التّفاعل الفنّي والتكامل المعرفي في المسرح

أنوار البخاري1 د. محمد قاسمي1

1 مختبر التراث الثقافي والتنمية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الأول، المملكة المغربية.

Email : anouarelboukhari@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(7); https://doi.org/10.53796/hnsj57/11

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/07/2024م تاريخ القبول: 18/06/2024م

المستخلص

يتطلّع هذا البحث، إلى معرفة صلة المسرح بعدد من المعارف والعلوم والفنون والتقنيات التي استطاع المسرح الموالفة بينها، والتي أعطته منذ نشأته وحتى الوقت الحالي مكانته وتميّزه عن باقي الأداءات الفنية نحو الموسيقى والرقص والغناء و التشكيل؛ وبذلك سنحاول بحث هذه الصلة من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية:

1- كيف يمكن لمختلف روافد العلوم الإنسانية أن تتفاعل وتتكامل في عملية الإنتاج المسرحي؟

2- كيف يمكن للأفكار والاكتشافات العلمية أن تُلهم الإبداع والابتكار في مجال العروض المسرحية؟

هذه الأسئلة التي حاولنا معالجتها في محورين اثنين:

أوّلاً: محور المسرح والعلوم الإنسانية؛

ثانياً: محور الابتكار والتجديد في المسرح من خلال التفاعل مع المعارف العلمية.

تـقـديـم:

يعتبر المسرح واحد من أقدم الفنون جميعا، جذوره ضاربة في القدم، وهو من الفنون الأكثر ارتباطاً بالعلوم الإنسانية، مثل سوسيولوجيا الفن والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا واللسانيات والهيرمينوطيقا والسيميولوجيا التي صبّت خلال السنوات الأخيرة اهتمامها على المسرح وساهمت في تشكيل توجّهات مسرحية متباينة. كما أنّه أكثر الفنون تفاعلاً وانفتاحاً، وأكثرها قدرة على الموالفة بين أداءات فنية متعدّدة

هذا التكامل والتفاعل هو ما سيظهر لنا بشكل جلي من خلال المحورين التاليين:

أوّلاً: المسرح والعلوم الإنسانية

  1. المسرح وعلاقته بالعلوم الإنسانية

يتميز المسرح كفعل وممارسة عن غيره من الفنون كونه فن قائم على مبدأي التكامل والتفاعل؛ حيث أنّه ومنذ بداية القرن العشرين، لم ” تتوقف الكثير من المناهج النقدية ذات المحتويات المتنوعة والمستعارة من مختلف الفروع الإنسانية، على إثراء البحث المسرحي، سواء على مستوى التحليل أو على مستوى التطبيق. ولم تكن هذه التحاليل في البداية من عمل المسرحيين، فالتفكير حول المسرح كان قد تمَيّز، ومنذ نهاية القرن التاسع عشر (19) بإسهام الفلاسفة، والسوسيولوجيين وعلماء اللسان الذين اشتغلوا بالمسرح”[1].

فالتفكير النظري على مرّ العصور، فتح الباب لمقاربات جديدة للفعل المسرحي وشكّل نقطة انطلاق لتفكير استيطيقي متجدّد.

هكذا وعلى سبي المثال لا الحصر نورد عمل البّولوني Roman Ingarden – المتشبّع بأفكار الفيلسوف التشيكي Edmund Husserl – الذي مهّد لرؤية جديدة للمسرح، حيث أنّه اعتبر واحد من الأوائل الذين مهّدوا إلى التفكير في جنس المسرح؛ “فاعتَبَر المسرح حالة محدودة من العمل الأدبي، ومن تمّ فإنّه ينبغي وضعه في إطار الفنون وليس الأدب”[2]

دون أن ننسى الأبحاث التي شكّلت بواكير التفكير السوسيولوجي حول المسرح، من خلال محاولتها عقد صلات دياليكتيكية بين أشكال التعبير المسرحية والأوضاع الاجتماعية للوجود الجماعي مثل:

  • دراسة عالم الاجتماع الأمريكي Erving Goffman (1959) المعنونة ب ” The Presentation of Self in Everyday Life” والتي تعتبر من بين الأعمال المُهمّة في التفكير السوسيولوجي حول المسرح، حيث يستخدم كوفمان المسرح ومفاهيمه، لفهم التفاعل الاجتماعي بين البشر. (*)[3]
  • و دراسة الأستاذة الأمريكية Janet Wolff (1989) المعنونة ب ” The Social Production of Art” ، التي اعتبرت المسرح انتاجا اجتماعياً، حيث قدّمت في دراستها تحليلاَ لكيفية تأثير العوامل الاجتماعية، على انتاج الفنون وبشكل خاص المسرح. حيث سلّطت الضوء على دور المسرح في تأسيس التواصل الثقافي وبناء التفاعل الاجتماعي.(*)[4]
  1. ملامح التفاعل بين المسرح وبعض الروافد الرئيسية للعلوم الإنسانية.

1-2- المسرح وعلم النفس (Psychology):

حاول Sigmund Freud (1856- 1939) الاستعانة بعالم الفن والإبداع لعلّه يجد فيه ما يساعده على معالجة مرضاه، ولعلّه يكتشف فيه أسراراً تدعّم ما أسّس من نظريات ومفاهيم، فمزج الفن بعلم النفس، وعمل على تطبيق نظرية التحليل النفسي على العالم الفني والإبداعي. فوجد في الفنون عامّة، وفي المسرح بشكل خاص ملاذه، “فوظّف تقنيات المسرح من أجل أجرأة وتطبيق علاجه النفسي ولاسيما تقنية لعب الأدوار، إذ أنّه وبعد تشخيص حالة المريض يقوم بترجمة مشكلته تلك إلى مشاهد درامية، ويقوم المريض بالأداء والتمثيل رفقة زمرة من المرضى”[5]

هكذا وجد علم النفس ضالّته في المسرح، فصارت الدراما مهمة بالنسبة للعلاج النفسي فتولّد عن هذا الارتباط رافد جديد يجمع بين الدراما كنوع من أنواع الفنون وعلم النفس؛ عُرف في الحقل المعرفي ب: السيكودراما (بالإنجليزية: Psychodrama)‏.

2-2- المسرح و علم الاجتماع (Sociology):

تطوّر المسرح وتدرّج داخل المجتمع، وهو من الفنون التي أنتجتها الجماعة أثناء تعبيرها عن ذاتها. والمسرح هو “ضرب من الأدب عند تناوله كنص، وضرب من الفنون عندما تتناوله كعرض مسرحي، وهو في الحالتين لا يمكن أن ندرسه بمعزل عن المجتمع أوالبنية الاجتماعية التي نشأ منها ولها، فالمسرح بوصفه ظاهرة أدبية ينطبق عليه قول René Wellek(1903-1995) عن الآدب من أنّه نظام اجتماعي يصطنع اللغة وسيطا له، واللغة نفسها إبداع اجتماعي، وإذا كان الأدب يمثل الحياة، فإنّ الحياة ذاتها حقيقة اجتماعية”[6] بمعنى أخر ” أنّ المسرح بوصفه فنًا يعكس علاقة نوعيه – في نقل علاقة جمالية– بين الإنسان وعالمه الطبيعي والاجتماعي أيْ أنّ الفن هو صياغة للعلاقة بين الإنسان وواقعه بالمعنى الشامل”[7]

هكذا تتضح تلك العلاقة الجدلية التي تجمع المسرح بالمجتمع والتي تمتد لعقود طويلة، وهو الوضع الذي يؤدّي أوتوماتيكيا إلى دخول المسرح في دائرة اهتمام علماء علم الاجتماع، الذين لطالما اعتبروه مادة خام لدارسة المجتمعات القديمة والحديثة، إذ أنّ دراسة المسرحيات مكّنتهم من الوقوف على طبيعة المجتمع وعاداته وتقاليده، وكذا مشاكله وقضاياه ونظمه السياسية.

2-3- المسرح والفلسفة (Philosophy)

ترسّخت العلاقة بين الفلسفة والمسرح منذ نشأة هذا الأخير وتطوره في الحضارات القديمة هندية و مصرية و ويونانية ورومانية وغيرها…). ورغم الولادة والنشأة الدينية لهذا اللون التعبيري الفني، فإنّ ” بصمة الفلسفة كانت حاضرة من خلال التيمات المشتغل عليها مسرحيا من قبل مفكرين وشعراء كبار وظفوا وناقشوا جملة من الأفكار الفلسفية في نصوصهم المسرحية ارتبطت بالخلق والوجود والموت والبعث والحرية والديمقراطية وغيرها من الأفكار والمواضيع….وعلى هدي أولئك سار العديد من المسرحيين في حقب تاريخية لاحقة ، بدءا من عصر النهضة الأوربية إلى وقتنا الحاضر، مرورا بالقرنيين 19 و20 اللّذان شهدا ثورة فلسفية في مجال المسرح شملت كل مكوّنات العرض المسرحي من كتابة وإخراج وسينوغرافيا وتشخيص، والتي كانت مجالا خصبا لتطبيق عدة نظريات فلسفية”[8]

فالفلسفة تُغني المسرح بعمق معالجاتها، والمسرح يُضفي على الفلسفة مسحةً جمالية ومتعة. ” فالفلسفة نفذت إلى المسرح بكلِّ قضاياها، والمسرح وجد في التفلسف متنفساً لتأثيث نصوصه بأمتن الافكار، إلى الحد الذي جعل بعض النقاد يتحدثون عن المسرح الفلسفي (جراردو ـ كوكتو…) أو المسرح السيكولوجي أو الفلسفة الممسرحة (كامو ـ سارتر…) أو المسرح الإيدولوجي، خاصة إبان عهد الاتحاد السوفياتي وانتشار الإيديولوجيا الماركسية (بريشت…).”[9]

هكذا تتضح العلاقة الوطيدة بين الفلسفة والمسرح، تلك العلاقة التي تقوم على التداخل والتبادل.

ثانيا: الابتكار والتجديد في المسرح من خلال التّفاعل مع المعارف العلمية:

تتعدّد الجوانب التي يتحقّق فيها التّكامل بين المسرح والعلم؛ هذين العالمين اللّذان يبدوان في الأساس متباينين، لكنّهما في الحقيقة يُكمِّلان بعضهما البعض بطرق عديدة، حيث أتبتت التجارب المسرحية مطلع القرن الواحد والعشرين كيف تمكّنت التكنولوجيات الحديثة(التأثيرات الخاصة، الإضاءة الذكية، الرسوم المتحركة، تقنيات الواقع المعزز3D والواقع الافتراضي، الوسائط الرقمية…) من إثراء الإنتاجات المسرحية وتوسيع آفاقها.

فالتّطوُّر التكنولوجي ودخول عصر المعلوماتية والثورة الرقمية، فتح الباب على مصراعيه أمام الفاعل الفنّي وبشكل خاص المخرج المسرحي، الذي سعى نحو تطويع وتسخير التكنولوجيا الحديثة في تجسيد رؤاه الفنية ، “فاستعان بالكمبيوتر لتحقيق التقنيات الفنية في الديكور والأزياء والإضائة وعموم تقنيات العرض الأخرى”[10]

فالسويسري أدولف أبيا Adolphe Appia (1862 – 1922) اشتهر في مجال تطوير تقنيات الإضاءة وعملية البحث والتجريب من خلالها، حيث قام بتصميم وخلق الديكورات الثلاثية الأبعاد وحاول تطويع التقنية في المسرح قدر إمكانه “فقد غير Adolphe Appia الفضاءات المسطّحة المتعادلة الناتجة عن استخدام الإضاءة الأرضية وعوّضها بالإضاءة المتموّجة ذات الظلال الشاعرية غير المركزة أو الإضاءة العامة، كما اهتم بالإيقاع البصري والجسدي الوظيفي للممثل و المتناغم مع كل مكونات العمل المسرحي بحيث أصبح الضوء والممثل أبطال عروضه وأصبح مسرح هذا الأخير.”[11]

أمّا في المغرب فقد عرفت الممارسة المسرحية في وقتنا الحاضر أيضاً تحولات جذرية تتمثل في “تفاعلها مع الوسائط والثورة الرقمية، إذ أصبحت تتحكم في إنتاج العديد من العروض المسرحية المعاصرة وتلقّيها”[12]

الخاتمة:

على سبيل الختم، لقد أولت التجارب المسرحية الحديثة اهتماما كبيراً للتكنولوجيات الحديثة وللتقنيات الرقمية التي أصبحت تفرض نفسها في السنوات الأخيرة، كما أنّ بعض روافد العلوم الإنسانية وبشكل خاص (علم الاجتماع وعلم النفس) أثبتت فعاليتها في فهم العروض المسرحية وتحليل أدائها.

فهرس المصادر والمراجع:

  • العلوم الانسانية والمسرح – ماري إلياس – ترجمة سمية زباش– مجلة اللغة والأدب(الجزائر) – مجلد 12- ع01- 2008.
  • المسرح والفلسفة: “بعض من تجليات صلات وثيقة” – محمد مصطفى القباج – دار أبي رقراق (الرباط) – 2021.
  • توظيف تقنية الحاسوب في تصميم الديكور المسرحي – فاتن جمعة سعدون – مجلة لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية(العراق) – عدد 18 – 2015.
  • العلوم الانسانية والمسرح – ماري إلياس – ترجمة سمية زباش– مجلة اللغة والأدب(الجزائر) – مجلد 12- ع01- 2008.
  • المنعطف الفرجوي للمسرح المغربي وسؤال التغيير – لحسن احسايني – بيان اليوم (2024) – الموقع: https://bayanealyaoume.press.ma
  • الإخراج المسرحي واتجاهاته الفنية – جميل حمداوي(2007) – الموقع https://pulpit.alwatanvoice.com/-
  • The Presentation of Self in Everyday Life, Erving Goffman, Anchor, June 1, 1959
  • The Social Production of Art, Janet Wolff, Second Edition, NYU Press , October 1, 1993.

الهوامش:

  1. العلوم الانسانية والمسرح – ماري إلياس – ترجمة سمية زباش– مجلة اللغة والأدب(الجزائر) – مجلد 12- ع01- 2008- ص225.
  2. العلوم الانسانية والمسرح – ماري إلياس – ترجمة سمية زباش– مجلة اللغة والأدب(الجزائر) – مجلد 12- ع01- 2008- ص226- (بتصرف)
  3. The Presentation of Self in Everyday Life, Erving Goffman, Anchor, June 1, 1959.
  4. The Social Production of Art, Janet Wolff, Second Edition, NYU Press , October 1, 1993.
  5. علاقة الممارسة المسرحية بالعلاج النفسي . تقنية السيكودراما أنموذجا- صلاي عباس- مجلة النص (الجزائر) مجلد 09 – عدد 01 – ص 142.
  6. أنظر: المسرح والمجتمع الكويتي – حمد مدعث راشد العجمي – مجلة الدراسات العربية (مصر) – المجلد 46 – عدد 04 – يونيو 2022.
  7. أنظر: المسرح والمجتمع الكويتي – حمد مدعث راشد العجمي – مجلة الدراسات العربية (مصر) – المجلد 46 – عدد 04 – يونيو 2022.
  8. الإبداع المسرحي من منظور الفلسفة وعلم النفس : المدرسة السلوكية كنموذج – حميد تشيش – الموقع: https://almindar.com/(2023) – اطلعت عليه بتاريخ 18/04/2024- الساعة 22:37.
  9. المسرح والفلسفة: «بعض من تجليات صلات وثيقة» – محمد مصطفى القباج – دار أبي رقراق (الرباط) – 2021 – صفحة 24.
  10. توظيف تقنية الحاسوب في تصميم الديكور المسرحي – فاتن جمعة سعدون – مجلة لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية(العراق) – عدد 18 – 2015- ص377.
  11. أنظر: الإخراج المسرحي واتجاهاته الفنية – جميل حمداوي(2007) – الموقع https://pulpit.alwatanvoice.com/- اطلعت عليه بتاريخ 23/04/2024 –الساعة 20:24.
  12. المنعطف الفرجوي للمسرح المغربي وسؤال التغيير – لحسن احسايني – بيان اليوم (2024) – الموقع: https://bayanealyaoume.press.ma/ – اطلعت عليه بتاريخ 23/04/2024 – الساعة 20:58.