المعطيات الاجتماعية ومناسبات المقام في قصيدة بشامة بن الغدير(هجرْتَ أُمَامة)

محمود جاسم الأحمد1

1 باحث ماجستير، قسم اللغة العربيّة والدراسات الإسلامية، جامعة يالوفا، تركيا.     بريد الكتروني: mahmud77ahmad@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(5); https://doi.org/10.53796/hnsj55/31

تنزيل الملف       تاريخ النشر: 01/05/2024م تاريخ القبول: 15/04/2024م

المستخلص

لأدب حالة وجدانية واجتماعية، فالمبدع ابن مجتمع ما، وقع تحت تأثيره، وشروطه أثناء العملية الإبداعية، وقبلها، والأدب ابن المجتمع، والأديب على حدّ سواء، وقد ذهبت مزاعم الزاعمين إلى التشكيك في نسبة الشعر الجاهلي إلى عصره، وعلى رأسهم المستشرق مرجليوث الذي قدّم بحثاً بعنوان (أصول الشعر العربي) رجّح فيه ” أَنَّ الشعر الذي نقرأه على أنه شعر جاهلي إنما نُظِمَ في العصور الإسلامية، ثم نَحَله هؤلاء الواضعون المزيفون لشعراء جاهليين، وحشد أدلة لإثبات مزاعمه، وتحقيق غايته”.

ومن هنا يتجه هذا البحث إلى دراسة المعطيات الاجتماعية وعناصر المقام في قصيدة بشامة بن الغدير، والكشف عن مدى انتسابها إلى العصر الجاهلي اجتماعياً، بحيث يكون البحث إضاءة على نقطة سكتَ عنها المشككون، وحاولوا أن ينفذوا من جوانب تتيح لهم الطعن في نسبة ذلك الشعر إلى عصره الذي صدر عنه.

الكلمات المفتاحية: المعطيات الاجتماعية- عناصر المقام- بشامة بن الغدير.

Research title

The Social Context and Occasions Bashama ibn al-Ghadeer’s Poem (You Abandoned Umaimah)

MAHMOUD JASSEM ALAHMAD1

1 Master’s Researcher, Department of Arabic Language and Islamic Studies, Yalova University, Türkiye. Email: mahmud77ahmad@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(5); https://doi.org/10.53796/hnsj55/31

Published at 01/05/2024 Accepted at 15/04/2024

Abstract

Literature is an emotional and social state. The creator is the son of a society. He fell under its influence and its conditions during the creative process and before it. The Literature and the writer belong to society. The claimants’ claims cast doubt on the attribution of pre-Islamic poetry to its era, led by the orientalist Margoliouth, who presented a research entitled (The Origins of Arabic Poetry), in which he suggested that “the poetry that we read as pre-Islamic poetry was composed in the Islamic era, then the authors who are forgers interpreted it as pre-Islamic poets, and gathered evidence to prove their claims and achieve their goal.”

Hence, this research aims to study the social data and elements of maqam in Bashama bin Al-Ghadeer’s poem, and reveal the extent of its affiliation to the pre-Islamic era socially, so that the research sheds light on a point that the skeptics were silent about, and they tried to penetrate aspects that would allow them to challenge the attribution of that poetry to its era. Which was issued by him.

Key Words: Social data – Elements of Maqam – Bashama bin Al-Ghadeer.

التّمهيـد:

حفِل الأدب الجاهليّ بأسماء لامعة من الشّعراء لا حصر لها، قدّمت شعراً ذا قيمة كبيرة، ظلّ خالداً حتّى يومنا هذا، وأغنى رصيد الأدب بكثير من المفردات والتّراكيب والمعاني، وكان ذلك الشّعر بأغراضه المتنوّعة قد تناول طبيعة الحياة بشكل عام في ذلك العصر الذي سبق الإسلام، وكان مرآة حقيقيّة عكست ملامح تلك الحياة التي تميّزتْ غالباً بعدم الاستقرار والتّنقّل المستمرّ بين الفينة والأخرى بحسب ظروف البيئة التي تعيشها القبيلة، وهذا التّنقّل كان قد فتح آفاقاً فكريّة للشّاعر الجاهليّ، بحيث أصبحت قصائده مؤلّفة من مراحل، تحدّث بدقّة عمّا حدث بكلّ مرحلة، وعلى ذلك كانت هذه القصائد بمثابة وثيقة تاريخيّة، حفظت ونقلت لنا ملامح الحياة الجاهليّة بكلّ تفاصيلها في ذلك الوقت.

الهدف من البحث: تأصيل انتماء هذه القصيدة إلى العصر الجاهلي كجزء من تأصيل هوية التراث العربي، من خلال ربط القصيدة بمعطيات العصر الذي تنتمي إليه.

أ- ترجمة الشّاعر:

‌بشامة ‌بن ‌الغدير، أو بشامة ابن عمرو بن معاوية بن الغدير بن هلال المري: من شعراء المفضليات أورد الخطيب التبريزي نسبه على هذين الوجهين. والأول عن أبي عكرمة. وسماه الجمحيّ بشامة ابن الغدير المري. وعده من الإسلاميين، مع ان المشهور كما في السمط أنه خال زهير أو أبي زهير وفيه النص على أنه جاهلي (نهشلي). ([1])

وقال محمّد بن سلّام الجمحي: “فحدّثني أبو عبيدة: أنّ بشامة ابن الغدير كان كثير المال، وكان ممّن فقأَ عين بعير في الجاهليّة، وكان الرّجل إذا ملك ألف بعير فقأ عين فحلها، وَكَانَ قد أقعد فَلَمَّا حَضَره الْمَوْت، وَلم يكن لَهُ ولد قسم مَاله بَين إخْوَته وَبنى أَخِيه وأقاربه فَقَالَ لَهُ زُهَيْر بن أبي سلمى وَهُوَ ابْن أُخْته مَاذَا قسمت لي يَا خالاه قَالَ أفضل ذَلِك كُله قَالَ مَا هُوَ قَالَ شعرى‘ فيزعم من يزْعم أَن زهيرا جَاءَهُ الشّعْر من قبل بشامة بن الغدير” ([2]) وجعله ابن سلّام في الطّبقة الثّامنة من الإسلاميين .

وإلى جانب المال، والشّاعرية كان بشامة سيّدا مطاع الرأي في قومه، فإذا “أرادوا أن يغزوا أتوه فاستشاروا وصدروا عن رأيه، فإذا رجعوا قسموا له مثل ما يقسمون لأفضلهم، فمن أجل ذلك كثر ماله” ([3]). ويظهر في شعره ما يدلّ على أنّه ورث السيادة كابرٍ عن كابر، يقول:

وجدت أي فيهم وجَدّي كليهما يطاع ويؤتى أمره وهو مُحْتبي

فلم أتعمّل للسيادة فيهم ولكن أتتني طائعًا غير متعب ([4])

ب- شاعريّته وشعره:

“شَاعِر محسن مقدم وَهُوَ خَال زُهَيْر بن أبي سلمى الْمُزنِيّ. وَله أشعارٌ جِيَاد طوال”([5]) “وكان موصوفا بالحزم وأصالة الرأي، فكانت غطفان تستشيره إذا أرادت الغزو وغيره، وتصدر عن رأيه، وتقسم له من غنائمها أفضل ما يقسم لأحد ممن يشهد الحرب إذا رجعت، وكان أشعر غطفان في زمانه”([6])

ولعلّ هذا ما أضفى على شعره صفة القوّة والإجادة في التّعبير، وخاصّة فيما يتعلّق بتحريض قومه على الحرب ومواصلة القتال، فكانت الألفاظ ومعانيها جزلة، مناسبة للمقام كما سنرى لاحقاً.

وقال المرتضى في غرر الفوائد:” وإنّي لأستحسن قول بشامة بن الغدير في وصف الناقة”([7]) ومن الملحوظ في شعره أنّه يتّبع الموصوف ويصف حركاته بكلّ تفاصيلها، مُتوسّلاً النّعوت المترادفة المتتابعة في استكمال خصائص الموصوف حتّى يتجسّد به الغلوّ الشّعريّ.

إضاءة على القصيدة:

جرت العادة عند معظم شعراء الأدب الجاهليّ أن يفتتحوا قصائدهم بالتّغزّل بالمحبوبة، والوقوف على أطلالها والحنين لأيّامها السّالفة والبكاء عليها، بعد ذلك وصف مشهد رحلتها بتفاصيله ووصف النّاقة وما إلى هنالك.. وصولاً إلى الغرض الأساسيّ الذي أراد الشّاعر الجاهليّ نظم القصيدة لأجله.

أمّا عن مناسبة القصيدة فإنّه أراد من خلالها تحريض قومه بني سهم بن مُرّة على عدم خذلان حلفائهم الحرقة، وهم بنو خميس بن عامر بن جُهينة، حيث همّت بهم بنو صرمة من غطفان، لكنّهم خافوا ألّا ينصرهم بنو سهم فانصرفوا، إلّا أنّ الحصين بن حمام المرّيّ لحقهم وأعطى ابنه رهينة لهم وذلك لعقد الصّلح معهم، فقام بشامة بنظم هذه القصيدة يدعو فيها قومه إلى الحرب والموت بعزّة، ويطلب من الحصين التّراجع عن فعلته هذه. ([8])

والقصيدة تقع في سبعة وثلاثين بيتاً، وإذا ما أردنا تقسيمها إلى أقسام، فسوف تكون على الشّكل الآتي:

ــ من البيت الأوّل حتّى البيت التّاسع: وصف مشهد رحيله عن محبوبته أُمامة، وبعده عنها، وما دار بينهما من حديث في لحظات الوداع، تخلّلتها دموع مُحرقة لشدّة الحزن.

ــ من البيت العاشر حتّى البيت السّابع والعشرين: وصف النّاقة بقوّتها وضخامتها وفتوّتها وحدّة بصرها، وقدرتها على السّير المتواصل دون تعب أو فتور مع قيادتها لبقيّة مجموع المطي.

ــ من البيت الثّامن والعشرين حتّى البيت السّابع والثّلاثين: نجده يحرّض قومه على القتال، فالموت محيط بالجميع، وليذهبوا إليه بعزّة وأنَفة على حدّ تعبيره.

القصيدة:

يقول بشامة:

1ـ هجرْتَ أُمامةَ هجراً طويـــــــــــــلاً وحمّلَكَ النَّأيُ عِبئاً ثقيـــــــــــــــلا

2ـ وحُمّلتَ منها على نأيهـــــــــــــــا خيالاً يُوافي ونَيلاً قليـــــــــــــــــــلا

3ـ ونظرَةَ ذي شَــــــــــــــــــــجَنٍ وامِقٍ إذا ما الرَّكائبُ جاوزْنَ مِيـــــــــلا

4ـ أتتْنا تُســــــــــــــــــــــــــــائلُ ما بثُّنا فقلْنا لها: قد عزمْنا الرَّحيــــــــلا

5ـ وقلتُ لها: كنتِ، قد تعلميـــــــــــ ـنَ، منذ ثَوى الرَّكبُ، عنّا غَفُولا

6ـ فبادرَتَاها بمُـســــــــــــــــــــــــــتَعجلٍ مِن الدّمعِ ينضحُ خدّاً أســـــــــيلا

7ـ وما كان أكثرُ ما نوَّلـــــــــــــــــــتْ من القولِ إلّا صِــــــــــــفاحاً وقِيلا

8ـ وعذرَتُها أنّ كلَّ امـــــــــــــــــــــــرئٍ مُعدٌّ له كلَّ يومٍ شُــــــــــــــــــــــــكولا

9ـ كأنّ النَّوى لم تكنْ أصــــــــــقَبَتْ ولم تأتِ قومَ أديمٍ حُلـــــــــــــــــولا

10ـ فُقرّبْتُ للرَّحلِ عَيْرَانــــــــــــــــــــــةً عُذافِرَةً عَنْتَريسَاً ذَمُـــــــــــــــــــــــولا

11ـ مُداخِلةَ الخَلْقِ مَضبــــــــــــــورةً إذا أخَذَ الحاقِفاتُ المقيــــــــــــــــلا

12ـ لها قَرِدٌ تامِكٌ نَيُّـــــــــــــــــــــــــــهٌ تزلُّ الوَليَّةُ عنهُ زليــــــــــــــــــــــــــلا

13ـ تَطَرَّدُ أطرافَ عامٍ خصيــــــــبٍ ولم يُشلْ عبدٌ إليها فَصيــــــــــــلا

14ـ تَوَقَّرُ شـــــــــازِرةً طرْفَهـــــــــــــــــا إذا ما ثنَيْتَ إليها الجَديـــــــــــــــلا

15ـ بعَينٍ كعينِ مُغيـــــضِ القِداحِ إذا ما أراغَ يريدُ الحَويــــــــــــــــــــلا

16ـ وحادرةٌ كَنَفَيها المســـــــــــــــــيـ ـحُ تُنضحُ أوْبَرَ شتا غليــــــــــــــــلا

17ـ وصدْرٌ لها مَهْيَعٌ كالخلــــــيف تخالُ بأنَّ عليه شَلِيــــــــــــــــــــــــلا

18ـ فمَرَّتْ على كَشــــــِــــــبٍ غُدْوَةً وحاذَتْ بجَنْبِ أريكٍ أصيـــــــــــــــلا

19ـ تَوَطَّأُ أغْلَظَ جزَّآنِـــــــــــــــــــــــــهِ كوَطْءِ القَويِّ العزيز الذَّليـــــــــــــــلا

20ـ إذا أقبَلَتْ قلــــــــــــــــتَ مذْعورةٌ مِن الرُّمْدِ تَلحقُ هَيْتَاً َّذَمُـــــــولا

21ـ وإنْ أدْبَرتْ قلتَ مشــــــــــحونةٌ أطَاعَ لها الرَّيحُ قِلْعاً جَفُـــــــولا

22ـ وإنْ أعرَضْتَ راءَ فيها البصيـ ـر مالا يُكَلِّفهُ أن يفيـــــــــــــــــلا

23ـ يداً سُــــــــــــــــرُحَاً مَائِراً ضَبْعُها تسُــــــــــــــومُ وتقدُمُ رِجْلاً زَجُولا

24ـ وعُوجا تَناطَحْنَ تحتَ المَـــطا وتَهدي بهنَّ مُشــــــــاشاً كُهُولا

25ـ تُعِزُّ المَطِيَّ جماعَ الطّــــــريقِ إذا أدْلجَ القومُ ليلاً طويــــــــــلا

26ـ كأنَّ يديْها إذا أرْقَلَــــــــــــــــــــتْ وقد جُرْنَ ثمَّ اهتديْنَ السّـــبيلا

27ـ يَدَا عائِم خرَّ في غَمــــــــــــــرَةٍ قد أدْرَكَهُ الموتُ إلّا قليــــــــــــلا

28ـ وخُبِّرتُ قَومـــي ــ ولم ألْقهم ــ أجَدُّوا على ذي شُويْـسٍ حُلُولا

29ـ فإمّا هلكْـــــــــــــــــــتُ ولم آتِهم فأبْلِغْ أمَاثِلَ سَهْمٍ رَســــــــــــــولا

30ـ بأنْ قومكم خُيِّروا خصلتيــــــ ـن كلتاهما جَعلوها عُـــــــــــدُولا

31ـ خزيُ الحـياةِ وحَرْبُ الصّديقِ وكلٌّ أراهُ طَعَاماً وبيـــــــــــــــــــــــلا

32ـ فإنْ لم يكنْ غيرُ إحداهمــــــا فسِيروا إلى الموتِ سَيْراً جَميلا

33ـ ولا تقعُدوا وبـــــــــــــــــــــكمْ مُنَّةٌ كفى بالحوادثِ للمرءِ غُــــــــــولا

34ـ وحُشُّوا الــــــحروبَ إذا أُوقدتْ رِماحاً طِوالاً وخَيــــــــــــلاً فُحُولا

35ـ ومن نَســـْــجِ داؤودَ موضونةً ترى للقواضبِ فيها صَليــــــــلا

36ـ فَإنَّكمُ وعَطَاءَ الرِّهـــــــــــــــــــانِ إذا جَرَّتِ الحربُ جُلّاً جليــــــــلا

37ـ كثوْبِ ابن بَيْضٍ وقاهُم بــــهِ فَسَدَّ على السَّالكينَ السَّــــــبيلا ([9])

دراسة المعطيات الاجتماعيّة في القصيدة:

1 ــ الحالة الحضاريّة:

لعلّ الناظر في القصائد الجاهليّة، يلحظ ملامح الحياة البدويّة بعناصرها المتنوّعة من خيمٍ وإبلٍ وغنمٍ … إلخ، وهذا أمر بدهيّ، فلم تكن قد شاعتْ بعد الأبنية وغيرها من عناصر الاستقرار بشكل كبير، وإنّما كانت الحياة جُلّها قائمة على التّنقّل لأسبابٍ معيشيّة بحتة، وكان أهل البوادي يحبّونَ هذه الحياة، ويزدرون حياة المدن التّجاريّة كمكّة وغيرها.

وقد كونّت البيئة الصحراوية التي لاتحدّ بحدّ ملامح حياتهم “فاحتقروا الصناعة والزراعة، وعاشوا تحت الخيام على رعي الأنعام يطعمون من لحمها ولبنها، ويكتسون بصوفها، ووبرها، ويتتبّعون مواقع المطر من مكان إلى آخر.” ([10])

وبشامة كان من بني غطفان القبيلة العربيّة الكبيرة التي تسكن في بوادي نجد والحجاز وبوادي المدينة المنوّرة، فحريّ به أن يحيا حياة البداوة. ونلاحظ أوّل ما بدأ قصيدته بقوله:

هجرْتَ أُمــــــامةَ هَجراً طويلاً وحمَّلَكَ النَّأيُ عِبئـــــاً ثقيلا

وحُمِلّتَ منها على نأيـــــــــها خيالَاً يُوافي ونَيلاً قليــــــــــلا

في هذه الافتتاحيّة دلالة واضحة على الحياة البدويّة التي عاشها بشامة، فالرّحيل والتّنقّل والبعد ما هي إلّا سمة من سمات البداوة، فهم يرتحلون من منطقة إلى منطقة بين الفينة والفينة الأخرى، باحثين عن أسباب العيش، أو قد تكون لأسباب متعلّقة بثأر ما …… إلخ.

وفي قوله:

وقلتُ لها: كُنتِ، قد تعلميـــــ ـنَ، منذُ ثوَى الرَّكبُ، عنّا غَفُولا

في التّركيب (ثوى الرّكب) أيضاً إشارة لإقامته فترة من الزّمن بجوار قبيلة محبوبته أُمامة، وهذا يدلّ على وجودهم من قبل في منطقة أخرى، والآن أعدّوا العدّة وبدؤوا برحلة جديدة نحو منطقة أخرى.

إذاً هذا كلّه يكشف لنا الحالة الحضاريّة التي كانت عليها قبيلة بشامة وطائفته، فما عرفوا حياة التّمدّن والأبنية والقصور، بل كانوا من أهل الخيم والبساطة في نظام العيش دأبهم وهجيرهم الرحيل.

2 ــ النّشاط الاقتصاديّ:

نتيجة عدم الاستقرار الذي كان يشهده معظم أبناء العرب في ذلك الوقت، وتنقّلهم المستمرّ بحثاً عن الأفضل، هذا جعلهم بعيدين عن أجواء الصّناعة والتي كانت تتطلّب استقراراً وإمكانيّات متعدّدة لا تتوفّر في البيئات البدويّة، أمّا التّجارة فقد كانت أيضاً متركّزة فقط في مراكز المدن كمكّة، التي كانت في الجاهليّة مدينة تجاريّة عظيمة، بل كانت أيضاً سوقاً للشّعر والخطابة.

ففي البوادي والصّحارى فرضت طبيعة البيئة عليهم نمطاً معيّناً من أنماط الممارسة الاقتصاديّة، فنجدهم قد عملوا قليلاً في مجال الزّراعة، وذلك حسب الهطولات المطريّة القليلة التي تحصل بين الفترة والأخرى، لكن أغلب ما كانوا يعتمدون عليه هو إبلهم وغنمهم والاستفادة من لحومها وأوبارها وجلودها. يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ} سورة النّحل. ﴿٨٠﴾

“فاستبدلوا الماشية، ونتاجها ما يتطلّبون من تمر ولباس، أو لجأوا إلى الغزو والسلب إن عضتهم الحاجة، أو دعاهم طلب الثأر، والتشّفي” ([11]) وبشامة هو ابن هذه البيئة، لذا لا نلحظ في قصيدته أيّ نوع من أنواع النّشاط التّجاريّ أو الصّناعيّ، بل كانت الحياة الاقتصاديّة في بيئته قائمة على

تربية المواشي والإبل وما إلى هنالكَ، لكن نجده أشار إلى الدّروع التي كانت تُصنع على زمن سيّدنا داوود عليه الصّلاة والسّلام، حيث يقول:

وحُشُّوا الحروبَ إذا أُوقــدَتْ رماحاً طِوالاً وخَيـــــــلاً فُحُولا

ومن نسْجِ داؤودَ موضونــةً ترى للقواضبِ فيها صليــــلا

ونحن نعلم أنّ سيّدنا داوود عليه الصّلاة والسّلام كان بارعاً في صناعة الدّروع المتينة المنسوجة حلقتين حلقتين كما وصفها بشامة، والتي مازالت تُضربُ بها الأمثال حتّى يومنا هذا، وربّما هذا كان عائداً إلى ماخبروه من قصص الأمم السابقة.

3 ــ خصائص البيئة وعناصرها:

لعلّ أكثر مقطع وضّح لنا فيه بشامة الخصائص التي تتميّز بها بيئته التي يعيش فيها في المقطع الطويل الذي وصف فيه النّاقة، واستغرق أكثر من نصف القصيدة، فيصف شكلها، وحركتها، ونظرة عينها، وصدرها، ويديها، ورجليها، ويصور مشاعرها من ذعرٍ، وإعراض بمرآة العقل البدوي “الذي ينظرُ إلى الأشياء نظرة عامّة شاملة”([12]) بقوله:

فُقرّبْتُ للرَّحلِ عَيْرَانـــــــــــــــــــةً عُذافِرَةً عَنْتَريسَاً ذَمُــــــــــــــــــــولا

مُداخِلةَ الخَلْقِ مَضبــــــــــــورةً إذا أخَذَ الحاقِفاتُ المقيــــــــــــلا

لها قَرِدٌ تامِكٌ نَيُّـــــــــــــــــــــــــــهٌ تزلُّ الوَليَّةُ عنهُ زليــــــــــــــــــــلا

تَطَرَّدُ أطرافَ عامٍ خصيـــــــبٍ ولم يُشلْ عبدٌ إليها فَصيـــــــلا

تَوَقَّرُ شــــــــــــازِرةً طرْفَهـــــــــــــا إذا ما ثنَيْتَ إليها الجَديـــــــــلا

بعَينٍ كعينِ مُغيــــضِ القِداحِ إذا ما أراغَ يريدُ الحَويـــــــــــــــلا

وحادرةٌ كَنَفَيها المســـــــــــــــــيـ ـحُ تُنضحُ أوْبَرَ شتا غليــــــــــلا

وصدْرٌ لها مَهْيَعٌ كالخلــــــيف تخالُ بأنَّ عليه شَلِيــــــــــــــــــلا

فمَرَّتْ على كَشــــِـــــــبٍ غُدْوَةً وحاذَتْ بجَنْبِ أريكٍ أصيــــــــل

تَوَطَّأُ أغْلَظَ جزَّآنِـــــــــــــــــــــــــهِ كوَطْءِ القَويِّ العزيز الذَّليـــــــلا

إذا أقبَلَتْ قلــــــــــــتَ مذْعورةٌ مِن الرُّمْدِ تَلحقُ هَيْتَاً َّذَمُــــــــولا

وإنْ أدْبَرتْ قلتَ مشـــــــحونةٌ أطَاعَ لها الرَّيحُ قِلْعاً جَفُـــــــــولا

وإنْ أعرَضْتَ راءَ فيها البصيـ ـر مالا يُكَلِّفهُ أن يفيــــــــــــــــــلا

يداً سُــــــــــــــــرُحَاً مَائِراً ضَبْعُها تسُـــــــــــــــومُ وتقدُمُ رِجْلاً زَجُولا

وعُوجا تَناطَحْنَ تحتَ المَـــطا وتَهدي بهنَّ مُشـــــــــاشاً كُهُولا

تُعِزُّ المَطِيَّ جماعَ الطّـــــــريقِ إذا أدْلجَ القومُ ليلاً طويـــــــــــــلا

كأنَّ يديْها إذا أرْقَلَــــــــــــــــــــتْ وقد جُرْنَ ثمَّ اهتديْنَ السّـــبيلا

يَدَا عائِم خرَّ في غَمـــــــــــــــرَةٍ قد أدْرَكَهُ الموتُ إلّا قليــــــــــــلا

الشّاعر الجاهليّ جعل من شعره مرآة عكس فيها أحوال الطّبيعة، وكلّ ما يراه حوله فها هو بشامة يبدع في وصف الكثير من الأشياء حوله والتي تدلّ بشكل واضح وصريح على بيئته الصّحراويّة القاسية، وأوّلها ناقته (الصّلبة، الشّديدة، الضّخمة، الجريئة، السّريعة، المحكمة البنية، الحادّة البصر، ذات الأضلاع الغليظة والمتداخلة مع بعضها بقوّة … ) كلّ تلك الصّفات التي اجتمعت فيها، لا تدلّ إلّا على أنّها قد ألِفت حياةً قاسية تكثر فيها الأراضي الممتدّة، المليئة بالرّمال المُحرقة نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، وقد تكون في بعض الأحيان هذه الأرض غليظة مُشقّقة، إذ كان ” للبيئة أثر كبير في الأدب الجاهلي، فقد جعلت أفكاره واضحة، وصوره واقعية، وأسلوبه موجزاً، وبديهاً يخلو من المنطق الدقيق ، ونغمته موحّدة كثيرة التكرار، ولفظه دقيقاَ إذا دلّ على ضروريات الحياة حياة البادية” ([13]) كما نلحظ في قوله: (تَوَطَّأُ أغلظَ جزَّآنـــــــهِ).وفي التّركيب (تَطَرَّدُ أطرافَ عامٍ خصيبٍ) أي هذه النّاقة ترعى من أطراف النّبات، إذاً هناك وجود لبعض النّباتات والأعشاب الصّحراويّة، وهي قليلة، قد تكون موزّعة بين مسافات كبيرة، وعندما يتسنّى للنّاقة الوصول إليها تأكل منها. أيضاً نلحظ وجود الجبال في هذه البادية في قوله:

18ـ فَمَرَّتْ على كَشـــِــــبٍ غُدوَةً وحاذتْ بجنْبِ أريكٍ أصيـــــــلا

كَشِبٍ بفتح الكاف وكسر الشّين، وأريك هما جبلان يقعان في البادية، وبينهما أرض ممتدّة واسعة، استطاعت هذه النّاقة القويّة أن تقطعَ المسافة بينهما في غضون يومٍ واحدٍ.

كلّ ذلك إنّما يصوّر لنا إقليماً صحراويّاً بحتاً بكلّ ما فيه، بأرضه، بسمائه، بجباله بوديانه، بحيواناته، بأعشابه …. إلخ.

ونستطيع أن نقول: إنّ هذا الإقليم بما يحتويه هو الذي جيّش الأفكار داخل الشّاعر البدويّ، وحرّك لسانه، فانطلق يجود بأوصافه الدّقيقة.

ولعلّ الطبيعة الصحراوية القاسية سريعة التّبدّل والتّلون والتي لايُؤمن جانبها، جعلت حضور البديهة والذّكاء اللّماح عند الشاعر، كما أورثته الإحساس الدّقيق والشّعور المرهف، ولهذا كان أدبه أدب البديهة، “فغلب على أدبه أدب الفطرة، والطبع، أكثر من الاكتساب، والجهد”([14]) فوجدناه بعيداً عن التّركيب العلمي, والتّرتيب المنطقيّ.

4 ــ عقائد الأمّة وإيمانها وعاداتها:

لم يكن الإسلام قد حلَّ في ذلك الوقت، وكانت الوثنيّة هي العقيدة السّائدة عند العرب، فكانوا يعتكفون عند الأصنام التي يصنعونها بأيديهم، ويقدّمون لها القرابين ظنّاً منهم أنّها تنجيهم من المهالك وتبارك لهم في أعمارهم وأرزاقهم وذريّاتهم … إلخ، “فالعرب في البادية قبائل رحّالة، ليس لهم من وسائل العمران ما يتيح لهم التبحّر في علم أو التبصّر في دين…فقد كان معظم العرب يدينون بالوثنية، وكانت ديانتهم بدائية، وخالية من الميثولوجيا، واللاهوت، ترتكز في أول عهدها على تقديس الحجارة، والمغاور، والينابيع، والأشجار لاعتقاد العرب أنّ في تلك الأشياء الماديّة أرواحاَ”([15]).

ومنهم أيضاً مَن كان يعبد النّجوم والكواكب وغيرها، حيث يرى قوّة خفيّة موجودة في بعض النّباتات والجمادات والحيوان وما إلى هنالك، لكن عبادة الأصنام هي الأكثر انتشاراً آنذاك، وإذا ما نظرنا في قصيدة بشامة نجد أنّه لم يتطرّق إلى ذكر أيّ شيءٍ يخصّ العبادات، ولكن ذكّر قومه أنّه من عادات هذه القبيلة ألّا ترضى بالذّل والهوان، لهذا نراه يدعوهم إلى المجابهة بقوله:

بأنّ قومكم خُيِّروا خصلتيــــ ـنِ كلتاهما جعلوهـــا عُـــــــــدولا

خزي الحياة وحرب الصّديق وكلّ أرَاهُ طعَاماً وبيــــــــــــــــــلا

ويُقصد بخزي الحياة: أي العار الذي سيوصمون به عند عدم نصرهم لحلفائهم الحرقة، وحرب الصّديق: أي محاربة غطفان (بنو صرمة) لذا يطالبهم بألّا يتخلّفوا عن المجابهة، لأنّ ذلك ليس من عادات عشيرته.

5 ــ طبقات المجتمع:

كان المجتمع الجاهليّ آنذاك قائماً بشكل أساسيّ على ثلاث طبقات رئيسيّة وهي:

أ ــ طبقة الأشراف وأبناء القبيلة: وهم كبار القبيلة وأبناؤها، يربط بينهم النّسب والدّم، ويتمتّعون بكامل الحقوق المدنيّة والسياسيّة” وهم لايخضعون لنظام غير نظام القبيلة”. ([16])

ب ــ طبقة العبيد: وهم الرّقيق الذين تمّ إحضارهم من الحبشة، ولا يتمتّعون بأيّ حقّ.

ج ــ الموالي: وهم عتقاء القبيلة، ومن بينهم الخلعاء الذين قامت قبائلهم بخلعهم وطردهم خارج أراضيها، فيلجؤون لقبيلة أخرى ويصبح بإمكانهم الاستقرار في القبيلة الجديدة([17]). وفي قصيدة بشامة نلحظ أنّ أبناء قبيلته كانوا فرساناً بمعظمهم، وقد دلّنا على ذلك قوله:

ولا تقعُدوا وبكُم مُنَّــــــــــــــــــــةٌ كفى بالحوادثِ للمرءِ غُولا

وحُشُّوا الحروبَ إذا أُوقــدتْ رِماحاً طِوالاً وخَيلاً فُحُـولا

بكُم مُنَّةٌ أي قوّة كبيرة، وهم فرسان يستطيعون شنَّ آلاف الحروب ورماحهم دائماً على أهبة الاستعداد، فضلاً عن خيولهم المدرّبة باحتراف على خوض غمار المعارك، إذاً هم ما كانوا إلّا مجتمعاً فروسيّاً بامتياز.

6 ــ خصائص الأمّة العقليّة:

ما احترفَ العرب في الجاهليّة مهنة أكثر من قول الشّعر وصياغته بأسلوب بلغ ذروة في الجمال اللّغويّ والأدبيّ والموسيقيّ والفنيّ، وكانوا يتوارثونه من الأجداد إلى الأحفاد، وها هو زهير بن أبي سُلمى ورث هذا الإرث الثّمين عن خاله بشامة وأورثه أيضاً لابنيه بُجير وكعب.

يقول ابن قتيبة: “الشّعر معدن علم العرب، وسفر حكمتها، وديوان أخبارها، ومستودع أيّامها، والسّور المضروب على مآثرها، والخندق المحجوز على مفاخرها، والشّاهد العدل يوم النّفار، والحجّة القاطعة عند الخصام”. ([18])

7 ــ الحياة الوجدانيّة:

تجلّت العاطفة أكثر التّجلي في مطلع قصيدة بشامة، عندما بدأ بوداع محبوبته أُمامة بعد عزمه على الرّحيل:

هجرتَ أمامة هجرًا طويلًا وحمّلك النأي عبئًا ثقيلا

وحُمّلتَ منها على نأيهـــــــــا خيالاً يُوافي ونَيلاً قليــــــــــــــــــــلا

ونظرَةَ ذي شَــــــــــــــجَنٍ وامِقٍ إذا ما الرَّكائبُ جاوزْنَ مِيــــــــلا

أتتْنا تُســـــــــــــــــــــائلُ ما بثُّنا فقلْنا لها: قد عزمْنا الرَّحيــــــــلا

في هذه الأبيات نلاحظ شيوع عاطفة الحبّ لأُمامة والحزن والحسرة والألم على فراقها (حمَّلَكَ النَّأيُ عِبئاً ثقيلاً)، فبُعد أُمامة عنه سيجلبُ له الكثير من الهموم والمتاعب والحسرات.

(نظرَة ذي شَجَنٍ وامِقٍ) تركيبٌ يوضّح شدّة حزن المحبّ وألمه الشّديد لحظة الوداع، فالدّموع تملأ العيون، والآهات تضيق بها الصّدور.

ومنذ البداية يشعرنا أن غرضه الحديث عن عاطفة معقدّة قريبة من القلب (هجر ونأي ومقة وذكرى- شوب من كبر المغاضب وأسف المحب وشكه في صواب ما يعزم عليه ويتكلّفه من واقع أمر الحياة وقوله «هجرت أمامة هجرا طويلا» يزيد الأمر تعقيدا، إذ المألوف أن تكون المحبوبة هي الهاجرة، ثمّ تبدأ العقدة بالانفراج حين نجد تعليلاً لهذا الهجر غير المألوف من المحبّ، في قوله:

وقلت لها كنت قد تعلمين مذ ثوى الركب عنا غفولا

فهو قد وصل مرحلة اليأس فهي التي يبدأ بها، فهجره هجر يائس من نوال المحبوبة، لا هجر كاره مبغض، وهو في الوقت عينه هجر الحازم القوي، وكأنه يقدّم إشارة إلى قومه بضرورة الحزم في أصعب المواقف، ويمهّد لما سيأتي عليه لاحقاً حين يصل إلى الغرض الأساسي في قصيدته ولكنه بدأ بالنتيجة قبل السبب، فبدأ الأحداث من حيث انتهت بالهجر، ثم عاد إلى الأسباب التي دعته للهجر، أمّا المحبوبة فما كان لها من عذر غير الدموع:

فبادرتاها بمستعجل … من الدمع ينضح خدا أسيلا

الشاعر، لا يملك إلا أن يصف خدّ المحبوبة، ذلك الخدّ الأسيل الذي ينضح الدموع من عيونها، دموع اعتذار، وندم لمن ليس بعاذرها، فهو اتّخذ قراره الحازم منذ البداية، وأمام هذا القرار، لم تنفع دموع الندم، والاعتذار، وهنا يشير إشارة ثانية إلى قومه بأنه يتوجّب عليهم اتّخاذ القرارالحازم في الوقت المناسب، وإلا فلن ينفعهم بعده ندم، أو اعتذار.

وما كان أكثر ما نوّلت … من القول إلا صفاحا وقيلا

وعذرتها أن كل امرئ … معدله كل يوم شكولا

فدموعها إذن دموع عزم على وداع، وتقبّل افتراق

كأن النوى لم تكن أصقبت … ولم تأت قوم أديم حلولا

ثمّ يعذرها في أنّها تقبلّت الفراق، وكأن لم يكن بينهما حال من أحوال المحبين، وعذره عذر اللائم لها على أنها تبدلّت به آخر، فهي إذن الهاجرة على وجه الحقيقة، ولابد له إذن من هجرها الهجر الطويل، إذ ليس إلى غير ذلك من سبيل.

وفي الحقيقة هو عُرفٌ كان سائداً في الأدب الجاهليّ، حيث يفتتح الشّاعر الجاهليّ قصيدته بمشاعر مليئة بالحبّ والحنان والألم والبكاء على أيّام المحبوبة التي هجرته وغادرت المنطقة إلى منطقة أخرى، تاركةً له ذكرى أيّامها الخوالي التي قضاها بجوارها.

أمّا في قوله:

فإمّا هلكْــــــــــــــــتُ ولم آتِهم فأبْلِغْ أمَاثِلَ سَهْمٍ رَســـــــــــــــــــولا

بأنْ قومكم خُيِّروا خصلتيـــــ ـن كلتاهما جَعلوها عُــــــــــــــــــدُولا

خزيُ الحياةِ وحَرْبُ الصّديقِ وكلٌّ أراهُ طَعَاماً وبيـــــــــــــــــــــــــلا

فإنْ لم يكنْ غيرُ إحداهمــــا فسِيروا إلى الموتِ سَيْراً جَميلا

ولا تقعُدوا وبـــــــــــــــــكمْ مُنَّةٌ كفى بالحوادثِ للمرءِ غُـــــــــــــولا

وحُشُّوا الــحروبَ إذا أُوقدتْ رِماحاً طِوالاً وخَيـــــــــــــلاً فُحُولا

هنا تبرز مشاعر الغضب والتّحدّي، فبشامة كان مقعداً ولا يستطيع نزال المقاتلين، لذا نراه يُؤجّج مشاعر الغضب في قلوب أبناء قومه، ويحثّهم على خوض الحرب، (فسيروا إلى الموت سيراً جميلاً) أي إيّاكم وأن تجعلوا الذّل والمهانة تُرافقكم. (كفى بالحوادثِ للمرءِ غُولا) الموت قادمٌ لا محالة، فليكن موت عزّةٍ وأنفة، لا موتَ خزي وهوان.

والمعلوم أنّه لم يكن هناك أسوأ من شعور الذّل بالنّسبة للعرب في ذلك الوقت، “فهم لا ينكرون شيئاً مثل إنكارهم للهوان والضّيم، فهما السّوأة الكبرى والمثلبة العظمى، إذ يعنيان الذّل وأنّ القبيلة استُبيحت فلم تستطيع الدّفاع عن كرامتها، وكلّ شيء إلّا الهوان، وكان أقلّ شعور به يثيرهم”([19]).

فبشامة لم يستطع المشاركة بسبب الإعاقة التي كان يعاني منها، لكنّه شارك بلسانه وحضّ قومه على عدم السّكوت والخذلان.

8 ــ عناصر المقام والمناسبات:

ذكرنا سابقاً أنّ سبب إلقاء بشامة لهذه القصيدة إنّما كان لحضّ قومه بني سهم بن مُرّة على خوض الحرب والموت موتاً مُشرّفاً، وأراد أن يثني الحصين بن حمام المرّي عن فعلته عندما أعطى ابنه رهينة لعقد الصّلح مع بني صرمة من غطفان، فالموت أشرف لهم من الخزي والعار الذي سيلحقُ بهم، يقول:

فَإنَّكمُ وعَطَاءَ الرِّهــــــــــــــــــانِ إذا جَرَّتِ الحربُ جُلّاً جليـــــــلا

كثوْبِ ابن بَيْضٍ وقاهُم بــهِ فَسَدَّ على السَّالكينَ السَّــــــبيلا

وشبّه فعل الحصين هذا بفعل ابن بَيْض الذي تقول المصادر “أنّه وفى الأعداء ما كانوا يطلبونه منه بعد امتناع وإظهار إباء، فالتزم الذّل واكتسب العار فيه”([20]).

9 ــ مجالات الدّلالة:

بما أنّ الشّاعر الجاهليّ كان مواجهاً لطبيعته، نجده لا يُكثر من الخيال في قصائده، بل يتناول المحسوسات والمادّيات من حوله، ويوظّفها في قصيدته بشكل منطقيّ، وسلس، فكانت الألفاظ في القصيدة حسيّة واضحة، تدلُّ على القوّة التي كان يريد بشامة أن يبثّها في نفوس أبناء قومه، لدفعهم تجاه الحرب مثل (الرّكائب ــ عَيرَانة عُذافِرة ــ عَنتَريس ــ مَضبورة ــ حَادِرة ــ المطيّ ــ الرّماح ــ الخَيل ــ القواضب .. إلخ)، فهي جميعها مفردات من بيئته التي لم يتعدَّ حدودها.

ولا يخلو الأمر من بعض المفردات ذات الدّلالة المعنويّة، ليبيّن لأُمامة ما يعانيه ويُقاسيه لبعده عنها، مثل ( الهجر ــ النّأي ــ الخيال ــ البثّ ــ الصِفاح ــ الموت .. إلخ) وقد غلبت التّراكيب الخبريّة على القصيدة، وأكثر ما تجلّت في مقطع وصف النّاقة، وهذا ما يتطلّبه الوصف عادةً، كما في قوله:

تَوَقَّرُ شـــــــــــــازِرةً طرْفَهـــــــــــــا إذا ما ثنَيْتَ إليها الجَديــــــــــلا

بعَينٍ كعينِ مُغيــــــضِ القِداحِ إذا ما أراغَ يريدُ الحَويـــــــــــــــلا

وحادرةٌ كَنَفَيها المســــــــــــــــــيـ ـحُ تُنضحُ أوْبَرَ شثَّاً غليـــــــــــلا

وصدْرٌ لها مَهْيَعٌ كالخلـــــيف تخالُ بأنَّ عليه شَلِيــــــــــــــــــــلا

أمّا في أواخر القصيدة كثُرت التّراكيب الإنشائيّة، وخاصّة بأسلوب الأمر، وذلك لشحذ الهمم، ورفع المعنويّات لأبناء القبيلة، وتحريضهم على المواجهة وعدم الرّضوخ لحياة الذّل، فنجد تراكيب مثل (فأبلغْ ــ فسيروا إلى الموت سيراً جميلاً ـوحُشُّوا الحروبَ …… إلخ).

أيضاً التّشابيه التي استخدمها كانت كلّها من بيئته، كتشبيه النّاقة بذكر النّعام في قوله (قلتَ مذعُورةٌ من الرُّمْدِ) للدّلالة على سرعتها في السّير.

ولعلّ أجمل وأبلغ التّشابيه التي قدّمها بشامة، عندما شبّه يدي النّاقة وهي مسرعة في سيرها وقد عدلت قوائمها، في رفعها لها ووضعها عن المحجة مرّة وعادت إليها أخرى بيدي إنسانٍ سقط في الماء الكثير، فبات يسبح بسرعة للخلاص من شبح الموت في قوله:

كأنَّ يديْها إذا أرْقَلَـــــــــــــــــــتْ وقد جُرْنَ ثمَّ اهتديْنَ السّـــبيلا

يَدَا عائِم خرَّ في غَمــــــــــــــرةٍ قد أدركهُ الموتُ إلّا قليـــــــــــــلا

ومثله تشبيهه لفعل الحصين عندما أعطى ابنه رهينة لعقد الصّلح بما فعله ابن بَيْض الذي وفى الأعداء ما يطلبونه منه بعد إبداء معارضته لهم، فالتزم الذّل، في قوله:

فَإنَّكمُ وعَطَاءَ الرِّهــــــــــــــــــانِ إذا جَرَّتِ الحربُ جُلّاً جليــــــــلا

كثوْبِ ابن بَيْضٍ وقاهُم بــهِ فَسَدَّ على السَّالكينَ السَّــــــبيلا

وهذا ما يُعرف في علم البيان بالتّشبيه التّمثيليّ، الذي يُعدّ أقوى التّشابيه وأبلغها في توضيح المعنى وتمثيل الصّورة، وهي أيضاً تشابيه واقعيّة لا تمتّ للخيال بِصلة، ولم تخرج عن نطاق حدود البيئة التي كان يعيش فيها بشامة.

الخاتِمـة:

الشّعر الجاهليّ وثيقة تاريخيّة ثمينة، حفظت لنا حياةً كاملة كنا سنجهلها لولاه, وماعلينا سوى أن نخضع هذه الوثيقة للبحث بقصد التنقية ممّا شابها من الشوائب التي أتاحت للطاعنين في هذا الشعر بشكل خاص، وبالتراث العربي بشكل عام؛ إن يجدوا مدخلاً لتعميم شكوكهم ومزاعمهم على الشعر الجاهلي، ونحن إزاء شاعر – رغم قلّة الأحاديث عنه، وقلّة الدّراسات التي تناولت شعره، وفصّلت في تفسير قصائده- إلّا أنّه يُعدّ من فحول الشعراء القدماء المجيدين بقوّة شعره، وجزالة لغته وفصاحتها، وقدرته على سبك الكلام بأسلوب متين ورصين، فضلاً عن عمق المعاني التي يرمي إيصالها إلى من حوله، كما مرَّ معنا في هذا البحث، فالقارئ لقصيدته يحسب نفسه كأنّه يتجوّل مع بشامة في حلّه وترحاله، لدقّة وصفه وجودة تعبيره، وقدرته على مزج إحساسه بإحساس القارئ، ونقله إلى عالمه.

النتائج:

1-ربط البحث بين المعطيات الاجتماعية في العصر الجاهلي التي أثبتتها الدراسات، وتوّصل البحث عبر التحليل والربط إلى أنّ القصيدة صدرت عن المعطيات الاجتماعية الجاهلية، حيث صوّرت القصيدة معظم جوانب المجتمع الجاهلي، كوصف مشهد الرحيل، ووصف الناقة ذلك الوصف البارع الذي ترك أثره في الشعراء اللاحقين كمثل كعب بن زهير الذي ينتمي إلى هذه المدرسة الشعريّة.

2-الشاعر كان كالمصور الذي يسجل الواقع الماثل أمامه تسجيلاً واقعياً بعيداً عن الخيال، وحتى في التشابيه التي استخدمها صوّر أحداثاً وقصصاً واقعية كقصة ابن بيض مثلا، ومن حيث المفردات؛ جاءت مفردات القصيدة مشتقة من بيئة صحراوية قاسية فكانت جزلة قوية، ولا نلمس لها أشبها إلا في الشعر الجاهلي.

3-تعدُّ القصيدة وثيقة تاريخية سجلت لنا بدقة معظم جوانب الحياة الاجتماعية بأسلوب متين، ورصين، وبالتالي نستطيع أن نعتبرها دليلاً ضمن مجموعة أدلة تدلّ على أنّ ما ذهب إليه مرجليوث ومن تبعه جانبوا الحقائق التاريخية إلى درجة أبعدت ما ذهبوا إليه بعداً كبيرا.

قائمـة المصادر والمراجع:

القرآن الكريم.

1- الأعلام، خير الدين الزركلي، ط15 (2002 م دار العلم للملايين، بيروت-لبنان.

2-أمالي المرتضى غرر الفوائد ودرر القلائد، الشريف المرتضى، ط1 (1954م)، دار إحياء الكتب العربية.

3- أنساب الأشراف، البلاذري، تحقيق: محمد حميد الله (1959م)، دار المعارف- مصر.

4- تاريخ الأدب العربيّ، حنّا فاخوري، ط2، (1953م)، المطبعة البوليسية، بيروت-لبنان.

5- تاريخ الأدب العربيّ العصر الجاهليّ، شوقي ضيف، ط1(1960م)، دار المعارف- القاهرة.

6- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، البغدادي، تحقيق: عبد السلام هارون، ط4(1997م)، مكتبة الخانجي- القاهرة.

7- الشاهد الشعري في تفسير القرآن الكريم أهميته، وأثره، ومناهج المفسرين في الاستشهاد به، عبد الرحمن بن معاضة الشهري، ط1 (2010م/1431ه)، مكتبة دار المنهاج – المملكة العربية السعودية.

8- شرح اختيارات المفضّل، الخطيب التّبريزي، تحقيق: فخر الدّين قباوة، ط2(1987م)، دار الكتب العلميّة، بيروت ــ لبنان.

9- شرح المعلقات السبع، الزوزني، ط1(2002م)، دار إحياء التراث العربي.

10- عيون الأخبار، ابن قتيبة الدّينوري، (1418ه)، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان.

11-‌طبقات ‌فحول ‌الشعراء، محمد بن سلام الجمحي، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار المدني.

12- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، ط4 (2001م )، دار الساقي.

الهوامش:

  1. () خير الدين الزركلي، الأعلام، ط15 (2002 م دار العلم للملايين ج 2/ص 54.
  2. () محمد بن سلام الجمحي، ‌طبقات ‌فحول ‌الشعراء، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار المدني – ج2/ص: 718.
  3. () الزوزني، شرح المعلقات السبع، ط1(2002م)، دارإحياء التراث العربي، ص:127
  4. () جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط4 (2001م)، دار الساقي. ج9/ص 198.
  5. () البغدادي، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تحقيق: عبد السلام هارون، ط4(1997م)، مكتبة الخانجي-القاهرة ج 8/ ص314.
  6. () البلاذري، أنساب الأشراف، تحقيق: محمد حميد الله (1959م)، دار المعارف – مصر. ج:13/ص:132/133.
  7. () الشريف المرتضى، أمالي المرتضى غرر الفوائد ودرر القلائد، ط1 (1954م). دار إحياء الكتب العربية. ج1/ص:556.
  8. () يُنظر شرح اختيارات المفضّل، الخطيب التبريزي، تحقيق: فخر الدين قباوة، ط1 (1971). دار الكتب العلميّة. بيروت. لبنان. ج1/ص277/278.
  9. () الخطيب التبريزي، شرح اختيارات المفضّل، ، تحقيق: فخر الدين قباوة، ط1 (1971)، دار الكتب العلميّة. بيروت-لبنان. ج1/ص: 278 إلى ص: 300.
  10. () حنّا الفاخوري، تاريخ الأدب العربي ، ط2 (1953)، المطبعة البوليسية ص: 18/19.
  11. () حنّا الفاخوري، تاريخ الأدب العربي، ط2 (1953) المطبعة البوليسية: ص:19.
  12. () حنّا الفاخوري، تاريخ الأدب العربي، ط2 (1953) المطبعة البوليسية: ص:47.
  13. () حنّا الفاخوري، تاريخ الأدب العربي، ط2 (1953) المطبعة البوليسية، بيروت- لبنان ص:63.
  14. () حنّا الفاخوري، تاريخ الأدب العربي، ط2 (1953) المطبعة البوليسية، بيروت- لبنان ص:47
  15. () حنّا الفاخوري، تاريخ الأدب العربي، ط2 (1953)، المطبعة البوليسية، بيروت-لبنان ص:19.
  16. () حنّا الفاخوري، تاريخ الأدب العربي، ط2 (1953)، المطبعة البوليسية، بيروت-لبنان ص:19.
  17. () يُنظرشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، ط1. (1960م)، دار المعارف- مصر. ج:1/ص:67.
  18. () ابن قتيبة الدينوري، عيون الأخبار،(1418ه). دار الكتب العلمية. بيروت. ج:2/ص:200.
  19. () تاريخ الأدب العربي، شوقي ضيف، ط1 (1960)، دار المعارف- مصر. ج:1/ ص69.
  20. () شرح اختيارات المفضّل، الخطيب التبريزي، تحقيق: فخر الدين قباوة، ط1 (1971)، دار الكتب العلميّة. بيروت- لبنان. ج1/ ص 301