شعريّةُ الغلوّ في الخطاب الشعريّ الأندلسيّ (لسان الدين ابن الخطيب أنموذجاً)

د. يوسف الرايس1

1 الأكاديمية الجهويّة للتربية والتكوين جهة طنجة-تطوان-الحسيمة، المملكة المغربيّة.

البريد الإلكترونيّ: raissyoussef2017@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(4); https://doi.org/10.53796/hnsj54/15

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/04/2024م تاريخ القبول: 22/03/2024م

المستخلص

يدور مدارُ هذه الدراسة النقديّة التحليليّة التطبيقيّة حول شعريّة الغلوّ في الخطاب الشعريّ الأندلسيّ، بكونها انزياحا عن المألوف، وتكسيرا لأفق توقّع المتلقّي وانتظاره. وكانت المدائحُ السلطانيّةُ عند لسان الدين ابن الخطيب البؤرةَ المركزيّة والتيمةَ الرئيسة للمدوّنة الشعريّة التي انتقيناها أنموذجا للدراسة والتحليل في هذه الدراسة.

فقد استهلّها الباحث بمهاد نظريّ تناول فيه دراسة إشكالية المفهوم والمصطلح، حيث حاول، في إلماعة، الوقوفَ على الجانب اللغويّ والإشكال الاصطلاحيّ للغلوّ. ثمّ مقاربةَ العتَبة العُنوانيّة للدراسة؛ وتحديدا، مفهوم (شعريّة الغلوّ). قبل أن يتطرّق في ختام هذا المهاد إلى بواعث الغلوّ عند شاعرنا الأندلسيّ، الذي عاش في عين العاصفة، ممّا أثر، بشكل أو بآخر، على إنتاجه الأدبيّ، سواء الشعريّ، وهو مناطُ هذا البحث ومادّتُه، أو النثريّ كرسائله السلطانيّة…وهذه البواعث تتوزّع بين بواعثَ ذاتيّةٍ نفسيّةٍ، وأخرى موضوعيّة راجعة إلى البيئة الحضاريّة والاجتماعيّة والثقافيّة.

وبعد هذا المهاد النظريّ، عرّج الباحث في الجانب التطبيقيّ من هذه الدراسة النقديّة، على مقاربة تحليليّة لشذرات من تمثّلات الغلوّ في المدوّنة الشعريّة الخطيبيّة التي انتقاها أنموذجا للدراسة والتحليل لضوابط منهجيّة موضوعيّة، وهي المديح السلطانيّ، والكشف عن أسراره الشعريّة وآثاره الجماليّة التي تثير، لدى المتلقّي، الانفعالَ المطلوب والانبهار المرغوب.

في الأخير، أنهى الباحث دراسته المتواضعة هذه بخاتمة عرض فيها أهمّ النتائج والخلاصات المتوصّل إليها. ثمّ ذيَّلها بقائمة للمصادر والمراجع.

الكلمات المفتاحية: الغلوّ- المدائح – السلطانيّة – ابن الخطيب- الأندلس.

Research title

The Poetics of Exaggeration in Andalusian Poetic Discourse

(Lisan al-Din Ibn al-Khatib as an example)

Dr. Youssef Raiss1

1 Regional Academy of Education and Training, Tangier-Tetouan-Hoceima Region, Kingdom of Morocco.

Email: raissyoussef2017@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(4); https://doi.org/10.53796/hnsj54/15

Published at 01/04/2024 Accepted at 22/03/2024

Abstract

This critical, analytical and applied study revolves around the poetics of exaggeration in Andalusian poetic discourse, as a departure from the familiar and a breakdown of the horizon of the recipient’s expectation and anticipation. The Sultaniya praises of San al-Din Ibn al-Khatib were the central focus and the main theme of the poetic blog that we have chosen as a model for study and analysis in this study.

The researcher began the study with a theoretical approach to the issue of concept and terminology, in which he tried to identify the linguistic aspect and the terminological issue of Ghulu. Then, the researcher approached the threshold of the study’s title, specifically the concept of the “Poetics of Ghulu”. In the end, he addresses the motives of the Andalusian poet, who lived in the eye of the storm, which influenced, in one way or another, his literary production, whether poetry, which is the focus of this research, or prose, such as his Sultaniya letters… These motives are distributed between subjective psychological motives and objective ones due to the civilised, social and cultural environment.

After this theoretical prelude, the researcher tackled an analytical approach to fragments of representations of hyperbole in the Khatibi poetic code, which he selected as a model for study and analysis according to objective methodological controls, namely the sultanic praise, to reveal its poetic secrets and aesthetic effects that evoke the desired emotion and fascination in the recipient.

Finally, the researcher ended his modest study with a conclusion in which he presented the most important findings and conclusions. It is followed by a list of sources and references.

Key Words: Al-Ghulu, Al-Madhahiya, Al-Sultaniya, Ibn Al-Khatib, Al-Andalus.

*مقدّمة:

وكان الشعرُ الأندلسيُّ ولا يزال من بين أروع ما أنتجته المخيِّلةُ الإبداعيّةُ العربيّةُ، فتضَوَّعَ عبَقُه الفوّاحُ، وأريجُه العطِرُ في رياض الإبداعِ العربيّ المتقلّبِ أطوارُه صعودا وهبوطا، ومدّا وجزرا، وتوهّجا وخُفوتا. وحارَت في تقييمه الموضوعيّ والفنّيّ الذائقةُ الأدبيّةُ والمدوّنةُ النقديّةُ والبلاغيّة.

ويبقى من بين أبرز ملامحِ الحضارةِ الأندلسيّةِ اللامعة، وتجلّيّاتها الساطعةِ الّتي أنارت دروبَ الإنسانيّة، وأثْرَت الحضارة َ العربيّةَ الإسلاميّةَ فكراً وعلماً وإبداعاً.

كان الشعرُ الأندلسيُّ ولا يزال –علاوة على قيمته الفنّيّة والجماليّة-وثيقةً تاريخيّةً مهمّةً تؤرّخ لمجدٍ إسلاميٍّ غابرٍ، تكالبت عليه لعنةُ الجغرافيا ومكرُ التاريخ، فعضّه الدهرُ بِنابه، وقلَب ظهرَ الـمِجَنّ له، فتساقط كأوراق الخريف.

وكان لسانُ الدين ابن الخطيب أحدَ أعمدة الفكر والأدب الأندلسيّين، وخاتمةَ عِقد العبقريّة الأندلسيّة، وعصارةَ نبوغها، وزبدةَ القرن الثامن الهجريَ ونخبتَه، فكان نموذجا فريدا، قلّما يجود بمثله زمان. وهذا ما حفّز الباحث أكثر في الغوص عن مكنوناته الشعريّة، والتنقيب عن درره ولآلئه الإبداعيّة.

وجاءت شعريّةُ الغلوّ في المدائح السلطانيّة عند لسان الدين ابن الخطيب البؤرةَ المركزيّة والتيمةَ الرئيسة للمدوّنة الشعريّة التي انتقاها الباحث أنموذجا للدراسة والتحليل في هذه الدراسة النقديّة التحليليّة التطبيقيّة. لأنّ الغلوَّ، في عمومه، انزياحٌ عن المألوف، وتكسيرٌ لأفق توقّع المتلقّي وانتظاره. وهو يعدُّ إشكاليّةً فلسفيّةً ونقديّة بلاغيّة قديمة /جديدة في الشعر العربيّ؛ فهي قديمةٌ قِدمَ الشعر، وجديدةٌ باقيةٌ ببقائه، ترتبط بالفنّ الإنسانيّ والإبداع الشعريّ أيُّما ارتباط حيثما وأينما وجدا.

تمتدّ جذور الغلوّ في التراث الأدبيّ العربيّ إلى الشعر الجاهليّ، إذ جاء بصورة محتشمة عند بعض الشعراء، ولم یتحوّل إلى ظاهرة طاغية إلاّ في العصر العبّاسيّ مع شعر المحدثين لدواعٍ ذاتيّة وموضوعيّة شتّى؛ حضاريّة وثقافيّة ونفسيّة. وأثار كثيراً من الجدل والسجال بين النقّاد والبلاغيّين العرب القدامى، ودار حوله صراعٌ نقديٌّ كبيرٌ بين مؤيّد ومعارض ومتحفّظ متذبذب، ولكلّ منهم منظورُه الخاصّ، وحججُه وأدّلتُه التي استند إليها في موقفه نابعةٌ من رؤيته النقديّة ومرجعيّته الثقافيّة. وهذه الإشكاليةُ تحيلنا بشكل أو بآخرَ إلى إشكالية نقديّة أخلاقيّة أخرى لا تقلّ، عنها، أهمّيّةً وشأنا، انبثقت عنها وانصهرت معها في آصرة جدليّة لا تنفصم، وهي إشكاليةُ: (الشعر بين القيمة الفنّيّة الجماليّة والقيمة الدينيّة الأخلاقيّة)، أو إشكاليةُ: (الشعر بين الصدق الفنّيّ والصدق الواقعيّ).

كما يعدّ الغلوّ ظاهرةً فنّيّة وأسلوبيّة، ترتبط في النقد العربيّ القديم بمنظومة من المصطلحات المتقاربةِ مفاهيمُها كالمبالغة والإغراق والإفراط والإيغال إلى حدّ الالتباس…استحسنها العديد من النقّاد والأدباء، واستهجنها الآخرون.

إذاً، سيتمحور الحديث، في هذه السطور، حول دراسة تحليليّة تطبيقيّة لشذراتٍ ونماذجَ من تمثّلات شعريّة الغلوّ، وبعض تجلّيات توظيفها، وماهية حضورها في مدائح لسان الدين ابن الخطيب السلطانيّة. والحديثُ، هنا، ليس عن مبالغات فيها فنّيّةُ شعر، وتخييل، وما أكثرَها في هذا الغرض من الخطاب الشعريّ الخطيبيّ، ولكنّ الحديث سينصبّ على الإفراط في المبالغة والغلوّ إلى درجة الإحالة.

لم يكن اختيار هذا الموضوع اعتباطيّاً، بل تمّ لدواعٍ موضوعيّة، منها أنّ أغلبَ الدراسات التي تناولت الغلوّ بكونه ظاهرةً أدبيّةً وفنّيّةً في الشعر اتّجهت إلى نصوص مشرقيّة عباسيّة لشعراءَ محدثين كأبي تمّام والمتنبّي. وقلّما يُلتفَت، في مثل هذه الدراسات، نحو نصوص مغربيّة أندلسيّة، ما عدا التفاتاتٍ قلائلَ متناثرةٍ هنا وهناك، احتلّت مدائحُ ابنِ هانئٍ الأندلسيّ (متنبّي الغرب) لمعزّ الدين الفاطميّ القِدْحَ المُعَلّى منها. فلهذا ارتأى الباحث أن يُيمّمَ وجهته شطر الغرب الإسلاميّ، ويصوّب بوصلةَ دراسته هذه نحو نصّ شعريّ أندلسيّ من نصوص القرن الثامن الهجريّ، لشخصيّة موسوعيّة أثارت كثيرا من الجدل النقديّ والسجال التاريخيّ قديما وحديثا، وطبّق صِيتها الآفاق، وذاع صداها حتّى ناطح عَنان السماء، وقد وصف شيخُ المستعربين الإسبانِ (إميليو غارثيا غوميث) صاحبَها بالكاتب المكثر، والأديب البليغ، والمؤرّخ، والشاعر الذي قُـدِّرَ له أن يختم حولياتِ الأندلس المجيدةِ أقوى ختام وأعظمه في النفس وقعا.

وفضلا عن ذلك، فإنّ لسانَ الدين ابنَ الخطيب -المحتفى به في هذه الدراسة-كان من أكبر ضحايا المكائد السياسيّة والتطرّف الفكريّ والغلوّ الدينيّ في عصره، فقد اتّهم في أواخر حياته بالزندقة والإلحاد في عقيدته، فأحرقت مصنّفاتُه، وضاعت، بذلك، مجموعةٌ من نفائسه الفكريّة، وكما أُصدر في حقّه حكمُ الإعدام، فسجن بفاس وقتل غيلة، وأخرجت جثّته من القبر بعد دفنها وأحرقت بالنار، ثمّ أعيدت إلى حفرتها، وكان ذلك انتهاءَ محنته، وذلك في عامَ 776هـ.

ومن هذه البؤرة جاء اختيار الباحث للموضوع، وجعله يتساءل:

– ما مفهوم الغلوّ؟ وماذا يقصد ب(شعريّة الغلوّ)؟

– ماهي أسبابه عند لسان الدين ابن الخطيب؟

– وفيمَ تمثّلت شعريّة الغلوّ في الخطاب الشعريّ عند لسان الدين ابن الخطيب، أو ماهي تمثّلات الغلوّ في المدوّنة الشعريّة الخطيبيّة؟

أمّا المنهج المتّبع في هذه الدراسة، فإنّ الباحث تبنّى مقاربة منهجيّة تكامليّة تواشُجيّة تتّكىء على آليات الوصف، والاستقراء، والتحليل، وتمزج، في توليفة نسَقيّة وظيفيّة متناغمة، بين المنهج التاريخيّ، خاصّة في الشقّ النظريّ من الدراسة، والمنهج الوصفيّ التحليليّ في الشقّ التطبيقيّ الإجرائيّ منها.

ووَفقاً لمقتضيات الموضوع وطبيعته، فقد ارتأى الباحث أن يستند، في دراسته هذه، على خطّة عمل انتظمت في مقدّمة، ومهاد نظريّ، وقسم تطبيقيّ إجرائيّ، وخاتمة.

فقبل الولوج إلى متن الموضوع، لا بدّ من فرش نظريّ وإطار مفاهيميّ يتناول الجوانب المحيطة والحافّة بالموضوع الأساس، لأنّ قراءةَ النصوص الشعريّة، لا سيّما التراثيّة منها، وَفق رؤية سياقيّة (سياق تاريخيّ)، خطوةٌ تنظيميّةٌ منهجيّةٌ مهمّةٌ في تحليلها ومقاربة إشكالاتها، وفكّ شفراتها النصّيّة، والبوْح ببواطنها وخباياها. فالنصّ، حسب (لوي ألتوسير)، الذي لا يلتفت إلى سياقه، يشجّ رأسه من دون أن يدري… وفي هذا الصدد، فقد تناول الباحث، هنا، أوّلاً: -دراسة إشكالية المفهوم والمصطلح، وحاول الباحث، في إلماعة، الوقوفَ على الجانب اللغويّ والإشكال الاصطلاحيّ للغلوّ. ثمّ مقاربةَ العتَبة العنوانيّة للدراسة؛ وتحديدا، مفهوم (شعريّة الغلوّ).

ثانيّاً: – بواعث الغلوّ عند لسان الدين ابن الخطيب، وهي تتوزّع بين بواعثَ ذاتيّةٍ نفسيّةٍ، وأخرى موضوعيّة راجعة إلى البيئة الحضاريّة والاجتماعيّة والثقافيّة.

وبعد هذا المهاد النظريّ، عرّج الباحث في الجانب التطبيقيّ من هذه الدراسة النقديّة على مقاربة تحليليّة لشذرات من تمثّلات الغلوّ في المدوّنة الشعريّة الخطيبيّة التي انتقاها أنموذجا للدراسة والتحليل لضوابط منهجيّة موضوعيّة، وهي المديح السلطانيّ. والكشف عن أسراره الشعريّة وآثاره الجماليّة التي تثير، لدى المتلقّي، الانفعالَ المطلوب والانبهار المرغوب.

في الختام، خلصت الدراسة إلى عرض أهمّ النتائج والخلاصات المتوصّل إليها.

*مهاد نظريٌّ:

1)- إشكاليّة المفهوم والمصطلح:

أجمع اللغويّون على أنّ الغلوّ هو: التجاوز عن الحدّ والخروج عن القصد، أو «ارتفاع الشئ ومجاوزة الحدّ فيه»[1]، كما ورد في (جمهرة اللغة). وفي (لسان العرب): «ویقال: غالیتُ صداق المرأة أي أغلَیته، ومنه قول عمرَ (رضي الله عنه): لا تُغالوا صُدُقات النساء…وفي روایة: في صَدُقاتهنّ، أي لا تبالغوا في كثرة الصداق، وأصل الغلاء الارتفاع ومجاوزة القدر في كلّ شيء…وغلا في الدين والأمر يغلو غلوّا: جاوز حدَّه، وفي التنزيل: لا تَغْلوا في دينكم…وقال بعضُهم: غلوتُ في الأمر غلوّا وغلانیَةً وغلانیَا إذا جاوزتُ فیه الحدّ وأفرطت فیه…وغلا السهمُ: ارتفع في ذهابه وجاوز المدى…»[2]. وجاء في (محیط المحیط): «والغلوّ في الأصل مجاوزة الحدّ وباقي المعاني متفرّعة منه».[3] إذاً، فالمعنى اللغويّ لا يخرج عن الزيادة والارتفاع ومجاوزة القدر الطبيعيّ أو الحدّ المعتاد.

أمّا اصطلاحاً، فإنّه في عمومه لا يخرج عن هذا المعنى اللغويّ المحدّد سلفا، وهذا ما يتّفق مع تعريف أبي هلال العسكريّ (ت. 395هـ): «الغلوّ تجاوزُ حدِّ المعنى إلى غاية لا يكاد يبلغها، كقول الله تعالى: “وبلغتِ القلوبُ الحناجر”…»[4]. وقد اجتهد علماء النقد والبلاغة في وضع تعريف جامع مانع له إلاّ أنّهم لم يفلحوا، نظرا لاختلافهم في تحديد المعيار أو (حدّ المعنى) الذي لا يُتجاوز في الغلوّ، فتباينت التعاريفُ، وتداخلتِ المفاهيمُ والتبست إلى درجة الاضطراب والتشويش. وسنستعرض في هذا المقام شذراتٍ منها؛ فابن المعتزّ (ت. 296هـ) مثلا، لم يُعط تعريفا محدّدا للظاهرة، وإنّما اكتفى بعرض جملة من النماذج الشعريّة، خاصّة في الهجاء الساخر لما سمّاه (الإفراط في الصفة)، وعدّها من محاسن الكلام والشعر[5]. كقول أحدهم في كُثَيٍّر وكان قصيرا[6]:

قصيرُ القميص فاحشٌ عند بيته يعَضُّ القرادُ بِاسْتـــــــــه وهْو قائمُ

وهذه الصورة لا تكاد تقع، بل هي مستحیلةُ الحدوث، فالإفراط في الصفة عند ابن المعتزّ درجات؛ فمنه ممكنُ الحدوث لكنّه نادرٌ نوعا ما، ومنه ما لا یكون ممكنا عادةً ولا عقلا.

أمّا قُدامة بن جعفر (ت. 733هـ)، فیبدو تعریفه مفصّلا وواضحا أكثر، وإن كان قد أضاف مصطلحاتٍ أخرى متقاربةً زادت الأمرَ تعقيدا وضبابيّة من مبالغة، واستحالة، وتناقض، وامتناع، وحاول وضعَ فروق بینها، فالغلوُّ، عنده، هو: «تجاوز في نعت ما للشيء أن یكون علیه، ولیس خارجا عن طباعه إلى ما یجوز أن یقع له»[7]. وكما بيّن الغاية المرجوّة منه في قوله: «وكلّ فریق إذا أتى من المبالغة والغلوّ بما یخرج عن الموجود ویدخل في باب المعدوم فإنّما یرید به المثلَ وبلوغ النهاية في النعت»[8]. إذاً، فغایة الغلوّ، عند قدامة، الوصولُ إلى أبعد نقطة ممكنة في الوصف ومنتهاه، لأنّ أحسنَ الشعر أكذبُه كما يقول.

والمفهومُ نفسُه بلفظه، نجده عند أبي عليّ الحاتمي (ت. 388هـ) في قوله: «إذا أتى الشاعرُ من الغلوّ بما یخرج عن الموجود ویدخل في باب المعدوم فإنّما یرید به المثلَ وبلوغ الغاية في النعت»[9]. حيث يعدّ أنّ الزيادةَ والتجاوز المعقول والغلوّ في الشعر يكون بغرض الوصف، وقد احتجّ بقول النابغة الذبيانيّ: «وقد سئل من أشعر الناس، فقال: من استُجيدَ كذبُه وأَضحك رديئه»[10].

وعندما یتناول القاضي الجرجانيُّ (ت. 239هـ) ظاهرة الغلوّ في كتابه (الوساطة)، فإنّه لا یذكر المصطلح بلفظه وإنّما یستخدم باقي المصطلحات: «فأمّا الإفراطُ فمذهبٌ عامٌّ في المحدثین، وموجودٌ كثیرٌ في الأوائل، والناسُ فیه مختلفون، فمستحسنٌ قابلٌ، ومستقبحٌ رادٌّ، وله رسومٌ متى وقف الشاعر عندها، ولم یتجاوزِ الوصفُ حدَّها جمع بین القصد والاستیفاء، وسلم من النقص والاعتداء، فإذا تجاوزها اتّسعت له الغايةُ، وأدّته الحالُ إلى الإحالة، وإنّما الإحالةُ نتيجة الإفراط، وشعبةٌ من الإغراق، والبابُ واحدٌ، ولكنّ له دَرَجٌ ومراتب»[11]. فالجرجانيّ، هنا، لم یقدّم تعریفا محدّدا للغلوّ، إذ لم يفرّق بينه وبين الإغراق، وإنّما یتحدّث عنه بكونه ظاهرةً فنّيّةً عامّةً لا تحتاج إلى تحديد، شائعة بين المحدثین، وموجودة عند القدامى، والناسُ حِيالها منشطرٌ بين مستحسنٍ ومستقبح.

وهذا الخلطُ بين المفاهيم، نجده عند أكثر من ناقد وبلاغيّ، حتّى كاد أن يكون ظاهرة في التراث الأدبيّ العربيّ، فابنُ رشیق القیروانيّ (ت. 456هـ)، مثلا، نُلفيه في (عمدته) يُفرد بابا خاصّا بالغلوّ، إلاّ أنّه لم يفرّق بينه وبين الإفراط والإغراق، بل جعلها مترادفاتٍ، وعدّه محالا لمخالفته الحقیقة، وخروجه عن الواجب والمتعارف[12].

والأمرُ نفسُه، نُلفيه يتكرّر عند حازم القرطاجَنيّ (ت.684 هـ)، فالغلوُّ والإفراطُ، عنده، مترادفان، وقد عرّف الإفراطَ بقوله: «هو أن یغلوَ في الصفة فیخرج بها عن حدّ الإمكان إلى الامتناع والاستحالة»[13]. وفرّق بين الممتنع والمستحيل، محدّدا ماهيةَ الأوّل منهما بقوله: «هو ما لا یقع في الوجود وإن كان متصوَّرا في الذهن، كتركیب یدِ أسد على رجل مثلا»[14]، أمّا المستحيل في نظره فهو: «ما لا یصحّ وقوعُه في وجود، ولا تصوّرُه في ذهن ككون الإنسان قائما قاعدا في حال واحدة»[15].

والخطیب القزوینيّ (ت. 739ھ) في (إيضاحه) لم يكن بِدعا عن سابقَيْه، فهو جعل المبالغةَ هي الأصلُ وتتفرّع منها باقي المفاهيم الأخرى، وهي التبليغُ والإغراق والغلوّ، وجعل الغلوَّ المستوى الأخيرَ الذي يمكن أن تصل إليه المبالغةُ، أي الحدّ المستحيل أو المستبعد[16].

وهكذا، وقع اضطرابٌ وتداخلٌ والتباسٌ في تحديد دقيق لماهية الغلوّ، ممّا أدّى إلى بروز إشكالية المصطلح والمفهوم. ويعزى هذا التكَوْثُرُ المصطلحيُّ إلى تقاربٍ في المفاهيم التي أُطلِقت على الظاهرة وتُدُووِلَت بشكل يصعب معه الفصلُ الدقيقُ فيما بينها، كالمبالغة، والإفراط، والتبلیغ، والإغراق، والإحالة… ممّا أدّى في الكثير من الأحيان إلى خلط أو تداخل في الأحكام النقديّة. فهو، إذاً، ليس مفهوما دقيقا محدّدا، بل مفهوماً هُلاميّا مائعا يخضع لعدّة عواملَ لتحديده، منها مرجعيّةُ البلاغيّ الثقافيّة، ورؤيتُه النقديّة والفكريّة وبيئتُه الاجتماعيّة، علما أنّ هذه المفاهيمَ تترادَف لغويّا.

2)-مفهوم شعريّة الغلوّ:

ونقصد، بهذا المفهوم التركيبيّ، ذلك السيماءَ الجماليَّ، الذي يتركه الشاعرُ المبدعُ في رُوع المتلقّي، والملمحَ الانفعاليّ الذي يهزّ كيانه ويرُجّ كوامنَه، حينما يجنح بإبداعه الشعريّ عن حدود الممكن، ويحلّق به في عوالم الخيال المجنّح، وسُدُم المستحيل. والمفارقةُ الغريبة أنّ هذا الغلوَّ والجنوحَ عن المعتاد يزيد النصّ الشعريّ رونقا وبهاءً، ويضفي عليه نضارة وماءً، لأنّه أقربُ إلى إشباع التخيّل الشعريّ من الصدق التعبيريّ. فهو يشكّل عند المتلقّي عنصرَ مفاجأة وتشويق يكسّر أفق انتظاره بالإتيان بالمغاير اللامتوقّع، الذي يستبدّ بمخيّلته، ويثير فيها الانفعال المطلوب، والانبهار المرغوب. فالشاعرُ المبدعُ الأصيلُ هو الذي يملك أقصى مستويات الحساسية الجماليّة، ويمنح الأشياءَ خصوصيّةً غيرَ مألوفة في شكلها الحسّيّ الواقعيّ، ليضفيَ على نصوصه الإبداعيّة فرادةً مبتكرةً في طرائق تشكيلها وصورها الشعريّة. ممّا يخلق في مشاعر متلقّيها ودواخله متعة فنّيّة ولذّة جماليّة. ولولا هذا الغلوّ المثيرُ لكثير من الجدل لفقد الشعرُ روحَه وجوهره، وتميّزَه الفنّيَّ وتفرّدَه الإبداعيّ، إن لم نقل هويّتَه الأجناسيّةَ الشعريّة. وسقط في الاجترار الممجوج، والتقريريّة المستهجنة. ولولاه لما عرف الناسُ حكيمَ الشعراء، وشاعر الحكماء، ربّ القصائد في بني حمدان، كما سمّاه ابن الخطيب في إحدى فخريّاته الذاتيّة، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس؛ المتنبّي. ولما خلّد التاريخ الأدبيُّ العربيُّ على صفحاته الطوال اسمَ (ابن هانئ الأندلسيّ)؛ متنبّي الغرب، صاحب البيت الذائع الصيت، الذي أثار كثيرا من الجدل واللغَط بين الدرس الفقهيّ والنقّد الأدبيّ؛ وهو[17]:

ما شِئْتَ لا ما شاءتِ الأقْدارُ *** فاحكُم فأنت الْواحدُ القهّارُ.

3)-بواعث الغلوّ عند لسان الدين ابن الخطيب:

وهذه البواعثُ تتوزّع بين بواعثَ ذاتيّةٍ نفسيّةٍ، وأخرى موضوعيّةٍ راجعةٍ إلى البيئة الحضاريّة والاجتماعيّة والثقافيّة.

بواعث ذاتيّةٌ نفسيّةٌ: وليس بِخافٍ أنّ الفنّ عامّة، ومنه الشعرُ، ليس إلاّ استجابة – في مجمله – لدوافعَ خارجيّةٍ وداخليّة تقتضيها البيئةُ التي يعيش فيها صاحب هذا الشعر، وهكذا، وبما أنّ الأديبَ أو الشاعرَ إنسانٌ؛ و(الإنسانُ ابن بيئته) فإنّه يتأثّر بما يتأثّر به الإنسان عموما من عوامل بيئته، وظروف زمنه، وبل يتأثّر بصورة أعمق، وحساسيّة أقوى، بحكم رهافة أحاسيسه ورقّة مشاعره، فيأتي إبداعُه الفنيُّ أو الشعريّ، بشكل أو بآخر، انعكاساً لما يراه ويعايشه في تلك البيئة، أو تعبيرا بما يجيش في نفسه تُجاهها، وما يعتمل في فكره، مؤثّراً فيها ومتأثّراً بها. وفي ضوء هذا، نستطيع القولَ، بأنّ هناك آصرةٌ علاقيّةٌ جدليّةٌ أنطولوجيّةٌ بين الشعر والفنّ عموما وبين سياقه وواقعه الذي أنتجه، علاقةُ تأثيرٍ وتأثّر، وصلةُ أخذٍ وعطاء.

وابنُ الخطيب لم ينجُ من هذا القانونِ الحتميّ، فهو لم يكن نسيجَ وحدِه، بل كان نسيجَ تلك الحركيّة الثقافيّة والفكريّة الناضجة في عصره، فتأثّر بها وأثّر فيها؛ من حيث تكوينُه النفسيُّ والثقافيّ الذي استمدّه من معطيات عصره، وتفاعلُه مع أحداثه السياسيّة والاقتصاديّة، والعلميّة والأدبيّة، فقد كان وزيرا وسفيرا، كما كان فيلسوفا ومؤرّخا، وشاعرا وكاتبا، وطبيبا ومتصوّفا، وسياسيّا محنّكا…

وهو أشهرُ من نارٍ على علَم، وقد تناولته كثيرٌ من الأقلام، قديما وحديثا، شرقا وغربا، دراسة وتمحيصا ونقدا.

نشأ داخل أسرة علميّة أرستقراطيّة بغرناطة، التي كانت يومَها أعظمَ مركزٍ علميّ في الغرب الإسلاميّ، ومجمعَ جمهرةٍ من جهابذة العلماء والأدباء، فتَتَلْمَذَ على أيدي كثير منهم. وترعرع داخل القصور، فخَبِر السياسةَ وخباياها، وتلقّى الآداب السلطانيّة منذ نعومة أظافره، إذ وفّر له منصبُ والده عبدِ الله فرصةَ الاطّلاع على خبايا القصور ودهاليزها، وإدارة الشؤون، وتدبير الأمور. فسطع نجمُه مبكّرا ولم تعد فضاءات غرناطة الفيحاء تستوعبه. فعاش حياةً مخمليّةً في صفاء ودَعة، وتقلّب في أطوار النعيم والحُظوة كما شاء، إلاّ أنّ دوامَ الحال من المحال، إذ سرعان ما قلب له الدهرُ ظهرَ المجنّ، وتكالبت عليه المحَنُ والمآسي، ممّا أثرّ على نفسيّته، وانعكس على شعره في أواخر حياته، وطبَعه بنغمة رثائيّة، وجعله ينزع منزَعا صوفيّا يفيض حزنا وأسىً، وقد وصل به الأمرُ إلى حدّ رثاء نفسه، ممّا يذكّرنا بمرثيّة من عيون الشعر العربيّ؛ إنهّا مرثيّة (مالك بن الريْب التميميّ) (ت. 60 هـ)، والتي أنشدها يَرثي بها نفسه قبيل وفاته، وهي قصيدة تجسّد تجربة إنسانيّة فريدة، تنوس بين محاولة البقاء ومنازلة الفناء.

ومن الطبْعيّ جدّا، أن تنعكس هذه التقلّباتُ التي مرّ بها ابنُ الخطيب في أطوار حياته، والمفارقاتُ الحياتيّة التي طحنت رحاها دواخله، والصراعاتُ النفسيّة التي اكتوى بشواظها على شعره. وتضميدا لآلامِ نفسه المكلومة، وإرضاءً للأنا المتضخّمة المتعالية وشخصيّته النرجسيّة المتقلّبة، ومواكبةً لبعض مظاهر الغلوّ الفكريّ والتطرّف الدينيّ والسياسيّ السائدة في عصره، نُلفيه يجنح في بنائه الشعريّ إلى أسلوب الغلوّ، بكونه تجاوزا أسمى لمستويات التعبير، ويتّخذُه متنفّسا نفسيّا وفنّيّا، ومعادلا موضوعيّا لمعاناته النفسيّة التي تمزّق نياط فؤاده.

فضلا عن ذلك، كان ابنُ الخطيب بفضل مكانته الاجتماعيّة الوجيهة ووظيفته السياسيّة المرموقة في الدولة مدّاحا وممدوحا؛ أي يَمدح ويُمدح، فلهذا نراه يزاوج كثيرا بين المدح السلطاني والفخر الذاتيّ، ويحبّ أن يبالغ ويغلوَ بكلّ درجات الغلوّ في مدح الممدوح، والذي، في الأغلب، يكون سلطانَه ووليَّ نعمته، مُضفيّا عليه جملةً من الصفات والصور المثاليّة، محاولاً ربطَها بشخصه النرجسيّة، وجعْل كلٍّ منهما رمزاً للبطولة والوفاء والكرم، فبقدر ما يكون فخرُ الشاعر متميّزا بذاته ولذاته، من حيث هو ضربٌ من التعالي، يأتي الغلوُّ الذي يعمد إليه الشاعرُ أساساً في هذا البناء. وإنّ شعريّة الفخر تعتمد في الغالب على اللعب الشعريّ بصيغ المبالغة ودرجاتها المتنوّعة[18].

إضافةً إلى هذا وذاك، كان نظْمُ الشعر عند ابن الخطيب، في أحايين كثيرة، استجابةً لدوافعَ خارجيّةٍ وليست وجدانيّةً ذاتيّة، فيُنشِده تحت وطأة الواجب السياسيّ، والالتزام بالخدمة السلطانيّة، وبذلك يصير الشعرُ شعرَ خدمة أو مهنةً شريفة تحكمه بروتوكولاتُ المراسيم السلطانيّة، وآدابُ التعليمات المولويّة السامية (أمرني، كلّفني، اقترح عليّ…) وهذا ما يمكن أن نسمّيه ب(أدب المرايا) أو (أدب مرايا الأمراء)[19]، فكان لزاما أن يلجأ الشاعرُ إلى الغلوّ للوصول بالمعنى الشعريّ إلى أقصى مستوياته إرضاءً لسلطانه الممدوح، وتملّقا له، وإبرازا لكفاءته النظميّة وقدرته الإبداعيّة المتعدّدة وإمكانياته التعبيريّة المتجدّدة.

بواعث اجتماعيّة وثقافيّة: انمازتِ البيئةُ الأندلسيّةُ بروعة بيئتها الطبيعيّة، وفخامة طبيعتها الصناعيّة. وكان للتفاعل الإيجابيّ للشاعر الأندلسيّ مع هذه المناظر الطبيعيّة والتجلّيات الحضاريّة أثرٌ واضح في تطوّر سيرورة الشعر الأندلسيّ وتميّزه، بحيث وجد في تلك الأماكنِ جمالا وروعة سَبت لبَّه، وألفةً وأُنسا ملكت كيانه، فتعانق معها وأفرغ فيها مشاعرَ الحبّ وألهمته شعرَ التغنّي يفيض عذوبة وسحرا، حتّى غدا المنظرُ الطبيعيُّ «كالقاعدة أو (العاملِ الكيميائيّ المساعد) في القصيدة الأندلسيّة، فهو فاتحةُ القصيدة أو أساسٌ بنوا عليه موضوعَ الخمر أو موضوع الحب»[20]، أو غيرَه من المواضيع الفنّيّة الأخرى.

فضلاً عن ذلك، كان لانصهار المجتمع الأندلسيّ بمختلف أطيافه الاثنيّة والثقافيّة وتفاعله في بوتقة حضاريّة واحدة، تتقاسم هموما مشتركة بثِقْل الجبال الشوامخ وطولها، والتلاقح الحضاريّ والانفتاح الثقافيّ مع غيرهم من الأمم والأجناس الأخرى نصيبٌ أوفرُ في تغيّر العقليّة العربيّة وتحضرّها، وفي الازدهار الفكريّ والأدبيّ بالأندلس، فتبلوَرت أساليبٌ جديدةٌ في التعبير والإبداع مواكبة لهذه التغيّرات. وكان الغلوُّ أحدَ أساليب التجديد هذه التي جنح إليها الشعراءُ رغبةً منهم في الوصول بالمعنى إلى أعلى غاية، وأقصى درجة لإظهار الفاعليّة المعنويّة والنفسيّة في تفاعلهم مع بيئتهم الحضاريّة المترفة، والتعبيرِ عن تجاربهم الشعريّة والشعوريّة بعد أن طغى التَّكرار والاجترار في المعنى والصياغة. فعمِل الشاعرُ كلّ ما في وسعه من أجل إرضاء ممدوحه السلطانيّ، والتملُّق له، أو إبرازِ الأنا النرجسيّة، خاصّة أنّ كثيرا من الشعراء كانوا يتبوِّؤون مناصب قياديّةً في الدولة النصريّة، فمنهم السلاطينُ، كمحمّد الثاني الملقّب بالفقيه، وأبي عبد الله محمّد الثالث، والملك يوسف الثالث، الذي له ديوانُ شعر احتوى على معظم أغراض الشعر العربيّ من مديح وفخر وغير ذلك من الأغراض الأخرى، ومنهم الوزراءُ كما هو الشأن مع ابن الخطيب، وتلميذِه ابنِ زَمْرَكَ من بعده وغيرهم.

* شذراتٌ من تمثّلات شعريّة الغلوّ في الخطاب الشعريّ عند لسان الدين ابن الخطيب:

لقد استطاع لسانُ الدين ابنُ الخطيب بعبقريّته الفكريّة والثقافيّة وموهبته الأدبيّة أن يمتلك ناصيةَ اللغة؛ شعرا ونثرا، واستطاع أن يطوّعها كيفما شاء، وأن يحوزَ مفاتيحَ الشعر السحريّة حتّى وصفه (آنخل جنثالث بالنثيا) بأنّه «أكبرُ شعراء العصر الغرناطيّ، وأعظمُ شعرائه»[21] الذي استطاع أن يختم حولياتِ الأندلس المجيدةِ أقوى ختام. طرق في ديوانه كلّ أبواب الشعر الكلاسيكيّة النمطيّة المعروفة، وفنونه المعهودة، غير أنّها تتفاوت فيه من حيث الكمُّ ونسبةُ التواتر، وطولُ النفَس الشعريّ، وهذا شيء طبْعيٌّ، وأمرٌ بدَهيّ، ولعلّ أهمَّ غرض يقابلُنا في ديوانه المديحُ، الذي نال الحظَّ الأوفرَ فيه، إذ إنّ ثلثَيْ الديوان، تقريبا، كان عبارةً عن مدائحَ أنشدها ابنُ الخطيب على فترات مختلفة ولشخصيّات عدّة، وفي مستويات شتّى؛ الدينيّة والعلميّة والسياسيّة، ولعلّ أبرزَها شخصيةُ السلطان (أبي الحجّاج يوسف الأوّل النصريِّ) (733هـ-755هـ) الذي «ملأ الدنيا بمدائحه، وانتشرت في الآفاق»[22] بإحدى وخمسين مدحةً. واتّسم هذا الغرضُ بسمات واضحةِ الاختلاف عن غيره من سائر الأغراض الأخرى في ديوانه، إذ نلحظ ظاهرةَ الاستطراد والغلوّ في التعبير عن المعاني المدحيّة والمناقب التي خصّ بها ممدوحيه، ولاسيما السلاطين النصريّين، كما طغت سمةُ الغلوّ على صوره الشعريّة وأثّرت فيه بشكل كبير، فشاعرُنا أدرك أهمّيّتَها في فنون القول، فراح ينسج صورا مغرقة في الغلوّ والتخييل، هي أقربُ إلى المستحيل، لكنّها تميّزت بالجمال الفنّيّ وجودة الصنعة الشعريّة.

يقول لسان الدين ابن الخطيب مادحا السلطانَ[23]:

وَأنشَأتَ فِي أُ فْقِ الْعلا، سُحُبَ الندَى وَسَقَيْتَ رَوْضَ الْمَجدِ، فَهْوَ مُــفَوَّفُ

وَجَمَّعتَ أسباطَ الْمــــــــــــــــكَارِمِ، والعــــــلَى وَنادَيتَ لا تثرِيبَ، إذ أنتَ (يوسُفُ)

لقد رسم الشاعر صورة شعريّة بديعة لممدوحه، حيث جمع فيه كلّ أسباط المكارم والرفعة والسماحة. مشبّها إيّاه بنبيّ الله (يوسفَ)، عليه السلام، ليزيد من قيمة مكارم خلقه، وشرف سؤدده، وذروة سخائه. وهي صورةٌ مثاليّةٌ للسموّ والرفعة، ترتقي بأصحابها إلى درجة باسقة في الشيَم والمكارم، عزّ وجودُها في الواقع كما هي، هنا، في القصيدة، بل يستحيلُ لأنّ الشاعر قد تجاوز، في مدحه، مستوياتِ الممكن العقَديّ حتّى وصل به إلى درجة التشبيه بالأنبياء الأخيار والمرسلين الأبرار. وفي عجُز البيت الثاني تضمينٌ جزئيٌّ من الآية الكريمة: «لَا َتَثْريبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِين»[24].

ونلحظ، أنّ الشاعرَ، في أحايينَ كثيرةٍ، يشبّه ممدوحيه السلاطين بأولي العزم من الرسل؛ كنبيّ الله (نوح)، و(موسى)، و(عيسى) سلامُ الله عليهم جميعا. كما هو الشأنُ هنا، إذ يقول مادحا السلطانَ (أبا حمّو)[25]:

هَيهاتَ لَا تُغنِي لـــــــــــعَلّ، ولَا عَســــــــــى فِي مِثلِهَا، إلاّ لِآيةِ (عِيـــــــــــسَى)

(…) وإذا طغى (فرْعونُه)، فأنا الذي مِن ضُرّه وأذاهُ، عُذتُ (بموسى)

وفي سبيل إضفاء هالة من التعظيم على مدح السلطان، والتمجيد لدولته، فقد توسّل الشاعرُ، في هذا النصّ، بشخصياتٍ دينيّةٍ استثنائيةٍ تمثّلُ الطابو المقدّسَ والمثالَ الخارقَ في ذهن المتلقّي، حتّى يتّخذَ الخطابُ الشعريُّ سمتَه التواصليّة-الإفهاميّة، وغايتَه التعبيريّة-الجماليّة القصوى. فنُلْفيه، أوّلاً، قد استحضر شخصيّة نبيّ الله وكلمته (عيسى بن مريم) عليه السلامُ، واستلهم من قصّته معجزاتِه التي أخرست الألسن، وأبهرتِ الأنام، وكانت نمطا خاصّا من المعجزات، إذ كان عليه السلام يخلق من الطين تمثالا كهيئة الطير، فينفخ فيه فيصير طائرا بإذنه تعالى، ويحيي الموتى…[26] وكما نلاحظ، هنا، أنّه قد بالغ وغلا في مدحه للسلطانِ (أبي حمّو) حتّى زعم بأنّه لديه معجزاتٌ كالتي عند النبيّ (عيسى) عليه السلامُ. وهذا أمرٌ فيه تطرّفٌ وغلوٌّ؛ لأنّ هذه المعجزاتِ الربّانيّةَ قد خصّ الله تعالى بها نبيَّه (عيسى) وحده فحسب. ثمّ نراه، مرّةً أخرى، يشبّه ممدوحَه بنبيّ الله وكليمه (موسى)، عليه السلام، في القوّة النفسيّة والبدنيّة وعزّة النفس؛ فإذا كان عدوُّ الشاعرِ فرعونَ بجبروته وسطوته، فإنّ الممدوحَ، هذا، هو (موسى) النبيُّ عليه السلام الذي يعوذ به المرء من الجَور والطغيان. وفي تشبيه القادة بأنبياء الله الأبرار والمرسلين المعصومين الأطهار غلوٌّ لا يستقيم عادةً وعرفا. لأنّ الأنبياءَ والرسل هم صفوة الخَلق الإنسانيّ، ونماذجُ الكمال البشريّ خَلْقا وخُلُقا.

يقول ابن الخطيب مادحا السلطانَ النصريَّ (أبا الحجّاج) بأسلوب صوفيّ[27]:

هَبَّ النَّسِيمُ مُعَــــــــــطَّرَ الأراجِ
وَافَى يُحَدِّثُ عَنْ أَحِــــــــــــــــــبَّتِيَ الْأُلَى
فَاشْرَبْ عَلَى ذِكْـــــــــرِ الْحَبيبِ وَسَقِّنِي
مِنْ خَمْرَةِ السِّرِّ الْمُقَدِّسَةِ الَّتِي
وَأَرَتْ لَهُ الْأَشْيَاءَ شَيْئًا وَاحِدًا
ورأى (ابنُ أدهمَ) لمحةً من نورها
فغدا، ومن صوف الصفاء شعارُه
(…) وَجَلَا عَلَيَّ الرَّاحَ فِي أَكْوَاسِهَا
فَتَرَى زُجَاجَتَهَا بِغَيْرِ مُدَامَةٍ
فَشَفَى لَوَاعِجَ قَلْبِي الْمُهْتَــــــــــــــــــاجِ
أَصْبَحْتُ أَكْنِي عَنهُمُ، وَأُحَــــــــــــــــاجِي
صَهْبَاءَ تُشْرِقُ فِي الــــــــــظَّلَامِ الدَّاجِي
كَلِفَتْ بِطاسَتِهَا يَدُ (الْحَلَاَّجِ)
فَغَدَا يُخَاطِبُ نَفْسهُ وَيُنَاجِي
تلْتاحُ بين مخارمٍ، وفجاج
واعْتاضَه من لِبْسة الديباج
فَشَرِبْتُهَا صِرْفًا بِغَيْرِ مِزَاجِ
وَتَرَى مُدَامَتَهَا بِغَيْرِ زُجَاجِ

تنصّ العتبة النصّيّة الديباجيّة؛ عتبة الاستهلال الداخليّ -حسب (جيرار جِنيت) (G.Genette)- للنّصّ الشعريّ، الذي بين أيدينا، على أنّ السلطانَ النصريَّ (أبا الحجّاج) قد تشيّع للصوفيّة والفقراء وأحضرهم مجالسه، وأظهر الميل إليهم، وأمر الشاعرَ (ابنَ الخطيب) بالنظم في طريقهم. فالنصُّ، إذاً، لم يكن نابعا عن فكرٍ أصيلٍ، أو تجربة وجدانيّةً ذاتيّة طرِبها الشاعرُ أو كابدها، وإنّما كان استجابةً لدوافعَ خارجيّةٍ، إذ أنشده تحت وطأة الواجب السلطانيّ، والالتزام بخدمة الأعتاب المولويّة، وهذا ما يمكن أن نسمّيه بـ (أدب المرايا) أو (أدب مرايا الأمراء). وهكذا، يجد المتلقّي نفسه، في هذا النَّصّ، أمامَ لحظةٍ صوفيّة لغويّة فحسب؛ حيث تكلّف السلطانُ الزهد والتصوّف، وجاراه في تكلّفه، هذا، الشَّاعرُ، إذ نُلفيه يتصنّع التصوّف الفلسفيّ، وما يتضّمنه من مقولات صوفيّة وفلسفيّة، وشطحات فكريّة ورمزيّة.

فابنُ الخطيب، هنا، يجسّد الصورة الشعريّة بكلّ حمولاتها الدلاليّة والنفسيّة، ويمتاح لغة نصّه من المعجم الصوفيّ الغارق في الرمزيّة التجريديّة والإبهام، فهو يعبّر عن مدحه لممدوحه السلطانيّ بتعبيرات غزليّة حسّيّة، استعارها من الغزل وتباريحه، والخمر ومجالسه… إلاّ أنّ الحبيبَ، هنا، ليس امرأةً فاتنةً، ولا الـمُدامة خمرا معتّقا، ولا السّكْرَ سكْرَ الخمرة، وإنمّا هي كلماتٌ ورموزٌ خرجت عن دلالاتها الحسّيّة إلى دلالات رمزيّة مبهمة. كأنّنا أمامَ معشوقٍ من نوع خاص؛ معشوقٍ إلهيّ، ولسنا أمامَ كائن آدميّ، ومخلوق إنسيّ أصاب شَغاف قلب الشَّاعر صبابة وغراما، فهو يشبّه لوعةَ قلبه وهُيامَه في حبّه المطلق اللامحدود لممدوحه السلطانيّ بالخمرة والسكر الطافح، بل حبُّه زاد عن خمرة السِّر النورانيّة الْمُقَدِّسَةِ التي كانت عند (الحلاّج) (ت. 309هـ) رائدِ التصوّف الفلسفيّ في الإسلام، ومن أصحابِ فلسفة وحدة الوجود والحلول والاتّحاد، وهو القائل: “أنا الحقُّ”، الذي رأى الأشياء بشيء واحد فأصبح يخاطب نفسه… وتجاوَز حبَّ العارف، الزاهد، الإمام (ابنِ أدهم) (ت. 162هـ)، الذي آثر الآخرةَ على المُلْك، بل ابنُ أدهمَ نفسه قد استقى من هذا المَعين النورانيّ الكبير، وهذا الحبُّ أصبح شعارُه المكاشَفةَ والصفاءَ، ورداؤهُ الصوفَ؛ فالمحبُّ السلطانيُّ (أبو الحجّاج النصريّ) تقمّص شخصية الصوفيّ الزاهد، الذي طلّق الحياة الدنيا طلاقا ثلاثا، فترك الملذّاتِ والمغرياتِ (متاع الغرور)، وارتدى بدل الديباج الملوكيّ المذهّب الصوفَ الخشِنَ ؟؟!! وهذه الدلالاتُ تجعل حبَّ المادح لممدوحه السلطانيّ فوق حبّ المتصوّفة لله تعالى، وهم الذين وصلوا بحبّهم المطلقِ لله سبحانه درجةَ الاتّحاد بذاته؛ اتّحاد اللاهوت بالناسوت، ودرجة الفناء والحلول في ذاته. وهذه الصورةُ الشعريّةُ الخطيبيّةُ فيها غلوٌّ وزيادةٌ عن حدود المعقول والمنقول، وتجاوزٌ لكلّ الطابوهات الدينيّة.

يقول ابن الخطيب في إحدى مدائحه للسلطان (أبي الحجّاج النصريّ)[28]:

سُعُودُكَ لا ما تدّعيه الكواكــــــــــــــبُ وجودُكَ فينا لا السّحــــابُ الســواكبُ

يغَصُّ الغمامُ الجوْنُ يومَ انسكابه إذا صدرت، عن راحتيـــــك المواهبُ

إنّ أبا الحجّاج أجودُ من الغيث المنهمر عطاءً وسخاءً، حتّى إنّ الدِّيَمَ السواكبَ إذا شاهدتِ العطايا السلطانيّةَ الفيّاضة والهباتِ الملكيّةَ السيّالة تتوقّف عن السكوب والهطول خجلاً وغيرةً. ونرى أنّ هذه المبالغةَ وصلت درجة الغلوّ، فمهما كان من كرم الممدوح فلا يمكن أن يجاريَ السحبَ الهواطل أو يفوقَها جودا وكرما. وهذا المعنى يتكرّر أكثر من مرّةٍ في المدائح الخطيبيّة. كقوله في مدحة[29]:

جَزَى الله عنَّا الدَّهْرَ خَيْرَ جَزَائِهِ
غَنِينَا فَلَمْ نَحْتَجْ إَلىَ الْبَدْرِ وَالْحَيَا
لَئِنْ غرَّ بَدْرُ الأُفْقِ فَضْلُ انْفِرَادِهِ
وَإِنْ حَلَفَ الغيْثُ السَّكُوبُ بِأَنَّهُ
سَجَايَاهُ تَرْوِي مِنْ حَدِيثِ كَمالِهِ
وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ خُطُوبٌ كَوَارِثُ
إِذْ ضَنَّ غَيْثٌ أَوْ إِذَا جَنَّ حَادِثُ
فَبَيْنَ الْقُصُورِ الْبِيضِ ثَانٍ وَثَالِثُ
أَعَمُّ نَدَى مِنْ يُوسُفٍ فَهُوَ حَانِثُ
صَحَائِفَ فِيهَا لِلْعَلاَءِ مَبَاحِثُ

فهذه الصورُ الشعريّة ليست بجديدة في الشعر العربيّ، بل هي مستمدّةٌ من الموروث الشعريّ العربيّ، فإذا تمّ النظرُ لهذه الأوصاف، من زاویة العقل، لكانت غلوّا وإفراطا مستحیلَ الوقوع، لكن إذا تمّ النظر إلیها بوصفها صوّرا شعریّة تقبّلتها ذائقةُ المتلقّي الأدبيّة واستحسنتها، وزادت الخطابَ الشعريّ إغراءً وماءً، ورونقا وبهاءً، وحصل المطلوبُ منه، وإلاّ سقط في التقريريّة المستهجنة، والنثريّة الممجوجة، وفقَد روحه الإبداعيّة، وأسراره السحريّة الإيحائيّة. وكلّما جنحتِ الصورةُ الشعریّةُ نحو الغرابة والغلوّ زادت من إثارة دهشة المتلقّي وإغوائه، وكسرت أفق توقّعه.

يقول ابن الخطيب مادحا (أبا الحجّاج)، ومهنّئا له ببعض الأعياد[30]:

يا نَيِّرًا لَـــــــوْلَا تَوَقُّدُ نُـــــــــــورِهِ هَفَتِ الْحُـــــــلُومُ وفــــــــالتِ الآرَاءُ

الممدوح، هنا، بالنسبة للشاعر نورٌ مشعٌّ يفيضُ على من حوله فِطنةً ونجابةً، وحِلماً وأناةً. فمن تمام مِنَن الله سبحانه على خلقه أنّه أنعم عليهم بوجود الممدوح بين ظَهْرانَيْهم، وما تحلّى به من واسع حِلمه وتوهُّج ذهنه وسداد رأيه، ولولاه لطاشَتِ الألبابُ، ووهنتِ الآراءُ وحارت في متاهات الجهل والطيش. ولما وُجد لبيبٌ نبيهٌ يدبّ على أديم هذه البسيطة. وفي هذه المبالغة غلوٌّ كبيرٌ، لأنّ الشاعر ألبس ممدوحه عباءة الكمال البشريّ، وأضفى عليه صورة النموذج الخارق المثاليّ.

وفي مثل هذا، نجده يقول مهنّئا ممدوحَه السلطان النصريّ على فتح (معقل بني بشير)[31]:

السَّعْدُ جنْدُكَ وَالْقَضَاءُ دَليلُ
إذاَ هَمَمْتَ بَلَغْتَ كُلَّ مُمَنّعٍ
وَاللَّهُ بِالنَّصْرِ الْعَزِيزِ كَفِيلُ
وَإذاَ رَأَيْتَ الرَّأْي لَيْسَ يَفِيلُ

ويقول في قصيدة مادحة أخرى[32]:

ورأيٌ يمدُّ الشّمسَ نــــــــورا ومشهــــــــــدا مــــــلائكةُ السَّبــْــــــــــعِ الطبـــــــــــــاقِ شهودُهُ

لقد نوّع الشاعرُ في تصوير حِلم الممدوح من خلال ظاهرة التجسيد، فشبّهه بالنور المطلق الذي يُضفي على الشمس بهاءً، بل رأيُه يمدّ الشمسَ نورا وضياءً، وتشهد له ملائكةُ السماوات السبع بذلك. ويقصد ابنُ الخطيب، هنا، أنّ آراءَ الممدوح وتوجيهاتِه النيّرة وإرشاداته القيّمة نورٌ مطلقٌ يرشد التائهين، ويوجّه الحائرين. والنور له دلالة رمزيّة في الموروث الشعريّ العربيّ؛ فهو يوحي إلى معاني الحياة، بينما يُستوحى من الظلام كلّ دلالات العدم والتلاشي.

من جانب العقل والمنطق، في الصورة غلوٌّ وإفراطٌ مستحیلُ الوقوع، وتجاوزٌ لحدود الممكن والمعقول. وهنا، تكمن المفاجأة والجدّة، فلو استخدم أوصافا عادیة لجاءت صورته الشعريّة غثّةً مبتذلةً، ولـما كان لها، في نفس المتلقّي، وقعٌ محمودٌ، أو انفعالٌ منشودٌ. فالارتباطُ غیرُ المتوقّع «لا یمكن انتقادُه في الشعر، بل ربّما كان هو المطلوبُ المحبوبُ، على الرغم من أنّ الحقیقةَ الواقعة لا تقبلُه، ذلك أنّ هذا الارتباطَ یكون دائما شیئا جدیدا یحمل الإثارة… على أنّ هذه العلاقاتِ الجدیدةَ التي تُكتشَف دائما لا یتوصّل إلیها الشاعرُ أو الفنّانُ بطریقة منطقیّة مستأنیة یقبلها العقلُ ویرتاح لها من حیث هي نسقٌ من النظام الطبیعيّ، بل تحصل هذه العلاقاتُ في النفس دفعة واحدة»[33].

وفي هذا الصدد نفسه، يقول ابن الخطيب مادحاً[34]:

الشمسُ أنتَ إذا انفردتَ، وهــــــــــــــل يُرى بينَ الـــــــــــورى في مطلعٍ، شمسانِ؟!

خاطب لسانُ الدين السلطانَ وغالى في مكانتِه، بحيث جعل نوره المطلق يطغى على الكون، فتنزاح الشمسُ الآفلةُ أمامه خجَلاً، فأيُّ نور هذا الذي يَشعّ من جلالة السلطان؟! إن لم نقُل هو، إذاً، بؤرةُ الضوء ومركز الإشعاع الذي يهب العالمَ النورَ ويصنعُ الإبصار؟!

والشمس في الميثولوجيا العربيّة ترمز إلى النور المطلق والعطاء المطلق، فقد عدّها الإنسانُ العربيُّ نموذجا يهتدى به في الخير والنوال، ومثالا يحتذى به في كرمها الأزليّ الذي تفيض به على الإنسان وغيره كلّ يوم نورا وضياءً بلا كلل ولا ملل، وحرارةً ودفئا بلا انقطاع ولا انكسار، الذيْن لولاهما ما استقامت لآدميٍّ أو مخلوق حياةٌ على هذه البسيطة. وهذه الصورة الشعريّة ليست بجديدة، بل هي مألوفةٌ في الموروث النقديّ العربيّ، وكان الممدوحون، كثيرا، ما يطربون عند سماع مثل هذه النعوت المغالية. وهذا ما يفسّر كثرةِ ورودها في الخطاب الشعريّ للسان الدين ابن الخطيب. وفيها دلالتان؛ الأولى، الشموخ والسناء الموصول غير المفصول، والأخيرة، رمز البذل والعطاء المستمرّ غير المنصرم.

ومن المبالغة التي وصلت إلى حدّ المغالاة كذلك وصفه لرجاحة عقل الممدوح (أبي الحجّاج)، وسداد رأيه، بأنّ الريحَ العاصفة الهوجاء لو اتّسمت ببعض وقارها لسكنت حركتُها الرعناء، وما تركتها شاردةً في هبوبها البلهاء. يقول[35]:

ورجاحةٌ، لو كـــــــــان بعضُ وقــــــــارها بـالريح كــــــانت لا تُحِيرُ حَراكــــــــــا

وأنشد مادحا السلطانَ المرينيَّ (أبا عنان)[36]:

خَلِيفَةَ الله سَاعَدُ القَدَرُ
وَدَافَعَتْ عَنكَ كَفُّ قُدرتِهِ
لَيْسَ لَنَا مَلْجَأٌ نُؤَمِّلُهُ
وَجْهُكَ فِي النَّائِبَاتِ بَدْرُ دُجًى
وَالنَّاسُ طُرًّا بِأَرْضِ أَنْدَلُسٍ
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنّهُ وَطَنٌ
وَمَنْ بِهِ مُذْ وَصَلْتَ حَبْلَهُمُ
عُلَاكَ مَا لَاحَ فِي الدُّجَى قَمَرُ
مَا لَيْسَ يستطيع دَفْعَهُ الْبَشَرُ
سِوَاكَ أَنْتَ الثِّمَالُ وَالْوَزَرُ
لَنَا وَفِي الْمَحْلِ كَفُّكَ الْمَطَرُ
لَوْلاَكَ مَا أَوْطَنُوا وَلَا عَمَرُوا
فِي غَيْرَ عُلْيَاِكَ مَا لَهُ وَطَرُ
مَا جَحَدُوا نعمةً وَلَا كَفَرُوا

تعكس هذه الأبياتُ أهمّيّةَ الممدوح المحوريّة، ومركزيّةَ كينونتِه الوجودِيّة في هذه الحياة الدنيا، فلولا دعمُه الحربيُّ والماديُّ لأهل الأندلس لمقاومة أطماع ملك قشتالة، ما استطاع الناسُ، هناك، عمارتَها ولا توطينَها، وما كان لهم، هناك، وجودٌ أصلا. فهو إكسيرُ الحياةِ بطُلَّته وغيابه، يعني الفناء والعدم، إنّها صورةٌ فيها مغالاةٌ وإفراطٌ وتجاوزٌ لكلّ حدود الممكن والمعقول، والمفارَقةُ الغريبةُ أنّ هذه الغرابةَ زادتِ الصورة الشعريّةَ ألْقا وطرافةً، وهذا هو سرُّ الإبداع الشعريّ.

وقال ابن الخطيب ناظما حسبما اقترحه عليه سلطانُه[37]:

أَبْشِرْ فَقَدْ نِلْتَ مَا تَرْجُو عَلَى عَجَلٍ
وَسَاعَدَتْكَ الدُّنَا فِيمَا تُؤَمِّلُهُ
وَاحْكُمْ عَلَى الدَّهْرِ وَافْعَلْ مَا تشَاءُ بِهِ
وَيَسَّرَ اللَّهُ مَا تَبْغيه مِنْ أَمَلِ
فَاهْنَأْ ِسَعْدٍ عَلَى الأَيَّامِ مُتَّصِلِ
فَالدَّهْرُ طَوْعُكَ وَالْأيَّامُ كَالْخَوَلِ

أتى الشاعر في البيت الأخير بغلوّ غير معقول، وتطرّف غير مقبول، إذ وصل بممدوحه درجة التأليه، لأنّه نسب صفات الخالق للمخلوق، وهذا ما لا يصحّ لا عقلا ولا عادة، ولا عرفا ولا شرعا، لأنّه تعالى منزّهٌ عن التشبيه والمماثلة. والشاعر، هنا، ليُشعِر ممدوحَه السلطانيّ بمدى سطوته وطول يده جعل سلطته المطلقة تمتدّ لتتصرّف في سنن الكون وتصاريف الوجود؛ فتأمر الدهر، وتطوّعُه وَفق إرادتها كيفما تشاء، وهو ما لا يمكن لمخلوق فعلُه، لأنّه يتعدّى قدراتِه النسبيّة المحصورة، وطاقاته المحدودة المقصورة، إلاّ إذا صار إلهاً ؟!!! وفي هذا تعدٍّ بيّنٌ لكلّ الطابوهات الدينيّة، والحدود العقليّة المنطقيّة. وهو ما يذكّرنا ببيت شهير لـــ (ابن هانئ الأندلسيّ)؛ متنبّي الغرب، الذي أثار كثيرا من الجدل الفقهيّ الأصوليّ والسجال النقديّ الأدبيّ عبر العصور؛ وهو[38]:

ما شِئْتَ لا ما شــــــــاءتِ الأقْدارُ *** فاحكُم فأنت الـــــــــــــواحدُ القهّارُ.

وكان، في أحايينَ كثيرةٍ، على الشعراء المتملّقين، الواقفين على عتبات القصور بذلّة وتوسّل، المتهافتين على فتات موائد السلطان أن يسلكوا هذا المسلكَ المتطرّفَ في مدائحهم السلطانيّة رغَبا ورهَبا، عسى أن يفوزوا بحَدَبه المولويّ، وينجوا من بطشه السلطويّ. ووجد هؤلاء الحكّامُ؛ خلفاءُ الله في أرضه في شعر الشعراء متنفّسا لأهوائهم، وتحقیقا لمطامعهم ونزواتهم.

وبهذا الصدد، يقول في مدحة أخرى، وهي أطولُ قصيدة في الديوان، إذ يبلغ عددُ أبياتها مائتيْ بيت، ومن بين أجمل ما نظَم ابنُ الخطيب وجادت به قريحتُه الإبداعيّة، فهي من صيّب شعره وليست من جَهامه، ومن ماضي قوله وليست من كَهامه، كما تنصّ على ذلك ديباجتُها الاستهلاليّة وعتبتُها النصّيّة، وسمّاها (الـمَنْح الغريب في الفتح القريب[39])[40]:

وَلَكَ الجَبِينُ الطَّلْقُ، وَالْخُلُقُ الَّذِي
النُّورُ أَنْتَ، وَكُلُّ نُورٍ دُجْيَةٌ
لَحْظُ الْكَمَالِ بِلَحْظِهِنَّ مُوَكَّلُ
وَالبَحْرُ أَنْتَ، وَكُلَّ بَحْرٍ جَدْوَلُ

وهذه الصورةُ الشعريّةُ الخطيبيّةُ فيها غلوٌّ وزيادةٌ عن حدود المعقول والمنقول، وتجاوزٌ لكلّ الطابوهات الدينيّة. لأنّ الممدوح، بحسب الشاعر، نورٌ مطلق، وعطاءٌ مطلق، والكمال من صفات الخالق سبحانه، المنزّه عن كلّ عيب ونقص، والمتّصف بكلّ صفات الجلال والكمال.

كما يقول في افتتاحيّة مدحة أخرى[41]:

يَا وَاحِدَ الدَّهْرِ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ
يَا مُسْنِدَ السَّعْدِ والنَّصْرِ العَزِيزِ إلى
يَا مَنْ لهُ الْفَضْلُ في المَاضِي وفي الْآتِي
سَعْدٍ لِنَصْرٍ إلى خَيْرِ الْبَريَّاتِ

نلحظ، من خلال هذين الأنموذجين الأخيرين، غلوّا تخطّى أقصى مستويات الاستحالة، ووصل إلى حدود التأليه لممدوحه موظّفا، بكثافة، لألفاظ الذات الإلهيّة، وصفاته السرمديّة. وإنّ توظيفَ الشاعر في شعره لألفاظ الكمال، وصفات الجلال هذه هي «إحدى الآلياتِ الرئيسةِ المؤدّية إلى الغلوّ ممّا يجعل القارئَ منبهرا أمام هذا التعظيمِ الذي يُضفيه الأديبُ على ممدوحه، بأن يرسم الممدوحَ في صورة متفرّدة متعالية على البشر ويرتفع به إلى مستوى الإله، ويَنسب إليه القوّةَ الخارقةَ الخارجة على طاقات البشر، فالشاعرُ لسانُ الدين ابنُ الخطيب يستمدّ من صورة الخالق مقوّماتِ مدائحه لينتهيَ إلى صورة خارجة من اجتماع الاثنين (الممدوح والإله)»[42]. ولكن أن يصل الشاعر إلى درجة أن يُقسم بجود ممدوحه وبعزِّ مُلكه، بل يرى أنَّ هذا القَسمَ هو أسمى قَسَم، فهذا إفراطٌ وغلوٌّ، وتجاوزٌ لكلّ الخطوط الحُمْر؛ العقليّة والنقليّة يصل بصاحبه إلى الكفر البواح.

يقول ابن الخطيب[43]:

قَسَمــــاً بجودكَ وهو أيُّ أليَّةٍ وبـــــعزِّ مُلكِكَ وهو أسمى مُقْسَمِ

ونكتفي، في هذه الدراسة النقديّة المتواضعة، بهذه الشذرات التطبيقيّة والشواهد الأنموذجيّة من مدائح لسان الدين ابن الخطيب السلطانيّة، وإلاّ فإنّ النماذج كثيرةٌ لا يسعها هذا المقامُ.

*خاتــــــــمة:

حاول هذا البحث المتواضع أن يقدّم دراسة تطبيقيّة تحليليّة لشذراتٍ ونماذجَ من تمثّلات شعريّة الغلوّ، وبعض تجلّيات توظيفها، وماهية حضورها في مدائح لسان الدين ابن الخطيب السلطانيّة، وقد تمخّض عن نتائجَ وخلاصاتٍ بارزة، منها:

– وقوع اضطرابٌ وتداخلٌ والتباسٌ في تحديد دقيق لماهية الغلوّ، ممّا أدّى إلى بروز إشكالية المصطلح والمفهوم. ويعزى هذا التكَوْثُرُ المصطلحيُّ إلى تقاربٍ في المفاهيم التي أُطلِقت على الظاهرة وتُدُووِلَت بشكل يصعب معه الفصلُ الدقيقُ فيما بينها، كالمبالغة، والإفراط، والتبلیغ، والإغراق، والإحالة…

– إنّ الغلوّ ليس مفهوما دقيقا محدّدا، بل هو مفهومٌ هُلاميٌّ مائعٌ يخضع لعدّة عواملَ لتحديده، منها مرجعيّةُ البلاغيّ الثقافيّة، ورؤيتُه النقديّة والفكريّة وبيئتُه الاجتماعيّة.

– يعدّ الغلوّ ظاهرةً فنّيّة وأسلوبيّة، أثارت كثيراً من الجدل والسجال بين النقّاد والبلاغيّين العرب القدامى، ودار حولها صراعٌ نقديٌّ كبيرٌ بين مؤيّد مستحسن ومعارض مستهجن ومتحفّظ متذبذب، ولكلّ منهم منظورُه الخاصّ، وحججُه وأدّلتُه التي استند إليها في موقفه نابعةٌ من رؤيته النقديّة ومرجعيّته الثقافيّة.

– إنّ لظاهرة الغلوّ أثراً بارزاً في النقد العربيّ، ترتبط، بشكل أو بآخرَ، بإشكالات وقضايا نقديّة وأخلاقيّة أخرى لا تقلّ، عنها، أهمّيّةً وشأنا، انبثقت عنها وانصهرت معها في آصرة جدليّة لا تنقطع، وهي إشكاليةُ: (الشعر بين القيمة الفنّيّة الجماليّة والقيمة الدينيّة الأخلاقيّة)، أو إشكاليةُ: (الشعر بين الصدق الفنّيّ والصدق الواقعيّ).

– إنّ الغلوَّ كان أحدَ أساليب التجديد التي جنح إليها الشعراءُ، ولا سيّما الأندلسيّون، رغبةً منهم في الوصول بالمعنى إلى أعلى غاية، وأقصى درجة لإظهار الفاعليّة المعنويّة والنفسيّة في تفاعلهم مع بيئتهم الحضاريّة المترفة، والتعبيرِ عن تجاربهم الشعريّة والشعوريّة بعد طغيان التَّكرار والاجترار في المعنى والصياغة.

– إنّ كثرة استعمال لسان الدين ابن الخطيب للغلوّ في صيغه التعبيريّة وصوره الشعريّة لا تنفصم كثيرا عن بيئته الاجتماعيّة والثقافيّة والإيديولوجيّة، واغترابه النفسيّ، وشخصيّته المزاجيّة المتقلّبة، لهذا يتوسّل إليه للتعبير عن هذه التوليفة النسقيّة المركّبة، وإثارته المستفزّة للذائقة الأدبيّة والشعريّة بتجاوزه، في أحايين كثيرة، للطابوهات الدينيّة.

– جنوح لسان الدين ابن الخطيب في بنائه الشعريّ إلى أسلوب الغلوّ، بكونه تجاوزا أسمى لمستويات التعبير، واتّخاذه متنفّسا نفسيّا وفنّيّا، ومعادلا موضوعيّا لمعاناته النفسيّة، فجاء تضميدا لآلام نفسه المكلومة، وإرضاءً لممدوحه السلطانيّ، والتملُّق له، وإبرازا للأنا المتضخّمة المتعالية وشخصيّته النرجسيّة المتقلّبة، وتعبيرا عن كفاءته النظميّة وقدراته الإبداعيّة المتعدّدة وإمكانياته التعبيريّة المتجدّدة.

– ارتباط الغلوّ عند ابن الخطيب بأغراض شعريّة محدّدة، ولاسيّما المدح والفخر. وكان المديحُ السلطانيُّ، وما مازجه، أحياناً، من فخرٍ ذاتيِّ التيمةَ الرئيسة والبؤرة المركزيّة للمدوّنة الشعريّة التي انتقيناها أنموذجا للدراسة والتحليل في هذه الدراسة النقديّة التطبيقيّة.

– إنّ الغلوّ في الصورةُ الشعريّةُ الخطيبيّةُ، أحياناً، يتخطّى أقصى مستويات الاستحالة، ويصل إلى حدود التأليه لممدوحه السلطانيّ موظّفا، بكثافة، لألفاظ الذات الإلهيّة، وصفاته السرمديّة.

– إنّ في تشبيه ابن الخطيب للسلاطين والقادة بأنبياء الله الأبرار والمرسلين الأطهار غلوّا لا يستقيم عادةً وعرفا، وتجاوزا، في مدحه، لمستويات الممكن العقديّ، لأنّ الأنبياءَ والرسل هم صفوة الخَلق الإنسانيّ، ونماذجُ الكمال البشريّ خَلْقا وخُلُقا. – إنّ الشاعر، تارة، يُلبِس ممدوحَه السلطانيّ عباءة الكمال البشريّ، ويضفى عليه صورة النموذج الخارق المثاليّ، وفي هذه المبالغة غلوٌّ كبيرٌ، وزيادةٌ عن حدود المعقول والمنقول.

*وبناءً على ما تقدّم، فإنّ مثل هذا الجُموح في الخيال والتصوير هو ما جعل الموقف البلاغيّ والنقديّ في التراث العربيّ من ظاهرة الغلوّ يتّسم بالتشظّي والانشطار بين الاستحسان تارة، والاستهجان تارة أخرى، وبين هذين الموقفين النقيضين هناك موقفٌ ثالثٌ وسطٌ اتّصف بالاعتدال والتذبذب بينهما، فنجد أصحاب هذا الموقف؛ كابنِ طَباطَبا، وابنِ رشيقٍ القيروانيّ…، أحيانا، يمدحون الغلوّ ويُجيزون، وأحايين أخرى يذمّون ويعارضون، ومنهج هؤلاء ” أحسنُ الشعر أقصدُه”، لأنّ للمبالغة، عندهم، حدودا، فهي مقبولةٌ في حدود الشعر لیزیدَ جودةً وبراعةً، ورَونقا وماءً لكن دون الوصول إلى درجة الغلوّ والتطرّف والإحالة.

وفي الختام، نرجو من العليّ القدير، أن نكون قد أجدْنا المَحَزّ، وطبّقنا المَفْصِل، وأصبْنا مقاتل الكلام، كما يقول صاحب العمدة. أو على الأقلّ حاولنا الاقتراب من إصابته، فإن كان لنا ذلك فمن منّه وفضله تعالى، وإن جانَبَنا الصواب فحسبنا أنّنا اجتهدنا.

*قائمة المصادر والمراجع:[44]

* القرآن الكريم، برواية ورش.

– ابن جعفر، قُدامة، (1978)، نقد الشعر، (ط.3)، تحقيق: كمال مصطفى، القاهرة، مكتبة الخانجي.

– ابن الخطيب، لسان الدين، (2007)، الديوان، (ط.2)، صنعه وحقّقه وقدّم له: د. محمّد مفتاح، الدار البيضاء، المغرب، دار الثقافة.

– ابن خلدون، عبد الرحمن، (2000)، تاريخ ابن خلدون، المسمّى:(العبَر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأعظم)، (د.ط)، ج.7، ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس: خليل شحادة، ومراجعة: د. سهيل زكار، بيروت، لبنان، دار الفكر.

– ابن دُرَيْد، أبو بكر، (1987)، جمهرة اللغة، (ط.1)، تحقيق: د. رمزي منير بعلبكيّ، بيروت، لبنان، دار العلم للملايين.

– ابن المعتزّ، عبد الله، (1979)، كتاب البديع، (ط.2)، تحقيق: إغناطيوس كراتشقوفسكي، بغداد، العراق، مكتبة المثنّى.

– ابن منظور، محمّد بن مكرم، (2011)، لسان العرب، (ط.7)، طبعة جديدة ومحقّقة، بيروت، لبنان، دار صادر.

– إسماعيل، عزّ الدين، (د. ت)، التفسير النفسيّ للأدب، (د. ط)، بيروت، لبنان، دار العودة، ودار الثقافة.

– بالنثيا، آنخل جنثالث، (2008)، تاريخ الفكر الأندلسيّ، (ط. 2)، ترجمة: د. حسين مؤنس، القاهرة، مصر، مكتبة الثقافة الدينيّة.

– الجُرجانيّ، القاضي عليّ بن عبد العزيز، (2006)، الوَساطة بين المتنبّي وخصومه، (ط.1)، تحقيق وشرح: د. محمّد إبراهيم أبو الفضل، وعليّ محمّد البجاوي، بيروت، لبنان، المكتبة العصريّة.

– الخطيب القزوينيّ، محمّد بن عبد الرحمان، (د.ت)، الإيضاح في علوم البلاغة، (ط. 3)، تحقيق: د. محمّد عبد المنعم خفاجي، بيروت، لبنان، دار الجيل.

– زاهد، عليّ، (1352هـ-1932م)، تبيينُ المعاني في شرح ديوان ابن هاني الأندلسيّ المغربيّ، (د. ط)، القاهرة، مصر، مطبعة المعارف.

– زغل، محمّد فاتح، (2006)، سلطة المثقّف بين الاقتراب والاغتراب: قراءة في سيرة لسان ابن الخطيب وتجربته السياسيّة، دمشق، سوريا، منشورات وزارة الثقافة، الهيئة العامّة السوريّة للكتاب.

– عبّاس، إحسان، (1997)، تاريخ الأدب الأندلسيّ: عصر الطوائف والمرابطين، (ط. 1)، عمّان، الأردن، دار الشروق للنشر والتوزيع.

– العسكريّ، أبو هلال الحسن بن عبد الله، (1952)، الصناعتين، (ط.1)، تحقيق: علي محمّد البجاوي، ومحمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، مصر، دار إحياء الكتب العربيّة، عيسى البابي الحلبيّ وشركاؤه.

– القرطاجَنيّ، حازم، (2007)، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، (ط. 4)، تقديم وتحقيق: د. محمّد الحبيب بن الخوجة، بيروت، لبنان، دار الغرب الإسلاميّ.

– القيروانيّ، أبو عليّ الحسن بن رشيق، (2006)، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، (ط.1)، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، مصر، دار الطلائع.

– المعلم، بطرس البستاني، (1977)، محيط المحيط، بيروت، لبنان، مكتبة لبنان ناشرون.

– المقّريّ التلمسانيّ، أحمد بن محمّد، (1986)، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب، (د.ط)، ج.5، و6، و7، تحقيق: د. إحسان عبّاس، بيروت، لبنان، دار صادر.

*الدوريــات والمقالات:

– يوسف كريم، واقدة، (2016)، الغلوّ في رسائل لسان الدين ابن الخطيب، مجلّة كلية التربية، الجامعة المستنصريّة، بغداد، العراق، العدد السادس، ص: 143-160.

الهوامش:

  1. – ابن دُرَيْد، أبو بكر، (1987)، جمهرة اللغة، (ط.1)، ج. 2، تحقيق: د. رمزي منير بعلبكيّ، بيروت، لبنان، دار العلم للملايين، مادة: غ ل و، ص: 961.
  2. – ابن منظور، محمّد بن مكرم، (2011)، لسان العرب، (ط.7)، ج. 11، طبعة جديدة ومحقّقة، بيروت، لبنان، دار صادر، مادة: غلا، ص: 78 -80.
  3. – المعلم، بطرس البستاني، (1977)، محيط المحيط، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، مادة: غ ل و، ص: 665.
  4. – العسكريّ، أبو هلال الحسن بن عبد الله، (1952)، الصناعتين، (ط.1)، تحقيق: علي محمّد البجاوي، ومحمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، مصر، دار إحياء الكتب العربيّة، عيسى البابي الحلبيّ وشركاؤه. ص: 357.
  5. – ابن المعتزّ، عبد الله، (1979)، كتاب البديع، (ط.2)، تحقيق: إغناطيوس كراتشقوفسكي، بغداد، العراق، مكتبة المثنّى. ص: 65.
  6. – نفسه، ص: 66.
  7. – ابن جعفر، قدامة، (1978)، نقد الشعر، (ط.3)، تحقيق: كمال مصطفى، القاهرة، مصر، مكتبة الخانجي. ص: 214.
  8. – نفسه، ص: 62.
  9. – ابن رشيق القيروانيّ، أبو عليّ الحسن، (2006)، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، (ط.1)، ج. 2، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، مصر، دار الطلائع. ص:53.
  10. – ابن رشيق، (2006)، ج. 2، ص:53.
  11. – الجُرجانيّ، القاضي عليّ بن عبد العزيز، (2006)، الوَساطة بين المتنبّي وخصومه، (ط.1)، تحقيق وشرح: د. محمّد إبراهيم أبو الفضل، وعليّ محمّد البجاوي، بيروت، لبنان، المكتبة العصريّة. ص: 348.
  12. – ابن رشيق، (2006)، ج. 2، ص: 52.
  13. – القرطاجَنيّ، حازم، (2007)، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، (ط. 4)، تقديم وتحقيق: د. محمّد الحبيب بن الخوجة، بيروت، لبنان، دار الغرب الإسلاميّ. ص: 76.
  14. – نفسه، الصفحة نفسها.
  15. – نفسه، الصفحة نفسها.
  16. – الخطيب القزوينيّ، محمّد بن عبد الرحمان، (د.ت)، الإيضاح في علوم البلاغة، (ط. 3)، ج. 6، تحقيق: د. محمّد عبد المنعم خفاجي، بيروت، لبنان، دار الجيل. ص: 60-64.
  17. – زاهد، عليّ، (1352هـ-1932م)، تبيينُ المعاني في شرح ديوان ابن هاني الأندلسيّ المغربيّ، (د. ط)، القاهرة، مصر، مطبعة المعارف. ص: 365.
  18. – يوسف كريم، واقدة، (2016)، الغلوّ في رسائل لسان الدين ابن الخطيب، مجلّة كلية التربية، الجامعة المستنصريّة، بغداد، العدد السادس. ص: 155.
  19. – انظر: -زغل، محمّد فاتح، (2006)، سلطة المثقّف بين الاقتراب والاغتراب: قراءة في سيرة لسان ابن الخطيب وتجربته السياسيّة، دمشق، منشورات وزارة الثقافة، الهيئة العامّة السوريّة للكتاب. ص: 70.
  20. – عبّاس، إحسان، (1997)، تاريخ الأدب الأندلسيّ: عصر الطوائف والمرابطين، (ط. 1)، عمّان، الأردن، دار الشروق للنشر والتوزيع. ص: 162.
  21. – بالنثيا، آنخل جنثالث، (2008)، تاريخ الفكر الأندلسيّ، (ط. 2)، ترجمة: د. حسين مؤنس، القاهرة، مصر، مكتبة الثقافة الدينيّة. ص: 168.
  22. – المقّريّ التلمسانيّ، أحمد بن محمّد، (1986)، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب، (د.ط)، ج.5، تحقيق: د. إحسان عبّاس، بيروت، لبنان، دار صادر. ص: 98. وانظر: -ابن خلدون، عبد الرحمن، (2000)، تاريخ ابن خلدون، المسمّى:(العبَر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأعظم)، (د.ط)، ج.7، ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس: خليل شحادة، ومراجعة: د. سهيل زكار، بيروت، دار الفكر، ص: 440.
  23. – ابن الخطيب، لسان الدين، (2007)، الديوان، (ط.2)، ج. 2، صنعه وحقّقه وقدّم له: د. محمّد مفتاح، الدار البيضاء، المغرب، دار الثقافة. ص: 669.
  24. – سورة يوسف، الآية: 92.
  25. – ابن الخطيب، (2007)، ج.2، ص:723 -724.
  26. – يقول الله تعالى: «أنّيَ قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ. إنِّيَ أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئةِ الطَّيْرِ فأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طائِراً بإِذْنِ اللَهِ. وأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ والْأَبْرَصَ وأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ» سورة آل عمران، من الآية: 48.
  27. – ابن الخطيب، (2007)، ج.1، ص: 199 -202.
  28. – ابن الخطيب، (2007)، ج. 1، ص: 120 -121.
  29. – نفسه، ج. 1، ص: 190.
  30. – ابن الخطيب، (2007)، ج. 1، ص: 93.
  31. – نفسه، ج.2، ص: 486.
  32. – ابن الخطيب، (2007)، ج.1، ص: 269.
  33. – إسماعيل، عزّ الدين، (د. ت)، التفسير النفسيّ للأدب، (د. ط)، بيروت، لبنان، دار العودة، ودار الثقافة. ص: 70.
  34. – ابن الخطيب، (2007)، ج.2، ص: 607.
  35. – ابن الخطيب، (2007)، ج.2، ص: 469.
  36. – نفسه، ج.1، ص: 403.
  37. – نفسه، ج.2، ص: 491.
  38. – زاهد، عليّ، (1352هـ-1932م)، ص: 365.
  39. – ومطلعها: اَلْحَقُّ يَعْلُو وَالْأَبَاطِيلُ تَسْفُــــــلُ والله عَنْ أَحْكَامِهِ لاَ يُسْـــــــــأَلُ

    انظر: -ابن الخطيب، (2007)، ج.2، ص: 495-505. وجاء في عتَبتها الديباجيّة: «نظَمتُها للسلطان (يقصد الغنيّ بالله) – أسعده الله تعالى- وأنا بمدينة (سلا) لمّا انفصل طالباً حقَّه (بالأندلس)، كان صنعُ الله براعةَ استهلالها، ووجّهت بها إليه إلى (رُنْدة)، قبل الفتح، وفاءً بنذري، وسمّيتها: (الـمَنْح الغريب في الفتح القريب). ولقد علّق المقّريّ على هذه القصيدة بقوله: «إنّ السلطان أمر بكتْب هذه القصيدة على قصوره بالحمراء إعجاباً بها، وإنّها إلى الآن لم تزل مكتوبة بتلك القصور التي استولى عليها العدوّ الكافر، أعادها الله للإسلام». انظر: -المقّريّ، (1986)، ج.6، ص: 478.

  40. – ابن الخطيب، (2007)، ج.2، ص: 496.
  41. – نفسه، ج.1، ص: 175.
  42. – يوسف كريم، واقدة، (2016)، ص: 150.
  43. – ابن الخطيب، (2007)، ج.2، ص: 540.
  44. – تمّ ترتيب المصادر والمراجع في هذه الفهرسة حسب الترتيب الهجائيّ الألفبائيّ لأسماء المؤلّفين.