024م تاريخ القبول: 20/02/2024م

المستخلص

لقد صار من الوارد جدا في الدراسات السردية الحديثة التساؤل عن مصادر المؤلف الروائي وتقنيته في بناء شخصياته النمطية وملء ” السديم” الروائي بالأحداث والمتواليات الدرامية، وتحريك دمى الرواية في مربعات موزعة بعناية دقيقة على مفاصل السرد وتذبذباته المتداخلة.

وفي هذا الأفق النقدي تطمح هذه المقالة إلى الإبانة عن المصادر التي استند إليها الروائي أحمدو ولد عبد القادر في إنتاج ثالوثه الروائي، كما ينظر أيضا في أفق الاستقبال إلي يمكن أن تحكم حوارية القارئ مع هذه المادة السردية.

نعتمد في مساءلتنا لمصادر الروائي الإيحائية على النظر في لعبة المحتمل والواقعي في الأثر الأدبي ، خصوصا في مجال النصوص السردية التاريخية التي تحاول استعادة أزمنة غابرة، لا تتوفر عنها مراجع مكتوبة ذات مصداقية موثوقة، كما هو الأمر عند الأديب أحمدو ولد عبد القادر والروائي المصري نجيب محفوظ.

الكلمات المفتاحية: مصادر المؤلف الروائي – حوارية القارئ – المحتمل/الواقعي – النصوص السردية التاريخية

مقدمة

لقد صار من الوارد جدا في الدراسات السردية الحديثة التساؤل عن مصادر المؤلف الروائي وتقنيته في بناء شخصياته النمطية وملء ” السديم” الروائي بالأحداث والمتواليات الدرامية، وتحريك دمى الرواية في مربعات موزعة بعناية دقيقة على مفاصل السرد وتذبذباته المتداخلة.

وفي هذا الأفق النقدي تطمح هذه المقالة إلى الإبانة عن المصادر التي استند إليها الروائي أحمدو ولد عبد القادر في إنتاج ثالوثه الروائي، كما ينظر أيضا في أفق الاستقبال إلي يمكن أن تحكم حوارية القارئ مع هذه المادة السردية.

نعتمد في مساءلتنا لمصادر الروائي الإيحائية على النظر في لعبة المحتمل والواقعي في الأثر الأدبي ، خصوصا في مجال النصوص السردية التاريخية التي تحاول استعادة أزمنة غابرة، لا تتوفر عنها مراجع مكتوبة ذات مصداقية موثوقة، كما هو الأمر عند الأديب أحمدو ولد عبد القادر والروائي المصري نجيب محفوظ.

1- التاريخ الروائي: الدلالة والاصطلاح

هناك أدبيات كثيرة حاولت التنظير لعلاقة الرواية بالتاريخ ﻤن ﺠﻬﺔ، وﺒﺎلواقع ﻤن ﺠﻬﺔ أﺨرى.

ورجوعا إلى إشكالية تخريج مصادر المادة الروائية، نقرر أن معالجتها تتطلب الاشتغال على ثنائية الكتابة/التلقي، كمرجع موثوق لتشريح جسم العمل الروائي والبحث في مصادره وتناصاته المتعددة الروافد. ومنطلقنا في ذلك اعتبار الروائي قارئا قبل أن يكون منتجا/كاتبا، يسائل التاريخ، ويحاول بعث كائناته وأزمنته من جديد، وإعادة بناء حلقات هرمه المفقود. إنه يقوم بحفريات شبه كرونولوجية في مقاطع محددة من العصور التاريخية.

وفي هذا المنحى أجد في نفسي حاجة لمسايرة عرف دأب عليه منظرو الرواية، المولعون بالتقسيمات المنطقية لمكونات النص الروائي، وتتمثل في اقتراح عنونة تفكيكية لتجليات البعد التاريخي في المدونة الروائية قيد الدرس.

وستتمحور هذه التفريعات حول إشكالية العلاقة بين الرواية وبين التاريخ، وحول تقنيات التوظيف والاستحضار ..الخ.

2- الرواية والتاريخ: من إشكالية العلاقة إلى تقنيات التوظيف

لقد كانت الكتابة الروائية حدثا فنيا في الساحة الأدبية العربية، مكن الأديب العربي من أن يشهر قلمه ويغمسه في بركة مجتمعه الراكدة، بالطريقة التي يراها مناسبة له، متحررا من وصاية المرجع الخام ليعيد تشكيله وفق رؤية جديدة، مستلهما التاريخ من أجل تحيينه وإعادة بنائه رمزا دالا ومحملا بمرسلات متفاوتة التشفير، لاستدراج القارئ ليكون طرفا في ” لعبة تدليل” لا تاريخية.

ويمكن القول إن تراكمات الإبداع العربي في مجال الرواية التاريخية بتوجهاتها المختلفة باتت تشكل مدونة مرجعية، تسمح للأجيال اللاحقة من التناص معها في مستوياتها الفنية المختلفة، وقد ظهرت هذه الرواية في وقت مبكر من العصر العربي الحديث وازدهرت في كل الأقطار العربية.[1]

لقد أدى ظهور المستعمر المفاجئ في ساحة الشناقطة إلى الدفع بالشعب الموريتاني إلى استقطاب غير مسبوق حول قضية الدفاع عن وجوده المهدد في كل أبعادة الدينية والثقافية والسياسية، وقد نجحت الرواية في جذب كل أصوات الطيف الاجتماعي إلى بؤرة ردة الفعل الجمعية تحت راية الجهاد/المقاومة، قبل أن تسفر مخرجات المواجهة عن ولادة فضاء اجتماعي جديد، يتميز فيه البطل الروائي ببحثه عن هوية جديدة لحياته، تكون متساوقة مع النسق الحضاري للمجتمعات الحديثة، كإبدالية شبه قطائعية، وفق ما أبانت عنه البنية العامة التي قاد إليها تحليل المدونة الروائية في الباب الأول.

ولكن قد نتساءل كيف يحول الروائي المواقف الفردية إلى تاريخ له صفة التعميم على المقطع التاريخي الممارس، وبعبارة أخرى هل يمكن أن يصبح الفردي رمزا وكناية عن ما هو جمعي، فأبطال الرواية وفي مقدمتهم سيفيل بوجناح وسميدع يجسدون ولادة نموذج إنساني جديد، يخترقه وعي الكاتب كتعبير عن تموقعه السياسي.

ويمكن القول إن هذه الشخصيات/القناع كانت ملتبسة بموقف الكاتب إزاء أحداث لحظته التاريخية التي كان فاعلا فيها، فالعمل الروائي عند أحمدو ولد عبد القادر يتنزل في سياق التناص والتفاعل مع روايات الرواد العرب في مجال السرد التاريخي.

3- تقنيات استدعاء التاريخ الروائي

ويمكن بادئ بدء تلمس ثلاثة مستويات من حضور التاريخي في المدونة الروائية المدروسة في تقنيات ” المحتمل” ، و” القناع” ، و” الحدث التاريخي” .

فقد استخدم الكاتب تقنية ” المحتمل” في روايتيه: ” القبر المجهول” و” العيون الشاخصة” ، فكانت هذه النصوص محاكاة ضمنية للقصة التاريخية القديمة في ” وثائقيتها” من جهة، وتتناص مع سياقها التاريخي المعيش في ” إحداثياته” من جهة أخرى.

وتكمن أهمية الشخصية القاعدية القائمة على تجريد مجموعة من المميزات/الثوابت الخاصة تاريخيا بفئة اجتماعية معينة، في قدرتها على مزج التاريخي بالمتخيل ضمن لعبة من التمفصلات، يعتبر القارئ طرفا رئيسا في تأسيسها، وبذلك يتم ربط جمالية الكتابة بفاعلية التلقي المتجددة بإبدالاتها التاريخية، وهو ما أشار إليه قاسم عبده قاسم في نصه التالي:

” هذا التداخل بين الأدب والتاريخ على صفحات الرواية التاريخية يستوجب المصالحة بين ” الصدق الفني” و” الصدق التاريخي” ، وكلما نجحت هذه المصالحة زاد نجاح الرواية التاريخية …” [2].

فهذا التجريد هو أساس التمفصل ما بين أطراف الثالوث الركنية: الكاتب/النص/المتلقي، حسب ما حاول لويس مجرون (Louis Maigron) أن ينظر له في النص التالي:

” إن المشاعر والأفكار لم يعد لها من دور إلا أن تمثل مشاعر وأفكار الجماعة. كما أن الأفراد صاروا مجرد نماذج، وهم في الأساس نماذج تاريخية.” [3].

ويمكن على سبيل التمثيل، إسقاط بعض متضمنات المقبوس أعلاه على عناصر من مضامين المدونة محل النظر، ففي رواية ” القبر المجهول” يمثل الأمير المحارب ” شكرود” سيمياء الفارس النبيل في فئة حسان، أما ” ديلول” فيمثل عبر مشاعره وأحلامه الحقد المكبوت لدى كل أفراد مجموعته (الزناقة) على فئات حسان والزوايا، بينما نهض الإمام سلامى، من خلال طموحه ومشاعره، بدور المجسد لسلوك لمرابط الزاوي وسماته الدينية المميزة.

وهكذا يمكن القول، إن هذه الرواية تمكنت من جعلنا نعيش حقبة من حياة المجتمع الموريتاني القديم بكل طيفه الاجتماعي.

وتتميز رواية ” الأسماء المتغيرة” بأنها تنشطر إلى مرحلتين متداخلتين ومختلفتين؛ يهيمن على المرحلة الأولى تقنية المحتمل، أما الرحلة الثانية فيسودها تقنية القناع. كما تتميز أيضا بأن السارد هو أحد شخصيات قسمها الثاني، أو بمصطلح ج. جينت: homodiégétique[4] . ويبرز فيها على مستوى شخصياتها خطان سرديان مختلفان، أحدهما تستقطبه شخصية سفيل بوجناح، وهو شخصية متخيلة، وقد ساعد ذلك الكاتب على حرية المناورة، وعلى أن يسند لها أدوارا مختلفة، وأن تعكس تيمات Thèmes إنسانية غنية بدلالاتها الرمزية (المعاناة، التمرد، الإنسانية. . . )، وهو ما جعلها ناظما محوريا، تتمفصل حوله مختلف التحولات الاجتماعية والسياسية والتاريخية، التي عكستها الرواية في مسارها المتعدد التعاريج، أما الخط السردي الثاني فقد تمحور حول الشخصيات/القناع (الطيب، بوعمامه، عالي شيخو . . . ) المشدودة إلى أدوارها السياسية، فشكلت إطلالاتها السردية بؤرا تاريخية، تتحدث عبر كرونولوجية الحدث السياسي (الصراع النقابي والحركي مع شركة مافيرما والحكومة. . . )، وبذلك يطغى التاريخ على أدبية الرواية، فيصبح طافيا على السطح، ذا دلالة أحادية قائمة على الواقعة وموقعها الزمني الإحداثي. وهو ما يحيلنا عليه المسرودات المتعلقة بحوار المتدربين: ” افتحوا الراديو لنسمع نشرة الأخبار المسائية . . . ” [5]، وكذلك عرض البرنامج السياسي للحركة: ” إن الخاصية الأولى للثورة التي نحن بصددها، أو بصدد نوعية الجماهير للقيام بتا بعبارة أصح فهي: أن حركتنا تختلف جذريا عن حركات المجاهدين والحرمويين” [6].

من المؤكد، أن تحكم التاريخ ” التوثيقي” في المسار السردي يحد من قدرة الكاتب على تحرير النص من هيمنته، ومن تركه ينمو وفق لعبة المحتمل والممكن، التي تقوم على كسر خطية الزمن القصصي، وفتح الحدث على كل احتمالاته الممكنة، بينما يقف السرد الوقائعي عائقا، بسبب التصاقه بالحدث التاريخي، في وجه هذه المرونة الخلاقة، التي تسمح للراوي بالانزياح عن موقع الكاتب، ومن ثم تتحرر الشخصية الروائية من هيمنتهما معا، فإذا بها تتحدى سلطة الكاتب الإيديولوجية وما قبليات الكتابة، وتفصح مع تجربة التلقي عن رؤى ودلالات غير متوقعة، وتفضي في تجربتها الروائية إلى نتائج مغايرة لمواقف الكاتب البدئية الافتراضية.

ولتوضيح أبعاد هذه العلاقة الإشكالية، تفيدنا نماذج الرواية العربية ذات المنحى التاريخي، أن الكاتب الروائي والمسرحي يتمتع بعدة خيارات في صناعة شخصياته؛ فإما أن تكون هذه الشخصيات عيينات متخيلة في هويتها ” الاسمية” ، حاملة لسمات اجتماعية تاريخية واقعية (كشخصيات البنية الممثلية في روايتي القبر المجهول والعيون الشاخصة)، وإما أن تكون شخصيات واقعية ولكنها تحمل أسماء مموهة (كالشخصيات القناع: الطيب وأبو عمامة . . . في رواية الأسماء المتغيرة)، وقد تكون شخصية تاريخية أو أسطورية يسند لها الكاتب أدوارا تخييلية، وهذا النمط غائب في روايات المدونة، باستثناء شخصية ” ديلول” [7] في ” القبر المجهول”.

ومن الملاحظ أن الشخصية الرمزية (التاريخية والأسطورية) هي مزيج من التاريخي والمتخيل، وهو ما يسمح للروائي أن يتوكأ على حمولتها السميوطيقية الذاكروية لمنحها وظيفة جديدة تربطها بالحاضر، وتفح دلالتها الرمزية هامشا واسعا أمام المتلقي لإعادة إنتاج دلاليتها ومنحها أبعادا جديدة.

وفي أفق هذه ” المسرحة المؤرخنة” لشخصيات الرواية، فقد كان من الممكن بالنسبة لشخصية سيفيل بوجناح التخييلية أن تنتهي إلى مصير مختلف عن ذلك الذي انتهت به، وأن تتبنى مواقف غير تلك التي انحازت إليها، لكن تلك المرونة بالغة الصعوبة مع الشخصيات /القناع بسبب تقديمها عبر أدوار واقعية تاريخيا، مرتبطة بمواقفها السياسية، وأي تغيير في دور أحدها سيسري إلى باقي هذه الشخصيات، وهو ما سيحدث عنه انقلابات في حبكات النص الروائي ومحصلة الدلالة النهائية المتولدة عن ذلك التحول والتبدل في ماهية الشخصيات الروائية. ويمكن تلمس الاختلافات الدلالية بين الشخصية /المحتمل والشخصية /التاريخية في الترسيمات التالية:

الشخصية/المحتمل: دال1 + مدلول1 = دلالة1 مفتوحة، فتصير هذه الدلالة الأخيرة دالا جديدا: دلالة1 (دال2) + مدلول2 = دلالة2 . . . هكذا يستمر التوالد الدلالي connotation بمعانيه الحافة المفتوحة؛

أما في حالة الشخصية التاريخية فإن الدلالة تصبح أحادية dénotation على النحو التالي:

دال1 + مدلول1 = دلالة1 (مغلقة).

فالدلالة في المعادلة الأولى تستند إلى تأويلات بعدية مبنية، تفتح أفقا قرائيا خصبا أمام المتلقي، يستمد مواردها التأويلية بالتعاون ما بين السياق الداخلي والسياق الخارجي، ومن زمنية النص بتغذيتها الراجعة، وتراكم المحمولات المتعلقة بشخصيات النص. كما هو الشأن مع شخصية سيفيل بوجناح، إذ لا تتضح معالم هذه الشخصية إلا بعد استعراض فصول عديدة من الرواية.

وفي حالة المعادلة الثانية تنهض دلالة الشخصيات/القناع على معطيات قبلية ذاكروية، يعيد النص الروائي إنتاجها، مما يجعل القارئ بمثابة حكم يحد من حرية الكاتب في الخروج على نصية الخبر المسرود. وهو ما ينطبق على الشخصيات القناع التي يشبكها سياقها التاريخي بذاكرة القارئ، فتصبح لعبة التأليف والتفكيك، في سياق الهيمنة المسبقة للمعطى التاريخي، مندرجة في تحصيل الحاصل. ومن هنا كان الإخبار التاريخي بمثابة ضرب من التصوير الفوتوغرافي للواقع، فلا يضيف في الغالب إلا معرفة علمية تسجيلية بواقع معين، وهو ما يبرز الحد الفاصل بين علمية التاريخ وفنية الرواية.

ومن هذه المساجلة الضمنية بين الواقع والنص نخلص إلى التساؤل حول قدرة كل من المحتمل والتاريخي على تكوينية النص السردي، إذ يعمل التاريخي على طمس قسمات أدبيته، بينما قد تفضي تقنية المحتمل التخييلي إلى خطر تزييف هويته الاجتماعية الواقعية وتهميشها. فكل من الوجهين يضع النص السردي في رهان إشكالي عند تناصه مع التاريخ، إشكالية العلم والسرد، فحسب منظور ريكور للمسألة يمكن بسط المسألة على النحو التالي:

” كما أنه (ريكور) لم يرض بالحل الوسط الذي يقترحه ميشال دوسارتو Michel De Certeau وأتباعه بأن يكون للتاريخ وجهان أحدهما علمي والآخر سردي، فالتاريخ عنده عبارة عن سرد، لكنه سرد من نوع خاص وسردية التاريخ لا تلغي وظيفته المزدوجة، فهو معرفة علمية لأنه ينتج حقائق حول واقع ما، وخيال سردي لأنه نتاج وظائف معقدة” [8].

فهذا الوجه السردي لحكاية التاريخ أو التاريخ كحكاية هو ما يسمح للرواية أن تتمفصل مع التاريخ تضمينا واستيحاء. ولكن الإشكالية تنبع من تلاشي الحدود الفاصلة بينهما، فلا يمكن لنا أن نتصور كينونة النص السردي دون أدبيته القائمة على الإبداع التخييلي، التي هي لعب مفتوح على الممكن والمحتمل، وإعادة ترتيب نظام الأشياء، بما فيها التاريخ، بحرية خلاقة غير محدودة.

وقد تداخلت هذه الثنائية التاريخ المحض/السرد التاريخي الفني بثنائية تحديدية، يحاول أحد طرفيها أن يعرف القصة بموضوعها، بينما يعرفها الطرف الآخر بأسلوبها الفني (كنوع أدبي قائم بذاته)، وفي هذا السياق يعرف بول ريكور الحكاية كمتوالية من الوقائع، متجاهلا القسمة الفنية التي تموقعها بين الحكي الخالص والدراما. وهو ما رفضه جيرارد جينت الذي أصر على أن خصوصية النص السردي كامنة في أسلوبيته (son mode) وليس في موضوعه، الذي يمكن أن يتم تمثيله دراميا، أو رسما، أو بأي شكل آخر[9].

ومن كل ما سبق، تتضح المزالق التي قد تترتب على استخدام تقنية القناع، إذ تضيق المسافة ما بين الكاتب والنص، خصوصا عندما تكون تلك الأقنعة/المرايا لشخصيات واقعية لها علاقة بأحداث القصة الروائية، إذ تقوم بترهين السرد لحكي السيرة والاستعادة المحايدة لأحداث الماضي، وهي وإن ساهمت في تكوينية جسم الرواية زمنيا ووقائعيا فإنها تفرغه من بعده الإيديولوجي، كرؤيا إنسانية عميقة حول سيرورة الماضي، وترهين ذلك كله للتأثير الإيجابي في كل من الحاضر والمستقبل.

وغير بعيد عن توظيف لعبة القناع في كتابة النص الروائي، تبرز تقنية استدعاء الحدث التاريخي (الإحالات التاريخية المباشرة) كومضات إحداثية اكرونولوجية في سياق السرد ذي الطابع الإخباري، وتعمل، هي الأخرى، على ” تشذيب” امتدادات الدلالة ” الأدبية” ، والحد من خصوبة تأويلها النصي، مما يؤدي إلى تسطيح البعد الرمزي في الرواية التاريخية، وطغيان الخطاب التاريخي على فنية الرواية، فظهورها المفاجئ في مجرى النص يحدث انقطاعا عارضا في التعالق العضوي لمسارات السرد الروائي، وذلك على الرغم من دورها في ربط الأثر الأدبي باجتماعيته الخارجية،.

وإذا كانت هذه التقنية شبه غائبة عن روايتي ” القبر المجهول” و” العيون الشاخصة” ، فإنها طغت على رواية ” الأسماء المتغيرة” ، فهذه الأخيرة جمعت بين مستويات مختلفة من تقنيات السرد (على مستوى هوية الراوي، ومسافة وجه النظر . . . )، ومن أنماط استحضار التاريخ (التخييلي والواقعي). ويتجلى ذلك في حضور وقائع معروفة (حرب المقاومة، وشخصيات وأحزاب معروفة في الساحة الموريتانية، . . . ).

ومهما يكن، فإنه يمكن القول إن هذه ” الجرعات التاريخية” منحت النص الروائي تمرجعا أكثر واقعية والتحاما بفضائه التاريخي.

الخلاصة

لقد كشف النظر في الأنساق السوسيو- تاريخية على صعيد المدونة المدروسة، عن سعي الروايات الثلاث إلى رصد مظاهر التطور والتحول في مقاطع تاريخية متماسة ومتعاقبة من حياة المجتمع الموريتاني.

المصادر والمراجع:

1- ولد عبد القادر أحمدو:

الأسماء المتغيرة. ط1، دار الباحث للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان

  • العيون الشاخصة، ط1 مؤسسة سعيدان تونس 1999

المراجع العربية

2- إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر ــ ط 1، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ــ 1978 ــ الكويت.

3- التلاوي محمد نجيب: الرواية العربية المتعددة الأصوات. منشورات اتحاد الكتاب العرب، 2000،

4- بلخن جنات: نظرية السرد التاريخي عند بول ريكور. جامعة منتوري قستنطينة، كلية العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، الجزائر، السنة الجامعية 2009 – 2010

5- حمداوي جميل: الرواية العربية ذات البعد التاريخي. مقالة منشورة في موقع “ندوة”، بالرابط التالي: http: //www. arabicnadwah. com/articles/riwaya-hamadaoui. htm

تاريخ الزيارة: 15 – 11 – – 2017، الساعة: 20. 15

6- قاسم عبده قاسم: الرواية التاريخية العربية: زمن الازدهار. مقالة منشورة في المستقبل،

مراجع غير عربية

8- Genette Gérard: figure lll. edution du seuil, 1972

9- Louis maigron: le roman historique à l’époque romantique : essai sur l’influence de walter scott. hachette, 1898.

10- frontières de la narratologie , Michel Mathieu colas: poétique n° 65, fév. 1986 éd. du seuil

11- Michel vanoosthyse: le roman historique, mann, brecht, döblin, puf , 1996, p: 63

الهوامش:

  1. قاسم عبده قاسم: الرواية التاريخية العربية: زمن الازدهار. مقالة الكترونية مذكورة أعلاه. .
  2. قاسم عبده قاسم: الرواية التاريخية العربية: مرجع الكتروني سابق
  3. Louis maigron: le roman historique à l’époque romantique : essai sur l’influence de walter scott. hachette, 1898. p: 45
  4. Genette Gérard: figure lll. edution du seuil, 1972, page: 252
  5. ولد عبد القادر أحمدو: الأسماء المتغيرة. ط1، دار الباحث للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان 1981 ، ص: 144
  6. الأسماء المتغيرة، ص: 163
  7. شخصية تاريخية تنتمي لشريحة الزناقة، اشتهرت بذكائها ونظراتها الصائبة، فأصبحت رمزا للحكمة الفطرية.
  8. بلخن جنات: نظرية السرد التاريخي عند بول ريكور. جامعة منتوري قستنطينة، كلية العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، الجزائر، السنة الجامعية 2009 – 2010 ص: 83 – 84
  9. كولاس ماتيو ميشل Michel mathieu-colas: حدود السرديات frontières de la narratologie.

    poétique n° 65, fév. 1986 éd. du seuil, p. 91-110p: 2