المناهج العامة في الإثبات الجنائي (دراسة مقارنة في التشريع العراقي واللبناني)

م. م. اعتدال شاكر عباس1 ، أ. د. أحمد كيلان عبد الله2

1طالبة دكتوراه، الجامعة الإسلامية بلبنان.

بريد الكتروني: aatedalshakerabas22@gmail.com

2 أستاذ القانون الجنائي، الجامعة الإسلامية بلبنان.

بريد الكتروني: ahmed.gailan77@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(8); https://doi.org/10.53796/hnsj58/22

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/08/2024م تاريخ القبول: 22/07/2024م

المستخلص

تعد المناهج العامة في الإثبات الجنائي من الموضوعات المهمة نظراً للمكانة الكبيرة التي تحتلها في القانون الجنائي من الناحية العملية ،فهي تواجه كل شخص يعمل في القانون، أو يمثل أمام المحاكم الجناية ، فالجريمة مجموعة من الوقائع المادية تؤلف أركانها وعناصرها وظروفها، ولكن الوجود الحسي لهذه الوقائع لا يكفي لإنزال العقاب ما لم يتم الربط بين هذه الوقائع وفاعل معيّن بعلاقة سببية، وهو ما يسمى الإسناد، ولا يقوم الإسناد إلا بدليل إثبات ،و قد طرأت على وسائل الإثبات تطورات واسعة بفضل التقدم العلمي، علماً إنّ هذه التطورات قامت على أُسسٍ علمية دقيقة استطاعت أن تمدَّ القاضي بأدلة تكون حاسمة في الدعوى الجزائية ، و تفاوتت المساعي الإنسانية في مختلف المراحل حول البحث عن وسائل الإثبات في الدعوى الجزائية وبالتالي نسبة الوسيلة إلى صاحبها، وتبعاً لذلك تنوعت مراحل ظهور نظم الإثبات الجنائي فمن مرحلة نظام الأدلة القانونية، ومروراً بنظام مرحلة الإثبات الحر، ووصولاً إلى نظام جديد مستحدث هو نظام الأدلة العلمية، و هناك اصل في قانون أصول المحاكمات الجزائية في كل من العراق ولبنان مضمونه إن المحاكم الجزائية هناك تبني عقيدتها على ما تطمئن إليه من أدلة وعناصر في الدعوى ما دامت مطروحة على بساط البحث، وقد خلصنا من خلال هذه الدراسة إلى العديد من النتائج اهمها هو اعتبار الإثبات من أهم مواضيع القانون الجنائي، فغاية نظام الإثبات الجنائي هي التوصل إلى الحقيقة الواقعية ،و اقترحت على المشرع العراقي واللبناني الاعتماد على (نظام القاضي الجنائي المختص) لكي يكون أكثر دراية وخبرة في مجال تخصصه الجنائي والذي من خلاله يسهل على قاضي الموضوع استظهار القصد الجرمي و من إثبات وجوده.

الكلمات المفتاحية: الجريمة الجنائية – الإثبات الجنائي – الدعوى الجزائية –القاضي الجنائي – الدليل العلمي.

Research title

General approaches to criminal evidence (A comparative study in Iraqi and Lebanese legislation)

HNSJ, 2024, 5(8); https://doi.org/10.53796/hnsj58/22

Published at 01/08/2024 Accepted at 22/07/2024

Abstract

The general approaches in criminal evidence are important topics due to the great position they occupy in criminal law in practice, they face every person working in law, or appear before the criminal courts, the crime is a set of material facts that compose its pillars, elements and circumstances, but the sensory presence of these facts is not enough to inflict punishment unless these facts are linked to a specific actor with a causal relationship, which is called attribution, and the attribution is only evidence, and it has occurred The means of proof have wide developments thanks to scientific progress, noting that these developments were based on accurate scientific foundations that were able to provide the judge with evidence that is decisive in the criminal case, and the humanitarian endeavors varied at various stages about the search for means of proof in the criminal case and thus the ratio of the means to its owner, and accordingly the stages of the emergence of criminal evidence systems varied from the stage of the legal evidence system, through the system of free proof, to a new system developed is the scientific evidence system, And there is an origin in the Code of Criminal Procedure in both Iraq and Lebanon, the content of which is that the criminal courts there build their doctrine on what they are assured of the evidence and elements in the case as long as they are on the table, and we have concluded through this study to many results, the most important of which is to consider evidence of the most important topics of criminal law, the goal of the criminal evidence system is to reach the factual truth, and suggested to the Iraqi and Lebanese legislator to rely on (the system of the competent criminal judge) In order to be more knowledgeable and experienced in his field of criminal specialization, through which it is easier for the trial judge to demonstrate criminal intent and to prove its existence.

Key Words: criminal offense – criminal evidence – criminal case – criminal judge – scientific evidence.

المقدمة

أولاً -بيان الموضوع :

انّ مشكلة اقامة الدليل امام القضاء ، لا يمكن مواجهتها الا من خلال تصوير كامل لدور الاثبات في الاجراءات الجزائية ، و ذلك من خلال اقامة التوازن وتشكيل الاجراءات التي توفر الاحترام الكامل الحق المتهم في حماية حقوقه الشخصية من تعسف السلطة او انتقام المجني عليه ، وحق المجتمع في الوصول الى الحقيقة، بما مؤداه أن الأثبات لا يتم بصورة عشوائية ، وانما يتم بطرق منهجية و منظمة والتي ترتكز على مبادئ و قواعد اساسية.

ثانياً – سؤال البحث

هل عالج القانون العراقي واللبناني وسائل الاثبات في الدعوى الجزائية على النحو الذي يحقق الغاية من النص عليها وبالوجه الذي يحقق الاستقرار في المجتمع ويحد من الجريمة؟, وما مدى مشروعية استخدام الوسائل العلمية الحديثة في الاثبات في الدعوى الجزائية وما هو دور هذه الوسائل في توقيف المجرمين وما هي حجيتها أمام القضاء الجزائي؟

ثالثاً- اهداف البحث :

يهدف هذا البحث إلى تحديد ومعرفة أحدث الوسائل الحديثة المستخدمة في الإثبات الجنائي التي كشف الواقع العملي المطبق أمام المحاكم الجنائية عن أهميتها في كشف الجرائم والتحديد الدقيق لمرتكبيها.

رابعاَ -اهمية البحث :

إنّ أهمية البحث في موضوع دور المناهج العامة في الإثبات الجنائي تتأتى من ناحية إنّ أغلب من كتب فيها قد تناولها بشكلٍ عام مقتصراً على بعض النصوص القانونية التي أشارت إلى وسائل الإثبات وذلك في الأنظمة التشريعية التي تناولت هذا الموضوع ، لذلك كان لا بدَّ من التعمق الخاص في موضوع وسائل الإثبات في الدعوى الجزائية لما له من حداثة في ميدان الإثبات الجنائي وذلك عن طريق استعمال تقنيات ووسائل متطورة لكشف المتهم والوصول إلى الحقيقة والعدالة. ولمعرفة مدى نجاح هذه الوسائل في الإثبات في الدعوى الجزائية ومدى شرعيتها وحجّيتها وسلطة القاضي في قبولها أو عدم الأخذ بها ، كما

خامساً – الدراسات السابقة:

تجدر الإشارة إلى أن هناك دراسات كثيرة تناولت موضوع الاثبات الجنائي ولكنها كانت عامة جداً من حيث الموضوع وخلطت أيضاً بين الوسائل التقليدية والوسائل الحديثة للإثبات، وهناك بعض الدراسات تناولت جانباً واحداً منها وبعضها خص وسائل الاثبات المتناولة في بلد معين دون غيره ونذكر من هذه الدراسات على سبيل المثال :

أ-قدري عبد الفتاح الشهاوي ، صلاحيات رجل الشرطة إزاء الوسائل العلمية الحديثة في كشف الجريمة ، مصر ، 1974.

ب-وسام احمد السمروط ، القرينة واثرها في اثبات الجريمة ، دراسة مقارنة، ط1،منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت لبنان، 2007.

ت -كريم خميس خصباك البديري ، الحبرة في الاثبات الجزائي ، ط1، بغداد، 2008.

سادساً-منهج البحث:

تم الاعتماد على المنهج التحليلي والمنهج المقارن وذلك من خلال تحليل آراء الفقهاء والخلافات الخاصة بموضوع البحث ، و الاعتماد على الكتب والمراجع والدراسات والنصوص القانونية المتعلقة بموضوع البحث وتمحيصها في ضوء قواعد التشريعات في كل من العراق ولبنان.

سابعاً-هيكلية البحث:

تقتضي طبيعة موضوع البحث تقسيمه إلى مطالب وفروع ،يتضمن المطلب الأول انظمة الإثبات الجنائي ،والذي بدوره ينقسم إلى أربعة فروع أوْلها نتناول فيه مذهب الإثبات الحر ( المطلق )كما نتناول في الفرع الثاني مذهب الأثبات القانوني (المقيد)، أما الفرع الثالث فسنتطرق فيه إلى مذهب الإثبات المختلط بينما نتناول في الفرع الرابع

مذهب الاثبات الحديث أمّا المطلب الثاني فيتضمن نظام الاثبات الجنائي في التشريع العراقي والتشريع اللبناني، والذي ينقسم إلى فرعين، يتضمن الأول نظام الإثبات الجنائي في القانون العراقي ، أما الفرع الثاني فيتناول نظام الاثبات الجنائي في القانون اللبناني .

المطلب الأول

انظمة الإثبات الجنائي

هنالك عدة أنظمة للأثبات الجنائي تختلف فيما بينها في الأسس التي يقوم عليها كل واحد منها وهذه الأنظمة هي كل من مذهب الإثبات الحر( المطلق)، و مذهب الأثبات القانوني (المقيد) ، ومذهب الإثبات المختلط ومذهب الاثبات الحديث ، وسوف نستعرض مفصلاً لكل واحد من هذه المذاهب وكما يلي :

الفرع الأول

مذهب الإثبات الحر ( المطلق )

هذا النظام سائد في التشريعات المعاصرة , وهذا النوع من الإثبات يقوم على إتاحة وفسح الطريق الواسع لأطراف الدعوى الجزائية أن يقوموا بكل حرية بطرح وتقديم الأدلة التي يجدونها مناسبة لكي يثبتوا حقهم، ويرى أنصار مذهب الإثبات الحر،([1]) بأنّ الإثبات في إجراءات القضاء الجنائي هو عبارة عن عملية اقتناع لعقل القاضي، وهذا الاقتناع يرفض قبول القواعد القانونية ، ويكتفي بأن يأخذ ويقبل بالدليل القطعي، الذي يقوم الخصوم بتقديمه للقضاء، ومؤدى ذلك إنّ القاضي يمتلك مطلق الحرية في أن يقدّر قيمة الأدلة المطروحة أمامه والتي تعدُّ أدلة لإثبات الواقعة الإجرامية ، وبهذا الشكل يصبح الإثبات الجنائي ذو طبيعة نفسية ومنطقية أكثر من كونه ذو طبيعة قانونية،([2]) ويراد من هذا المبدأ إطلاق العنان والتمتع بالحرية المطلقة في تأسيس الأدلة التي يقوم أطراف الدعوى الجزائية بتقديمها ،وعلى أن تكون تلك الأدلة أصلاً مقبولة ومسموح بها قانوناً ، أي لا يمكن قبول أدلة من الممنوع سلفاً قبولها قانونياً ، بما مؤداه إنّ القاضي الجنائي لا يعتد ولا يرجح مسبقاً دليلاً على آخر في كافة مراحل سير الدعوى الجزائية ، فجميع الادلة تكون مقدمة امام هيئة القضاء الجنائي ، ويشترط بذلك ان تكون الأدلة ما أقره وحدده القانون ، ومن ثم فإنه من غير الجائز الخلط بين طرق الإثبات التي تشكل المادة والمصدر الرئيسي للأدلة وبين الأساليب التي من الواجب اتباعها عند إحراز واكتساب تلك الأدلة أو عند نقاشها أو الاقتناع بها .([3])

ولقد أشار المشرع العراقي إلى حدود حرية الإثبات بمقتضى قانون أصولُ المحاكمات الجزائية رقم (٢٣) لسنة ١٩٧١ وذلك في حالة ما إذا أكد القانون على شكل أو طريقة محددة في الإثبات، حينها يتوجب حصراً التقيّد بتلك الطريقة واعتمادها وطرح ما سواها جانباً ([4])، بعبارة أخرى إنه إذا أقرّ القانون طريق محدد بغية الوصول إلى إثبات صحة واقعة معينة أو عدم صحتها ، يتوجب حصراً أن يتم الإلتزام بذلك الطريق الذي نص عليه القانون ، ولا يسمح حينها لأي طرف من أطراف الدعوى الجزائية ان يقوم بإثبات تلك الواقعة إلاّ بتلك الطريقة التي حددها القانون ، و بالتالي لا يسمح تباعاً للقاضي الجنائي أن يستخدم سلطته التقديرية الممنوحة له في تلك الواقعة.

وقد كسر المشرع اللبناني بموجب احكام المادة (179) من قانون اصول المحاكمات الجزائية قاعدة الاثبات الحر في حال ورود نصوص قانونية ترسم طريقا معينا للأثبات كما هو الحال في جنحة الزنا المادة ( 487) حيث حدد طريقا للأثبات فيها وقصرها على الرسائل والوثائق الخطية التي كتبها الشريك.

ومما تجدر الملاحظة إليه أخيراً، إنّ معظم التشريعات العربية بمافيها المشرع اللبناني والمصري قد تبنت هذا المبدأ في الإثبات الجنائي ، من ذلك ما اشارت إليه المادة (٢١٣/ أ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية  العراقي رقم (٢٣) لسنة ١٩٧١ المعدل، والتي نصت على أنه ” تحكم المحكمة في الدعوى بناءً على اقتناعها الذي تكوّن لديها من الأدلة المقدمة في أي دور من ادوار المحاكمة “.

ومن العرض المتقدم يتضح لنا ان نظام الاثبات الحر يقوم على مبدأ الاقتناع القضائي فالقاضي بجميع الادلة المطروحة في الدعوى ولايتقيد بأدلة محددة وان سلطة القاضي تتحدد في تقييم وتقدير الادلة التي يقدمها اطراف الخصومة الجنائية فجميع الادلة على مستوى واحد من حيث قوتها الإقناعية ولايوجد اي ترتيب او مفاضلة بينها وللقاضي ان يؤسس حكمه على ما يطمأن اليه منها ويطرح ما سواها.

أمّا بالنسبة الى دور المشرع في نظام الاثبات الحر فينحصر بتحديد الشروط اللازمة لصحة الدليل والية تقديمه ضمانا لتحقيق العدالة الجنائية وهذا بطبيعة الحال لا ينتقص من مبدأ الاقتناع القضائي ولايقيد حرية القاضي الجنائي على مستوى قبول الدليل او تقديره. وتجدر الاشارة ايضا الى ان القانون وحده من يستبعد بعض وسائل اثبات او يحضر اللجوء الى ادلة معينة في جرائم وحالات حدد القانون طريق اثباتها , اما اذا القانون لم ينص على استبعاد وسائل الاثبات الاخرى فالقاضي يكون حر في تكوين عقيدته من اي دليل مطروح في الدعوى وان لم يكن من بين الادلة التي نص عليها القانون([5])

الفرع الثاني

مذهب الأثبات القانوني (المقيد)

وهو على عكس مذهب الإثبات الحر الذي أشرنا إليه سابقاً، إذ ان مذهب الإثبات المقيد يستند فقط على تحديد وتعيين الأدلة ، وبيان قيمتها، وطرق تقديمها للقضاء، ويجبر كافة الخصوم، أن يقوموا بتقديم تلك الأدلة المقررة قانوناً بشكل حصري .

وقد وصف الفقهاء هذا المذهب بأنه ذو دور سلبي للقضاء في الإثبات الجنائي وغير فاعل ،وهذا الوصف بالسلبية يقوم على إنّ هذا المذهب قد حدد على سبيل الحصر للقاضي الجنائي الأدلة التي يجب ان يأخذ بها، ومنعه من إضفاء أي قيمة قانونية غير التي منحها القانون لتلك للأدلة ، فهذا المذهب يرتكز على التحجيم والاقلال من حرية وصلاحية القاضي في التقدير، وذلك بغية أن تتوحد الأحكام القضائية جميعها في كافة القضايا والدعاوى المتناظرة والمتشابهة، فهنا ليس للقاضي أي حق في أن يحكم وفق علمه أو قناعاته، حتى لو بلغ الأمر حداً يكون فيه القاضي على علم ومعرفة بالحقيقة ، ومؤدى ذلك أنّ الأخذ بالمذهب المقيد يترتب عليه تعيين وتحديد اﻷدلة في الإثبات ، أي لا يجوز للقاضي الجنائي أن يقوم وفق قناعاته وحريته باعتماد ما يراه مناسباً وملائماً من الأدلة المقدمة في الاثبات، وإنما يجب عليه التقيد في الأدلة التي حددها القانون ، فالمشرع وحده من يقوم بتعيين وتحديد القيمة الثبوتية لكل دليل من الأدلة ، مع وضع تسلسل لكل دليل مبتدئاً في هذا التسلسل من الدليل القوي الذي يتمتع بحجية قوية و منطقية نزولاً إلى الدليل الضعيف ذو الحجية الضعيفة في الإثبات ، والقانون وحده من يمتلك الحق في تحديد الحالة التي يؤخذ فيها بالشهادة والقرينة، وهذا التقييد بحجية أدلة الإثبات يرتكز على أمرين وهما : عدم الاطمئنان أو الثقة بعدد من أدلة الاثبات كالشهادة التي يصعب في معظم الحالات التيقن من مصداقيتها أو كذبها و التحجيم والحد من الحرية الممنوحة للقاضي في الإثبات الجنائي. ([6])

الفرع الثالث

مذهب الإثبات المختلط

الواقع أنه ليست هناك سمات خاصة للنظام المختلط يمكن تمييزه بها ، وإنما هو نظام يجمع سمات متنوعة تميز المذهبين الحر المقيد بعد ان اضحى كل من هذين الأخيرين في جوهرهما الأصلي أثراً من آثار التاريخ .([7])

فنظام الإثبات المختلط يأخذ من النظام الاتهامي شفهية المرافعات وعلنية الإجراءات ومباشرتها في حضور الخصوم في مرحلة المحاكمة ، كما يأخذ بسرية الإجراءات في مرحلة التحقيق بينما يأخذ دور كل من له سلطة مباشرة التحقيق الجنائي بخصوص تحريك الدعوى الجزائية ومباشرتها دون ان يلغى تماماً دور الأطراف الأخرى ، كما أخذ عنه فكرة القاضي المؤهل المفروض على الخصوم . وهو ما تسير عليه التشريعات المعاصرة .

إنّ الموقف التشريعي من نظام الإثبات المختلط في نطاق إجراءات الدعوى الجزائية يذهب إلى المزج بين النظامين الحر والمقيد على النحو الذي يجمع بين مزايا كلٍ منهما متلافياً عيوبهما ، فمعظم التشريعات الإجرائية تميل إلى صياغة نظريتها في الإثبات الجنائي وخاصة في الإجراءات المتعلقة بمرحلة التحقيق الابتدائي على اساس سيطرة المبدأ الذي يسود في نظام الإجراءات الجزائية وهو مبدأ ” حرية الدليل ” ، هذا المبدأ الذي يمنح القاضي الجنائي دوراً ايجابياً في إصدار حكمه بشأن مسألة البحث عن دليل الإثبات، كما أنّ نظام الإثبات المختلط يعزز السلطة التقديرية للقاضي الجنائي في الاقتناع ليحكم في مسالة تقدير الدليل، فالتشريعات الجنائية وصفت الإثبات المختلط بأنه ذلك النظام الذي يسلك طريقاً وسطاً بين المذهب التقليدي والمذهب الحر محاولاً الجمع بين مميزات المذهبين السابقين التقليدي المقيد والمذهب الحر ومتحاشياً أمورهما السلبية فهو مع منهج تحديد طرق الإثبات ، ولكنه يعطي القاضي الجنائي السلطة الواسعة في تقدير الأدلة المقدمة له . بمعنى يكون للقاضي مطلق الحرية في إصدار الحكم بناءً على ما اجتمع عليه الشهود ، وأيضاً له أن يحكم بخلاف ذلك، كما أن القاضي يتمتع بمقتضاه بسلطة تقديرية في موازنة القرائن التي أمامه حتى ولو كانت في الأصل تلك القرائن أو الأدلة ليست على درجة متساوية بقوتها مع المحررات الكتابية أو حتى أقل منها قوة ، ولا يسمح بعدم قبول أدلته التي يقدمها ،لأن أساس المبدأ هو السماح بإقامة البينة بجميع الطرق وبدون أي ترجيح لطريقة إثبات معينة ومقررة على طريقة إثبات أخرى ، حيث يصار إلى ترك أمر ذلك الترجيح ما بين الأدلة إلى القاضي عند فصله بالدعوى الجزائية ، وهذا سيقودنا حتماً إلى الجهة الأخرى لمبدأ حرية الإثبات الجنائي الذي يتعلق بالقاضي الجنائي الذي يعود له أمر الفصل في الدعوى الجنائية.

الفرع الرابع

مذهب الاثبات الحديث

يعتمد هذا النظام على الوسائل الحديثة التي توصل اليها التقدم العلمي في اثبات الجريمة ونسبتها الى المتهم([8]) كالاستعانة بالوسائل العلمية الحديثة مثل البصمة الوراثية واجهزة التصوير الحديثة وتحليل الدم والفحص الطبي , ويعطي الدور الاساسي فيها الى الخبرة ويجعل من القرينة دليلا قاطعا ممكن للمحكمة ان تستعين به لحسم الدعوى بإصدار حكم قاطع بالإدانة او البراءة. ،ويقوم هذا المذهب في الإثبات الجنائي على عدة مبادئ لابد من بيانها وفقاً لما يأتي :

المطلب الثاني

نظام الاثبات الجنائي في التشريع العراقي والتشريع اللبناني

مما لاشك فيه إن نظرية الإثبات الجنائي تعد مهمة جداً في نطاق الإجراءات الجزائية ، فالجريمة الجنائية بحسبانها من الوقائع المنتمية إلى الماضي ، فإنه ليس بوسع القاضي الجنائي ان يباشر إجراءاتها من معاينة او تعرف على حقيقة هذه الجريمة دون أن يستعين هذا القاضي بوسائل تعيد سرد ما حدث مفصلاً، وقد اصطلح على تسمية هذه الوسائل بأدلة الإثبات الجنائي، ولا يثار موضوع الإثبات في الإجراءات الجنائية إلا إذا وقعت الجريمة بالفعل،([9]) إذ أنه لا يمكن تصور إثبات شيء قبل وقوعه ومن ثم فإنه يكفي مجرد إثبات تحقق الجريمة ،بل لا بد من نسبة هذه الجريمة إلى أحد الأشخاص ، لأن الجريمة ليست محض سلوك ، بل هي فعل يسأل من قام به ، ولاشك ان العدالة لا تتحقق بمجرد اكتشاف الجريمة بسرعة ، بل لابد من ان تتحقق السرعة ايضاً في معرفة الجاني لإنزال العقوبة به نتيجة سلوكه الاجرامي ومن ثم تحقق الردع العام والخاص.

والإثبات بالوسائل التقليدية المطبقة في الإجراءات الجنائية وفقاً للتشريع العراقي واللبناني ، يستلزم ان يتم البحث عن الأدلة الجنائية وذلك عن طريق استخدام أفكار عامة العامة وقواعد ترتبط بالاستدلال والبحث لأن الغاية منها هي إقناع المحكمة اما بالإدانة أو البراءة، باعتبار أن الإثبات يتحكم في مصير الدعوى الجنائية في كل من العراق ولبنان، وبناءً على ما تقدم وللوقوف على طبيعة نظام الإثبات الجنائي في هذين الدولتين آثرنا تقسيم هذا المطلب إلى الافرع التالية :

الفرع الأول

نظام الإثبات الجنائي في القانون العراقي

لكي يستطيع الفرد أو المواطن من ممارسة حقوقه لا بدّ له أولاً من معرفة تلك الحقوق، والاضطلاع على كافة مصادرها، ومعرفة مجالات استعمالاتها، بغية أن يضمن عدم تجاوزه على حقوق الاخرين، ولكي لا يتطاول في استخدامه لحقوقه او يتعسف بها، ولكن ذلك العلم او المعرفة لوحدهما لا يكفل من اجل الوصول لضمان وصون الحقوق، فكثير من الاحيان، يصار إلى التعدي من قبل الغير على تلك الحقوق، مما يجبر الشخص صاحب الحق ان يقوم بالدفاع عن حقوقه حسب ما يتوفر له من وسائل متاحة.

وعبر الفترات الزمنية المتلاحقة والتطورات الحاصلة في شتى نواحي الحياة ، تطورت معها تباعاً أدوات الدفاع عن الحقوق، وذلك بدءاً من وقت ما كان صاحب الحقوق يقوم مباشرة بأخذ واستيفاء حقوقه مستخدما القوة، والكثير من طرق العنف الأخرى ، وصولاً إلى مرحلة استيفاء الحقوق عن طريق اللجوء إلى الدولة ومتمثلة بهيئة القضاء.

وبغية تمكين صاحب الحق بان يحصل ويأخذ حقه في القضاء، اقتضت القانون أن تتوافر الأدلة الّلازمة والقانونية ، التي تثبت وجود ذلك الحق المدعى به، وإثبات إنّه يعود للشخص المدعي بالحق، ومن هنا بدأت البذرة الأولى في دورة حياة فرع من فروع القانون ويعد من أهمها الا وهو” قانون الإثبات إذ ظهرت أهميته البالغة كونه يرتبط بالقاعدة القانونية التي مفادها عدم جواز أو السماح لصاحب الحق أن يأخذ حقه بنفسه،، وعلى اعتبار إنّ الشخص صاحب الحق يعمل ويبذل جهداً كبيراً ،من أجل أن يقنع القاضي بهذا الحق الذي يدعيه ، وانّه يعود إليه وحده دون غيره من أطراف الخصومة القضائية ، وهذا الأمر يلزمه أن يرفق كلامهُ وحجّته بالدليل على صحة ما يدعيه ، وقد أجمع معظم الفقه القانوني على إنّ الإثبات الجنائي يعمل على حماية وصون حقوق الأشخاص .

وقد اتّبع المشرع العراقي نهج التطوير والتحديث للقواعد الخاصة بالإثبات الجنائي، سواء من الناحية الموضوعية ، أو من الناحية الإجرائية ، وقد استعرضنا فيما سبق من هذا البحث كافة انواع أنظمة الاثبات ، مما يستوجب أن نبين الموقف التشريعي في العراق بشأن انظمة الإثبات المار ذكرها ، وأيً من تلك الانظمة قد اعتمدها المشرع العراقي في الاثبات الجنائي؟.

فهل أنه اعتمد الإثبات المقيد ام النظام الحر المطلق، ام انه قام باعتماد النظامين معا ؟. وللإجابة على ما سبق من تساؤلات يتوجب ان نستعرض النقاط التالية :

أولاً-مسلك المشرع العراقي في الاثبات الجنائي:

من خلال اطلاعنا على متن قانون الاصول والأسباب الموجبة للقانون تبين لنا ان المشرع العراقي لم يعالج الاثبات الجنائي بنظرية مستقلة ولم يفرد لها مواد مستقلة وانما اورد مواد الاثبات ضمن القواعد الخاصة بإصدار الحكم واسبابه في الفصل الثامن تحت تسلسلات المواد ( 212-221) ولكن بدلالة المادة (213-اصولية ) نجد ان المشرع العراقي سار على نهج باقي التشريعات والقوانين في الدول، حيث جعلوا الاصل في الاثبات الجنائي هو النظام الحر الغير مقيد وذلك على اعتبار ان القانون الجنائي هو ” قانون ظني” اي يصار لإصدار الحكم وفق القناعة الشخصية للقاضي الجنائي، وقد اكد قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم (٢٣) لسنة 1971، وذلك بمقتضى المواد (213_212) على سلطة القاضي الجنائي الواسعة، وصلاحيته في اعتماد الدليل المقدم له ضمن الدعوى، او من الممكن له وضمن صلاحياته ان يختار ويأخذ بالشهود لكي ينقض ما ورد مثلاً في سند محرر، سواء اكان السند رسمي أو سند عادي وله أيضاً أن يطرح الشهادة جانباً ولا يأخذ بها، إلاّ أنه يلاحظ على المشرع العراقي في قانون الاثبات أنه في حالة تأرجح ما بين مدرستين ، فأحياناً يقوم باتباع نظام الإثبات المقيد، وأحياناً أخرى يأخذ من نظام الإثبات المطلق بدلالة المادة (213/أ-ب اصولية ) والتي منحت القاضي حرية استنباط قناعته الوجدانية من أي دليل مطروح في اوراق الدعوى وعاد في الشق الثاني من ذات المادة الى فرض استثناء بالقول “( الا اذا رسم القانون طريقا معينا للأثبات فيجب التقيد به )” أي انه لم يعمل بشكل مستقر على نظام الاثبات الحر وانما اورد عليه قيود واستثناءات تناقض مبناه ([10])، ويعود السبب في ذلك ان المنهج التشريعي في العراق ينجم عن التغير في الفلسفة للأنظمة المتلاحقة التي سيطرت على كرسي الحكم ، من حين بداية قيام الدولة العراقية. ويؤسفنا القول إنّ القانون الجنائي في العراق ، مازال إلى وقتنا هذا غير متطور ولا يواكب التطور التكنولوجي والعلمي في عمليات التواصل والاتصال، وإلى الآن لم يقم باعتماد المستخرج الالكتروني، بل أنه يصرّ على إعتماد الإثبات الورقي ، ويقف متردداً أمام إقرار قانون التوقيع بالشكل الالكتروني.

ثانياً-المبادئ العامة للمشرع العراقي في الأثبات الجنائي:

استند المشرع الجنائي العراقي على مبادئ عديدة يمكن اجمالها بما يل:

أ-مبدأ استقلال وحياد القاضي الجنائي:

ووفقاً لهذا المبدأ فإن مهام واعمال القاضي الجنائي ترتكز في تنفيذ القوانين، إذ ان مهام هذا القاضي وعمله يتجلى بما يلي :

١-ان يقوم القاضي بالتدقيق والفحص والتمحيص بشكل دقيق في كافة وقائع المنازعة.

٢-أن يقوم القاضي بعرض وبيان حكم وراي القانون بما تأكد اليه من احداث ووقائع في النزاع المعروض عليه، ومن ثم أن يقوم بإصدار حكمه الفاصل في الدعوى.

ب- المبدأ الذي يقر بدور الخصوم في الإثبات الجنائي:

ووفقاً لهذا المبدأ نجد أن القاضي الجنائي يأخذ ويمثل دور الحكم ما بين اطراف الخصومة او النزاع، فعمله يقتصر على تقدير الادلة المقدمة له من الخصوم وبالطرق والوسائل القانونية ، فلا يمكن للقاضي الجنائي ان يصدر حكمه بناء على معلوماته الخاصة كونه قاضي وليس شاهد من شهود الدعوى ولايسمح للقاضي الجنائي ان يقوم بتوجيه احد خصوم النزاع إلى دليل معين يخدم مصلحته، فلا يمكن للقاضي ان يرتكز أو يستند في حكمه بموضوع النزاع على أدلة قد وردت في دعوى جنائية أخرى.

الفرع الثاني

نظام الاثبات الجنائي في القانون اللبناني

اعتمد المشرع اللبناني في قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد النظام المختلط. (Le Regime mixte) كوسيلة من وسائل الاثبات، وهذا النظام يشمل اجتماع النظامين” النظام الحر والنظام المقيد” .فهو نظام عام وتفتيشي في مرحلتي التحقيق الأولي والابتدائي.([11])

حيث من المعلوم ان في لبنان تعتبر النيابة العامة هيئة قضائية يتولاها قضاة يخضعون لنفس الأنظمة التي يخضع لها القضاة الأخرين سواء لجهة التعيين أو لجهة الترقية والمناقلات بينهم ، وهي تشترك في حضور جلسات المحاكم الجزائية الممثلة لديها وتعتبر جزءا من هذه المحاكم ويترتب على تغيبها بطلان الجلسة لانعقادها في صورة غير قانونية .([12]) وتناط لها مهمة مباشرة الدعوى الجزائية استنادا الى المواد(٥) و(٦) من قانون الاصول وأن مهمة جمع الادلة تبدأ أولاً في مرحلة التحقيق الأولي لدى الضابطة العدلية بموجب المادة (47) ويمر بمرحلة التحقيق الابتدائي بموجب المادة (51) من نفس القانون ويتصف التحقيق في كلا المرحلتين بالسرية بالنسبة الى الجمهور دون اطراف الخصومة وجميع الضمانات القانونية مؤمنه ويبرز الدور الايجابي للقاضي من حيث استحصال الادلة وفق مبدأ الشرعية الاجرائية وله الحق في تكوين عقيدته منها وهذا ما يجد سنده في المواد ( 47و48و61و76و77و 78و79) من قانون الأصول.

ويكون فردي في مرحلة المحكمة ويبدو هذا جليا في نص المادة (7) من ذات القانون التي تعطي الحق للمتضرر بتحريك الدعوى الجزائية في حال عدم تحريكها من النيابة العامة . وكذلك في نصوص المواد ( 178و191و223و249و250و252) اصول جزائية , التي تنص على مبادئ العلانية والشفوية في مرحلة المحاكمة.

وبالمقابل فإنّ القضاء مستقل عن النيابة العامة في أدائه لوظيفته ، وبالتالي لا يجوز للنيابة العامة أن تتدخل في وظيفة القضاء ، إذ أنّ المحكمة لها مطلق الحق في عدم الأخذ بما اعتقدته النيابة العامة في إقامة الدعوى ضد شاهد أو في مطالبها أو مرافعتها فالقول الفصل في الاتهام يكون للمحكمة ([13])، كما لا يجوز لقاضي النيابة العامة الذي باشر الادعاء في قضية معينة أن يحكم أو يشارك في الحكم فيها وإلاّ عدّ الحكم باطلاً ([14])، كما لا يجوز أيضاً للنيابة العامة أن تتدخل في صياغة الحكم ولو كانت من ضمن فريق المحكمة في الدعوى العامة إلاّ أنها مستقلة عن قضاء الحكم.

و يمكن إثبات الجرائم المدعى بها أمام القاضي المنفرد الجزائي بجميع طرق الإثبات ما لم ينص القانون على عكس ذلك. ولا يجوز للقاضي المنفرد الجزائي أن يبني أحكامه على أدلة لم تكن موضوع مناقشة علنية. وإذا تبيّن للقاضي المنفرد الجزائي أن الوقائع التي تحقق منها ذات وصف جنائي فيعلن عدم اختصاصه للنظر فيها ويحيل ملف الدعوى إلى النيابة العامة، كما أنه إذا تبيّن له أثناء التحقيق وقوع جرائم لم يدع بها أو أشخاص لم يدع عليهم فيحيل ملف الدعوى إلى النيابة العامة لتدعي بالأفعال أو في حق الأشخاص تبعاً لادعائها الأصلي أو في دعوى مستقلة، ([15])كما أنّ المشرع اللبناني قد نص في المادة (179) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (328) لسنة 2001 على أنه، ” يمكن اثبات الجرائم المدعى بها بطرق الاثبات كافه مالم يرد نص مخالف” .

ومؤدى ذلك انه لا يمكن للقاضي ان يبني حكمه الاّ على الأدلة التي توافرت لديه شرط أن تكون قد وضعت قيد المناقشة العلنية اثناء المحاكمة، ويقدّر القاضي الأدلة بهدف ترسيخ قناعته الشخصية.([16])

وقد نصت المادة (180) من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم (٣٢٨) لسنة ٢٠٠١ على أنه. “اذا رفض المدعي عليه الإجابة والتزم الصمت فلايحق للقاضي او المدعي ان يكرهه على الكلام ولايجوز للقاضي ان يتخذ من صمته قرينة لإدانته”.

الخاتمة

في الختام وبعد أن إنتهينا من كتابة هذا البحث فقد خلصنا من خلال هذه الدراسة الموسومة ” أدلة الإثبات الجنائي في الدعوى الجزائية “إلى العديد من النتائج والتوصيات التي توصلنا إليها في مجال أدلة الإثبات في الدعوى الجزائية ،والتي نعتقد بأنها مفيدة من الناحية العلمية والعملية في نطاق الإثبات الجنائي وهي كما يأتي:

أولاً- الاستنتاجات:

١-تبين للباحث أن كلمة الإثبات الجنائي في تعريفها الاصطلاحي أو القانوني تحمل معنى واحد وهو إقامة الدليل أمام القضاء ، ويترتب على ذلك آثار قانونية ،و اقتناع القاضي الجنائي بصحة الواقعة أو نفيها.

٢-يعد الإثبات من أهم مواضيع القانون الجنائي، فغاية نظام الإثبات الجنائي هي التوصل إلى الحقيقة الواقعية التي كان لابد من مساهمة كل أطراف الخصومة الجزائية في تحققها.

٣-يحكم الإثبات الجنائي ثلاثة أنظمة، نظام الإثبات المقيد وهو الذي يحدد طرق الإثبات الجائز قبولها أمام القضاء ويحدد قيمة كل طريقة ولا يستطيع الخصوم إثبات حقوقهم بغيرها، كما لا يستطيع القاضي أن يتخذ طريقة

٤-لا تقتصر أهمية الإثبات الجنائي في الكشف عن الجريمة، بل هناك مكانة هامة للإثبات في المسائل الجنائية ، ذلك أن الجريمة واقعة تنتمي إلى الماضي، ومن غير الممكن أن تعاينها المحكمة بنفسها وتتعرف على حقيقتها ومن ثم يتعين أن تستعين بوسائل تعيد أمامها شريط الأحداث وهذه الوسائل تتمثل في أدلة الإثبات.

٥-إن غياب تنظيم مسألة الإثبات الجنائي من الناحية التشريعية، فتح المجال أمام كل من الفقه والقضاء لإيجاد نوع من التوازن داخل نظام الإثبات الجنائي .

٦-يجب أن يتوفر في الدليل الجنائي شروطاً محددة لكي يتم قبوله في الدعوى الجزائية ومن بين هذه الشروط أن يكون هذا الدليل مشروعاً، وأن يكون مطروحاً للمناقشة كما يجب أن يكون له أصل في الدعوى الجزائية ، بالإضافة إلى أن يكون الدليل الجزائي المعتد به معللاً ومسبباً في الحكم الجزائي.

٧-تبنى كل من المشرع الأردني والعراقي نظام الإثبات الحر في الإجراءات الجنائية .

٨-أورد المشرّع العراقي بعض الاستثناءات على نظام الإثبات الحر مثل اشتراط أدلة معينة لإثبات جريمة معينة، كما في جريمة الزنا، كما أنه أضفى القوة الثبوتية على بعض محاضر الضبط كاستثناء على نظام الإثبات الحرّ الذي ساوى بين جميع الأدلة بالقوة الثبوتية، كما أنه استثنى أيضاً من نظام الإثبات الحرّ المسائل غير الجزائية.

٩-عبء الإثبات بحسب التشريع العراقي واللبناني يقع على المدعي؛ ذلك لأن الأصل في الإنسان البراءة ،ووفقاً لذلك فإن عبء الإثبات يجب أن يقع على الجهة التي تسعى لإثبات الجريمة.

١٠-تبنى المشرع العراقي واللبناني مبدأ القناعة الوجدانية وحرية القاضي الجنائي في الاقتناع ،بيد أنه أورد على هذا المبدأ بعض القيود، بحيث يجب أن يكون اقتناع القاضي مبني على أدلة قانونية مشروعة مستندة إلى العقل والمنطق.

١١-أن وسائل الإثبات في القانون العراقي واللبناني ليست محصورة في عدد معين يفترض الاقتصار عليه ولا تجاوزه إلى غيره ، وانما هي وسائل إثبات لإظهار العدالة، وكل ما يؤدي إلى إظهار العدالة هو طريقة من طرق الإثبات .

ثانياً- المقترحات:

١-نقترح على المشرع العراقي الاعتماد على (نظام القاضي الجنائي المختص) لكي يكون أكثر دراية وخبرة في مجال تخصصه الجنائي والذي من خلاله يسهل على قاضي الم وضوع استظهار القصد الجرمي وبالتالي يمكّنه من إثبات وجوده، حيث أن القاضي في العراق يمكن أن يمارس العملية القضائية في المحاكم المدنية والأحوال الشخصية والعمل والجزائية على حد سواء وحسب التكليف الذي يصدر اليه من رئاسة مجلس القضاء الأعلى في العراق.

٢-نقترح أن تضاف فقرة إلى نص المادة (179)من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني رقم ٢٣٨ لسنة ٢٠٠١ ، و(٧٠) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي ، تنص صراحة على العمل بالبصمة الوراثية، وتكون الفقرة المقترحة بالصياغة الآتية: ( لقاضي الحكم أو المحقق أن يأذن بعمل تحليل البصمة الوراثية في جناية أو جنحة معاقب عليها بالحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولو دون موافقة الشخص الخاضع للفحص الوراثية).

٣-نقترح على المشرع اللبناني اصدار نص يمنح القاضي الجزائي سلطة العمل بالبصمة الوراثية ويؤسس الحكم بموجبها عملاً بمبدأ حرية الإثبات الذي يأخذ به المشرع اللبناني في المادة (179) من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تنص على أنه :(يمكن إثبات الجرائم المدعى بها بطرق الإثبات كافة ما لم يرد نص مخالف ولا يمكن للقاضي أن يبني حكمه إلا على الأدلة التي توافرت لديه شرط أن تكون قد وضعت قيد المناقشة العلنية أثناء المحاكمة ، ويقدر القاضي الأدلة بهدف ترسيخ قناعته الشخصية )، وأن يحصر صلاحية إعطاء الإذن لإجراء الفحص الوراثي بقاضي التحقيق أو المدعي العام أو قاضي الحكم، وعدم إعطاء هذه الصلاحية لبعض أعضاء الضبط القضائي إلا على سبيل الاستثناء.

٤-نقترح أن تضاف فقرة إلى نص المادة (215)من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي وتكون بالصياغة الآتية: ( للمحكمة أن تتخذ من تقرير البصمة الوراثية سبباً لحكمها إذا كان هو الدليل الوحيد في الدعوى ومستوفياً للشروط القانونية.

٥-ادخال دراسة العلوم الأخرى ذات العلاقة بالقانون، لاسيما في مجال التحقيق والإثبات كعلم النفس والطب العدلي وجعلها مواد مقررة في كليات الحقوق، وفي المعاهد التي لها دراسات قانونية، و تخصيص الزيارات الميدانية العلمية لطلبة القانون لمراكز الشرطة ومعامل الأدلة الجنائية.

٦-نوصي المشرع العراقي إيراد نص صريح يجرم فيه التصوير في المكان الخاص من دون رضا المجنى عليهم أو في الأحوال غير المصرح بها في القانون ، ونقترح النص الأتي :

(یعاقب بالحبس مدة لا تزید على سنة وبغرامة لا تزید على ملیون دینار، كل من اعتدى على حرمة الحیاة الخاصة للأفراد عن طريق التصوير في الأماكن الخاصة باستخدام جهاز من اي نوع كان من دون رضاء المجنى عليه أو في غیر الأحوال المصرح بھا قانوناً . وتكون العقوبة الحبس وغرامة لا تقل عن مليون دینار إذا ارتكبت ھذه الأفعال من قبل موظف عام أو مكلف بخدمة عامة مستغلاً صفته الوظيفية )، ويأتي هذا الاقتراح في ضوء التعدي الكبير على الحياة الخاصة في مجمل البلدان من خلال عمليات التسجيل الصوتي والصوري والفيديوي للأشخاص دون اذن قضائي واستخدامها وطرحها امام المحاكم لاستخدامها دليلاً في إثبات أمر ما.

٧- أقترح أن يرسم المشرع العراقي واللبناني حدود هذه القرائن في إطار تشريعي وهذا كفيل بتقليص سلطة القاضي التقديرية في استخلاص كل قرينة لم ينص عليها القانون طالما أن القاضي بشر غير معصوم من الخطأ بحيث قد يقع أحيانا في دوامة الزلل والتأثير الشخصي مما يؤدي بالقاضي أحيانا إلى الانحراف عن الطريق المستقيم وبالتالي الخروج عن مبدأ الحياد.

٨-زيادة عدد القضاة الجزائيين وحصر عدد القضايا المنظورة لهم، كون الإثبات الجنائي يتطلب من القاضي جهداً ذهنياً ودقة عالية ووقت كافي لا سيّما في أعمال القرائن، إذ يفترض على القاضي الجنائي أن ي ارعي منتهى الحرص في الاستنتاج والاستنباط، وضرورة استخدام الأسلوب المنطقي والسليم، معتمدة بذلك على قوة ذكاءه ودقة فهمه للوقائع الثابتة في حق المجني عليه، في ضوء تطورات الحياة وخاصة في مجال استخدام التكنولوجيا والتطور العلمي في ارتكاب الجريمة.

٩-ضرورة تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية لتقنين الأخذ بالدليل المستمد من الحامض النووي كدليل إثبات في الجرائم التي تعجز وسائل الإثبات التقليدية عن إثباتها ،مما يسهم في إقرار المبادئ الأساسية للعدالة الجنائية من خلال إصدار تشريع أو قوانين خاصة تتضمن شروط اللجوء لتحليل ال(DNA) وإجراءاته وذلك لضمان إنهاء الجدل الحالي بهذا الخصوص، على أن يتضمن هذا التشريع حجية البصمة الوراثية وقوتها الثبوتية، ونرى ضرورة إجراء تحليل ال(DNA) من قبل الجهات الرسمية فقط، وفي معامل حكومية، وبناء على مذك ارت تصدرها المحكمة التي تنظر القضية، وأن تحال النتيجة إلى المحكمة بناء على كتاب يتضمن نتيجة التحليل، ولا تعطى نتيجة التحليل إلاّ للمحكمة المختصة ب(كتاب سري) لضمان دقتها تمهيداً لاعتمادها قضائياً.

١٠-من الضروري على التشريعات العربية وخاصة التشريع العراقي واللبناني ان تسرع الخطى لتعديل قوانينها العقابية لكي تواكب ثورة الاتصالات عن بعد , لكي لا يحدث انفصال بين الواقع و القانون بما يضر المجتمع و افراده وعلى النحو الذي سارت عليه الكثير من التشريعات الأجنبية و بعض التشريعات العربية بأن نصت صراحة على تجريم الافعال غير المشروعة التي أفرزتها هذه الثورة، مع ضرورة الاهتمام بتدريب الخبراء و المحققين و القضاة على التعامل مع الجرائم الإلكترونية ذات الطبيعة الفنية و العلمية المعقدة ، بحيث يمكن الوصول الى الحقيقة و إماطة اللثام عن هذه الجرائم تحقيق الصالح العام للمجتمع ولصالح المتهمين أنفسهم كي لا يدان إلاّ مرتكب السلوك المجرم.

قائمة المراجع:

عبد الباسط جميعي وآخرون. الوسيط في شرح القانون المدني الأردني ج1 1978، الدار العربية للموسوعات.

محمد عبد اللطيف. قانون الاثبات في المواد المدنية والتجارية. القاهرة 1970 ج1 ص3. د. سليمان مرقس. اصول الاثبات واجراءاته في المواد المدنية ، في القانون المصري ،عالم الكتب ، القاهرة ،بدون سنة نشر.

أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون الاجراءات الجنائية، دار النهضة العربية ،القاهرة ، 2016.

جلال علي العدوي. مبادئ الاثبات في المسائل المدنية والتجارية، المكتب المصري الحديث ، الاسكندرية 1983.

محمد زكي أبو عامر، الاثبات في المواد الجنائية، محاولة فقهية وعملية لإرساء نظرية عامة، الفنية للطباعة والنشر، الإسكندرية.

السيد محمد حسن شريف , النظرية العامة للأثبات الجنائي “دراسة مقارنة” , الطبعة الاولى ,2017, دار الكتاب الجامعي للنشر والتوزيع.

أحمد التل ، الأدلة في المواد الجزائية ، مجلة الشرطة ،دمشق , العدد601 ، أكتوبر 1991.

فاضل زيدان محمد، سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة ، دراسة مقارنة ،دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان ،2010.

سمير عالية – أ هيثم سمير عالية ، الوسيط في شرح قانون اصول المحاكمات الجزائية ، دراسة مقارنة ، منشورات الحلبي الحقوقية،بيروت ،2018.

إلياس أبو عيد، أصول المحاكمات الجزائية ، دراسة مقارنة ، الجزء الثاني، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت .

عبد الوهاب حومد، أصول المحاكمات الجزائية ، الطبعة الثالثة، دمشق ، 1957.

حاتم ماضي، قانون أصول المحاكمات الجزائية على ضوء الفقه والقانون والاجتهاد ، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس ، 1994.

المادة ١٩٥من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني رقم٣٢٨ لسنة ٢٠٠١ المعدل.

محمد حماد مرهج الهيتي ، أصول البحث والتحقيق الجنائي موضوعه وأشخاصه والقواعد التي تحكمه ، دار الكتب القانونية ، القاهرة ، 2008.

الهوامش:

  1. () د. عبد الباسط جميعي وآخرون. الوسيط في شرح القانون المدني الأردني ج1 1978، الدار العربية للموسوعات ص731.
  2. () د. محمد عبد اللطيف. قانون الاثبات في المواد المدنية والتجارية. القاهرة 1970 ج1 ص3. د. سليمان مرقس. اصول الاثبات واجراءاته في المواد المدنية ، في القانون المصري ،عالم الكتب ، القاهرة ،بدون سنة نشر ، ص15.
  3. () د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون الاجراءات الجنائية، دار النهضة العربية ،القاهرة ، 2016 ، ص10.
  4. () نصت المادة 213- بمن قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم 23لسنة 1971 على أنه ((لا تكفي الشهادة الواحدة سبباً للحكم ما لم تؤيد بقرينة او ادلة اخرى مقنعة او بإقرار من المتهم الا اذا رسم القانون طريقاً معيناً للإثبات فيجب التقيد به)).
  5. () قضت محكمة النقض المصرية بأن ” العبرة في المسائل الجنائية انما تكون باقتناع القاضي بان اي اجراء من الاجراءات يصح او لايصح ان يتخذ اساسا للكشف عن الحقيقية، وللمحكمة ان تكون عقيدتها في ذلك بكافة طرق الاثبات غير مقيدة بقواعد الاثبات المقررة في القانون المدني، فيحق لها ان تاخذ بالصورة الفوتوغرافية كدليل في الدعوى اذا اطمأنت الى مطابقتها للأصل” نقض 7نوفمبر1976مجموعة احكام محكمة النقض س27,رقم 192,ص848. كما قضت ايضا بان ” بان لمحكمة الموضوع تكوين عقيدتها من اي دليل تطمئن اليه طالما له مأخذ صحيح في اوراق الدعوى .نقض 17ابريل سنة 1994,مجموعة احكام محكمة النقض ,س45, رقم 87,ص535.
  6. () د. جلال علي العدوي. مبادئ الاثبات في المسائل المدنية والتجارية، المكتب المصري الحديث ، الاسكندرية 1983 ص12.
  7. ()د. محمد زكي أبو عامر، الاثبات في المواد الجنائية، محاولة فقهية وعملية لإرساء نظرية عامة، الفنية للطباعة والنشر، الاسكندرية، ص84.
  8. ()د. السيد محمد حسن شريف , النظرية العامة للأثبات الجنائي “دراسة مقارنة” , الطبعة الاولى ,2017, دار الكتاب الجامعي للنشر والتوزيع, ص69.
  9. () أحمد التل ، الأدلة في المواد الجزائية ، مجلة الشرطة ،دمشق , العدد601 ، أكتوبر 1991 ،ص38.
  10. () د. فاضل زيدان محمد، سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة ، دراسة مقارنة ،دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان ،2010 ، ص67.
  11. () د. سمير عالية – أ هيثم سمير عالية ، الوسيط في شرح قانون اصول المحاكمات الجزائية ، دراسة مقارنة ، منشورات الحلبي الحقوقية،بيروت ،2018,ص51 ومابعدها .
  12. () إلياس أبو عيد، أصول المحاكمات الجزائية ، دراسة مقارنة ، الجزء الثاني، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت ،ص12.
  13. () د. عبد الوهاب حومد، أصول المحاكمات الجزائية ، الطبعة الثالثة، دمشق ، 1957 ، ص170.
  14. () د. حاتم ماضي، قانون أصول المحاكمات الجزائية على ضوء الفقه والقانون والاجتهاد ، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس ، 1994، ص105.
  15. () المادة ١٩٥من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني رقم٣٢٨ لسنة ٢٠٠١ المعدل.
  16. () د. محمد حماد مرهج الهيتي ، أصول البحث والتحقيق الجنائي موضوعه وأشخاصه والقواعد التي تحكمه ، دار الكتب القانونية ، القاهرة ، 2008 ، ص 20 .