فَتْحُ الرَّحْمَنِ فِي ردِّ الشُّبُهَاتِ حَوْلَ الْمَكِّي والْمَدَنِي فِي الْقُرْآَنِ ” دراسة تحليلية نقدية “

د/ محمود متولي حسين الميهي1 د/ عاطف محمد محمود الخولي1

1 الأستاذين المساعدين بكلية العلوم والآداب بطبرجل، جامعة الجوف – المملكة العربية السعودية.

بريد الكتروني: mahmoudelmehy79@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(4); https://doi.org/10.53796/hnsj54/1

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/04/2024م تاريخ القبول: 05/03/2024م

المستخلص

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد :

فهذا البحث يتناول بالدراسة التحليلية النقدية بعض شبهات المشككين حول المكي والمدني في القرآن الكريم ودحضها والرد عليها، فالقرآن الكريم هذا البيان الساطع والنور المبين تحدى به رب العالمين الخلق أجمعين وما زال التحدي به قائمًا إلى يوم القيامة، ولن يصل المفترون لشيء يؤيد ادعاءاتهم لتكفل الله بحفظه، فقد قال :﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾الحجر: 9، فهو آمن من أن يعتريه ما اعترى الكتب قبله من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان.

وقد قسمنا هذا البحث إلى مقدمة ، وتمهيد ، وفصلين ، وخاتمة. وجعلنا عنوانه

” فتح الرحمن في رد الشبهات حول المكي والمدني في القرآن – دراسة تحليلية نقدية “

وتوصلنا من خلال البحث لعدة نتائج أهمها: القرآن الكريم معجزة خالدة باقية إلي يوم القيامة، محفوظة بحفظ الله، ومهما حاول المشككون والمفترون النيل منه فلن يصلوا لشيء، وسيظل هذا القرآن مرفوع الراية يتحدى المعاندين ويطاول المتكبرين.

نسأل الله -عز وجل- أن يلهمنا الرشاد والسداد ، ويتقبله بقبول حسن، إنه ولى ذلك والقادر عليه.

الكلمات المفتاحية: رد – شبهات – المكي والمدني – دراسة تحليلية – نقدية.

Fath al-Rahman in refuting doubts about the Meccan and the Medina Verses in the Qur’an “Critical Analytical Study”

Dr. Mahmoud Metwally Hussein Al-Maihi1

Dr. Atef Mohammed Mahmoud Al-Khawly1

1 Assistant professors at the College of Arts and Sciences in Tabarjal, Al-Jouf University – Kingdom of Saudi Arabia. Email: mahmoudelmehy79@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(4); https://doi.org/10.53796/hnsj54/1

Published at 01/04/2024 Accepted at 05/03/2024

Abstract

Praise be to Allah, Lord of the Worlds, prayers and peace be upon our master Muhammad, his family and companions, and those who follow them in goodness until the Day of Judgment:

This research critically and analytically examines some suspicions related to the Meccan and Madinah revelations. It is main purpose is to refute them. Allah said: “We have, without doubt, sent down the Message; and we will assuredly guard it (from corruption).” (Al-Hijr: 9)

This research has been divided into an introduction, a preface, two chapters, and a conclusion.

It came under the title: “Fatah AL- Rahman on the Suspicions Related to the Meccan and Madinah Revelations – a critical and analytical study.”

We reached several results, the most important of which are: The Holy Qur’an is an eternal miracle that will remain until the Day of Resurrection, preserved with the protection of God, and no matter how the falsifiers and slanders try to undermine it, they will fail. It is a miracle that would defy all these false claims forever.

We ask Allah – Exalted be He – to guide us to the good and to make this paper sincerely done for His own sake and to accept it.

Key Words: refutation – suspicions – falsifiers – Meccan and Madinah revelations – analytical study – critical.

مقدمة

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا. قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا. مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾ (الكهف: 1-3).

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، المتفرد بالجلال بكمال الجمال والمتفرد بتصريف الأحوال، رب الأرباب ومسبب الأسباب، وخالق الخلق من تراب، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، فتح الله به أعيناً عمياً، وقلوباً غلفاً وآذاناً صماً، أقام الله به الدين، وأذل به الشرك والمشركين، وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يحيد عنها إلا مفتون.

اللهم صلِّ وسلِّم على هذا النبي الكريم، وآله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغرِّ الميامين ومن تبعهم بإحسان من الغر المحجلين.

أما بعد…

فإن القرآن الكريم نور الله في خلقه وسر هدايته لعباده، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ (الشورى: 52-53).

وهو كتاب شهد ملك الملوك أنه أنزله إلى رسوله بعلمه ومعه أعظم الشهود «الملائكة الكرام» قال : ﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفي بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ (النساء: 166).

وتكفل الله بحفظه، فقال : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (الحجر: 9)، فهو آمن من أن يعتريه ما اعترى الكتب قبله من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، فقد كانت الكتب السماوية قبله موكولة في الحفظ لأتباعها، فغيرها وحرفوها، أما القرآن فتكفل الله بحفظه، فلا تحريف ولا تغيير ولا تبديل، لأنه بشهادة الله كتاب عزيز ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت: 42).

ولأن القرآن الكريم مفجر العلوم ومنبعها، وكتاب الهداية الأعظم، والإعجاز الأكبر والأصل الأصيل لهذا الدين الخاتم، فمنذ نزوله على قلب النبي بدأ الصراع بين الحق والباطل، وبدأ المشركون بإثارة الشبهات والطعون حول القرآن الكريم، وحول شخصية النبي ، فقالوا بأن القرآن أساطير الأولين، وقالوا سحر يؤثر، وقالوا إفك افتراه محمد، واتهموا النبي بالكهانة والسحر والجنون، ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ (الكهف: 5)

وكلما زادت طعونهم في القرآن أفحمهم الله وردَّ عليهم، ولمَّا بَانَ عجزهم وضعفهم عاونهم إخوانهم في الغي والضلال من اليهود والنصارى لهدم هذا الدين وقالوا – وهم أهل الكتاب – لعبدة الأوثان أنتم أهدى سبيلاً من محمد وأتباعه، وادَّعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن لهم الدار الآخرة خالصة من دون الناس، وزعموا بأن دخول الجنة قاصر عليهم، فتصدى القرآن الكريم لهؤلاء المضلين وفنَّد شبهاتهم ودحضها وبيَّن عُوَارُها، وصدق الله القائل: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ (البقرة: 120)

فاليهود والنصارى لتحريفهم كتبهم التي نزلت على أنبيائهم لم تعد لديهم حجة صحيحة، ولا شيء يستندون إليه، فلذا أخذوا يطعنون في القرآن وأحكامه، ليغيروه ويهدموه، وهيهات، فإن هذا الدين محفوظ بحفظ الله، وقد وعد بنصر أهله ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصافات: 171-173) .

والمتتبع لأحداث التاريخ يرى أن سيل الشبهات التي يثيرها المشككون والمبطلون من خصوم الدين لم يتوقف، فلا تزال الشبهات القديمة تظهر حتى اليوم في أثواب جديدة، وحُلىً زائفة، يحاول مروجوها أن يضفوا عليها الطابع العلمي، فمنذ العصور الوسطى وهزيمة النصارى أمام المسلمين وعجزهم عن التغلب عليهم، بحثوا وفتشوا عن سر قوة المسلمين فعلموا أنها تمسكهم بدينهم، والتزامهم بتعاليم قرآنهم، فأخذوا يتلمسون المطاعن في القرآن ويثيرون الشبهات ويشككون في الدين الإسلامي، وسار على نهجهم في العصور الحديثة المبشرون والمستشرقون الذين اهتموا بالدراسات الإسلامية والعربية لا لخدمة الإسلام، بل لنقده والطعن في أصوله، واستغلوا بعض الروايات الضعيفة والواهية التي وردت في المصادر الإسلامية، وبعض الروايات الصحيحة التي حمَّلوها ما لا تحتمل، وفهموها على غير المراد منها، ليشككوا الناس في هذا الدين العظيم، ومما يؤسف له أن بعضاً من أدعياء العلم والثقافة من المسلمين صاروا أذناباً لهؤلاء الملاحدة، وأخذوا يرددون كلامهم، ويطعنون في دينهم، متسربلين بشعار البحث العلمي والحرية الفكرية، وكذبوا في دعواتهم.

وقد سخَّر الله لهذا الدين من ينافح ويدافع عنه، فهم ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (الصف: 8-9)

ولضراوة الهجمات والقرآن ونبي الإسلام في عصرنا الحاضر كتبنا هذا البحث وجعلنا عنوانه: )فتح الرحمن في رد الشبهات حول المكي والمدني في القرآن (

وتوخينا فيه دقة العبارة وسهولة الأسلوب وأمانة النقل، عَلَّنا نساهم في الدفاع عن الدين ورد سهام الطاعنين المفترين.

← وقد قسمنا هذا البحث إلى مقدمة، وتمهيد، وفصلين، وخاتمة.

أما المقدمة: فقد تناولنا فيها الحديث عن القرآن الكريم، وبعض أوصافه، وعناية المسلمين به، وبينا أن إثارة الشبهات والطعون حول القرآن الكريم منهج قديم بدأ مع نزول الوحى.

كما تضمنت هذه المقدمة ما يلي:

خطة البحث والدراسة

اقتضت ضرورة هذا العمل أن نقسمه بعد المقدمة والتمهيد إلي فصلين وخاتمة جاءت على النحو التالي:

🡸 التمهيد وفيه:-

  • تعريف الشبهات لغةً واصطلاحاً
  • سبب التسمية ، منشأ هذه الشُّبَه
  • دوافع إيراد الشبهات
  • أهم المصنفات في هذا العلم
  • منهج القرآن في الرد على الشبهات

🡸الفصل الأول: المكي والمدنى في القرآن الكريم.

🡸الفصل الثاني: الشبه التي أثيرت حول المكي والمدنى .

🡸 وأما الخاتمة: نسأل الله حسنها، فقد تضمنت خلاصة البحث ونتائجه.

وأخيراً: نسأل الله أن يتقبله منا ويجعله في ميزان حسناتنا، ووالدينا ومشايخنا، ومن له فضل علينا، ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ (آل عمران: 8).

ونتضرع لربنا: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَقَوْلُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ».([1])

✍ الباحثان

محمود متولى الميهي

عاطف محمد الخولى

الفصل الأول: تمهيد

تعريف الشبهات لغةً واصطلاحاً

الشبهات لغة: جمع شبهة، يقال شابهه وأشبهه ماثله وتشابها واشتبها أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا وشبّهه إياه وبه مَثّله وأمور مشتبهة: مُشْكِلة والشُبهة بالضم الالتباس والمِثل وشُبّه عليه الأمر تشبيهاً لُبِّس عليه، واشتبهت الأمور وتشابهت: التبست لإشباه بعضها بعضاً، واشتبهت الأمور وتشابهت التبست فلم تتميز وتظهر ومنه اشتبهت القبلة، والشبهة في العقيدة المأخذ المُلبَّسُ سميت شبهة لأنها تُشبه الحق، وشُبّه عليه الأمر لُبِّس وخُلِّط([2]).

فالمعاني السابقة كلها تدور حول معنى الخلط والإشكال والالتباس مما يدل على المراد منها فالشبهة كالليل المظلم لا وضوح فيه ولا بيان.

واصطلاحاً: ما التبس أمره فلا يدري أحلال هو أم حرام وحق هو أم باطل، وقيل الشبهة مشابهة الحق للباطل والباطل الحق من وجه إذا حقق النظر فيه ذهب([3]).

قال ابن القيم “رحمه الله” الشبهة: وارد يرد على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق له فمتى باشر القلب حقيقة العلم لم تؤثر تلك الشبهة فيه بل يقوي علمه ويقينه بردها ومعرفة بطلانها ومتى لم يباشر حقيقة العلم بالحق قلبه قدحت فيه الشك بأول وهلة فإن تداركها وإلا تتابعت على قلبه أمثالها حتى يصير شاكاً مرتاباً([4]).

سبب التسمية:

سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل وأكثر الناس أصحاب حُسن ظاهر فينظر الناظر فيما ألبسته من اللباس فيعتقد صحتها، وأما صاحب العلم واليقين فإنه لا يغتر بذلك بل يجاوز نظره إلى باطنها وما تحت لباسها فينكشف له حقيقتها([5]).

منشأ هذه الشُّبَه:

هناك أمور ساعدت على نشأة الشبه وإثارتها ولفت الأنظار إليها وإشاعتها ومن أهم هذه الأمور:

1- روايات واهية ومختلقة وباطلة اشتملت عليها بعض الكتب الإسلامية.

2- روايات صحيحة لها مخارج مقبولة، ومحامل صحيحة، ولكن صرفها أعداء الإسلام إلى محامل ترضى أحقادهم وتشفي نفوسهم المريضة وتحقق ما يسعون إليه من حرب على الإسلام ودس الدسائس له.

  1. ما حصل من بدايات جمع القرآن وأثنائه من أمور استغلت لإثارة الشبه.

كل هذه الأمور وغيرها ساعدت الأعداء على اختلاف ألوانهم وأشكالهم من يهود ونصارى وكفار ومستشرقين ومفتونين من أبناء الإسلام، فيوردون الشبهة، ويضيفون إليها ما شاءت لهم نفوسهم الحاقدة على الإسلام والمسلمين مما هو من وهم الخيال والأوهام، ومن صنيع الأحقاد، ويطيرون به في كل مطار يحاولون إسقاط الحق وتشويه صورته.

وما هذه الشُّبَه التي ذهبوا إليها إلا شكوك وأوهام تلقفوها من هنا وهناك يروجونها باسم العقل مرة وباسم العلم مرة أخرى، وصدق الله العظيم وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْالبقرة- 120.وقال سبحانه وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا النساء – 89.، وقال عز من قائل ﭽ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ الصف- 8. ([6]).

دوافع إيراد الشبهات:

هناك دوافع كثيرة للهجوم على القرآن والنبي والسنة المطهرة يمكن إجمال هذه الدوافع فيما يأتي:

1- دافع نفسي: وهو تزييف الحقائق وتحريفها تعبيراً عن الإخفاق والعجز عن مواجهتها، فالعجز عن مواجهة الخصم يتحول في الأعم الأغلب إلى الافتراء عليه، كما أن التلبس بالصفات السلبية دافع لوصف الآخرين بها درءاً للاتهام على طريقة “رمتني بدائها وانسلت” وهو ما يُعرف عند علماء النفس بالإسقاط([7]). حيث أن الإسقاط حيلة من الحيل الدفاعية التي يلجأ إليها الفرد للتخلص من تأثير التوتر الناشئ في داخله ذلك أن الغلبة تكون للفكر الأقوى والإسلام كما يشهد الواقع عقيدة وأخلاقاً هو الأقوى، فقوته ليست من قوة أتباعه كما في العقائد الأخرى، ولكن قوته ذاتية تتأتى من ربانية هذا الدين لأنه الحق، لأنه الخير، لأنه السلام والأمن، لأنه الحقيقة التي لم تتعرض لزيف أو تحريف أو تشويه.

ومن هنا كان إخفاق الغرب على المستوى الفكري والمعرفي – على الرغم من تفوقه سياسياً واقتصادياً وعسكرياً – دافعاً إلى الخروج عن العقلانية والحوار المنصف، واللجوء إلى القوة وإلى التشويه، والإفساد ظلماً وعدواناً.

2- دافع معرفي: وهو إخفاق الغرب في مواجهة الإسلام فكرياً على الرغم من هزيمة المسلمين سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في الوقت المعاصر فالافتراء على القرآن والطعن فيه في القرون الوسطى جاء نتيجة إخفاق الكنيسة في مواجهة الإسلام عقائدياً حيث تتهاوى عقيدة التثليث أمام عقيدة الوحدانية لله تعالى – يضاف إلى هذا انعزال الكنيسة عن الحياة في مقابل أن الإسلام دين ودنيا، فلم يكن من سبيل أمام الكنيسة من سبيل لصد النصارى عن الدخول في الإسلام سوى تشويه رسالة الإسلام، ولا يزال الغرب حتى الآن يمارس إقصاء ونبذ الآخر بمواصلة الطعن في القرآن وفي نبوة النبي محمد وفي الوقت نفسه ينعت الإسلام بأنه هو الذي يمارس إقصاء الآخر.

3- دافع المصلحة: فالمنتفعون على مستوى العالم بتجارة الرقيق، والربا والخمور والمخدرات وأسلحة الدمار الشامل، ومؤسسات الربا العالمية ومؤسسات الأزياء والتجميل.. إلخ يحاربون “القرآن – الإسلام” لأنه يُحرم هذه الموبقات التي أورثت العالم الغلاء وكان الكثير منها وراء إثارة الفتن والحروب في العالم الثالث ترويجاً لتجارتهم وجعل هذه البلاد أسواقاً للسلاح والمخدرات وغيرها([8]).

أهم المصنفات في هذا العلم:

بدأ التشكيك في القرآن الكريم؛ وإثارة الشبهات حول مصدر الشريعة منذ البدايات الأولى لنزول القرآن الكريم وهكذا في كل عصر تشتد الحرب على الإسلام حيناً وتهدأ حيناً آخر وقد وقف العلماء بالمرصاد لكل من يثير هذه الفتن والشبهات ومن أهم المصنفات في هذا العلم:

  1. الرد على ابن الرواندي الملحد للجاحظ “ت255هـ”.
  2. تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة الدينوري “ت276هـ”
  3. التمهيد وإعجاز القرآن لأبي بكر الباقلاني “ت403هـ”
  4. تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار “ت415هـ”
  5. حقائق الإسلام وأباطيل خصومة للأستاذ عباس محمود العقاد.
  6. شبهات حول الإسلام للأستاذ محمد قطب.
  7. دفاعاً عن القرآن ضد منتقديه لعبد الرحمن بدوي.

وغير هذه الكتب كثير بالإضافة إلى ما تعرض له المفسرون في كتب التفسير وعلوم القرآن وبخاصة:-

  1. معاني القرآن للفراء.
  2. الكشاف للزمخشري.
  3. مفاتيح الغيب للرازي.
  4. روح المعاني للآلوسي.
  5. تفسير المنار لمحمد رشيد رضا.
  6. التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور.
  7. مناهل العرفان للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني.
  8. المدخل لدراسة القرآن الكريم لمحمد محمد أبو شهبة.

منهج القرآن في الرد على الشبهات:

أرسل الله نبيه محمد هادياً ومبشراً ونذيراً بدستوره الخالد وكتابه المحكم ليخرج الناس من ظلمات الجهل والشك والشرك إلى نور العلم واليقين والإيمان، ومنذ أن دعي النبي الناس إلى الإيمان بالله الواحد والمساواة بين البشر أجمعين، ما انفك المشركون عن مجابهته بالمعارضة والتشكيك في النبي تارة وفي القرآن تارة أخرى، وبالرغم من كونهم أرباب الفصاحة والبلاغة وعجزهم عن الإتيان بما تحداهم به القرآن من الإتيان بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة منه لم يُسلِّموا لهذا القرآن وهذا النبي بل طعنوا في القرآن وقالوا أساطير الأولين، وقالوا بأنه سحر يؤثر وأنه إفك افتراه محمد، واتهموا النبي بالجنون والكهانة والسحر وقول الشعر، وكلما زادت طعونهم في القرآن أفحمهم الله ورد عليهم، ولَمَّا بَانَ عجزهم وضعفهم عاونهم إخوانهم في الغي والضلال من اليهود والنصارى لهدم هذا الدين وقالوا – وهم أهل الكتاب – لعبدة الأوثان أنتم أهدى سبيلاً من محمد وأتباعه، وادَّعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن لهم الدار الآخرة خالصة من دون الناس، وزعموا بأن دخول الجنة قاصر عليهم، فتصدى القرآن الكريم لهؤلاء المضلين وفنَّد شبهاتهم ودحضها وبيَّن عُوَارُها، وسأذكر فيما يأتي بعضا من هذه الردود على افتراءاتهم:

أولا: كفار مكة هم أول من تعرض لنقد القرآن الكريم وإثارة الشبهات حوله وحول النبي الكريم فقالوا عن القرآن ما يأتي:-

أ- قالوا بأنه أساطير الأولين فحكى الله ذلك قائلاً وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً الفرقان: ٥، وقال : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَالأنفال: ٣١ ، وقال : ” وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ” النحل: ٢٤، فرد عليهم بقوله: قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًاالفرقان: ٦.

ب- وقالوا عن القرآن بـأنه سحر وبأنه قول البشر قال ” فَقَالَ إِنْ هَذَا. إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَر” المدثر: ٢٤ – ٢٥

فرد الله عليهم بأنه ” تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ” فصلت: ٢ ,وبأنه ” تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ” الواقعة: ٨٠

جـ- واتهموا النبي بالجنون فقالوا فيما حكاه القرآن عنهم ” وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ” الحجر: ٦، فرد الله عليهم بقوله ” مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ” القلم: ٢، وقال : “مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ” التكوير:٢٢

د- وحينما اتهموا النبي بالكهانة والشعر رد الله عليهم بقوله: “إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ .وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ . وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ . تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ” الحاقة: ٤٠ – ٤٣

هـ- وحينما اتهموا النبي بأنه تَقَوَّله وافتراه وأعانه آخرون عليه حكى الله ذلك ورد عليهم بقوله “أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ .فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ” الطور: ٣٣–٣٤ وقال عنهم “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا” الفرقان: ٤، وقال : “أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ” السجدة: ٣.

و- واتهموا النبي بأنه تعلم القرآن من أعجمي فحكى الله ذلك ورد عليهم بقوله “وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ” النحل: ١٠٣

ز- ولما سخروا من النبي من كونه مرسلاً من عند الله وهو مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق حكى الله ذلك بقوله “وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرً” الفرقان: ٧- فرد الله عليهم بقوله “وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا” الفرقان: ٢٠

ح- وطلبوا من النبي أن يُبدِّل القرآن أو يأتي بغيره فحكى الله ذلك ورد عليهم “وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُون” يونس: ١٥-1٦

ولم يكتف القرآن الكريم بالرد على ما أثاره المشركون من شبهات بل قام بالرد أيضاً على ما أثاره أعداء الإسلام من اليهود والنصارى من شُبهٍ ليشككوا في هذا الدين وهذا النبي، ومعلوم أن عداوة اليهود والنصارى للإسلام قديمة منذ هجرة النبي وصحابته للمدينة المنورة وزادت واشتدت كلما رأوا تقدم الإسلام وكثرة الداخلين فيه وتغلغل مبادئه في نفوس أتباعه وخير دليل على ذلك ما جاء في سيرة ابن هشام وغيرها من كتب السيرة في قصة مقدم النبي المدينة، عن أم المؤمنين صفية -رضي الله عنها- قالت: لما قدم رسول الله غدا إليه أبي وعمى أبو ياسر ابن أخطب، ثم رجعا فسمعت عمي يقول لأبي: أهو هو؟ قال نعم والله، قال أتعرفه وتثبته ؟ قال نعم، قال فما في نفسك منه قال عداوته والله ما بقيت([9])، وهناك أمثلة كثيرة في القرآن الكريم توضح الشُبه التي أثاروها والدحض الإلهي لها، من ذلك.

أولا: الرد على اليهود

أ- عندما قالوا “الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ” آل عمران: ١٨٣

ب- وعندما ادّعوا أنهم أولياء الله من دون الناس حكى الله ذلك ورد عليهم بقوله “قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ” الجمعة: ٦ – ٧

جـ- عندما ادَّعوا أنهم غير مكلفين إلا بما أنزله الله عليهم حكى الله ذلك ورد عليهم بقوله “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” البقرة: ٩١

ثانيا: الرد على النصارى

أ- رد الله عليهم دعواهم بأن الله هو المسيح ابن مريم قال : “لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” المائدة: ١٧

ب- ورد عليهم دعواهم أن الله ثالث ثلاثة فقال سبحانه “لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ” المائدة: ٧٣

ثالثا: الرد القرآني على اليهود والنصارى معاً

1- رد الله عليهم دعواهم بأن دخول الجنة قاصر عليهم فقال سبحانه “وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ” البقرة: ١١١ – ١١٢

2- ولما ادّعوا أنهم أبناء الله حكى الله ذلك ورد عليهم بقوله “وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ” المائدة: ١٨

3- وعندما ادّعوا أن لا دين إلا دينهم وأن لا هدى إلا هداهم حكى الله ذلك وردّ عليهم فقال سبحانه “وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” البقرة: ١٣٥

فالشبهات السابقة والمطاعن وغيرها كثير جاء في كتاب الله على لسان المشركين واليهود والنصارى وقام الله بالرد عليهم وإفحامهم ودحض شبهاتهم وبيان زيفها وبطلانها، بل ومما يدعو للعجب أن “من يستعرض تاريخ القرآن الكريم عبر الزمان والمكان يجد أن من بين خصائص هذا الكتاب التي تصل إلى حد الإعجاز أنه كلما اشتد الهجوم عليه من معارضيه ومنكريه ازداد تألقاً وقوة فحقائق القرآن الخالدة تدحض الزيف والافتراء وكل ما يثيره أعداء القرآن من شبهات إنه بحق كما أخبر الله عنه “لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ” فصلت: ٤٢

وتقوم آيات القرآن على إقناع العقل وطمأنينة القلب وفضح الزيف والافتراء حتى لا يبقى أمام المتمرد إلا أحد أمرين إما أن يؤمن عن بينة، وإما أن يكفر عن بينة، والقرآن وحده هو القادر على محاورة المتمرد، لأنه خطاب الخالق لخلقه وهو أعلم بهم قال تعالي “أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ” الملك: ١٤([10]).

فمما سبق يتضح لنا ويتأكد أن رد الشبهات المثارة حول القرآن ونبي الإسلام منهج قرآني أصيل وَرَدَ به القرآن الكريم وكذا السنة النبوية المطهرة ويؤكد أن من أوجب الواجبات على علماء هذه الأمة الإسلامية وأتباع القرآن العظيم أن ينافحوا عن كتاب ربهم ويزودوا عن حياض سنة نبيهم ويكونوا بالمرصاد لكل من تسول له نفسه الطعن والتشكيك في خير كتاب أنزل لخير أمة.

رزقنا الله الفهم لكتابه والزود والدفاع عن دينه إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الفصل الثاني

الشبهات المثارة حول المكي والمدني

قبل الحديث عن الشبهات أتحدث أولاً: عن المكي والمدني فأقول وبالله التوفيق

عناية العلماء بالمكي والمدني:

عَنِيَ العلماء بتحقيق المكي والمدني عناية فائقة، فتتبعوا القرآن آية آية، وسورة سورة، لترتيبها وفق نزولها، مراعين في ذلك الزمان والمكان والخطاب، لا يكتفون بزمن النزول، ولا بمكانه، بل يجمعون بين الزمان والمكان والخطاب لأن معرفة المكي والمدني من المباحث المهمة التي يحتاج إليها المفسر لكتاب الله ومن نصب نفسه للاجتهاد والفتيا والقضاء كي يمكنهم التوصل إلى الحق والصواب، قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري: من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني وما نزل بالمدينة وحكمه مكي وما نزل بمكة في أهل المدينة وما نزل بالمدينة في أهل مكة ثم ما يشبه نزول المكي في المدني وما يشبه نزول المدني في المكي ثم ما نزل بالجحفة وما نزل ببيت المقدس وما نزل بالطائف وما نزل بالحديبية ثم ما نزل ليلا وما نزل نهارا وما نزل مشيعا وما نزل مفردا ثم الآيات المدنيات في السور المكية والآيات المكية في السور المدنية ثم ما حمل من مكة إلى المدينة وما حمل من المدينة إلى مكة وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة ثم ما نزل مجملا وما نزل مفسراً وما نزل مرموزا ثم ما اختلفوا فيه فقال بعضهم مدني هذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى([11])

فوائد العلم بالمكي والمدني

ومن فوائد العلم بها:

1- أنه يعرف به الناسخ والمنسوخ فيما لو وردت آيتان متعارضتان وإحداهما مكية والأخرى مدنية فإننا نحكم بنسخ الثانية للأولى لتأخرها عنها.

2- أنه يعين على معرفة تاريخ التشريع والوقوف على سنة الله الحكيمة في تشريعه؛ وهي التدرج في التشريعات بتقديم الأصول على الفروع والإجمال على التفصيل وقد أثمرت هذه السياسة التشريعية ثمرتها وعادت على الدعوة الإسلامية بالقبول والإذعان والانتشار.

3- الوقوف على السيرة النبوية من خلال الآيات القرآنية..

فإن تتابع الوحي على رسول الله — ساير تاريخ الدعوة بأحداثها في العهد المكي والعهد المدني منذ بدأ الوحي حتى آخر آية نزلت، والقرآن الكريم هو المرجع الأصيل لهذه السيرة الذي لا يدع مجالًا للشك فيما رُوِيَ عن أهل السير موافقًا له، ويقطع دابر الخلاف عند اختلاف الروايات([12]).

4- ومن فوائده أيضا الثقة بهذا القرآن وبوصوله إلينا سالماً من التغيير والتحريف والزيادة والنقصان، ويدل على ذلك اهتمام المسلمين به كل هذا الاهتمام حتى ليعرفون ويتنقلون ما نزل منه قبل الهجرة وما نزل بعدها وما نزل بالحضر وما نزل بالسفر إلى غير ذلك…فلا يعقل بعد هذا أن يتركوا أحدا يعبث به وهم المتحمسون لحراسته وحمايته والإحاطة بكل ما يتصل به أو يحتف بنزوله إلى هذا الحد.

هل ورد عن رسول الله بيان لمعرفة المكي والمدني ؟

العمدة في معرفة المكي والمدني النقل الصحيح عن الصحابة الذين كانوا يشاهدون أحوال الوحي والتنزيل، والتابعين الآخذين عنهم، ولم يرد عن النبي في ذلك قول؛ لا سبيل إلى معرفة المكي والمدني إلا بما ورد عن الصحابة والتابعين في ذلك لأنه لم يرد عن النبي بيان للمكي والمدني. وذلك لأن المسلمين في زمانه لم يكونوا في حاجة إلى هذا البيان كيف وهم يشاهدون الوحي والتنزيل ويشهدون مكانه وزمانه وأسباب نزوله عيانا. وليس بعد العيان بيان ([13]).

وقد اشتهر بمعرفة المكي والمدني من الصحابة- رضوان الله عليهم- عبد الله بن مسعود روى البخاري بسنده عنه أنه قال: «والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه»([14]) وقال أيوب: سأل رجلا عكرمة عن آية من القرآن فقال: نزلت بسفح الجبل وأشار إلى سَلْع ([15])

تعريف المكي والمدني

للعلماء في تعريفهما اصطلاحات ثلاثة:

الأول: ما عليه جمهور العلماء وهو المكي: ما نزل قبل الهجرة وإن كان نزوله بغير مكة، ويدخل فيه ما نزل على النبي في سفر الهجرة.

والمدني: ما نزل بعد الهجرة وإن كان نزوله بغير المدينة، ويدخل فيه ما نزل على النبي في أسفاره بعد الهجرة كسورة الفتح فقد نزلت على النبي منصرفه من الحديبية.

وهذا الاصطلاح لوحظ فيه الزمان، وعليه فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ( النساء:58) مدني وإن كانت نزلت بمكة والنبي في جوف الكعبة عام الفتح، وقوله: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ( المائدة:3 ) مدني وإن كانت نزلت بعرفة في حجة الوداع وهذا التقسيم حاصر وضابط ومطرد؛ إذ تنعدم على القول به الواسطة ولا يرد عليه ما ينقضه فلذا كان الراجح المقبول.

الاصطلاح الثاني: المكي: ما نزل بمكة ويدخل في مكة ضواحيها كالمنزل عليه بمنى وعرفات والحديبية.

والمدني: ما نزل بالمدينة ويدخل في المدينة ضواحيها كالمنزل عليه ببدر وأحد وهذا الاصطلاح لوحظ فيه المكان؛ ويرد على هذا التعريف أنه غير حاصر لأنه يثبت الواسطة فما نزل عليه بالأسفار لا يسمى مكيّا ولا مدنيّا وذلك مثل ما نزل بتبوك، وهو قوله تعالى: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [التوبة: 43] الآية، ومثل آية التيمم التي في سورة النساء فإنها نزلت على النبي في بعض أسفاره، وهو منصرفه والجيش من غزوة بني المصطلق.

الثالث المكي: ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني: ما وقع خطابا لأهل المدينة، ويحمل على هذا ما نقل عن ابن مسعود أنه قال: ما كان في القرآن- يا أيها الذين آمنوا- أنزل بالمدينة، وما كان يا أيها الناس فبمكة. وما نقل عن ميمون بن مهران التابعي الجليل أنه قال: ما كان في القرآن يا أيها الناس أو يا بني آدم فإنه مكي، وما كان يا أيها الذين آمنوا فإنه مدني، وهذا الاصطلاح لوحظ فيه المخاطب، ويرد على هذا الرأي أن التقسيم عليه غير حاصر فهنالك آيات كثيرة جدّا في القرآن الكريم ليس فيها يا أيها الناس ولا يا أيها الذين آمنوا كما يرد عليه أنه غير مطرد؛ إذ هو منقوض بسورة «البقرة» المدنية وفيها يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وبسورة «النساء» المدنية ومفتتحها يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ وبسورة «الحج» فإنها مكية عند جماعة من العلماء وفي أواخرها “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” الحج: ٧٧.

قال الإمام الرازي في تفسيره تعقيباً على هذا الاصطلاح الأخير: قال القاضي: إن كان الرجوع في هذا إلى النقل فمسلّم وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فضعيف إذ يجوز أن يخاطب المؤمنين بصفتهم. وباسم جنسهم، ويؤمر من ليس بمؤمن بالعبادة كما يؤمر المؤمن بالاستمرار عليها والازدياد منها فالخطاب في الجميع ممكن([16]) فإن قال قائل: إن مراد هؤلاء بمقالتهم هذه أن الغالب والكثير كذلك، قلنا: إن ذلك لا يفيد في التقاسيم والتعاريف إذ مبناها على الضبط والانحصار والاضطراد.

الاعتماد في وصف السورة بكونها مكية أو مدنية

والذي يظهر أن اعتمادهم في وصف السورة بكونها مكية أو مدنية إنما يكون تبعا لما يغلب فيها أو تبعا لفاتحتها، فقد ورد عن ابن عباس: أنه قال إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت مكية ثم يزيد الله فيها ما شاء، وقال البيهقي في الدلائل: في بعض السور التي نزلت بمكة آيات نزلت بالمدينة فألحقت بها ([17]) وقال ابن الحصار: كل نوع من المكي والمدني منه آيات مستثناة إلا أن من الناس من اعتمد في الاستثناء على الاجتهاد دون النقل، وقال ابن حجر في الفتح: قد اعتنى بعض الأئمة ببيان ما نزل من الآيات بالمدينة في السورة المكية… وأما عكس ذلك وهو نزول شيء من سورة بمكة تأخر نزول تلك السورة إلى المدينة فلم أره إلا نادرا، فقد اتفقوا على أن الأنفال مدنية، لكن قيل: إن قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ… الآية نزلت بمكة ([18]).

وترتيب الآيات القرآنية ليس على حسب نزولها، وترتيبها الزمني، إنما يرجع إلى المناسبات التي تقوم على ارتباط المعاني وتماسكها، ووحدة الفكرة أو تجانسها، فلا عجب إذا أن يكون في بعض السور المكية آيات مدنية أو العكس. وليس أدل على هذا من أن بعض الآيات وضعت بجانب بعض الآيات الأخرى مع وجود فاصل زمني بينهما نحو بضع سنين كما جاء في أسباب النزول، وذلك مثل نزول قوله تعالى: ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا” النساء: ٥٨ فقد نزلت بعد قوله تعالى “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ” النساء: ٥١ , بنحو ست سنين.

الطريق التي يعرف بها المكي والمدني

لمعرفة المكي والمدني طريقان:

1 – سماعي.

2 – وقياسي.

أما السماعي: فالنقل الصحيح عن الصحابة أو التابعين بأن سورة كذا أو آية كذا نزلت بمكة أو بالمدينة أو قبل الهجرة أو بعدها.

وأما القياسي: فضوابط كلية لمعرفة كل منها وهذه الضوابط مبناها على التتبع والاستقراء المبني على الغالب والكثير.

ضوابط المكي ومميزاته الموضوعية

1- كل سورة فيها «كلا» مكية، وقد وردت في القرآن ثلاثا وثلاثين مرة في خمس عشر سورة كلها في النصف الأخير قال الدريني رحمه الله:

وما نزلت كلا بيثرب فاعلمن ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى

وحكمة ذلك: أن النصف الأخير نزل أكثره بمكة، وأكثر أهلها جبابرة فتكررت كلا على وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار عليهم بخلاف النصف الأول، وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم. وذُكرت ثلاثًا وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة.

2 – كل سورة في أولها حروف المعجم فهي مكية سوى «البقرة» و«آل عمران» فإنهما مدنيتان باتفاق، وفي «الرعد» خلاف.

3 – كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة.

4 – كل سورة فيها سجدة مكية سوى الحج، عند من يقول إنها مدنية.

5 – كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الماضية مكية سوى «البقرة» و«آل عمران».

أما المميزات الموضوعية وخصائص الأسلوب المكي فيمكن إجمالها فيما يلي:

1 – الدعوة إلى التوحيد، وعبادة الله وحده، وإثبات الرسالة، وإثبات البعث والجزاء. وذكر القيامة وهولها. والنار وعذابها، والجنة ونعيمها، ومجادلة المشركين بالبراهين العقلية والآيات الكونية.

2 – وضع الأسس العامة للتشريع والفضائل الأخلاقية التي يقوم عليها كيان المجتمع. وفضح جرائم المشركين في سفك الدماء، وأكل أموال اليتامى ظلما، ووأد البنات، وما كانوا عليه من سوء العادات.

3 – ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة زجرا لهم حتى يعتبروا بمصير المكذبين قبلهم وتسلية لرسول الله حتى يصبر على أذاهم ويطمئن إلى نصر الله تعالى له عليهم.

4 – قصر أكثر آياته وسوره؛ وذلك لنزوله بمكة، وأكثر أهلها يومئذ يمتازون بعلو كعبهم في الفصاحة والبلاغة، وتملكهم لناصية القول، والخطابة، والشعر وبلوغهم الغاية في لطف الحس، وذكاء العقل، والألمعية وسرعة الخاطر فكان المناسب لهم النذر القارعة، والعبارات الموجزة، والفقر القصيرة ذات اللفظ الجزل، والجرس القوي، والمعنى الفحل فتصخّ الآذان وتستولي على المشاعر وتعقل ألسنتهم عن المعارضة وتدعهم في حيرة ودهشة مما يسمعون فلا يلبث البليغ منهم بعد سماعها أن يلقي عصا العجز ويرسلها قولة صريحة تشهد بالإعجاز كما قال الوليد بن المغيرة القرشي لما سمع القرآن: والله لقد سمعت كلاما ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.

ولقد كان البليغ منهم- على كفره- يسمع القرآن فيخيل إليه أن العذاب كأنه واقع بهم فلا يجد مندوحة عن أن يناشد النبي الله والرحم أن يكف عن قراءاته، وكان القرشيون يتواصون فيما بينهم أن لا يستمعوا إليه وأن يضعوا أصابعهم في آذانهم، ويستغشوا ثيابهم، حذرا أن ينفذ إلى قلوبهم فإذا هم بعد قليل تغلب عليهم فطرتهم اللغوية فيتناسون الوصية ويلقون إليه بآذانهم وقلوبهم لما يجدون في استماعه من لذة وإرضاء لملكاتهم الأدبية.

ضوابط المدني ومميزاته الموضوعية

1- كل سورة فيها ذكر الحدود والفرائض([19]) مدنية.

2 – كل سورة فيها ذكر المنافقين وأحوالهم مدنية سوى سورة العنكبوت فإنها مكية إلا إحدى عشرة آية من صدرها فإنها مدنية وهي التي ذكر فيها المنافقون.

3 – كل سورة فيها الإذن بالجهاد أو الأمر به وأحكامه والصلح والمعاهدات فهي مدنية، سوى سورة «الحج» عند من يرى أنها مكية.

هذا من ناحية الضوابط، أما من ناحية المميزات الموضوعية وخصائص الأسلوب المدنى فيمكن إجمالها فيما يأتي:

1- بيان العبادات، والمعاملات، والحدود، ونظام الأسرة، والمواريث، وفضيلة الجهاد، والصلات الاجتماعية، والعلاقات الدولية في السلم والحرب، وقواعد الحكم، ومسائل التشريع.

2- مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ودعوتهم إلى الإسلام، وبيان تحريفهم لكتب الله، وتجنيهم على الحق، واختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم.

3- الكشف عن سلوك المنافقين، وتحليل نفسيتهم، وإزاحة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم على الدين.

4- طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرر الشريعة ويوضح أهدافها ومراميها([20]).

يقول الأستاذ الدكتور عبد الوهاب غزلان: هذه الضوابط يلاحظ عليها أمران:-

الأول: أنها أمور لم يُعلم بها المكي والمدني ابتداءً، لأنه لا سبيل إلى معرفة ذلك سوى النقل عن الصحابة والتابعين، وإنما هي أمور عرفت بطريق التتبع والاستقراء أنها توجد فيما ثبت بالنقل أنه مكي، إن كانت تلك الأمور مما انفرد به القسم المكي، أو فيما ثبت بالنقل أنه مدني إن كانت مما انفرد به القسم المدني.

الثاني: أن هذه الضوابط توجد في بعض السور دون بعض فليس المراد أنه لا تخلو سورة من السور عن شيء منها يعرف به أنها مكية أو مدنية، بل المراد أنه إذا وجد في سورة من السور شيء من هذه الضوابط علم أنها مكية أو مدنية. أ.هـ. ([21])

ثانياً: الشبه التي أثيرت حول المكي والمدني

إن أعداء الإسلام وخصومه كانوا ولا يزالون حريصون كل الحرص على التشكيك في القرآن الكريم وتصويب أنفاسهم السامة وسهامهم الطائشة إليه، وإثارة الشبه حوله وذلك لأن هذا الكتاب أعظم مقدسات الإسلام والمسلمين، وهو أيضاً قوام الدين الذي يعتمد عليه أتباعه، يريدون بذلك أن يفتنوا المسلمين ويزعزعوا عقيدتهم ويضعفوا ثقتهم بكتاب ربهم.

ولكن هؤلاء فعلوا ما فعلوا وأرادوا ما أرادوا متناسين أن هذا الكتاب مصدر عزة المسلمين لكونه معجزة الرسول الخالدة الباقية المتجددة التي لا ينال منها عبث العابثين ولا شبهات المضلين المغرضين لأنه كلام رب العالمين الذي وصفه بقوله “أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا” النساء: ٨٢. ومن تلك السهام الطائشة والأنفاس السامة المطاعن الموجهة إلى القرآن الكريم وما أثاروه من شبهات حول المكي والمدني غرضهم منها إثبات أن القرآن الكريم ليس من عند الله وإنما هو من تأليف محمد تَقَوَّله وافتراه وأخذه من غيره وتأثُّر محمد بمن أخذ عنهم وبالبيئات المختلفة التي عاش فيها ظهر أثر ذلك كله في القرآن الكريم “كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا” الكهف: ٥. وفيما يأتي أعرض لبعض من هذه الشبهة التي أثاروها، والمطاعن التي ادعوها والمزاعم التي افتروها، ثم أنقضها وأدحضها وأُسقطها بالحجج الدامغة والأدلة الواضحة مستعيناً بالله تعالى ومستمداً العون منه.

***

الشبهة الأولي

الادعاء بأن القسم المكي يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة كالعنف والشدة والقسوة والحدة والغضب والسباب والوعيد والتهديد مثال ذلك:

“تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ .سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ . وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ . فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ” المسد: ١ – ٥

ومثاله أيضاً: “وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ”العصر: ١– ٢.

وقوله “فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ” الفجر: ١٣ – ١٤.

وقوله “كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ” التكاثر: ٥ – ٦.

أما القسم المدني أو اليثربي فتلوح عليه أمارة الثقافة والاستنارة ويتسم بأنه هادئ لين وديع مسالم يقابل السوء بالحسنى، ويناقش الخصوم بالحجة الهادئة. وغرضهم من إيراد تلك الشبهة تشكيك المؤمنين في كتاب ربهم وأنه ليس كلام الله وليس معجزا إنما هو كلام محمد الذي تأثر أولا بأهل مكة فكان كلامه خشنا بعيدا عن المعارف العالية التي اكتسبها من أهل الكتاب في المدينة. ([22])

الرد على هذه الشبهة:

ولتفنيد ما سبق أقول: إن هذه الشبهة ساقطة من وجوه بيانها فيما يأتي:-

أولاً: القول بأن القسم المكي يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة أو ينفرد بالعنف والشدة دعوى بغير دليل وعدول عن الحق لهوىً في نفس القائل وحقد في قلبه فالقرآن الكريم جميعه يمتاز بكل أنواع السمو والرفعة والوقار والجلال فهو إذا اشتد فعلى الفاسقين المفسدين يشتد وإذا لان فللصالحين الأخيار يلين وشدته ولينه في الوعد والوعيد وكلاهما لصالح النوع الإنساني ولا يعاب كتاب كالقرآن لذلك.

ثانياً: الدعوى بأن القسم المكي تفرد بالعنف والشدة أقول بأن هذه دعوى من لم يمعن النظر في كتاب الله لأن المكي لم ينفرد بالعنف والشدة ففي المدني كثير من الشدة والوعيد وإليك أمثلة توضح ذلك.

قال تعالى في سورة البقرة المدنية:” فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ” البقرة: ٢٤- وقال فيها أيضا “الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ” البقرة: ٢٧٥. وقال فيها أيضا: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ” البقرة: ٢٧٨ – ٢٧٩. فهذه آيات كلها شدة ووعيد.

وفي سورة آل عمران وهي مدنية أيضاً “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ” آل عمران: ١٠ – ١٢ وإنما اشتمل القرآن الكريم بقسميه المكي والمدني على الشدة والعنف لأن ضرورة التربية الرشيدة في إصلاح الأفراد والشعوب وسياسة الأمم والدول تقضي أن يمزج المصلح في قانون هدايته بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد والشدة واللين.

ثالثاً: لم ينفرد القسم المدني باللين والصفح والسماحة بل في السور المكية آيات كريمة تفيض لينا وصفحا وتقطر سماحة وعفوا بل تنادي بأن تقابل السيئة بالحسنة كما في قوله سبحانه في سورة فصلت المكية: “وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ . وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ” فصلت: ٣٣ – ٣٥. وكما في قوله سبحانه في سورة الشورى المكية: “فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ. وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ. وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ” الشورى: ٣٦ – ٤٠.

وكذلك قوله سبحانه في سورة الحجر المكية: ” وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ” الحجر: ٨٧ – ٨٨ إلى آخر السورة. ومثله قول الله جلت قدرته في سورة الزمر المكية: “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” الزمر: ٥٣.

إذاً فليس ثمة دليل على أن القسم المكي انفرد بالشدة والعنف ففي المدني شدة وعنف أيضاً، كما أنه ليس ثمة دليل على أن القسم المدني قد انفرد باللين والموادعة والرقة، فإن في آيات القسم المكي ما يفيض رقة وصفحاً ويقطر سماحة وعفواً كما سبق بيانه.

وعلى هذا ففي القسمين المكي والمدني الشدة والعنف والقسوة والغلظة وفيهما الرقة واللين والسماح والموادعة والصفح، ولكن ذلك لا يرجع إلى محمد ولا إلى تأثره بالبيئة التي أقام فيها؛ لأن القرآن من عند الله جاء ليؤثر في البيئة لا ليتأثر بها، ولو كان القرآن من عند محمد لعارضه العرب عندما تحداهم به وطلب منهم أن يأتوا بمثله وصدق الله القائل “قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا” الإسراء: ٨٨ وإنما مرجع ذلك كله في القرآن لرعاية حال المخاطبين فتارة يشتد وتارة يلين تبعاً لما يقتضيه حالهم وليس هذا خروجاً عن سنن الحق وسبيل الحكمة بل هو اللائق بالعدالة الإلهية والحكمة الربانية والتربية الرشيدة وما أحسن قول القائل:

فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً *** فليقْسُ أحياناً على من يرحم

رابعاً: نسلم بغلبة أسلوب الشدة في القسم المكي وأسلوب اللين في القسم المدني لكن ذلك ليس راجعاً لمحمد وتأثره بالبيئة وإنما مرجعه الحقيقي هو اختلاف حال المخاطبين فأهل مكة مردوا على العناد والسباب والأذى لرسول الله وأصحابه وأتباعه والكيد لهم حتى أخرجوهم من ديارهم بغير حق وسلبوهم أموالهم ودورهم واستمروا على إيذائهم للمسلمين حتى بعد هجرتهم للمدينة ومحاربتهم لهم، أما أهل المدينة فهم الذين آووا الرسول ومن معه ونصروا الإسلام وهم أيضاً أهل رقة وإحساس وهدى وصلاح فهل يعقل أن يخاطب المسرف في العناد بنفس خطاب المهتدي الصالح “أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون” فالله المحيط بكل شيء علماً يراعى حال المخاطبين وهذا هو مقتضى الحكمة من كلام رب العالمين العليم بما يصلح أحوال عباده وينفع معهم.

خامساً: أما زعمهم أن في القسم المكي سبابًا ويريدون من السباب معناه المعروف عندهم من البذاءة والخروج عن حدود الأدب واللياقة فقد “كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا” الكهف: ٥. ونحن نتحداهم أن يأتوا بمثال واحد في القرآن كله مكيه ومدنيه يكون من هذا اللون القذر الرخيص. وهل يعقل أن القرآن الذي جاء يعلم الناس أصول الآداب يخرج هو عن أصول الآداب إلى السباب؟ كيف وقد حرم على أتباعه المسلمين أن يسبوا أعداءه المشركين؟ فقال في سورة الأنعام: “وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ” الأنعام:١٠٨. نعم إن في القرآن كله لا في القسم المكي وحده تسفيها لأحلام المتنطعين الذين يصمون آذانهم ويغمضون أعينهم عن الحق ويهملون الحجج والبراهين وهو في ذلك شديد عنيف بيد أنه في شدته وعنفه لم يخرج عن جادة الأدب ولم يعدل عن سنن الحق ولم يصدف عن سبيل الحكمة. بل الحكمة تتقاضاه أن يشتد مع هؤلاء لأنهم يستحقون الشدة ومن مصلحتهم هم ومن الرحمة بهم والخير لهم أن يشتد عليهم ليرعووا عن باطلهم ويصيخوا إلى صوت الحق والرشد ويسيروا على هدى الدليل والحجة على حد قول القائل:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ** مضر كوضع السيف في موضع الندى

أضف إلى ذلك أن هذا التفريع الحكيم تجده في السور المدنية كما تجده في السور المكية. وإن كان في المكي أكثر من المدني لأن أهل مكة كانوا أشداء العارضة صعاب المراس مسرفين في العناد والإباء لم يتركوا بابا من الشر إلا دخلوه على الرسول وأصحابه ولم يكفهم أن يخرج من بلده وأهله بليل بل وجهوا إليه الأذى في مهاجره.

سادساً: هذه السور والآيات التي ذكرها الطاعن ليس فيها رائحة سباب، ولو علم سبب النزول والمراد بالآيات لما رمى بهذه القولة الجائرة، وإليك ما ورد في سبب نزول سورة أبي لهب. أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس قال: لما نزلت “وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ” صعد النبي على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي»، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ» قالوا: نعم؛ ما جربنا عليك إلا صدقا قال: «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت “تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ”([23])

وأخرج ابن جرير: أن امرأة أبي لهب كانت تأتي بأغصان الشوك فتطرحها في طريق رسول الله ، وقيل كانت تنقل الحديث وتمشي بالنميمة بين الناس؛ قيل لها حمالة الحطب، لأنها كانت تحطب الكلام، وتمشي بالنميمة، وتعير رسول الله بالفقر([24]) فالسورة إذا نزلت ردا على أبي لهب في دعائه على النبي، وإيذائه له، وإنذارا له ولزوجه بأنهما سيصليان النار الشديدة جزاء لهما على ما صنعا، ولا شك أن في هذا الوعيد ردعا لأبي لهب وزوجته وأمثالهما ممن يناهضون رسالات الرسل ويسعون في الأرض بالفساد ولا أدري في أي عرف أو ذوق يعتبر إنذار مثل هذا المعوق عن الخير والحق أمرا خارجا عن المألوف وسبابا وشدة وماذا كان ينتظر هذا الطاعن في الرد على أبي لهب وزوجته أكان ينتظر من منزل القرآن الحكيم أن يظهر له الرضا على مقالته ويقول له: بخ بخ فيزداد بطرًا وأشراً ! ” فالسورة ليست سباباً، وإنما هي وعيد لأبى لهب وامرأته لصدهما عن الإسلام، وهذا الإنذار لخير العالم إذ من خير العالم ألا تقام العراقيل في سبيل مرشديه إلى طريق الخير وهاديه إلى سواء السبيل ومجدديه كلما بلى وتعفن وطغت فيه الرذيلة على الفضيلة ([25]).

وأما سورة «العصر» فليس فيها ما يشتم منه السباب، وليس فيها عنف ولا شدة وكل ما عرضت له السورة أن الناس قسمان:

1 – قسم ناج من الخسران والعذاب فائز برضوان الله، وهم الذين جمعوا عناصر السعادة الأربعة؛ وهي الإيمان بالله، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.

2 – قسم غارق في الخسران، مآله إلى الهلاك والعذاب، وهم الذين لا يقرون بإله ولا يدينون بشريعة ولا يعملون صالحا: فهم جراثيم شرور، ولا يتواصون بحق؛ فالحق بينهم مضيع، ولا يتواصون بصبر؛ فهم في هلع وجزع، ومما لا يقضى منه العجب أن يستشهد هذا الناقد بهذه السورة التي أقر بكفايتها وغنائها الأئمة في القديم والحديث؛ قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده- رحمه الله-: ثم تراها لم تدع شيئا إلا أحرزته في عباراتها الموجزة، حتى قال الإمام الشافعي– رحمه الله-: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم! ([26]) أو قال: لو لم ينزل الله من القرءان سواها كلفت الناس ولجلالة ما جمعت روي أنه كان الرجلان من أصحاب رسول الله إذ التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة «والعصر» ثم يسلم أحدهما على الآخر؛ ذلك ليذكّر كل منهما صاحبه بما يجب أن يكون عليه فإذا رأى منه شيئا ينبغي أن ينبه إليه فعليه أن يذكره له ([27]). وما أحسن ما قاله الأستاذ الشيخ محمد عرفة-رحمه الله- لو قُدِّر أن يبيد هذا العالم وما فيه من علم وأدب وحكمة ونشأ جيل جديد لم يرثٍ شيئا من علم الأولين وأخلاقهم ولكنه بقى له سورة ( والعصر) لكان فيها سداداً من عوز وعوض عن الجميع، ولجاز أن تكون مادة إصلاح يحيا عليها ذلك الجيل الجديد ويجد فيها أصول الفضائل العلمية والعملية([28]).

وأما قوله تعالى في سورة الفجر: “فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد” فلا سباب فيه ولا عنف وكل ما فيه إخبار من الحق عز شأنه، بأن عادا وثمود وفرعون لما طغوا في البلاد وظلموا العباد وأكثروا من الفساد أنزل الله بهم العقاب جزاء لهم على ظلمهم وإفسادهم، فالمراد بصب السوط إنزال العقوبة الشديدة بهم، وهو من المجازات البديعة، ومعنى “إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد” أنه القائم بتدبير الأمور الرقيب على عباده لا يفوته من شئونهم شيء وهو مجازي كل عامل بعمله فلا يفلت منه أحد، فلا يظن أهل الطغيان الذين يفسدون في الأرض أن يفلتوا من الله وعقابه، وفي هذا الإخبار تحذير للموجودين والمخاطبين أن يفعلوا مثل ما فعلوا فيعاقبوا مثل ما عوقبوا، فانظر- أيها القارئ الفطن- كيف اشتملت هاتان الآيتان على وجازتهما على هذه المعاني الثرية والتحذيرات النافعة المفيدة.

وأما سورة “أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ” فغاية ما فيها أن يترك الناس التفاخر بالأحساب والأنساب والتكاثر بالأموال والأولاد والتلهي بما لا يفيد وأن يقبلوا على الاشتغال بما ينفع من الإيمان والعمل الصالح، أما التلهي بالتكاثر والتفاخر فلن يكون من ورائه إلا خسران الدنيا والآخرة، فلا عجب أن يردعهم الله، وأن يكرر الردع والزجر فقال: “كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ” التكاثر: ٣ – ٤ ، ولو علم اللاهون المتكاثرون علم اليقين لأعرضوا عما فيهم، وأقبلوا على الأعمال الصالحة؛ لأنهم سيرجعون إليه في يوم يحاسبون فيه ويجازون على أعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً “كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ. ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ” التكاثر: ٥ – ٨، فالسورة لا تخرج عن كونها وعيدا وتحذيرا وإرشادا وتعليما.([29])

الشبهة الثانية

قالوا: إن القسم المكي يمتاز بتقطع الفكرة، واقتضاب المعاني، وقصر السور وقصر الآيات، وأما القسم المدني فهو طويل السور طويل الآيات وأفكاره منسجمة متسلسلة، وعزوا ذلك إلى تأثر محمد بالبيئة؛ فأهل مكة قوم أميون لا يقدرون على إنشاء العبارات الطويلة، أما أهل المدينة فهم أهل كتاب أو متصلون بأهل الكتاب لهم قدرة على إنشاء العبارات الطويلة، وذلك يدل على انقطاع الصلة بين القسم المكي والقسم المدني وغرضهم التشكيك في أن القرآن من عند الله سبحانه.

الرد على هذه الشبهة:

هذه شبهة واهية يكذبها الواقع وتدحضها الحقائق وهي منتقضة بما يأتي:

أولاً: قولهم بأن القسم المكي قصير السور والآيات وأن القسم المدني بخلافه طويل السور والآيات، إن كانوا يريدون بذلك جميع المكي والمدني فالواقع يكذب ذلك لأن في القسم المكي سوراً طويلة أمثال الأنعام والأعراف وهما من السبع الطوال وفي القسم المدني سوراً قصيرة كالزلزلة والنصر.

وإن كانوا يقصدون أن معظم السور المكنية قصيرة وأن أكثر السور المدنية طويل فهذا مُسلَّم به لكن ليس الأمر فيه كما يدَّعون من أن قصر المكي سببه أن أهل مكة أميون متخلفون وأن المدني جاء طويلاً لأن أهل مكة متحضرون مستنيرون، فالحقيقة التي لا يماري فيها إلا مخادع مضلل ولا ينكرها إلا كاذب أن أهل مكة كانوا أقدر العرب على الكلام فالبيان صنعتهم والبلاغة حرفتهم وقد كانوا يقيمون المجامع وينظمون المحافل في أسواق عكاظ وذي المجاز من أجل ذلك حيث يتبارى الشعراء ويتسابق الخطباء.

ثانياً: أن طول الكلام وقصره تبعاً لمقتضى الحال الذي هو عماد البلاغة وليس تابعاً للبيئة ولا الوسط فطول الآيات وقصرها منوط بموضوعها ولا دخل فيها لمكان نزولها فالآيات أو السور التي يراد بها الوعظ والزجر يحسن فيها أن تكون أقصر من آيات الأحكام وهي تكثر في القسم المكي لأنه هو المناسب لحال المخاطبين، من المشركين والمعاندين، كما تكثر الأحكام التفصيلية في السور المدنية لأن الخطاب فيها للمؤمنين المكلفين.([30])

ثالثاً: القرآن الكريم قد تحدى العرب قاطبة في بعض السور المدنية كما تحداهم في السور المكية، وقد جاء التحدي في المدينة بسورة مهما قصرت وأما في مكة فقد وقع التحدي بالقرآن كله ثم بعشر سور منه ثم بسورة واحدة أية سورة، فلو أن أهل المدينة- كما زعم الناقد- كانوا أقدر على إنشاء العبارات الطويلة من أهل مكة، وأن القرآن كان متأثرا بهم في الإطالة لكانوا أقدر على معارضته والإتيان ولو بأقصر سورة منه، ولكنهم لم ينبسوا ببنت شفة، ورضوا لأنفسهم السكوت وباءوا بالعجز، بل عجزهم أشد من عجز أهل مكة، ثم من تسول له نفسه أن يفضل أهل المدينة على أهل مكة في البلاغة والفصاحة والتصرف في فنون القول والقدرة على إنشاء العبارات! والمعروف أن قريشا كانت أوسط العرب دارا وأبرعهم في الخطابة والشعر والتفنن في الأساليب وإليها كان يحتكم العرب في شعرهم ونثرهم، وقد ساعدها على هذا اجتماع العرب في مواسم الحج وغيرها.

رابعاً: القول بأن القسم المكي يمتاز بتقطع الفكرة واقتضاب المعاني بخلاف القسم المدني قول من لم يتمعن في القرآن ولم يعن بدراسته يقول العلامة الشيخ رشيد رضا: – إن الذي يقرأ القرآن ولا يتدبره ولا يكلف نفسه الصبر لمعرفة أغراضه هو الذي لا يستبين كثيراً منها فيبدوا له متقطع الفكرة مقتضب المعاني ولكن الذي يتدبره وينعم النظر فيه ويقرؤه على سبيل الاعتبار ويكون مع ذلك قد أوتي طبعاً سليماً ودُرْبَة على معرفة منطق العرب الذين يكتفون باللمحة والوحي السريع يدرك كثيراً من أغراضه ويبدوا له قصده فيرى الآيات الكثيرة في غرض واحد كالحلقة المفرغة مرتبطة بعضها ببعض أتم ارتباط حتى إن السورة الواحدة الطويلة قد تكون في غرض واحد يشملها ويعمها ([31]).

خامساً: اهتم العلماء الذين أتاهم الله فهماً في كتابه وتبياناً لأسرار إعجازه ببحث المناسبات بين الآيات والسور فالقرآن كله على الرغم من نزوله منجماً إلا أنه يأخذ بعضه بحجز بعض كأنه سلسلة متصلة الحلقات أو عقد منتظم الحبات ومن لديه معرفة بالعربية وآدابها والبلاغة وفنونها يدرك ما عليه كتاب الله من بديع التنظيم وجمال التنسيق فهذا الروض الرباني اليانع القرآن الكريم يقوم بين جمله وآيه وسوره تناسب بارع وارتباط محكم وائتلاف بديع ينتهي إلى حد الإعجاز خصوصاً إذا لاحظنا نزوله منجما على السنين والشهور والأيام.

قال الشيخ ولي الدين الملوي: قد وهم من قال لا يطلب للآي الكريمة مناسبة لأنها على حسب الوقائع المفرقة. وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا. فالمصحف على وفق ما في اللوح المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف كما أنزل جملة إلى بيت العزة. ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جم. وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له([32]).

وقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط([33]) وقال أيضاً في تفسيره لسورة البقرة ما نصه:

ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو معجز أيضا بسبب ترتيبه ونظم آياته. ولعل الذين قالوا: إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل:

والنجم تستصغر الأبصار رؤيته… والذنب للطرف لا للنجم في الصغر([34])

***

الشبهة الثالثة

قالوا: «إن القسم المكي يمتاز بالهروب من المناقشة، وبالخلو من المنطق والبراهين، فيقول: “قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ. وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” الكافرون: ١ – ٦. بخلاف القسم المدني فهو يناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين فيقول:” لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا” الأنبياء: ٢٢.

الرد على هذه الشبهة:

وهذا الكلام منقوض بما يأتي:

أولاً: أنه لا يجرؤ على هذه المقالة إلا أحد رجلين: إما جاهل أغرق في جهله فلا يكاد يميز بين المكي والمدني، وإما ضال أعماه هواه عن إدراك الحق الظاهر، وقد سقط هذا القائل والناقد الطاعن سقطة لا إقالة له منها، ولا يكاد يقع فيها الطلاب المبتدؤون، فضلا عن الباحثين؛ فإن سورة الأنبياء مكية وآياتها 112، فسورة الأنبياء مكية بلا استثناء عند جمهور العلماء، وباستثناء آية أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها عند البعض([35])، ومهما يكن من شيء فالآية التي استدل بها مكية بالإجماع.

ثانياً: البراهين المبثوثة في القسم المكي تدل على أن القسم المكي لم يكن يهرب من المساجلة، وإنما كان يقتحمها وما كان يولى الأدبار بل كان يقدم على الخصوم إقدام الواثق بقوته، المؤمن بحجته، المطمئن إلى عزة الحق وفوز اليقين، نعم نسلم بأن القسم المدني فيه برهان ومنطق، كذلك المكي حافل بالأدلة والبراهين وأعظم الحجج على عقيدة الإسلام في الإلهيات والنبوات والسمعيات وسأسوق بعضاً من هذه الحجج:-

1- قال تعالى في سورة المؤمنون المكية وهو يرفع قواعد التوحيد ويزلزل بنيان الشرك إذ يقول: “مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ” المؤمنون: ٩١.

2- ويقول في سورة الأنبياء المكية: “لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ” الأنبياء: ٢٢ – ٢4.

3- ويقول مدللاً على نبوة محمد في سورة العنكبوت المكية: “وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ. وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” العنكبوت: ٤٨ – ٥١.

4- وفي بيان حجته التي أقامها لتقرير اقتداره على البعث بعد الموت يقول سبحانه في سورة ق المكية: “وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ. رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ” ق: ٩ – ١١ وقوله فيها أيضا “أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيد” ق: ١٥.

5- وفي إقامة الدليل العقلي على البعث والجزاء في سورة المؤمنون المكية يقول: “أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ” المؤمنون: ١١٥ وفي سورة السجدة إذ يقول: “أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ. أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ. وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” السجدة: ١٨ – ٢١، وفي سورة الجاثية المكية إذ يقول: “أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ. وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ” الجاثية: 21 – 22.

6-وفي مناقشته ونقضه بالحجة أوهام المشركين في احتجاجهم لأباطيلهم بالمشيئة الإلهية إذ يقول في سورة الأنعام المكية: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ. قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ” الأنعام: 148 – 149.

7-وفي إقامة الحجة على البعث يقول سبحانه في سورة يس المكية أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” يس: ٧٧ – ٨٣.

8- وفي الحض على النظر في الطبيعة والتأمل في عجائب المخلوقات ليتوصل من ذلك إلى معرفة المبدع الأول يقول سبحانه في سورة الغاشية المكية “أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ. فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ. إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ. إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ” الغاشية: ١٧ – ٢٦. فهذه الآيات وغيرها كثير أدلة ساطعة وبراهين بارعة لا تكاد تخلو منها سورة من السور المكية. ولكن القوم استحبوا العمى على الهدى فاستمرؤوا هذا الكذب والافتراء. نسأل الله أن يكفينا شر الفتنة وأن يثبتنا على الحق فإن قلوب الخلق بيديه والأمر كله منه وإليه. “مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” الأنعام: ٣٩.

ثالثاً: وأما سورة الكافرون التي استدل بها على هروب القسم المكي من المناقشة فليس يأخذ أحد منها الهروب من المناقشة فقد ذكر المفسرون في سبب نزولها أن كفار قريش طلبوا من محمد أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا هم إلهه سنة. فنزل “قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ([36]) تيئيساً لهم وسدًا لطمعهم أن يلين محمد أو يعترف بعبادة ما كانوا يشركون، وإذا لم يطلع المرء على سبب هذا النزول فلا يمكنه أن يفهم من الآيات الهروب من المناقشة لأنه في كل الآيات قد أقام عليهم الحجج وأخذ بمخانقهم وسد عليهم كل باب وأسال عليهم الوادي عجزاً ثم جاء في هذه الآية فقال “لكم دينكم ولي دين ” كما يقول القائل لمن أقام هو عليه الحجة قد أقمت الدليل ووضحت السبيل ولك بعد ما تختاره لك ما تريد ولي ما أريد تبكيتاً للخصم([37]).

***

الشبهة الرابعة

قالوا: إن القسم المكي خلا من التشريعات التفصيلية والأحكام العملية، بخلاف القسم المدني فإنه حافل بالتشريعات والأحكام ؛ كالمواريث والوصايا، والزواج، والطلاق، والبيوع، وسائر المعاملات، بل وكافة آداب الاجتماع والأخلاق، وذلك يدل على تأثر محمد بالوسط الذي يعيش فيه فهو حين كان بمكة بين الأميين جاء قرآنه المكي خاليا من العلوم والمعارف ولما عاش في المدينة بين أهل الكتاب المثقفين جاء قرآنه المدني مليئا بتلك العلوم والمعارف العالية.

الرد على هذه الشبهة:-

أولاً: أن القسم المكي في جملته غير خال من التشريع والأحكام بل عرض لها وجاء عليها ولكن بطريقة إجمالية من ذلك ما نقرؤه في سورة الأنعام المكية قوله تعالى “قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” الأنعام: ١٥١ – ١٥٣، فهذه الآيات الثلاث جمعت الوصايا العشر التي جمعت بطريقة إجمالية أصول الشرائع السماوية كلها ومقاصد الدين الخمسة وهى: 1- الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. 2 – حفظ النفس. 3 – حفظ العقل. 4 – حفظ النسل. 5 – حفظ المال.

وفي المكي من الأحكام ما عالج به مساوئ القوم سواء أكانت خلقية أم اجتماعية من ذلك ما نقرؤه في سورة الإسراء من قوله “وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا. وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً. وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا. وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً. وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً. وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً. كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا” الإسراء: ٣١ – ٣٨. وما نقرؤه في سورة لقمان فيما يحكى القرآن من وصية لقمان لابنه “يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ. وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ” لقمان: ١٧ – ١٩، ومن ذلك أيضاً ما جاء في سورة المعارج من حث المؤمنين على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحفظ الفروج وأداء الأمانات وغير ذلك مما جاء في قوله تعالى “إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا. إِلاَّ الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ. وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ. لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ. وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ. إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُون. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ. أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ” المعارج: ١٩ – ٣٥.

ثانياً: إن كثرة التشريعات في القسم المدنى من القرآن ليست وليدة البيئة كما يدعى المشككون في القرآن بل لأن المكي ركز على الأصول واهتم بتصحيح العقائد أولاً، أما القسم المدنى فعنى بالتشريعات الفرعية وهي عملية طبيعية فليس من المعقول أن تظهر الأغصان والفروع في وقت واحد من جذوع الشجر وجذوره ولا أن توجد الثمار قبل الأغصان، ومرجع ذلك إلى الحكمة، والتدرج في سياسة الأمم بعيداً عن التسرع والطفرة لأن مصيرهما البوار ونهايتهما الخسران وقد نزل القرآن والناس منغمسون في الغى والضلال من عبادة أصنام وشرك بالله وإنكار للبعث واليوم الآخر مع شيوع الفواحش والموبقات فكان من الحكمة تجاه هذه المساوئ تقديم الأهم من التشريعات حتى تعالج الموبقات بما يصلحها وهذا أمر بدهي أن يخاطب الناس في عقائدهم حتى إذا خلصهم من عقائد الشرك والوثنية ومن ثمَّ أصبحوا مؤمنين قادهم إلى التكليف ففصَّل لهم التشريع وأوجب عليهم العمل بالحلال والحرام وهذا ما صورته أم المؤمنين عائشة –رضى الله عنها- قالت: إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الْحَلاَلُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لاَ تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لاَ نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لاَ تَزْنُوا لَقَالُوا لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا ([38])

وما أروع ما كتب العلامة الزرقاني عن حكمة التدرج في التشريع قال-رحمه الله-: إن كثرة التفاصيل في تشريع الأحكام بالمدينة ليس نتيجة لما زعموه، إنما هو أمر لا بد منه في سياسة الأمم وتربية الشعوب وهداية الخلق. ذلك أن الطفرة حليفة الخيبة والفشل والتدرج حليف التوفيق والنجاح وتقديم الأهم على المهم واجب في نظر الحكمة. لهذا بدأ الله عباده في مكة بما هو أهم: بدأهم بإصلاح القلوب وتطهيرها من الشرك والوثنية وتقويمها بعقائد الإيمان الصحيح والتوحيد الواضح حتى إذا استقاموا على هذا المبدأ القويم وشعروا بمسؤولية البعث والجزاء وتقررت فيهم هذه العقائد الراشدة فطمهم عن أقبح العادات وأرذل الأخلاق وقادهم إلى أصول الآداب وفضائل العادات ثم كلفهم ما لا بد منه من أمهات العبادات. وهذا ما كان في مكة. ولما مرنوا على ذلك وتهيأت نفوسهم للترقي والكمال بتطاول الأيام والسنين وكانوا وقتئذ قد هاجروا إلى المدينة جاءهم بتفاصيل التشريع والأحكام وأتم عليهم نعمته ببيان دقائق الدين وقوانين الإسلام.

ونظير ذلك ما تواضع عليه الناس قديما وحديثا في سياسة التعليم من أنهم يلقنون البادئين في مراحل التعليم الأولى أخف المسائل وأوجزها فيما يشبه قصار السور ومختصر القصص حتى إذا تقدمت بهم السن وعظم الاستعداد تلاطم بحر التعليم وزاد على حد قولهم: الإمداد على قدر الاستعداد ([39]).

ثالثاً: ما زعموه من تأثر محمد– بأهل الكتاب في المدينة وأخذه عنهم فرية باطلة تدحضها الحقائق، فالقرآن المنزل من عند الله حاشاه أن يتأثر بأهل الكتاب وما عندهم من علم لأنه المهيمن على ما سبقه من الكتب السماوية والحاكم عليها، والقرآن في غير موضع نعى على أهل الكتاب كفرهم وفسقهم وجراءتهم على الله وهنا يتطرق للأذهان سؤال: هل كان القرآن يحترم أهل الكتاب ويراهم مثلاً أعلى في العلم والمنطق والدين والأخلاق حتى يقتبس منهم ويقلدهم ويعجب بثقافتهم ؟ أم هو يراهم وخاصة اليهود الذين كانوا يجاورونه مثلاً أدنى من أسوأ الأمثال في العلم والخلق والدين، وينظر إليهم كما ينظر المعلم إلى تلاميذه الذين هم بحاجة إلى أن يتثقفوا منه ؟

السؤال السابق ذكره العلامة الشيخ محمد عرفة وأجاب عنه قائلاً:-

إننا إن درسنا القرآن وجدناه ينظر إليهم النظرة الثانية، فليس يعجبه منهم خلق ولا دين، فعاب القرآن على اليهود تحريف شريعتهم وكتمانهم العلم فقال: “إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” آل عمران: ٧٧، وقال أيضاً “أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” البقرة: ٧٥، وقال “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” المائدة: ٤١ – ٤٢، وعاب القرآن اليهود بفقد الأمانة واستحلال الخيانة والكذب على الله فكان يعيبهم أنهم فقدوا الأمانة وزعموا أن الله أحل لهم خيانة الأُمِّيِّين –كذبوا فليس الله يحل الفحشاء والمنكر- فقال “وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” آل عمران: ٧٥ – ٧٦، كما عابهم بخلق الحسد الذى هو أس الرذائل وجماع القبائح والذى حملهم أن يقولوا لعابدي الوثن أنتم أهدى من أتباع محمد قال تعالى “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا” النساء: ٥١ – ٥٤، كما عابهم بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأكلهم السحت، وعابهم أنهم لم يعرفوا جلال الله وكماله، ولم ينزهوه عن النقص والعيوب قال تعالى “وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” المائدة: ٦٤، وقال أيضاً “لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ. كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ. تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ. وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ” المائدة: ٧٨ – ٨١، وقال “وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ. لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ” المائدة: ٦٢ – ٦٣، كما عابهم أنهم قد أوتوا علماً لم يعلموه ولم ينتفعوا به فقال “مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” الجمعة: ٥، فمن كل ما سبق تأكد أن موقف القرآن من اليهود وغيرهم موقف المعلم لا المتعلم([40])

رابعاً: أن ما زعموه لو كان صحيحا لظهر أثر أهل الكتاب المدنيين فيمن معهم من عرب أهل المدينة وفيمن حولهم من أهل مكة وآفاق الجزيرة ولكانوا هم الأحرياء بهذه النبوة والرسالة ولسبق محمدا إليها كثير غيره من فصحاء العرب وتجار قريش الذين كانوا يختلطون بأهل الكتاب في المدينة والشام أيما اختلاط. كما أن القرآن تحدى الكافة من مكيين ومدنيين بل من جن وإنس فهلا كان أساتذته أولئك يستطيعون أن يجاروه ولو في مقدار سورة قصيرة واحدة يا لها فرية ثم يا لها صفاقة.

هذا كلام لــه خبئ *** معناه ليست لنا عقول ([41])

***

الشبهة الخامسة

يقولون: إن القسم المكي يكثر فيه القسم بأشياء هي لصيقة بالبيئات البدائية والأوساط الساذجة كقسمه بالضحى والليل والتين والزيتون وطور سينين وكثير من المخلوقات. ولا ريب أن القسم بالأشياء الحسية يدل على تأثر القرآن بالبيئة في مكة لأن القوم فيها كانوا أميين لا تعدو مداركهم حدود الحِسِّيِّات. أما بعد الهجرة واتصال محمد بأهل المدينة وهم قوم مثقفون مستنيرون، فقد تأثر القرآن بهذا الوسط الراقي الجديد وخلا من تلك الأيمان الحسية الدالة على البساطة والسذاجة. وغرضهم من هذا الادعاء التشكيك في القرآن وإثبات أن القرآن تأثر بالبيئة والوسط الذى وجد فيه، والتأكيد على أنه من عند محمد وليس من عند الله تعالى.

وقبل دحض هذه الشبهة أقول: بأن المستشرقين وأتباعهم يحاولون دائماً وصف أهل مكة بالسذاجة والتأخر ووصف أهل المدينة بالعلم والاستنارة وذلك بسبب مخالطتهم لليهود الذين يصفون أنفسهم ويصفهم أتباعهم بأنهم أهل العلم والذكاء والاصطفاء من الله تعالى مع أنهم على غير هذا وبشهادة الواقع والتاريخ وبوصف القرآن لهم –وهو أصدق شاهد- أنهم أهل الضلال والفسق والعصيان وأنهم حرفوا وبدلوا وغيروا ما أنزل الله.

الرد على هذه الشبهة

أولاً: الادعاء أن البيئة المكية ساذجة جاهلة لا ترقى إلى ما وراء الحس، دعوى لم يقم عليها دليل، ويكذبها الواقع، والتاريخ الصحيح؛ فقد كان أهل مكة أوفي ذوقا، وأرهف شعورا، وأذكى عقولا من أهل المدينة، وأن فيما قصه القرآن عنهم من مجالات وخصومات وما اشتمل عليه القسم المكي من إيجاز وبراهين ما ينقض هذا الاتهام، وكيف يفهم هذه البراهين من لا يسمو نظره عن المحسوسات، والتاريخ الصحيح أعدل حاكم وخير شاهد على امتياز قريش عن سائر القبائل في عهد نزول القرآن، لما نزل قوله تعالى: “إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ” قال ابن الزبعرى: والله لو وجدت محمدا لخصمته قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم، كل هؤلاء في النار مع آلهتنا فذكر ذلك لرسول الله فقال له: إنهم إنما يعبدون الشيطان، ومن أمرهم بعبادته، فأنزل الله سبحانه: “إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ” الأنبياء:١٠١. وأنزل الله أيضا “وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ” الزخرف: 57-58 ([42]).

وتأمل في قوله سبحانه خَصِمُونَ وهل يجيد الجدل الجاهل الساذج وهل من يلقي هذه الشبه ولو كانت بواطل يكون ساذجا لا يسمو تفكيره إلى المعقولات، وكانت العرب وأولهم أهل مكة أشد الأمم جدلاً، وأحدهم مقولاً، كما وصفهم الله بقوله: ” مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ” وكذلك سماهم: ” قَوْمًا لُّدًّا” مريم: ٩٧.

ثانياً: أن القسم في القرآن بالأشياء الحسية لا يرحع إلى سذاجة أهل مكة وانحطاطهم، وتأخرهم كما يدعى هؤلاء المفترون الخراصون بل مرجعه ومنشؤه رعاية مقتضى الحال فيما سبق القسم لأجله وذلك أن القرآن كان بصدد علاج أفحش العقائد فيهم وهي عقيدة الشرك. ولا سبيل إلى استئصال هذه العقيدة وإقامة صرح التوحيد على أنقاضها إلا بلفت عقولهم إلى ما في الكون من شؤون الله وخلق الله وإلا بفتح عيونهم على طائفة كبيرة من نعم الخلق المحيطة بهم ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يؤمنوا بالله وحده ما دام هو الخالق وحده لأنه لا يستحق العبادة عقلا إلا من كان له أثر الخلق في العالم فعلا “أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ” النحل: ١٧.

فعرض بعض المخلوقات على أنظار الجاحدين بالتوحيد بعد إقرارهم أن ليس لها خالق إلا الله إلزام لهم بطرح الشرك وتوحيد الخالق. وهذا مطمح نبيل أجاد القرآن في أساليب عرض نعم الله عليهم من أجله وكان في إجادته هذه موفيا على الغاية وأصلا إلى قمة الإعجاب كعادته متفننا في ذكر النعم منوعا في سردها وبيانها فمرة يحدث عن خلق السماء ومرة عن خلق الأرض وثالثة عن أنفسهم ورابعة عن أنواع الحيوان والنبات والجماد وهلم جرا. وتارة يختار القرآن في عرضه طريقة السرد والشرح، وتارة يختار طريقة الحلف والقسم لأن في الحلف والقسم معنى العظمة التي أودعها الله في هذه النعم دالة على توحيده وعظمته حتى صح أن يدور القسم عليها وأن يجيء الحلف بها. والمصاب بداء الشرك لا سبيل إلى إنقاذه منه إلا بمثل هذه الطريقة المثلى التي سلكها القرآن بعرض دلائل التوحيد من آيات الله في الآفاق على أنظار المشركين وهذا سبيل متعين في خطاب كل مشرك فحلف القرآن بأمثال هذه المخلوقات والحِسِّيِّات ليس دالا على سذاجة المخاطبين وانحطاطهم وليس بالتالي سبيلاً إلى الطعن في القرآن بأنه كلام محمد المتأثر بانحطاط البيئة المكية كما يرجفون: “إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ”.

ثالثاً: الادعاء بأن القسم بالمحسوسات في القسم المكي يدل على التأثر بالبيئة الأمية التي لا تدرك إلا المحسوس منقوض بأن القسم المكي كما أقسم بالمحسوس أقسم أيضاً بالمعنوي المعقول، من ذلك على سبيل المثال:

1- قسمه –تعالى وتقدس- بذاته في قوله “فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ. عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ” الحجر: ٩٢ – ٩٣، “فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ” المعارج: ٤٠.

2- وقسمه بالقرآن في قوله “يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ” يس: ١ – ٢.

3- وقسمه بالملائكة في قوله “وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا. وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا. وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا. فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا. فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا” النازعات: ١ – ٥.

4- وقسمه بالنفس البشرية في قوله: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا” الشمس: ٧ – ٨.

5- وقسمه بحياة الرسول في قوله “لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ”

الحجر: ٧٢.

6- وقسمه بالوقت والزمان في قوله ” وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ” العصر: ١ – ٣.

7- وقسمه بما لا يقع تحت الحس والمشاهدة فقال ” فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ. وَمَا لا تُبْصِرُونَ” الحاقة: ٣٨ – ٣٩.

بل إن في القسم المكي الجمع بين المحسوس والمعقول في آن واحد وذلك في قوله : “وَالطُّورِ. وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ. وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ. إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ” الطور: ١ – ٧، فالقرآن المكي كما ورد فيه القسم بالمحسوسات جاء فيه أيضاً القسم بالمعنويات، وذلك لينبه الله خلقه إلى مدى إنعامه عليهم بتلك الأقسام كلها حسيها ومعنويها فيرعووا عن شركهم بتلك الآلهة المزيفة التي لا تملك ضرا ولا نفعا وليس لها أي شأن في هذا الخلق، ويثوبوا إلى رشدهم، ويؤمنوا بربهم، ويتيقنوا أنه المستحق للعبادة، ويتبعوا رسوله الذى أرسل.

رابعاً: إن في القسم بهذه المحسوسات شهادة بتفوق المكيين على من سواهم في البلاغة والفصاحة وليس دلالة على انحطاطهم كما يتَقَوَّل المفترون بل إشارة إلى الأسرار العظيمة التي أودعها الله فيها، يقول الشيخ الزرقاني –رحمه الله- إن في مضامين تلك الأقسام بالحسيات أسرارا تنأى بها عن السذاجة والبساطة وتشهد ببراعة المخاطبين بها وتفوقهم في الفهم والذكاء والفصاحة والبيان. ذلك أن القسم بها إشارة إلى الأسرار العظيمة التي وضعها الله في تلك الأمور التي أقسم بها. حتى صح أن يكون مقسما بها. وتلك الأسرار لا يدركها إلا اللبيب لأنها غير مشروحة ولا مفسرة في القرآن الكريم فلا يفهمها إلا من كمل عقله وسلم ذوقه. ولنشرح لك بعض الأسرار ليتبين الحال ولا يبق للشبهة مجال.

المثال الأول: أقسم الله بالضحى والليل في قوله: ” وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى. مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى. وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى” الضحى: ١ – ٥، وسبب نزول هذه الآيات: أن النبي فتر عنه الوحي مرة لا ينزل بقرآن فرماه أعداؤه بأن ربه ودعه وقلاه أي تركه وأبغضه فنزلت هذه الآيات مصدرة بهذا القسم مشيرة إلى أن ما كان من سطوع الوحي على قلبه بمنزلة الضحى تقوى به الحياة وتنمى به الناميات وما عرض بعد ذلك من فترة الوحي فهو بمنزلة الليل إذا سجى لتستريح فيه القوى وتستعد فيه النفوس لما يستقبلها من العمل. ومن المعلوم أن النبي لاقى من الوحي شدة أول أمره حتى جاء إلى خديجة رضي الله عنها ترجف بوادره كما هو معروف في حديث الصحيحين. ([43]) فكانت فترة الوحي لتثبيته عليه الصلاة والسلام وتقوية نفسه على احتمال ما يتوالى عليه منه حتى تتم به حكمة الله في إرساله إلى الخلق. ولهذا قال له: ” وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى” أي إن كرة الوحي ثانيا سيكمل بها الدين وتتم بها نعمة الله على أهله وأين بداية الوحي من نهايته؟ وأين إجمال الدين الذي جاء في قوله “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” الخ من تفصيل العقائد والأحكام الذي جاء في مثاني القرآن ثم زاد الأمر تأكيدا بقوله “وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى”.

فمن هذا نعلم أن الحلف بالضحى والليل في هذا المقام ليس مجرد تذكير بآياته ونعمه فحسب. بل هو أيضا إقامة دليل على أن تنزل الوحي أشبه بضحوة النهار وأن فترة الوحي أشبه بهدأة الليل فإذا كانوا يتقبلون الضحى والليل بالرضا والتسليم لما فيهما من نفع الإنسان بالسعي والحركة والحياة بالنهار والنوم والاستجمام بالليل يجب أن يتقبلوا أيضا ما يجري على محمد من نزول الوحي وفترته للمعنى الذي سلف.

المثال الثاني: أقسم الله بالتين والزيتون في قوله جل ذكره: “وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ. لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ” التين: ١ – ٤. قال العلامة المرحوم الشيخ محمد عبده عند تفسيره لهذه السورة ما نصه:

وقد يرجح أنهما أي التين والزيتون النوعان من الشجر ولكن لا لفوائدهما كما ذكروا بل لما يُذَكِّران به من الحوادث العظيمة التي لها الآثار الباقية في أحوال البشر. قال صاحب هذا القول: إن الله تعالى أراد أن يذكرنا بأربعة فصول من كتاب الإنسان الطويل فإنه كان يستظل في تلك الجنة التي كان فيها بورق التين وعندما بدت له ولزوجته سوآتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين. والزيتون إشارة إلى عهد نوح عليه السلام وذريته وذلك أنه بعد أن فسد البشر وأهلك من أهلك منه بالطوفان ونجى نوح في سفينته واستقرت السفينة نظر نوح إلى ما حوله فرأى المياه لا تزال تغطي وجه الأرض فأرسل بعض الطيور لعله يأتي إليه بخبر انكشاف الماء عن بعض الأرض فغاب ولم يأت بخبر فأرسل طيرا آخر فرجع إليه يحمل ورقة من شجر الزيتون فاستبشر وسر وعرف أن غضب الله قد سكن وقد أذن للأرض أن تعمر ثم كان منه ومن أولاده تجديد القبائل البشرية العظيمة في الأرض التي امحى عمرانها فعبر عن ذلك الزمن بزمن الزيتون. والإقسام هنا بالزيتون للتذكير بتلك الحادثة وهي من أكبر ما يذكر من الحوادث.

“وَطُورِ سِينِينَ” إشارة إلى عهد الشريعة الموسوية وظهور نور التوحيد في العالم، بعد ما تدنست جوانب الأرض بالوثنية وقد استمر الأنبياء بعد موسى يدعون قومهم إلى التمسك بتلك الشريعة إلى أن كان آخرهم عيسى جاء مخلصا لروحها مما عرض عليه من البدع. ثم طال الأمد على قومه فأصابهم ما أصاب من قبلهم من الاختلاف في الدين وحجب نوره بالبدع وإخطاء معناه بالتأويل وإحداث ما ليس منه بسبيل فمن الله على البشر ببداية تاريخ ينسخ جميع تلك التواريخ ويفصل بين ما سبق من أطوار الإنسانية وبين ما يلحق وهو عهد ظهور النور المحمدي من مكة المكرمة. وإليه أشار بذكر البلد الأمين. وعلى هذا القول الذي فصلنا بيانه يتناسب القسم والمقسم عليه. ([44])

الشبهة السادسة

يقولون: إن القسم المكي من القرآن قد اشتمل على لغو من الكلام في كثير من فواتح السور مثل الم وكهيعص. وذلك يبطل دعوى المسلمين أن القرآن بيان للناس وهدى وأنه كلام الله. وأي بيان وأي هدى في قوله: ﴿الم﴾ وقوله: ﴿كهيعص﴾ ؟ بل هذه الأحرف وأمثالها في غاية البعد عن الهدى بدليل أنه لم يهتد أحد منهم ولا الراسخون في العلم لإدراك معناها، فالخطاب بها كالخطاب بالمهمل وإنما هذه الألفاظ من وضع كَتَبَة محمد من اليهود تنبيهاً على انقطاع كلام واستئناف آخر ومعناها أوعز إلي محمد أو أمرني محمد يشيرون بذلك إلى براءتهم من الإيمان بما يأمرهم بكتابته، وقريب من هذا قول بعضهم: إن الحروف العربية غير المفهومة المفتتح بها أوائل بعض السور إما أن يكون قصد منها التعمية أو التهويل أو إظهار القرآن في مظهر عميق مخيف أو هي رمز للتمييز بين المصاحف المختلفة ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن فصارت قرآنا ([45]).

الرد على هذه الشبهة:

ولتفنيد ما سبق أقول: إن هذه الشبهة ساقطة من وجوه بيانها فيما يأتى:-

أولاً: صاحب هذا الادعاء كفانا مؤنة دحضه وإبطاله لأنه يشك ويتردد بين أمرين متناقضين ثبوت أحدهما ينفي الآخر، فكون هذه الأحرف قصد منها التعمية والتهويل وإظهار القرآن في مظهر عميق مخيف ؛ يقتضى أن الرسول — نطق بها وكانت في عهده، وكونها رموزاً وضعت للتمييز بين المصاحف المختلفة ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن فصارت قرآنا؛ يقضى بأنه لم ينطق بها الرسول — ولا كانت في زمنه، ونقض القرآن لا يكون بهذا الشك والاضطراب والترديد بين أمور متناقضة ([46]).

ثانياً: دعوى أنها من وضع بعض الكتبة اليهود الذين كانوا يكتبون الوحي للنبي أشد بطلانا ففي أي كتاب من كتب التواريخ العربي منها وغير العربي أن النبي كان له كتبة من اليهود وكيف يأتمن النبي يهوديّا على كتابة الوحي وعنده صفوة من أصحابه المخلصين الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة، وفي أي لغة من لغات العالم أن الم أو طس أو كهيعص معناها أوعز إليّ محمد أو أمرني محمد وما ذكره الطاعن في كهيعص لا يخرج عن عبث الصبيان، فإنها تقرأ على نهج ثبت بالتواتر وتلقاه الخلف عن السلف، والقراءة سنة متبعة ليست بالهوى ولا بالتشهي، ولا يغيب عن ذهننا أن جل هذه الفواتح- وبخاصة فاتحة مريم- إنما نزلت بمكة ومن قال: إن مكة كان بها يهودا لحق أن هذا الكلام لا يصدر إلا ممن تجرد من الحياء وصدق القائل: «إذا لم تستح فاصنع ما تشاء».

ثالثاً: أن اليهود لم يعرف عنهم الطعن في القرآن بمثل هذا. ولو كان هذا مطعناً عندهم لكانوا أول الناس جهرًا به وتوجيهاً له لأنهم كانوا أشد الناس عداوة للنبي والمسلمين، ويتمنون أن يجدوا في القرآن مغمزًا من أي نوع يكون ليهدموا به دعوة الإسلام، كيف وهم يكفرون به حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق؟

رابعاً: لو أن هذه الأحرف المقطعة ألغاز أو كلام عاطل لا معنى له، -كما يقولون- لكان أول من تصدى له أساطين الكلام من المشركين، ولما تركها العرب المعارضون للدعوة في عصر نزول القرآن، وهم المشهود لهم بالفصاحة والبلاغة، والمهارة في البيان إنشاءً ونقداً ؛ فعلى قدر ما طعنوا في القرآن لم يثبت عنهم أنهم عابوا هذه ” الفواتح ” وهم أهل الذكر ” الاختصاص ” في هذا المجال. وأين يكون الذين يتصدون الآن لنقد القرآن من أولئك الذين كانوا أعلم الناس بمزايا الكلام وعيوبه ؟!

وقد ذكر القرآن نفسه مطاعنهم في القرآن، ولم يذكر بينها أنهم أخذوا على القرآن أىَّ مأخذ، لا في مفرداته ولا في جمله، ولا في تراكيبه. بل على العكس سلَّموا له بالتفوق في هذا الجانب، وبعض العرب غير المسلمين امتدحوا هذا النظم القرآني ورفعوه فوق كلام الإنس والجن. ولشدة تأثيره على النفوس اكتفوا بالتواصي بينهم على عدم سماعه، والشوشرة عليه([47]).

خامسًا: كما يقول الشيخ الزرقاني – رحمه الله- اشتمال القرآن على كلمات غير ظاهرة المعنى لا ينافي وصف القرآن بأنه بيان للناس وهدى ورحمة فإن هذه الأوصاف يكفي في تحققها ثبوتها للقرآن باعتبار جملته ومجموعة لا باعتبار تفصيله وعمومه الشامل لكل لفظ فيه. ولا ريب أن الكثرة الغامرة في القرآن كلها بيان للتعاليم الإلهية وهداية للخلق إلى الحق ورحمة للعالم من وراء تقرير أصول السعادة في الدنيا والآخرة.

وهذا الجواب مبني على أحد رأيين للعلماء في فواتح تلك السور وهو أن المعنى المقصود غير معلوم لنا بل هو من الأسرار التي استأثر الله بعلمها ولم يطلع عليها أحد من خلقه. وذلك لحكمة من حكمة تعالى السامية وهي ابتلاؤه سبحانه وتمحيصه لعباده حتى يميز الخبيث من الطيب وصادق الإيمان من المنافق بعد أن أقام لهم أعلام بيانه ودلائل هدايته وشواهد رحمته في غير تلك الفواتح من كتابه بين آيات وسور كثيرة لا تعتبر تلك الفواتح في جانبها إلا قطرة من بحر أو غيضا من فيض. فأما الذين آمنوا فيعلمون أن هذه الفواتح حق من عند ربهم ولو لم يفهموا معناها ولم يدركوا مغزاها ثقة منهم بأنها صادرة من لدن حكيم عليم عمت حكمته ما خفي وما ظهر من معاني كتابه ووسع علمه كل شيء عرفه الخلق أو لم يعرفوه من أسرار تنزيله. “وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ” “فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ” ولا يفوتنك في هذا المقام أن تعرف أن ابتلاء الله لعباده ليس المراد منه أن يعلم سبحانه ما كان جاهلا منهم حاشاه حاشاه فقد وسع كل شيء علما. إنما المقصود منه إظهار مكنونات الخلق وإقامة الحجج عليهم من أنفسهم فلا يتهمون الله في عدله وجزائه إذا جعل من الناس أهلا لثوابه وآخرين لعقابه. “وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا” الكهف: ٤٩.

الرأي الثاني في فواتح السور: أن لها معنى مقصودا معلوما. قالوا: لأن القرآن كتاب هداية والهداية لا تتحقق إلا بفهم المعنى خصوصا أننا أمرنا بتدبر القرآن والاستنباط منه وهذا لا يكون إلا إذا فهم المعنى أيضا ([48]). وقد اختلف أصحاب هذا الرأي في بيان المراد منها فذهب الكثيرون إلى أنها أسماء للسور، وذهب المحققون إلى أنها أسماء للحروف الهجائية المعروفة، وفائدة ذكرها في فواتح السور، إما إقامة الحجة على إعجاز القرآن من أقصر طريق وأسهله، ذلك أن هذا القرآن مركب من جنس هذه الحروف الهجائية التي منها يركبون كلامهم، وبها يتخاطبون، وقد تحداهم المرة تلو المرة أن يأتوا بشيء منه فعجزوا وما استطاعوا، فكان هذا دليلا ساطعا على أنه ليس من عند بشر وإنما هو من عند خالق القوى والقدر، وإما تنبيه السامع إلى ما يتلى بعدها لاستقلالها بنوع من الإغراب فهي كأداة التنبيه لما يتلى بعدها فيفرغ السامع لذلك قلبه وسمعه فتقوم عليه الحجة باستماع القرآن، وقد يقع الكلام من نفسه موقع التأثير فيؤدي به إلى الإيمان، فهي إذا ليست غير مفهومة المعنى، والخطاب بها ليس من قبيل الخطاب بما لا معنى له.

وهناك آراء أخرى كثيرة في بيان معاني هذه الأحرف وتأويلها تنظر في مظانها ([49]).

الشبهة السابعة

الادعاء بأن القسم المكي خلا من ذكر أهل الكتاب، بينما اقتصر ذلك على المدني، وهم بذلك يدللون على زعمهم بأن محمد ، أَلَّف القرآن من عنده، وتعلمه من أهل الكتاب متأثراً بالبيئة التي كان يعيش فيها، حيث جاء القرآن المدني بذكر أهل الكتاب حيث يسكنون المدينة، وجاء القرآن المكي خالياً من ذكرهم حيث خلت مكة من وجودهم.

الرد على هذه الشبهة:

أولاً: إن القول بأن القرآن المكي خلا من ذكر أهل الكتاب على الإطلاق قول باطل. ولو قيل: إن القرآن قلل من ذكر أهل الكتاب لكان صحيحاً. ومن الخطأ الادعاء بأن مكة كانت خالية تماماً من أهل الكتاب. فقد وردت سور، وآيات مكية عديدة تذكر أهل الكتاب، ومنها:

أ- سورة الأنعام قوله تعالى” الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ” الأنعام: ٢٠. وقوله تعالى “أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ” الأنعام: 114.

ب- سورة الأعراف قوله تعالى “فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ”، وقوله تعالى “فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ” وقوله وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ”

ثانياً: إن إكثار القرآن المدني من ذكر أهل الكتاب هو من قبيل التوفيق في رعاية أحوال المخاطبين. حيث إن أهل الكتاب كانوا يسكنون المدينة أكثر من أي مكان آخر في جزيرة العرب. وبذلك كان احتكاك الدعوة الإسلامية بهم كثيراً؛ وكانت مجابهاتهم، ومقابلاتهم، وتحدياتهم، واستفساراتهم، وأسئلتهم، ووقائعهم، وحوادثهم كثيرة مع الرسول ، ولذلك؛ ومراعاة لمقتضيات أحوال أهل المدينة من أهل الكتاب أَكْثَر القرآن المدني من الذكر لهم، ومخاطبتهم. وهم قد أوقعوا الوقائع العظيمة، وأحدثوا الحوادث الجسيمة في مقر سكناهم في المدينة، وليس في غير سكناهم كمكة. ولذلك فمن البداهة بمكان أن يكثر ذكرهم في القرآن المدني، وليس المكي. وكان القرآن المدني طيلة نزوله في المدينة هو المؤثر فيهم، والمدحض لافتراءاتهم، والمفشل لتحدياتهم، والفاضح لتفاهاتهم، والمبطل لخرافاتهم وسحرهم حتى أعجزهم من أن يكذبوه، أو يتقولوا عليه، وحتى تثبت نبوة محمد عندهم، فلجأوا إلى محاربته، والغدر به، وخيانته، وتأليب الأعداء عليه. في كل هذه الأحوال كان ينزل القرآن المدني ينظم علاقة الرسول ، والمسلمين والصحابة معهم، فكان لابد من ذكرهم، وكان لابد من مخاطبتهم لعلهم يرعووا، ودون أي تأثير منهم، فكان القرآن المدني ذاكراً لهم لا متأثراً بوسطهم كما أراد المبطلون، والمرجفون، والمستهزؤون، وصدق فيهم قول ربنا “وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ” الحجر: ١١. وصدق فيهم قول ربنا “وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا” الإسراء: ٨. وصدق فيهم قول ربنا “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ” البينة: ٦.

***

الشبهة الثامنة

إن القرآن المكي خلا من القصص، وإنما انفرد بها القرآن المدني لتأثر الرسول بأهل الكتاب فيها، فأخذ عنهم قصص إبراهيم وعلاقات الأنساب بين إسماعيل والشعب العربي. كما أورد المستشرق ” لامنز” أن محمداً لما اتصل باليهود في المدينة استطاع أن يؤلف قصص إبراهيم وعلاقات الأنساب بين إسماعيل والشعب العربي([50]).

الرد على هذه الشبهة:

لعلها من أسخف الشبه التي ألصقها المستشرقون الكفرة بالقرآن المكي، ولعلها من أسخف براهينهم التي دللوا بها على سخف هذه الشبهة. حيث إننا، وبكل سهولة نستطيع أن نكذب دعواهم، وأن نفند شبهتهم بالرجوع إلى القرآن الكريم حيث نجد العكس تماماً. فالسور المكية هي التي تعرض أطوار قصص الأنبياء بتفاصيلها الدقيقة, ولم تترك للسور المدنية إلا فرص استخلاص العبر والدروس منها، والتي غالباً ما تأتي في صور تلميحية إيجازية.

وأما بالنسبة لإبراهيم: فإنه لا يعرف شعب آخر له مثل ما للعرب من شغف بعلم الأنساب، وخاصة أولاد إسماعيل، حيث يحرصون على الاحتفاظ في ذاكرتهم بسلسلة أجدادهم حتى وصلوا إلى الجيل العشرين، وكان منهم المشهورين بذلك كأبى بكر الصديق سيما وهناك أماكن تحمل، وما تزال، أسماء إبراهيم، وإسماعيل –عليهما السلام- وقريش من أولادهم، وبهذا ومما يدحض شبهتهم أيضاً أن القرآن لم ينتظر انتقاله إلى المدينة لتوثيق هذه المعلومات، والاهتمام بالقصص؛ حيث أفاضت السور والآيات المكية بمثل قصص الأنبياء، والرسل، وأقوامهم. بل نجد أن السور المكية أشارت لقصة إبراهيم – عليه السلام- مثل “رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ” إبراهيم: ٣٧، وكثيراً منها دعت الرسول إلى اتباع ملة إبراهيم – عليه السلام- فقد جاء في سورة النحل، وهي مكية قوله تعالى: “ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” النحل: ١٢٣.

الشبهة التاسعة

إن القرآن المكي خلا من ذكر الصلوات الخمس – حيث كان عددها في العهد المكي صلاتين أضيف لهما صلاة ثالثة في العهد المدني – وهذا يعني الاختلاف الجذري بين القرآن المكي، وبين القرآن المدني، والسبب في ذلك يعزونه إلى تأثر الرسول ، ومحاكاته لليهود في المدينة. ([51])

الرد على هذه الشبهة:

تدحض صدق ما تزعمه بنفسها حيث إنها تفتقد إلى أي أساس نقلي، أو عقلي، أو منطقي، أو تاريخي يسوغ تصديقها، أو يدعو إلى الإيمان بها. ولعله، بل إن أساس الخطأ بالنسبة لمثل هذه الشبهات أنها إنما تنطلق دائما من فراغ دليلي، أو أساس واه، فيصعب على أصحابها إثبات صحة دعواها. ونحن هنا نتساءل: متى كان عدد الصلوات التي نص عليها القرآن المكي في اليوم، والليلة أقل من خمس صلوات ؟؟! وأي قرآن مكي نص على أن عددها كان اثنين ثم أضيفت لهما صلاة ثالثة في المدينة؟؟! وهذه مشكلة المستشرقين أو النقاد الغربيين في مهاجمتهم للإسلام دوماً؛ حيث إنهم دائماً يفتقدون إلى الدليل الذي يؤيد زعمهم، ومن ثم يُعرّون شبههم من كل دليل نقلي أو مسوغ شرعي، أو تواتر تاريخي سليم.

فمن المُسَلَّم به عندنا وعند غيرنا، وتواتر في النقل، والتشريع والتطبيق أن عدد الصلوات المفروضة، ومنذ فرضيتها، هي خمس صلوات مفروضة، وقد أشار إليها القرآن المكي قبل المدني، وفصلتها السنة النبوية، وبينت أحكامها، وأركانها، وواجباتها، وبكل دقة. ولعله إذا جاز لنا أن نعذرهم في شيء أن نقول في هذا المقام: ربما كان منشأ خطأهم هو تفسيرهم المغلوط لكلمة، أو للفظ “الدلوك” الوارد في آيات الصلوات الخمس في سورة الإسراء.

ومن السور والآيات المكية التي أشارت إلى الصلوات الخمس سورة الإسراء حيث يقول: “أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا” الإسراء: ٧٨.

وسورة طه حيث يقول سبحانه: “فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى” طه: ١٣٠.

وسورة الروم حيث يقول – سبحانه- “فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ” الروم: ١٧ – ١٨.

وسورة هود حيث يقول –سبحانه- “وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ” هود: ١١٤.([52])

فمما سبق يتضح لنا بطلان هذه الشبهة وسقوطها كما سقط ويسقط كل متحدٍ للقرآن، وسيظل هذا القرآن مرفوع الراية يتحدى المعاندين ويطاول المتكبرين وصدق الله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر: ٩.

{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} الصف: ٨ – ٩.

الخاتمة

وبعـد: فهذا ما يسَّره الله ولسنا نزعم أننا وصلنا ببحثنا إلى الكمال فالكمال لله وحده، وحسبنا أننا اجتهدنا بقدر طاقتنا البشرية. متضرعين إلى الله أن نكون قمنا ببعض الواجب علينا نحو هذا الدين العظيم.

ونحمد الله () أن وفقنا وأعاننا ويسر لنا إتمام هذا البحث، فإليه يرجع الأمر كله، ونسأله () أن يقبل هذا العمل ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، وقد توصلنا من خلال هذا البحث إلى ما يلي:

أولاً: إعجاز القرآن الكريم وأنه لا يزال غضا طريا ، محفوظا بحفظ الله — وكل ما فيه من عند الله ولا دخل لأحد فيه.

ثانياً: اهتم العلماء بتحقيق المكي والمدني عناية فائقة، وجعلوا معرفته شرطا لمن أراد أن يفسر كلام الله.

ثالثاً: معرفة المكي والمدني يعين على معرفة تاريخ التشريع والوقوف على سنة الله الحكيمة في التدرج في التشريعات.

رابعاً: اهتمام النبي والصحابة بحفظ القرآن وتعليمه وقراءته وتلاوة آياته، ومن ذلك اهتمام الصحابة بمواضع نزوله.

خامساً: القرآن من عند الله جاء ليؤثر في البيئة لا ليتأثر بها. ولو كان من عند محمد لعارضه العرب عند التحدي.

سادساً: السبب الرئيس لإثارة الشبهات حول القرآن محاولة اليهود والنصارى نزع الثقة عن القرآن وخلخلة الإيمان به حتى لا يظل هو النص الإلهي الوحيد المصون من كل تغيير أو تبديل، أو زيادة أو نقص.

سابعاً: تبرير ما لدى أهل الكتاب (اليهود والنصارى) من نقد وجه إلى الكتاب المقدس بكلا عهديه : القديم (التوراة) والجديد (الأناجيل) ليقطعوا الطريق على ناقدى الكتاب المقدس من المسلمين ، ومن غير المسلمين.

ثامناً: اليهود والنصارى لتحريفهم كتبهم التي نزلت على أنبيائهم لم تعد لديهم حجة صحيحة، ولا شيء يستندون إليه، فلذا أخذوا يطعنون في القرآن وأحكامه، ليغيروه ويهدموه.

تاسعاً: سار على نهج اليهود والنصارى المبشرون والمستشرقون في العصور الحديثة الذين اهتموا بالدراسات الإسلامية والعربية لا لخدمة الإسلام، بل لنقده والطعن في أصوله، وليشككوا الناس في هذا الدين العظيم.

عاشراً: سيل الشبهات التي يثيرها المشككون والمبطلون من خصوم الدين لم يتوقف، فلا تزال الشبهات القديمة تظهر حتى اليوم في أثواب جديدة، وحُلىً زائفة.

الحادي عشر: مما يؤسف له أن بعضاً من أدعياء العلم والثقافة من المسلمين صاروا أذناباً لهؤلاء الملاحدة، وأخذوا يرددون كلامهم، ويطعنون في دينهم، متسربلين بشعار البحث العلمي والحرية الفكرية.

الثاني عشر: هذا الدين محفوظ بحفظ الله، وقد وعد بنصر أهله ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾

الثالث عشر: خلو القرآن من الزيادة والنقصان والتحريف وأنه الوثيقة الربانية الوحيدة التي حفظت -بحفظ الله- من التغيير والتبديل وصدق الله القائل “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ” فصلت: ٤١ – ٤٢.

وفي الختام: نقول لمن حاول إثارة الشبهات والتشكيك في كتاب الله , أو في رسول الله , أو في شيء من دين الله: اعلم أنك بفعلك هذا قد جنيت على نفسك , وأوديت بها إلى مهاوي الردى , واعلم أن “هذا الدين متين، “وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ ” فارفق بنفسك وأشفق عليها.

يا ناطِحَ الجَبَلِ الأَشَم بِرأْسِهِ *** أشفق عَلَى الرأس لاَ تُشْفِقْ عَلَى الجَبَلِ

وإنما مثل هؤلاء المشككين كوَعْلٍ غَرَّه قَرْنَاه, فرَأَى ذاتَ يومٍ صَخْرةً عظيمة راسيةً شامخةً , فأراد أن يفتتها فنطحها, فتحطم قرناه، وأما الصخرة فما أحست من ذلك بشيء

كناطِحٍ صَخْرةٍ يوماً ليُوهنُها *** فلَمْ يُضِرْها وأَوْهي رَأْسَه الوَعْلُ

فالإسلام كالبحر الخضم , لا يضره من ألقى فيه بحجارة محاولا إيذاءه.

ومَا يَضُرُ البَحْرَ أمْسَى راسياً *** إذا رَمَى إِليه صَبِي بحَجَرْ

فدين الله دائمًا هو الغالب، جعلنا الله -تعالى- من أتباعه وأنصاره، اللهم اجعلنا نخشاك كأننا نراك، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك.

﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الصافات: 180-182).

وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ثبت المصادر والمراجع

القرآن الكريم جل من أنزله.

  1. إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر ، لشهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد الغنى الدمياطى ت/ أنس مهرة ، ط دار الكتب العملية – لبنان – الأولى 1419هـ 1998م.
  2. الإتقان في علوم القرآن ، لعبد الرحمن جلال ادين السيوطى – ت/ محمد أبو الفضل إبراهيم ط دار التراث – القاهرة.
  3. الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، ت/ محمد أبو الفضل إبراهيم مكتبة دار التراث – القاهرة.
  4. أحكام القرآن، لأبي بكر بن عبد الله المعروف بابن العربي، ت/ على محمد البجاوي – دار الفكر.
  5. أحكام القرآن، لأحكام بن على الرازي الجصاص، أبو بكر، ت/ محمد الصادق قمحاوي – دار إحياء التراث العربي – بيروت 1405هـ.
  6. إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم ، لمحمد بن محمد العمادي أبو السعود – ط دار إحياء التراث العربى – بيروت.
  7. أسباب النزول، لأبي الحسن علي بن أحمد النيسابوري الواحدى، ت/ محمد صلاح حلمي سعد مكتبة الرحاب – القاهرة.
  8. أسرار عن القرآن – الجزء الثالث من كتاب مقالة في القرآن لجرجس سال، تعريب هاشم العربي، ط نور الحياة .
  9. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، لمحمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطى – ط دار الفكر بيروت 1415 هـ 1995م.
  10. إعراب القرآن ، لأبى حعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس ، ت/د/ زهير غازى زاهد ط عال الكتب – بيروت 1409هـ 1988م.
  11. إعراب القرآن الكريم لقاسم حميدان دعاس الناشر : دار المنير ـ دار الفارابى : دمشق
  12. إعراب القرآن وبيانه لمحي الدين الدرويش دار النشر : دار الإرشاد ـ سورية
  13. الأعلام ، لخير الدين الزركلى – ط دار العلم للملايين – بيروت – السابعه 1986م.
  14. أنوار البروق في أنواع الفروق، لأبي العباس أحمد بن إدريس القرافي، ت/ خليل المنصور – دار الكتب العلمية – بيروت 1418هـ 1998م.
  15. أنوار التنزيل وأسرار التأويل ، لناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازى البيضاوى ت/ د/ عبد الحميد مصطفي ، الشيخ / عبد الحميد فرغلى – ط المكتبة القيمة – القاهرة.
  16. الإيضاح في علوم البلاغة ، للخطيب القزوينى ، ت/ الشيخ / بهيج عزاوى، ط دار إحياء العلوم بيروت 1419هـ 1998م
  17. البحر المحيط، لمحمد بن يوسف، الشهير بأبي حيان الأندلسي – دار الكتب العلمية – بيروت – الأولى 1422هـ 2001م.
  18. البداية في التفسير الموضوعي – دراسة منهجية موضوعية، للأستاذ الدكتور/ عبد الحي حسين الفرماوي – الطبعة السابعة ذو الحجة 1425هـ يناير 2005م.
  19. البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة ، للشيخ عبد الفتاح القاضى – ط مكتبة الكليات الأزهرية.
  20. البرهان في علوم القرآن ، لبدر الدين محمد عبد الله الزركشى ، ت/ محمد أبو الفضل إبراهيم – ط دار إحياء الكتب العربية – عيسى البابى الحلبى – الأولى 1376هـ 1957م.
  21. بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، ت/ أ/ عبد العليم الطحاوي – طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية 1412هـ 1992م.
  22. بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ، لعبد لرحمن جلال الدين السيوطى، ت/ محمد أبو الفضل إبراهيم – ط المكتبة العصرية – بيروت.
  23. البلاغة العربية/ لعبد الرحمن حسن حبنكة.
  24. البلاغة الواضحة للأستاذين على الجارم ، ومصطفي أمين صـ146 ط دار المعارف – لبنان.
  25. البيان في عد آى القرآن ، لأبى عمرو عثمان بن سعيد الأموى الدانى ، ت/ غانم قدورى الحمد ، ط مركز المخطوطات والتراث – الكويت – الأولى 1414هـ 1994م.
  26. تاج العروس من جواهر القاموس ، لمحمد بن عبد الرازق الحسينى الزبيدى – ط دار الهداية.
  27. التبيان في إعراب القرآن ، لمحب الدين عبد الله الحسين بن أبى البقاء العكبرى ، ت/ على محمد البجاوى – ط دار إحياء الكتب العربية.
  28. التبيان في أقسام القرآن ، لابن القيم الجوزية – ط دار الفكر – بيروت.
  29. التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر بن عاشور – دار سحنون – تونس 1997م.
  30. التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي الكلبي.
  31. التعريفات ، لعلى بن محمد بن على الجرجاني ، ت/ إبراهيم الإبيارى – ط دار الكتاب العربى – بيروت الأولى 1405هـ.
  32. تفسير القرآن العظيم، لإسماعيل بن عمر بن ضوء القرشي البصري، أبو الفداء عماد الدين ابن كثير – ت/ طه عبد الرؤوف سعد – مكتبة الإيمان – المنصورة.
  33. التفسير القرآني للقرآن/ للشيخ عبد الكريم يونس الخطيب – ط دار الفكر – القاهرة.
  34. التفسير الكبير ، أو مفاتيح الغيب ، لفخر الدين الرازى ، ت/ سيد عمران ط دار الحديث – القاهرة.
  35. التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي، ت/ سعد عمران دار الحديث – القاهرة.
  36. التفسير الموضوعي بين النظرية والتطبيق، للدكتور/ صلاح الخالدي.
  37. التفسير الموضوعي ومنهج الحق في هداية الخلق، للأستاذ الدكتور/ محمود بسيوني فودة – مطبعة الأمانة – الأولى 1408هـ 1987م.
  38. التفسير الموضوعي: نماذج تطبيقية في ضوء القرآن الكريم، للأستاذ الدكتور/ محمد السيد عوض.
  39. التفسير الوسيط للقرآن الكريم المؤلف : د. محمد سيد طنطاوى ( شيخ الأزهر)
  40. تهذيب الكمال، ليوسف بن الزكر عبد الرحمن أبو الحجاج المزي – مؤسسة الرسالة بيروت – الأولى 1400هـ 1980م.
  41. التوقيف على مهمات التعاريف ، لمحمد عبد الرؤوف المناوى ، ت/د/ محمد رضوان الداية ، ط دار الفكر – دمشق – الأولى 1410هـ.
  42. جامع البيان في تأويل آى القرآن ، للإمام محمد بن جرير بن يزيد ، أبو جعفر الطبرى ، ت: أحمد محمد شاكر – ط مؤسسة الرسالة – الأولى 1420هـ 2000م.
  43. الجامع الصحيح المختصر، لمحمد بن إسماعيل البخاري، ت/د/ مصطفي الديب البغا – دار ابن الكثير – اليمامة – بيروت – الثالثة 1407هـ 1987م.
  44. الجامع الصحيح المسمى بصحيح مسلم ، لأبى الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيرى النيسابورى.
  45. الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسننه وأيامه ، المسمى بصحيح البخارى ، لمحمد بن إسماعيل بن المغيرة البخارى – ط دار ابن كثير – اليمامة – بيروت – الثالثة 1407هـ 1987م
  46. الجامع الصحيح، المسمى صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري – طبعة دار الجيل – بيروت.
  47. الجامع الصحيح، سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى الترمذي، ت/ أحمد محمد شاكر – دار إحياء التراث العربي – بيروت.
  48. الجامع لأحكام القرآن ، لأبى عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى – ط دار الحديث – القاهرة. الثانية 1416هـ 1996م.
  49. الجدول في إعراب القرآن محمود بن عبد الرحيم صافي الناشر : دار الرشيد مؤسسة الإيمان – دمشق الطبعة : الرابعة ، 1418 هـ.
  50. جواهر البلاغة في المعانى والبيان والبديع ، للسيد أحمد الهاشمى – ط دار الكتب العلمية بيروت – السادسة.
  51. حاشية الشهاب ، المسماة: عناية القاضى وكفاية الراضى على تفسير البيضاوى ، لأحمد بن محمد شهاب الدين – ط دار صادر – بيروت.
  52. الحاوي في فقه الشافعي، لأبي الحسن على بن محمد بن حبيب البصري الشهير بالماوردي – دار الكتب العلمية – بيروت – الأولى 1414هـ 1994م.
  53. حجة القراءات، لعبد الرحمن بن محمد بن زنجلة، ت/ سعيد الأفغاني – مؤسسة الرسالة – بيروت – الثانية 1402هـ 1982م.
  54. الحجة في القراءات السبع ، للحسين بن أحمد بن خالويه ، ت د/ عبد العال سالم مكرم – ط دار الشروق – بيروت – الرابعة 1401هـ.
  55. الحجة في القراءات السبع ، للحسين بن أحمد بن خالويه ، ت د/ عبد العال سالم مكرم – ط دار الشروق – بيروت – الرابعة 1401هـ.
  56. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ، لأى نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهانى – ط دار الكتاب العربى – بيروت – الرابعة 1405هـ.
  57. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني – دار الكتاب العربي – بيروت.
  58. الدر المصون في علم الكتاب المكنون، لأحمد بن يوسف بن عبد الدايم المعروف بالسمين الحلبي، ت/ أحمد محمد الخراط ,دار القلم ,دمشق – الأولى 1414هـ 1994م.
  59. الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، لعبد الرحمن جلال الدين السيوطى – ط دار الفكر – بيروت 1993م.
  60. روح البيان في تفسير القرآن، لإسماعيل حقى بن مصطفي البروسوى, ط دار إحياء التراث العربى– بيروت.
  61. روح المعاني في تفسير القرآني العظيم والسبع المثاني، لمحمود الألوسي، أبو الفضل – دار إحياء التراث العربي – بيروت.
  62. زاد المسير في علم التفسير ، لعبد الرحمن على بن محمد الجوزى ، ط المكتب الإسلامى – بيروت الثالثة 1404هـ.
  63. السبعة في القراءات ، لأبى بكر أحمد بن موسى بن مجاهد البغدادى ، ت/د/ شوقى ضيف ، ط دار المعارف – القاهرة – الثانية 1400هـ.
  64. السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معانى كلام ربنا الحكيم الخبير، لمحمد بن أحمد الخطيب الشربينى – ط دار المعرفة – بيروت – الثانية.
  65. سنن ابن ماجة، لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجة، ت/ محمد فؤاد عبد الباقي – دار الفكر – بيروت.
  66. سنن أبى داود ، لسليمان بن الأشعث الأزدى أبو داود ، ت/د/ عبدالقادر عبد الجبير ، ط دار الحديث – القاهرة 1420هـ 1999م.
  67. سنن الدارقطني، لأبي الحسن علي بن عمر بن أحمد بن دينار البغدادي – دار المعرفة – بيروت 1386هـ 1966م.
  68. السنن الصغرى، لأحمد بن الحسن بن علي البيهقي، أبو بكر، ت د/ محمد ضياء الرحمن الأعظمي – مكتبة الرشد – الرياض 1422هـ 2001م.
  69. سير أعلام النبلاء ، لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبى – ط مؤسسة الرسالة – الثالثة 1405هـ 1985م.
  70. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي الناشر : المكتب الإسلامي بيروت
  71. شرح المفصل للزمخشري لعلى بن يعيش ، ط دار الطباعة المنيرية – مصر.
  72. شرح النووي على صحيح مسلم، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي – دار إحياء التراث العربي – بيروت – الثانية 1392هـ.
  73. شعب الإيمان، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي – دار الكتب العلمية – بيروت – الأولى 1410هـ.
  74. صفوة التفاسير، للأستاذ الدكتور/ محمد على الصابوني – دار الصابوني – القاهرة.
  75. علم البيان/ للأستاذ عبد العزيز عتيق – ط دار النهضة العربية: بيروت – لبنان 1405هـ 1982م.
  76. عون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق العظيم آبادي – دار الكتب العلمية – بيروت – الثانية 1415هـ.
  77. فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن على بن حجر العسقلاني – دار المعرفة – بيروت 1379هـ.
  78. الفتح السماوي بتخريج أحاديث القاضي البيضاوي، للإمام المناوي ت/ أحمد مجتبي دار العاصمة – الرياض.
  79. فتح القدير الجامع بين فنى الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن على بن محمد الشوكاني.
  80. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، ت/عبد الرزاق المهدي– دار إحياء التراث العربي – بيروت.
  81. الكشف والبيان ، لأبى إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبى النيسابورى/ الإمام أبى محمد بن عاشور ، ط دار إحياء التراث الغربى – بيروت، الأولى ، 1422هـ 2002م.
  82. كشفُ العَمَى والرَّيْنِ عنْ نَاظِرِي مُصْحَفِ ذِي النُّورَيْنِ، وهي من تأليف مُحَمَّدٌ العاقِبُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ مَايَابِي الجَكَنِيُّ الشنقيطي (ت: 1312 هـ)،دار إيلاف للنشر والتوزيع- الكويت-1427هـ.
  83. اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي دار الكتب العلمية.
  84. لباب التأويل في معاني التنزيل، لعلاء الدين على بن محمد بن إبراهيم الشهير بالخازن دار الفكر – بيروت.
  85. لباب النقول في أسباب النزول ، لعبد الرحمن جلال الدين السيوطى – ط مكتبة الصفا – القاهرة – الأولى 1423هـ 2002م.
  86. اللباب في علوم الكتاب ، لأبى حفص عمر بن على بن عادل الحنبلى ت/ الشيخ/ عادل أحمد عبد الموجود ، والشيخ / على محمد معوض – ط دار الكتب العلمية – بيروت اأولى 1419هـ 1998م.
  87. لسان العرب ، لمحمد بن مكرم بن منظور الإفريقى المصرى ، ط دار صادر – بيروت.
  88. لوامع الأنوار البهية، لشمس الدين أبو العون محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي – مؤسسة الخافقين – دمشق – الثاني – 1402هـ 1982م.
  89. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ، لنور الدين على بن أبى بكر الهيثمى – ط دار الفكر – بيروت 1412هـ.
  90. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لنور الدين على بن أبي بكر الهيثمي – دار الفكر – بيروت 1412هـ.
  91. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي ت/ عبد السلام عبد الشافي محمد – دار الكتب العلمية – لبنان 1413هـ 1993م – الأولى.
  92. مختصر المعاني/ لسعد الدين التفتازاني – ط دار الفكر الأولى 1411هـ.
  93. مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، لأبى البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي ، ت/ مروان محمد الشعار – ط دار النفائس – بيروت 2005م.
  94. المستدرك على الصحيحين ، لمحمد بن عبد الله الحاكم النيسابورى ، ت/ مصطفي عبد القادر عطا ، ط دار الكتب العلمية – بيروت – الأولى 1411هـ 1990م.
  95. مسند أحمد، لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ت/ شعيب الأرنؤوط – مؤسسة الرسالة – الثانية 1420هـ 1999م.
  96. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير ، لأحمد بن على الفيومى – ط المكتبة العلمية – بيروت.
  97. معالم التنزيل ، لمحى السنة ، أبى محمد الحسين بن مسعود البغوى ، ت/ محمد عبد الله النمر ، ط دار طيبة للنشر والتوزيع – الرابعة 1417 هـ 1997م
  98. معالم سور القرآن وإتحافات درره، للأستاذ الدكتور/ جمعة على عبد القادر طبعة مكتبة رشوان – الثانية.
  99. معانى القرآن ، لأبى زكريا – يحيى بن زياد ، المعروف بالفراء ت/ د/ عبد الفتاح إسماعيل شلبى ، ط الهيئة المصرية للكتاب 1973م.
  100. معجم القراءات القرآنية – الدكتور عبد اللطيف الخطيب – ط دار سعد الدين – دمشق الأولى سنة 1422هـ 2002م.
  101. المعجم الوسيط ، تأليف/ إبراهيم مصطفي – أحمد الزيات – حامد عبد القادر – محمد النجار – ط دار الدعوة.
  102. مفتاح العلوم/ للسكاكي.
  103. مفردات غريب القرآن ، لأبى القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى ، ت/ محمد سيد كيلانى ، ط دار المعرفة – لبنان.
  104. المفصل في صنعة الإعراب – الزمخشري الناشر : دار ومكتبة الهلال بيروت
  105. موطأ مالك، لمالك بن أنس، أبو عبد الله الأصبحي – دار القلم – دمشق – الأولى 1413 هـ 1991م.
  106. موسوعة بيان الإسلام الرد على الإفتراءات والشبهات، المؤلف: نخبة من كبار العلماء-  الناشر: دار نهضة مصر للنشر،سنة 2011م.
  107. النشر في القراءات العشر ، لمحمد بن محمد بن الجزرى ، ط دار الكتب العلمية – بيروت.
  108. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، للإمام برهان الدين أبى الحسن البقاعى – ط دار الكتب العلمية – بيروت 1415هـ 1995م.
  109. النكت والعيون ، لأبى الحسن على بن محمد بن حبيب الماوردى البصرى ، ت / السيد بن عبد المقصود عبد الرحيم ، ط دار الكتب العلمية – بيروت.

الهوامش:

  1. () البخارى في صحيحه/ كتاب الدعوات /حديث رقم 5958
  2. () ينظر: أساس البلاغة للزمخشري 1/235، القاموس المحيط 1/1610، لسان العرب 13/503، تاج العروس 36/411، المصباح المنير 4/433.
  3. () ينظر: التعريفات 1/165، التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي 1/422، المعجم الوسيط 1/471.
  4. () مفتاح دار السعادة جـ1/140.
  5. () مفتاح دار السعادة 1/140، 141.
  6. () ينظر: رفع الالتباس بدفع الشبه المنسوبة لابن مسعود وابن عباس، ص 83، نقلاً عن كتاب النور المبين في دفع شبهات المستشرقين، للأستاذ الدكتور: عبد المنعم رماح ص15.
  7. () الإسقاط: حيلة لا شعورية تتلخص في أن ينسب الإنسان عيوبه ونقائصه ورغباته المستكرهة التي لا يتعرف بها إلى غيره من الناس أو الأشياء أو الأقدار…. وذلك تنزيهاً لنفسه وتخففاً مما يشعر به من القلق أو الخجل أو النقص أو الذنب. أصول علم النفس د./ أحمد عزت راجح: طبع دار الكتاب العربي – القاهرة – السابعة – سنة 1967م.
  8. () ينظر: موسوعة بيان الإسلام، الرد على الافتراءات والشبهات / القسم الأول، القرآن جـ1/46 وما بعدها، ط دار نهضة مصر، إعداد نخبة من العلماء ، منهج القرآن في الرد العلمي على الشبهات والافتراءات، د./ محمد داود، مجلة منبر الإسلام، ص24، حمادي الآخرة 1434هـ
  9. () السيرة النبوية لابن هشام 3/52، الروض الأنف 2/376، دلائل النبوة للبيهقي 2/533.
  10. () موسوعة بيان الإسلام 1/48، 49.
  11. () ينظر: البرهان في علوم القرآن: 1/192، الإتقان: 1/34.
  12. () مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان ص 59.
  13. () مناهل العرفان 1/196.
  14. () صحيح البخارى /كتاب فضائل القرآن / حديث رقم 4716.
  15. () بفتح السين وسكون اللام اسم جبل بالمدينة.
  16. () مفاتيح الغيب 2/320.
  17. () دلائل النبوة 7/144.
  18. () فتح البارى 9/41.
  19. () قال الشيخ غزلان-رحمه الله-المراد بالفريضة هنا فريضة الميراث،لا مطلق فريضة، وإلا ففي القسم المكي فرائض كثيرة كالصلاة وبر الوالدين والعدل والوفاء بالعهد والتواصى بالحق والتواصى بالصبر وغير ذلك، وقد اشتهرت أحكام الميراث باسم الفرائض حتى قال النبى– أفرضكم زيد رواه أحمد 3/184 بإسناد صحيح كما في الإصابة لابن حجر2/592.أ.هـ من البيان صـ 132.
  20. () ينظر خلاصة ما سبق فى: البرهان للزركشى 1/187، الإتقان 1/34 وما بعدها، مناهل العرفان 1/192، المدخل لأبى شهبة 218 الموسوعة القرآنية للأبيارى 1/402.
  21. () البيان في مباحث من علوم القرآن ص131.
  22. () ينظر: نقض مطاعن في القرآن الكريم للشيخ محمد عرفة ص13 بتصرف وزيادة.
  23. () صحيح البخارى كتاب التفسير /حديث رقم 4492.
  24. () تفسير الطبرى 24/679.
  25. () نقض مطاعن في القرآن ص 46.
  26. () تفسير ابن كثير 8/497.
  27. () تفسير جزء عم ص 154.
  28. () نقض مطاعن في القرآن ص 49.
  29. () المدخل لأبى شهبة ص 235.
  30. () مقدمة كتاب نقض مطاعن في القرآن بقلم الشيخ محمد رشيد رضا ص17..
  31. () نقض مطاعن في القرآن للشيخ محمد عرفة ص59 وما بعدها، وقد مثَّل الشيخ لكلامه بسورة الأنعام المكية فقال: مقدارها 165 آية وقد انتظمها غرض واحد وهو إبطال الشرك، فتقرؤها جميعها فتجدها في هذا الغرض وما سيق فيها فهو لهذه الغاية ثم أخذ يوضح ذلك من خلال آيات السورة الكريمة أ.ه أقول: وما ذكره الشيخ محمد عرفة فطن له أفذاذ العلماء منذ القدم، لذا كانت لهم عناية خاصة في كشف اللثام عن متانة الترابط وإحكام الصلة بين أجزاء كل سورة من سور القرآن، ومن هؤلاء الإمام الرازى في تفسيره والإمام البقاعى في كتابه نظم الدرر في تناسب الآي والسور، وفي العصر الحديث الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه الماتع النبأ العظيم الذى حلَّل فيه سورة البقرة مع طولها وأظهر كمال الاتساق بين أجزائها وما فيها من وحدة موضوعية، وما زالت جهود الباحثين قائمة ومستمرة لإبراز هذا الجانب من جوانب إعجاز القرآن للتأكيد على أنه تنزيل من لدن حكيم خبير عظيم حميد، وليس من كلام محمد أو من كلام البشر كما يدَّعون.
  32. () الإتقان 2/ 288.
  33. () التفسير الكبير 10/110.
  34. () التفسير الكبير 7/106.
  35. () ينظر: البرهان للزركشى النوع التاسع، الإتقان للسيوطى النوع الأول.
  36. () ينظر: تفسير الطبرى 24/662، لباب النقول صـ 236.
  37. () ينظر: نقض مطاعن في القرآن صـ 42.
  38. () أخرجه البخارى في صحيحة كتاب فضائل القرآن /حديث رقم 4707.
  39. () مناهل العرفان 1/219.
  40. () نقض مطاعن في القرآن الكريم ص 71 بتصرف.
  41. () مناهل العرفان 1/220.
  42. () تفسير البغوى 5/375، تفسير ابن كثير 7/233، روح المعانى 13/93.
  43. () البخارى في الصحيح / كتاب التفسير /حديث رقم 4670، ومسلم في صحيحه /كتاب الإيمان/ حديث رقم 160.
  44. () مناهل العرفان 1/222، تفسير جزء عم للشيخ محمد عبده صـ 138.
  45. () أسرار عن القرآن لجرجس سال ص 11، 12، 47،موجز دائرة المعارف الإسلامية صـ 8199، مناهل العرفان 1/222.
  46. () نقض مطاعن في القرآن للشيخ محمد عرفة صـ 79 بتصرف.
  47. () حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين صـ 63.
  48. () مناهل العرفان 1/ 226.
  49. () تراجع هذه الأقوال في تفاسير الزمخشرى والرازي والآلوسي عند تفسير أول سورة البقرة، وفي تفسير المنار في أول سورة الأعراف، وفي مناهل العرفان للزرقانى 1/ 226 فقد أجاد وأفاد.
  50. () لامنز الإسلام عقائده ونظمه صـ33 نقلاً عن كتاب شبهات حول القرآن وتفنيدها د/ غازى عناية صـ100.
  51. () ينظر: شبهات حول القرآن وتفنيدها د/ غازي عناية صـ101.
  52. () مدخل إلى القرآن الكريم , د/ محمد عبد الله دراز صـ 169-170.