بلاغة الحجاج بين السوفسطائيين وأفلاطون

الدكتور/ المصطفى اكتراب1

1 دكتوراه في الدراسات العربية / المغرب

البريد الإلكتروني: qatarabelmostapha1@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(8); https://doi.org/10.53796/hnsj58/9

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/08/2024م تاريخ القبول: 13/07/2024م

المستخلص

    من أهداف هذه الدراسة إعادة النظر في بلاغة الحجاج عند السوفسطائيين، لأن السمعة السيئة التي ظلت عالقة بهم راجعة إلى التشويه الأفلاطوني لأفكارهم، فجعلتهم مجرد غوغائيين مخادعين، ولذلك فإن بلاغتهم ليست عبثا كلها، فقد كانوا حكماء عصرهم، بارعين في ارتجال فنون المناقشات الحجاجية الدائرة في فلك المحتمل في الندوات العامة، بل أثبتوا أن المعرفة نسبية، قد تكون موجودة، وقد تكون منعدمة، وكل شيء عندهم يحتمل أن يكون صادقا، ويحتمل أن يكون كاذبا، والخطاب البلاغي وحده هو المحكوم له بالصدق والوجود.

   كما سعت الدراسة إلى تبيان بعض مظاهر الاعتراض الأفلاطوني على البلاغة السوفسطائية، فالعقل هو عماد الخطاب الفلسفي لدى أفلاطون، ولذلك انتقد القول السوفسطائي فاعتبره دغدغة لعواطف السامعين، ونوعا من الديماغوجيا التي تهدد الديموقراطية الأثينية، لأنه خطاب غير جدلي لا يقوم على المساءلة، عماده المخاطبة سبيلا للإقناع بالمظنونات والآراء، وغايته الالتذاذ بالمقول من لدن القائل والسامع، فهو قول حجاجي استهوائي يقوم على الممكن، وعلى المحتمل، ومن ثم فهو إقناع عديم الجدوى، مادام لا يفيد إلا اعتقادا، ولا يفيد معرفة يقينية، كالإيقان بوجود الإله.

الكلمات المفتاحية: البلاغة السوفسطائية – الحجاج السوفسطائي – الجدل – الحوار الجدلي الأفلاطوني – الحجاج اللاهوتي الأفلاطوني.

Research title

    The Rhetoric of Argumentation: The Sophists and Plato 

Dr. Elmostapha Qtarab1

1 PhD in Arabic Studies / Morocco

Email : qatarabelmostapha1@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(8); https://doi.org/10.53796/hnsj58/9

Published at 01/08/2024 Accepted at 13/07/2024

Abstract

One of the aims of this study is to reconsider the Sophists’ rhetoric of argumentation, because the bad reputation that has remained attached to them is due to the Platonic distortion of their thoughts, making them mere deceitful demagogues. Therefore, their rhetoric is not entirely in vain, as they were the wise men of their time, skilled at improvising the arts of argumentative discussions revolving around the possible in public seminars. They have even proved that knowledge is relative. It may or may not exist. Everything, according to them, is likely to be true or false, and rhetorical discourse alone can be judged as truthful and existant.

   The study also sought to clarify some aspects of Plato’s objection to Sophistic rhetoric, as reason is the mainstay of Plato’s philosophical discourse. Therefore, he criticized the Sophistic discourse, considering it a tickling of the listeners’ ears, and a type of demagogy that threatens Athenian democracy, as it is a non-dialectical discourse that is not based on questioning. Its basis is addressing others as a way to convince them of assumptions and opinions, and its goal is to enjoy what is said by the speaker and the listener. It is a seductive argumentative discourse based on the possible and the probable, and therefore it is a useless persuasion, as it only conveys belief, but not certain knowledge such as the conviction of the existence of God.

Key Words: Sophistic rhetoric – Sophistic argumentation – dialectic – Platonic dialectic dialogue – Platonic theological argumentation.

المقدمة:

لا شك أن الصفة سوفيتيس (Sophithés ) ” كانت في الأصل لغة تقدير، فهي من جهة معناها الاشتقاقي تعني الحكيم، والرجل ذا الكفاءة المتميزة في كل شيء، حتى إن بروميثيوس – وهو من هو في الأسطورة اليونانية – كان يلقب بالسوفسطائي”[1]، وقد عرف لفظ “سوفسطائي” تحولات عديدة تبعا لظروف تاريخية متشعبة، فقد انتقل من معنى إلى معنى حتى صار مشينا محاربا، فقد أطلق ابتداء على الماهر في إحدى الصناعات، ثم قصدوا به  من كان حاذقا في الفلسفة أو الخطابة، ثم صار يطلق على الدجال المخادع[2].

   والحق أن السوفسطائيين تعرضوا لحملة من التشويه منذ الهجمة الأفلاطونية الكبرى في كتاباته الحوارية، لكنهم سيحظون بشيء من رد الاعتبار عند بعض الدارسين المنصفين في العصر الحديث، وذلك ما فعله جورج كروت/ George Grote ( ت1871 ) في كتابه ( تاريخ اليونان )، وفي بعض أعمال نيتشه[3] (ت1900).

أما أفلاطون فازدرى سبل الإقناع السوفسطائي، فما هي عنده إلا القدرة على إقناع أي كان بأي شيء كان، ورأى في ذلك خطرا على التفكير العقلاني السليم الذي يسلك مسلكا حواريا جدليا يؤدي إلى الإقناع بالذي يقتضيه منطق السؤال الباحث عن الحقيقة، أو منطق التوليد المعرفي المشترك الذي يمارسه أطراف الحوار، وهو المنطق الذي يرفض إلزام الخطابة السوفسطائية المخاطبين بمعرفة أحادية يراها الخطيب الحقيقة المثلى – وليست كذلك – لدورانها في فلك منطق الاحتمال، أو المرجح، أو الشبيه بالحق.

   وبينما نجد عند السوفسطائيين مفاضلة بين خطاب قوي وخطاب ضعيف – فإنا نجد لدى أفلاطون مفاضلة بين خطاب صادق وخطاب كاذب، ولذلك فهو يفرق بين الاعتقاد والرأي ( الدوكسا Doxa  ) و) المعرفة èpistèmè’L )، فالدوكسا مفروضة من لدن الخطيب، أما المعرفة فتكسبها مسارات الحوار المجادل ومسالكه.

   فما أبرز القضايا التي وسمت البلاغة والحجاج لدى السوفسطائيين؟ وكيف تصدى لهم أفلاطون من خلال حواراته الجدلية؟

  1. البلاغة والحجاج في التصور السوفسطائي

إضاءة حول البلاغة اليونانية في الحقل القضائي والفلسفي ونشأة الخطاب السوفسطائي

ولدت البلاغة اليونانية من رحم القضاء، وكان كوراكس ( ت. ق6 ق. م ) من أوائل واضعي لبنات الحجاج أمام المحاكم، وهي بلاغة  ذات استهلال (exorde )، يتلوه سرد يعرض القضايا، فمناقشة بواسطتها تقدم الحجج الداعمة للقضية، فختام يذكر المتلقي بأهم الأحداث. أما تيسياس ( ت 467 ق م ) فقد صاغ خطبا غايتها إقناع المحكمة بحق استرجاع الأراضي التي سلبها طاغيتا صقلية جيرون وهيرون المطاح بهما عام 467 ق م. ولم تكن تلك المرافعات ذات نفس بلاغي فحسب، بل كانت إرهاصا حقيقيا للحجاج اليوناني[4].

فكوراكس أنشأ مدرسة، وطفق يعالج أبحاثا مدارها على إحكام فن القول ( الخطابة )، وكذلك فعل وريثه تيسياس من جهة تدريسه البلاغة بأثينا، وكانت خطابة مشوبة بفلسفة أمبيدوقل ( ت430 ق. م ). ولم يكن كوراكس ينظر إلى البلاغة باعتبارها زينة أو وسيلة للتواصل فحسب، بل عدها أداة تفضي إلى الإقناع في سوح المرافعات القضائية، وكذلك فعل أنتيفون ( 478 – 408 ق م ) البلاغي المتفلسف الذي اشتهر ببلاغته القضائية بأثينا، وعد في عداد كبار مخاطبي النوازع الباتوسية، فكان بمثابة معالج نفسي لقدرته الهائلة على إقناع الجماهيروالتأثير في نفوسهم.

“وكان أول من كتب في فن التعزية ( Arts de consolations ) الذي صار أكثر نضجا فيما بعد، كما كتب كتابا سماه ( عن التوافق / sur la concorde ) تضمن سمات بلاغية لطالما كانت محل إعجاب وتقدير، كالروعة، والأسلوب السهل، والغنى الفكري المدهش. وهو كتاب مزج بين البلاغة والفلسفة التطبيقية ( العملية )، إذ هاجم فيه بعض القيم الوضعية بلا هوادة، كالأنانية، والطبع السيء، والخمول والفوضى، كما أبان فيه عن معرفة عميقة بالعواطف البشرية، وعن كفاءة تربوية عالية.”[5]

    1. بروتاغوراس والمنزع الفلسفي اللغوي وبلاغة الإقناع

في محاورة بروتاغوراس يظهر هذا السوفسطائي متعدد التخصصات، فهو فيلسوف أخلاق وسياسة، وله آراء حول المجتمع والدين والتربية، فهو معلم ومرب وخطيب، يعرف كيف يستخدم البرهان والأسطورة على السواء، وكيف يكون مقنعا. وكانت لهذا الفيلسوف البلاغي آراء تتعلق بوجود الآلهة، وطبيعة الحقيقة، والعلاقة بين المعرفة واللغة. وقد ترك في مضمار الفلسفة كتابين هما” ( عن الآلهة / On the Gods ) و( عن الحقيقة / On the truth )، وعرف باللاأدرية الدينية، ومن ذلك قوله: لست أدري إن كانت الآلهة موجودة أم لا؟ كما عرف عنه مذهب النسبية المعرفية”[6].

تأثر بروتاغوراس بزينون الإيلي ( 490-430 ق م ) الذي كان مبرزا في مبحثي الوجود والميتافيزيقا، أما فيما يتعلق بنسبية المعرفة والحقيقة، فقد ذهب إلى أن الإنسان هو الحاكم الفعلي على كل شيء (هو مقياس كل شيء)، “فالأشياء كما هي ظاهرة لكل إنسان، وليس هناك معيار/ Critére للحقيقة. وهو تصور ينطوي على نسبية مطلقة، فبينما يظهر الشيء لهذا جميلا، فإنه يظهر لذاك قبيحا، أو يجده الأول باردا، ويجده الثاني حارا، أو يبدو لأحدهما كبيرا، ويبدو للآخر صغيرا، فيصدق على المحكوم عليه حكمان وإن تناقضا، فينعدم المنطق ما دامت لكل إنسان حقيقته”[7].

وهي النسبية التي حاربها أفلاطون ( ت347 ق.م ) بضدها، حين اعتقد أن الإله هو مقياس كل شيء لا الإنسان. وكان بروتاغوراس ذا باع في فلسفة التربية، فهو أبرز المربين السوفسطائيين، وكان هدفه التعليمي أن يتحلى الشباب بالكياسة والتبصر في الشأن العائلي الخاص، وفي الشأن المدني العام، من أجل اكتساب القدرة على المناقشة العامة، وإدارة الشؤون المدنية. والثابث أن بروتاغوراس قد انخرط في مناقشات فلسفية مع سقراط ( ت 399 ق. م ) أمام الجمهور، فنازعه التفلسف، علاوة على كفاءته البلاغية. وبينما توسل سقراط بالحوار سبيلا للتوليد المعرفي، فإن هذا السوفسطائي سعى إلى تبيان استحالة إيجاد الحقيقة.

    أما من جهة اللغة والبلاغة، فقد كان أول من جعل النحو مادة تعليمية، وكشف عن صيغ اللغة، فصنفها ضمن قواعد محددة، وإليه يرجع الفضل في التمييز بين مفهومي الفعل والاسم، وتعريفهما التعريف الدقيق، وجمع أبحاثه في كتاب” تصحيح اللغة” ( correction du langage )، بل إنه عالج قضايا لسانية كثيرة كالفصل بين ضروب الخطاب، فجعل بعضها أسسا، كالتمني، والسؤال، والجواب، والأمر. ولم يفته التمييز بين الحقيقة والمجاز في الشعر، كما فعل حين كشف عن مجازية الأمر الموجه إلى إلهة الفن المقصود به الدعاء ( الصلاة )[8].

ولم تكن البلاغة عنده علما نظريا، بل كان فيها مبرزا من الناحية العملية من خلال إتقانه فن الحوار، أو بلاغة الحوار، وارتجال الخطاب في الفضاءات العمومية، ولذلك فإن أوليفيي روبول خلص إلى القول بأن بروتاغوراس” كان معلم بلاغة وفلسفة”[9].

وغير خاف أن بروتاغوراس يعد من مؤسسي بلاغة المناظرة، إذ كان يتصور دائما وجود وجهتي نظر لكل قضية، وكان يعلم تلاميذه المناظرة وفق ذلك التصور قصد الدفاع عن القضايا الخاصة في مجلس النواب، وفي بيوت القضاء[10]. وهذه الوجهة البلاغة تتقاطع وتصوره الفلسفي القاضي بمعارضة فكرة الحقيقة المطلقة، فنادى بتعدد الآراء ووجهات النظر، ولذلك جاز القول: إن” العلاقة الوطيدة  بين السفسطة والبلاغة ظهرت لدى بروتاغوراس على وجه الخصوص.”[11]

    1. جورجياس بين بلاغة الإمتاع والتفلسف السوفسطائي

كان جورجياس الصقلي ( 492-422 ق م ) أستاذا سوفسطائيا متجولا، طبقت شهرته اليونان كلها، تعلم من مشاهير الخطباء ككريتياس ( 460 – 403 ق م )، وألسيبياد ( 450 – 404 ق م )، وإيسوقراط ( 436 – 338 ق م ). وكان خطيبا مفوها، أسس النثر الشعري الذي لم يكن معروفا قبله بعد هيمنة الملحمة والتراجيديا[12]. وكان نثره بليغا، قوامه الصور البلاغية المكثفة ذات التركيب الإيقاعي والفني الجميل، وقد وظف فيه صورا لفظية ذات مقومات جمالية كالسجع، والجناس، وإيقاع الجملة، علاوة على الصور المعنوية كالكناية، والاستعارة. وبذلك نحا بالبلاغة نحو خدمة الجميل، فصارت على يده ذات طابع جمالي أدبي[13].

ويمكن القول: إن جورجياس قام بتأطير النثر الفني تحت جناح السنن البلاغي باعتباره خطابا بلاغيا، وموضوعا جماليا، وهكذا جعله ذا بعد بلاغي واضح المعالم، كما جعل البلاغة ذات منحى أسلوبي[14]. ومن ثم فإنه رام إقناع الجماهير بخطابة ذات نزوع شاعري، ابتغاء تأجيج العواطف، وإقناع العقول، ولذلك عد الجدل فنا للسيطرة، والإغواء، واستمالة النفوس.

أما تصوره الفلسفي السوفسطائي فبمقتضاه رأى للخطابة سلطانا على سائر الفنون حتى قال: ” إنما القول جبار ( Tyran )”. ومن أسسه الفلسفية كذلك مبدأ ” اللاوجود”، أو نفي الوجود،  فلا وجود لكائن عنده، وإذا وجد فلن يكون معروفا، ويبدو ذلك واضحا من خلال كتابه ( اللاوجود أو حول الطبيعة ). وبهذه الخلفية النظرية عد اللغة عاجزة من حيث التعبير عن وجود الأشياء، لأنها لا تمثلها بحق ما دامت من طبيعة أخرى، إنها رموز اعتباطية[15]. وقادته النسبية المشككة إلى الجدل المشاغب منطلقا من الفلسفة الإيلية، فدافع عن ثلاث قضايا: لا شيء واقعي، وإذا كان شيء ما واقعيا فإنه مع ذلك غير قابل للإدراك، وإذا كان الشيء غير قابل للإدراك، فإنه مع ذلك غير قابل للتعبير عنه[16].

أهمل جورجياس فلسفة الحقيقة، وكان همه تدريس علية القوم طرق الدفاع عن آرائهم لأجل الانتصار الجدلي على الخصوم خلال المحاورات، ولم يمانع من الخوض في كل المواضيع بالطرق المشككة في الوجود، بما في ذلك وجود الآلهة اليونانية نفسها، ولذلك فإنه يعتد بالخطاب لذاته، بغض النظر عن الظفر بالمعرفة. يقول في ( محاورة جورجياس ): ” سيتم تفضيل الخطيب على نحو أفضل على أي منافس آخر، لأنه يحسن الخوض في جميع الأمور أمام الجمهور بطريقة أكثر إقناعا، هذه هي طبيعة الخطاب وقوته”.[17]

    1. الحجاج السوفسطائي وبوليفونية الآراء

لقد بذل السوفسطائيون جهودا عظيمة في مضمار فن القول الخطابي، ومن ثم كانت بمثابة المبادىء الأولية المؤسسة لبلاغة الإقناع ( الحجاج ) من خلال الاعتماد على الاحتمال، والظن، والرأي، والممكن، وإتقان المجادلة والمحاورة القائمة على الاستدلال المنظم.[18]

ولذلك فإن كريستيان بلانتان يرفض ربط بدايات التفكير الحجاجي بالمرحلة الأرسطية على حساب السوفسطائيين ( ق 5 وبداية ق 4 قبل الميلاد ). وذهب إلى أبعد من ذلك، حين جعلهم وفلاسفة التنوير في رتبة واحدة، ، وكل مقاربة للحجاج السائد ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار ما حققته السوفسطائية من مكتسبات، ومن جملتها:

  1. تعارض الأصوات: فقد زاولوا بانتظام معارضة الخطابات، وجعلوا لكل حجة حجة مضادة، وجابهوا كل خطاب بخطاب معاكس ناتج عن وجهة نظر أخرى.
  2. خطاب المحتمل: فقد أبرز السوفسطائيون مفهوم المحتمل، وطوروا خطابه بما ينسجم والشؤون البشرية، وسلوك الناس.
  3. الجدلية: وذلك من خلال خوض غمار الحوارات الجدلية حول كل المواضيع أمام الجمهور الذي يحكم بالغلبة لذي السطوة القولية الأعلى.[19]

   ولم يكن الخطاب الحجاجي السوفسطائي عبثا من جهة الترتيب والتنظيم، فالذي يروم الإقناع لابد له أن يسلك سبيل الاستهلال الذي يثير اهتمام المستمع أو شفقته، فسبيل سرد الوقائع، فسبيل الحجاج الذي يثبت الأطروحة أو يدحض نقيضها، ثم الخاتمة التي تثير العواطف، سواء أتعلق الأمر بالمرافعات القضائية، أم بالخطب الاحتفالية، كما فعل جورجياس حين مدح الكثير من الأبطال اليونانيين حتى عد واحدا من” مؤسسي الخطاب البرهاني، ولاسيما في مضمار المدائح القومية”.[20]

   لقد كان للسوفسطائيين نصيب في نمو الدراسات المنطقية وتطورها، إذ كانوا يبدؤون خطبهم بإثارة القضايا العامة، ثم ينتقلون إلى الأمور الخاصة التي يريدونها، وهنا نجد الشبه قويا بين نقطة البدء في منطق أرسطو وما كان يفعله السوفسطائيون في خطبهم، وهو الانتقال من العام إلى الخاص، أو من الأمور الكلية إلى الأمور الجزئية، وأقنعوا الناس بضرورة الشك في كل شيء، وأول الأشياء التي شكوا فيها هي العقل الذي لا يعد عندهم مصدرا للمعرفة.[21]

   والثابت أنهم جمعوا بين التربية ( تعليم البلاغة ) والفلسفة الحجاجية انخراطا في مناظرات عصرهم لاقناع الحشود، فالبلاغة عندهم صناعة مزاجها الكتابة، والإلقاء الخطابي:” فكانوا كالصحفيين من جهة الوظيفة، لأنهم كانوا على أتم الاستعداد لخوض المعارك الكلامية، وبذلك زاوجوا بين التعليم والصحافة، فكانوا أساتذة الحكمة، والخطابة، والكتابة في آن واحد.[22]

واستندوا إلى الرأي العام المشترك لأجل الإقناع، وتجنب الخلاف والمعارضة والشك، وتصوروا أن الحقيقة تكمن في ما تعتقده الأغلبية، وهذا هو الحجاج الذي أساسه سلطة الرأي السائد، ومن ثم رأوا أن “جوهر الأخلاق هو الاتفاق حول فاعلية المستويات السلوكية المجتمعية والشخصية المتعارف عليها”[23].

  1. الحوار الجدلي الأفلاطوني في مواجهة الحجاج السوفسطائي
  2. مظاهر الاعتراض الأفلاطوني على البلاغة السوفسطائية

 سخر أفلاطون من البلاغة السوفسطائية في كل حواراته بصفة خاصة، بل وأظهر ازدراءه البلاغة بشكل عام. ففي الجزء الأول من محاورة “جورجياس” لاحظ سقراط – وسيط أفلاطون المحاور – أن الخطاب الإقناعي البلاغي لا يفضي إلى معرفة صادقة، أوعلم حقيقي، وغايته فرض اعتقادات، فهو عند جورجياس سلطة أو قوة مدهشة باهرة ذات بعد كوني، فبواسطة خطاب جميل قوي يمكن للإنسان أن يعبر، أو يفكر كما يشاء، وهو ما لايستقيم على محك النظر الأفلاطوني.

     اشترط سقراط على البلاغي أن يعرف العدالة كي يبني معرفة حقيقية بعيدا عن الإطراء أو المنطق الاحتمالي، وما البلاغة إلا شبيهة بفن الطبخ ( Art Culinaire  ) الذي يلبي حاجة الشهوة إلى الطعام دون أن تكون له علاقة فعالة بالصحة، وهي تشبه المساحيق التي تجعل الإنسان أكثر جاذبية، ولكنها لا تمنح الجمال الحقيقي للجسد. وحين دافع بولوس (Polos) عن القوة الحقيقية للبلاغة – وهو أحد المحاورين في “جورجياس” ولاسيما  في المجال السياسي – فقد سعى لبسط سلطان خطابه على المدينة ( La Cité ) وعلى المجتمع، غير أن سقراط يرد عليه مشترطا العلم بمبادىء العدل والخير والقانون التي لا تتحقق بواسطة القوة، أو العنف اللفظي.

أما في المحاورة الأفلاطونية ” فيدر / Phèdre ” فنجد سقراط مناوئا للبلاغة المحفوظة عن ظهر قلب، تلك التي تلقن في مدارس الخطباء، كبلاغة ليسياس Lysias  ( ت. 380 ق. م ) التي لا غاية لها إلا الإقناع بالرأي المتسلط، أو القوة، أو الخداع. إن البلاغة المثلى لدى سقراط هي التي تقوم على أساس الفلسفة والعقلانية، لأنها ذات طبيعة دياليكتيكية من شأنها الكشف عن الحقيقة بواسطة المنهج الحواري.

    ولم يستسغ سقراط خطابة الإطناب لدى بروتاغوراس فانتقدها انتقادا لاذعا. يقول مخاطبا هذا السوفسطائي: “منحتني الطبيعة ذاكرة ضعيفة، وحين أكون بإزاء خطاب طويل فإني أفتقد موضوع النقاش، أنت تعرف ما ينبغي فعله إذا كنت ضعيف السمع كي أسمع حديثك، وهو أن ترفع صوتك عاليا بلا سخط، وما دمت تواجه إنسانا كثير النسيان، فأحكم أجوبتك، وتوخ الاختصار(…). إذا أردت محاورتي فلا تعد سبيل الإيجاز”[24]

      واضح هنا أن سقراط يعيب على بروتاغوراس اللجوء إلى متاهة الإطالة لأنه رأى فيها مغالطة تضليلية تنسي المخاطب موضوع الحوار. والانحراف عن التحاور بهذه الكيفية، أو بواسطة إثارة النزاع والاعتراضات لمجرد الاعتراض مرده الجهل بفن الجدال، وذلك ما رفضه أفلاطون في الكتاب الخامس من كتابه “الجمهورية”. فهناك أشخاص يتوهمون أنهم يناقشون، ولكنهم في الحقيقة يتوسلون بالاعتراضات التافهة.

إنهم يفتقدون القدرة على فحص السؤال بإهمال النظر إلى نوعه، فهم لا يرتبطون إلا بالكلمات، وغاية ما يقصدون إليه أن يوقعوا المحاور في التناقض، فالسوفسطائيون بالنسبة إليه أدعياء غايتهم النتائج الظنية لإرضاء الهوى أو اللذة، وذلك يضر بالقيم، والأخلاق، واليقين، والإيمان” تلك القضايا الأربع التي احتلت مكانة كبيرة في البلاغة والفلسفة الأفلاطونيتين”[25].

    ولا يبتعد السوفسطائيون عن الطغاة في الترتيب الأفلاطوني، فرتبة السوفسطائي قبل الجبار Le Tyran  مباشرة، وفي هذا إشارة إلى الصلة بين حواراتهم والطغيان، لأن السفسطة – حسب أفلاطون – حجاج استهواء، هي تملق، والتملق ضرب من العنف[26]. وقد أبطل أفلاطون نظرية الإحساس السوفسطائية التي عدها السوفسطائيون المصدر الوحيد للمعرفة، لأنها معرفة جزئية تختلف من فرد إلى آخر مثلما عدها بروتاغوراس، فالمعرفة عند أفلاطون لا تبنى على الحس، وإنما على أساس من الإدراكات العقلية الكلية الثابتة.[27]

    لقد سعى أفلاطون إلى تأسيس بلاغة معرفية قائمة على المعرفة المطلقة، لأنها نابعة من الحقيقة المتفق عليها من لدن الجميع، فالأخلاق مثلا هي تلك القيم المطلقة العامة التي تصدق في كل زمان ومكان[28]. وميز بين ضربين من ضروب الإقناع: الإقناع البلاغي المفضي إلى الاعتقاد بلا علم، والإقناع الجدلي الذي يقود إلى العلم.

 والجدل الأفلاطوني هو فن الحوار أو المناقشة، ومن شأن ذلك عنده أن يؤدي إلى حركة فكرية ينشأ عنها انتقال من الإحساسات إلى الأفكار لتجاوز عالم الحس إلى عالم المثل الميتافيزيقي. لقد تصور السوفسطائيون أن الخطاب هو صانع الحقيقة، أوهو الحقيقة نفسها، ومادام المتخاطبون في شأنها متعددون فإن الأمر عندهم لا يتعلق إلا بحقائق “متوهمة”، وهذا ما عارضه أفلاطون معتبرا أن الحقيقة واحدة لا تقبل من جهة العقل تعددا.

    عد أفلاطون البلاغة السوفسطائية صناعة مموهة، خطابة تزيين، خطابة تحقق اللذة لا الفضيلة. ويظهر ذلك جليا في ( محاورة جورجياس )، ففيها قيم وظيفة الخطابة في ضوء المقابلة بين خير Bien ولذة Plaisir، فذكر أن هناك صنائع أربع تحقق الخير للإنسان، وتفضي إلى إسعاده، هي: الطب، والرياضة البدنية، والعدل، والتشريع. أما الخطابة فهي قول قناع، قول خدعة، ومن ثم سعى إلى تخليص الإنسان من هذا القول الذي يهدده.

     أقام أفلاطون فلسفة محافظة على النظام وتراتبيته، فرفض الاعتراضات والآراء السوفسطائية المتغيرة، فالتغيير عنده وهم، لأنه كان يحلم بدولة الفلاسفة، فعادى فلسفة الرأي لدى الخطباء الذين امتلكوا في زمانه أذن الشعب، فلا غرو أن يستميت في الدفاع عن العقل ضد الرأي، وعن الحقيقة ضدا على الظن.[29]

   وحاصل البلاغة عنده أنها نشاط لاعقلاني، لأنها لا تضع في حسبانها تفسير طبيعة الأشياء ( الماهيات )، ولذلك يدفع سقراط في ( محاورة السوفسطائي ) إلى طلب شرح معنى”الأفضل”، و”الأعقل”، “والأسمى”- من كاليكس، وإلا كانت كلماته فارغة.[30] وفي تلك المحاورة يجبر سقراط السوفسطائي على الإقرار بأن علم الكلام / الخطابة غايته صنع الإقناع، ولاشيء غير ذلك، ثم يمتحنه بالسؤال عن طبيعة ذلك الإقناع، ومباحثه، ويثبت له أن علم الكلام ليس وحده المقنع في عوالم الأقاويل، فحتى معلمو الرياضيات مقنعون، وكذلك الشأن في سائر الفنون.[31]

2– حجاجية الحوار الجدلي الأفلاطوني

أ – في خصائص الحوار الجدلي الأفلاطوني:

      اتخذ أفلاطون الحوار سبيلا لحجاجه الجدلي الذي عول عليه لتحرير الإنسان، وذلك بواسطة الأسئلة التي توقظ فكره وتحركه، لأن الجدل يهتم بالسؤال موضوع البحث بعيدا عن الشعور الشخصي، ورأى أن الجدل الصافي الحقيقي لا يضطلع به إلا الفيلسوف حصرا.[32] وبذلك أخرج الحوار السوفسطائي من الدائرة الجدلية العاقلة، لأنه بالنسبة إليه لا يبرح الدائرة الوهمية اللاعقلانية، فالخطابة لا تعبر عن الحقيقة مادامت تصنع صورا وهمية عن طريق التلاعب بالألفاظ بغرض الخديعة. ولا يكتفي أفلاطون باعتماد السؤال بغية التوليد المعرفي، بل إنه يتوسل بالأمثلة الواقعية، أو الافتراضية، لتحصيل المطلوب الجدلي، كما توسل بالشاهد الشعري رغم بعده التخييلي، ولذلك فإن سقراط يستشهد بشعر هوميروس في محاورة “لاخيس” لإثبات الحقائق أو تأكيدها.[33]

     والحوار الجدلي الأفلاطوني ضرب من التفكير المشترك بين المتحاورين، وهو ارتقاء نحو الحد المطلق الكلي، ثم نزول إلى الجزئي، الأول جدل صاعد نحو المحدود في وحدته الكلية، والثاني جدل نازل، يهبط حتى تنقسم الوحدة الكلية حسب تمفصلاتها الطبيعية، حسب أجناسها إلى حد الوصول إلى الجزء الذي لا يتجزأ عبر سلم متدرج، في كل درج مصطلحان بينهما تضاد. ويقتضي الجدل اختيار أحدهما من أجل دفع الهبوط، والوصول إلى ثنائي جديد، ينطلق منه ثانية، وتلك حركية جدلية تفرض وجود متحاورين يسلم أحدهما بما يطرحه الآخر، وهذا شرط الحركة الجدلية.[34]

   والجدل عند أفلاطون منتهى العلم، وكمال المعرفة، وهوالوسيلة المثلى للتدليل على الحقيقة، وإزالة الغشاوة عن عقل المحاور ليظفر بها، وهي الحقيقة التي تحظى بقبول المستمع الكوني. ومن خصائص هذا الجدل أنه يولد المعرفة. يقول سقراط في محاورة” تييتيت Théétète : ” فن التوليد عندي يعني الوظائف التي تضطلع بها المولدات، لكنه يختلف عنها، فبينما هن يحفظن سلامة الحوامل بالتوليد، فإن وظيفتي أن أحفظ أرواح الناس لا أجسادهم”.[35]

 وفي مرحلة التوليد يبدأ سقراط بإعادة بناء المعرفة بعد إزالة آثار المعرفة السوفسطائية المشوهة، بتوجيه الأسئلة التي تساعد على توليد المعارف الصحيحة، ويقوم هو بدور الموجه والمصحح فقط. وفي هذه المرحلة يساعد محدثيه بالأسئلة، والاعتراضات مرتبة ترتيبا منطقيا، حتى يصل بهم إلى الحقيقة التي أقروا أنهم يجهلونها، فيصلون إليها وهم لا يشعرون.

     وما التوليد عنده إلا استخراج الحق من النفس، وهو علم أولي سابق على التجربة، كامن في أعماق الروح، علم كلي بالمباديء الأولى، والأمور الدائمة، وما الجدل إلا وسيلة لإيقاظ الروح لأجل التذكير بالمعاني الفطرية التي اكتسبها الإنسان من العالم الآخر ( عالم المثل ) قبل ميلاده الأرضي.

    كان سقراط وأفلاطون مفتونين بالقول الحجاجي على الخصوص، سعيا إلى تخليص المفاهيم من المغالطات والأوهام. ففي محاورة ( فيدر) يحتج ليزياس لمزية الانصراف عن الحب بكونه عاطفة تستعبد الإنسان، وتسلب عقله، ورأى أنه قيد وامتلاك وتضييق، وهو حجاج لا يستقيم حسب أفلاطون، فما عده “ليزياس” حبا هو ظاهر الحب، أما جوهره فانعتاق من ثقل المحسوس، وعروج إلى السماء، وتطلع إلى الوجود في ذاته.[36]

ب – آلية الكشف الجدلي عن تناقض الخصم:

      لنقض مسائل الخصوم توسل افلاطون بالكشف الجدلي عن تناقضاتهم، ففي محاورة “جورجياس” يستدرج سقراط محاوريه: “جورجياس وبولس” إلى مناقضة نفسيهما أمام حشد من الناس في قضايا كبرى تهم المجتمع الأثيني، فبعد أن صرح جورجياس بأن العالم بالخطابة لا يكون ظالما يعود ليقول – باستدراج من سقراط – : إن الخطيب يمكن أن يسيء استعمال علم الكلام ( الخطابة )، فيرد عليه سقراط: لاحظت مندهشا التناقض الواضح الذي وقعت فيه.[37]

 وفي مقام آخر من المحاورة نفسها يسلك سقراط هذا المسلك الجدلي الحجاجي الذي يفحم الخصم، وذلك حين يكشف عن تناقضات محاوره ( كاليكس ) الذي عرف الأفضل والأسمى تعريفات مختلفة، فتارة عرفه على أنه الأقوى، وتارة عرفه بالأعقل، وطورا جعله شجاعة.[38] وهذا ما رفضه أفلاطون، لأن صناعة القول تقتضي شرطين: شرط معرفة منتج القول ( الحقيقة )، وشرط قدرته على جعل قوله نظاما مكتملا من جهة التناسب بين أجزائه.[39]

    ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن سقراط سعى إلى انتزاع الاعتراف بذلك التناقض، كما فعل في محاورة” لاخيس”، فقد أجبره على الإقرار بأنه كان يتوهم معرفة حقيقة الشجاعة[40]. ولجأ سقراط إلى هذا الأسلوب الجدلي لدحض تهمة الإلحاد والكفر بآلهة اليونان التي حكم عليه بمقتضاها بالإعدام، فقد أوقع خصمه “ميليتيس” في التناقض قبل تجرعه السم قائلا:” لا يجوز لمن يملك ذرة من فهم بأن يقول: إن رجلا يؤمن بأمور فوق مستوى البشر، ولا يؤمن في الوقت نفسه بوجود آلهة، وأشباه آلهة، وأبطالا. حسبي ما قلته لرد دعوى”ميليتيس”، فلا حاجة لي إلى دفاع قوي بعد هذا”.[41]

والإيقاع في التناقض آلية من آليات التفنيد والدحض، وهو حق لطرفي الجدل. يقول سقراط: ” إنني واحد من أولائك الذين هم على استعداد لأن تدحض أطروحاتهم إذا قلت شيئا مغايرا للحقيقة، ولذلك فإني أنقض ما ليس حقا”.[42] ولا يتوصل إلى نتيجة مرضية في مسارات الكشف الجدلي عن التناقضات إلا بإحكام السؤال المجادل، فالمجادلة على نحو سيء تفضي إلى الإجابة على نحو رديء، وقد تكون عونا للمجادل على إيقاع خصمه في فخ المتناقضات، أو الإجابات الرديئة عموما.

   ومتى ظهر الخطأ أو التناقض في المحاورة وجبت مقاطعة المخطيء أو المتناقض. وإذا امتعض المحاور من امتحان القضايا بهذا المسلك الجدلي، وأراد ترك المحاورة – اعترض عليه بالإجماع الجمهوري الذي بمقتضاه يشنع الشعب على من يتهرب من المحاورة الجدلية رغبة في إنهائها بعد التبكيت الجدلي.[43]

      ج – الحجاج اللاهوتي الأفلاطوني وبعده الأخلاقي:

لم تكن قضايا الحجاج الجدلي الأفلاطوني دائرة في فلك الناسوت الأرضي فقط، بل حظيت القضايا الروحية في الجدل الأفلاطوني بالعناية البالغة. ففي محاورة “فيدون” مباحث عن الروح وخلودها، ومفارقتها الجسد، وعن طبيعتها المخالفة له. والروح هي التي تدرك المعرفة، لأنها محصلة قبل الولادة، وإن اعترتها شوائب النسيان والغفلة فإن التعلم الحواري كفيل بالهداية إليها، فتتذكر الروح المعارف القبلية.

وهذه الفلسفة اللاهوتية قامت نقيضا للرأي السوفسطائي القائل بأن المعرفة مدركة بالحواس فقط. فالخير المطلق، والجمال المطلق، وكل المثل المطلقة سابقات في الوجود عن الوجود البشري نفسه، وإلى ذلك ترد الأفكار، والعلوم، والأحاسيس. ولذلك فإن البلاغة الحقيقية عند أفلاطون هي البلاغة الجدلية، لأن موضوعها الحقيقة المتعالية، ويسميها “بسيكاغوجيا”، أي تكوين الأرواح بواسطة الكلام.[44]

    ومن جملة ما سعى إليه أفلاطون في ( محاورة جورجياس ) تذكير الأرواح بمصيرها يوم الحساب، حتى إن المحاورة لا تنتهي إلا برؤية أسطورية عن يوم القيامة، إذ الأرواح تمتحن بعد الموت، فالتي أطلقت العنان لشهواتها مصيرها ثارثاروس ( وتعني الجحيم )، أما أولائك الذين عاشوا بفضيلتي التقوى والصدق، فجزاؤهم الجزر المباركة Isles of the blessed.

  أما الفلاسفة فجزاؤهم المملكة العليا، بخلاف السياسيين والخطباء الأدني رتبة.  وفي محاورة فايدروس يشعر سقراط بالإثم لنيله من إله الحب إيروس Eros بالتشكيك في الحب، فيلقي خطابا مطولا احتوى استعارته الشهيرة للروح البشرية، فهي عربة خشبية يجرها اثنان من الخيول، أحدهما طيب دلالة على العقل، والآخر جامح عنيد، بل مخز أحينا، ويمثل العواطف.

    ههنا يظهر أفلاطون الروح ماهية مجنحة، رفيعة، مرتبطة بزيوس Zeus . والأرواح المقدر لها الرجوع إلى الأرض مراتب حسب قربها من معرفة الحقيقة، على أن المكانة الأولى يتبوؤها الفيلسوف، والثانية للملك المستمسك بالقوانين، والثالثة للسياسي، والرابعة للطبيب، والخامسة للعراف ( المتنبي )، والسادسة للشاعر، والسابعة للحرفي أو المزارع، والثامنة للسوفسطائي أو خطيب الدهماء، والتاسعة الأخيرة للطاغية، فجعل الخطباء إلى جانب الطغاة، لأن الخطابة في نظره تجانب الحقيقة، وتجنح إلى الظلم والطغيان، أو تسوغه.[45]

   وهكذا جادل أفلاطون المشككين في وجود الإله بحقيقة الخلود مصيرا لدحض الفلسفة العدمية السوفسطائية، ومن ثم ساغ نعتها بالفلسفة الوجودية الروحية التي من شأنها تبديد حيرة الأرواح في شأن مصيرها. ولم ير أفلاطون الموت عدما، بل رآه خيرا يعيد النفس إلى ذاتها، وذلك واضح في سياق وصف الأيام الأخيرة لسقراط في محاورة “فيدون”. ومن الباحثين من يرى أن اللوغوس عند أفلاطون مستعمل للدلالة على معنى الله الذي هو مصدر الأفكار، أما في الفلسفة الإغريقية فلا يعني إلا القول أو العقل عموما.[46]

   والحجاج الجدلي الأفلاطوني استرضاء للآلهة، وليس تلبية لدواع هووية بشرية كما يفعل السوفسطائيون، وغايته الأخلاقية لا جدال فيها، ففي كتاب “الجمهورية” يذهب أفلاطون إلى أن السياسة والأخلاق متلازمان، كما ألزم طبقة المزارعين ( الطبقة الثانية ) بالاعتدال في تعاطي الشهوات، أما مدار الحوار في محاورة “مينون” فقائم على الفضيلة، وسبل تحقيقها.[47]

خاتمة:

اتضح أن السوفسطائيين أسهموا بحظ وافر في نشأة البلاغة والحجاج في حقبة إغريقية مبكرة، احتاج فيها المتقاضي إلى الدفاع عن دعواه بما يقتضيه العقل والقانون، فكان خطابا ديموقراطيا بامتياز،  هدفه إقناع هيئة المحلفين الشعبيين بعدالة القضايا المختلفة.[48] ويمكن عدهم – فضلا عن ذلك – من الأوائل السباقين إلى نقد الأخلاق من زاوية فلسفية.

وتبين أن الحجاج السوفسطائي رمى إلى الإقناع الذي يزيد في درجة الاعتقاد – وإن عيب عليه عدم إنتاجه معرفة أو خطابا يقينيا – فالخطاب عندهم يكسب المخاطب ظنا قائما على الممكن ( le probable ) وعلى المحتمل ( le vraisemblable )، وغاية ذلك في أغلب الأحوال التربع على عرش السلطة بسلطة الحجاج البلاغي وفنونه التي درسوها لأبناء الأغنياء مقابل المال، فالبلاغة كما تصورها زينون الإيلي ( 490 – 430 ق م ) تشبه ” اليد المفتوحة ” على كل شيء، بخلاف الجدل الذي شبهه “بالدائرة المغلقة” إشارة إلى ضيق مجاله.

وتمخض البحث عن حقيقة مفادها أن الحوار الجدلي لدى أفلاطون موسوم بالبحث عن الحقيقة، إذ يفترض أن المعرفة نتيجة لآلية الجدل، بحيث ينفي وجودها قبل ذلك، وإذا قضى الافتراض بوجودها المسبق، فإن تلك الآلية الصارمة تضعها على محك المساءلة المستمرة بغية الظفر بماهيتها المطلقة الجامعة المانعة.

ومن ثم فقد نحى أفلاطون جانبا ثقة السوفسطائيين بالخطاب البلاغي، إذ لا قيمة له عنده إلا من جهة كونه وسيلة لإدراك الأفكار والحقائق المعقولة، ففي محاورة جورجياس عد أفلاطون البلاغة معرفة عمياء، فعلا عاجزا عن تلبية حاجيات الإنسان التي تجعله سعيدا، فهي لا ترضي إلا غرورها وقدرتها على الاستمالة الهووية. ولذلك فإنه يميز بين الحوار المنتج المفضي إلى العلم القائم على مباديء ثابتة صادقة، والحوار العقيم الذي يقود إلى الظن القائم على الممكن والمحتمل من خلال الحجاج الإغوائي. وبذلك صار الحوار الأفلاطوني طريقة للتفكير المشترك بين المتحاورين.

 ومزية البلاغة عنده أن تخدم الجدل والفلسفة لا أن تفرض لنفسها وجودا مستقلا عماده الرسوم اللفظية المكرورة لأجل الإفحام والتغلب. لقد عد أفلاطون الحجاج البلاغي السوفسطائي محض مغالطات وتضليلات تحيد بالمتكلم والسامع عن سبيل الوصول إلى الحقيقة المطلقة بواسطة الجدل المفيد، ومن ثم دافع عن وجود المعرفة المطلقة، وحاول دحض النسبية المشككة لدى السوفسطائيين، وبينما نجد عندهم أن لاشيء موجود قبل قول الخطيب، نجد اللوغوس الأفلاطوني يفترض عالما موجودا قبل الجدل.

    • المصادر باللغة العربية:
  1. أفلاطون: المحاورات الكاملة، تر، شوقي داود تمراز، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، م الثاني، 1994.
  2. أفلاطون: المحاورات، أوطيفرون، الدفاع، أقريطون، فيدون، تع، زكي نجيب محمود، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1937.
  3. توماس. أ. سلوان: موسوعة البلاغة، تر، لفيف من المترجمين، إشراف وتقديم عماد عبد اللطيف، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ج3، ط1، 2016.
  4. رولان بارث: قراءة جديدة للبلاغة القديمة، تر، عمر أوكان، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1994.
  5. الريفي هشام: الحجاج عند أرسطو، ضمن: أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم، إشراف حمادي صمود، جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، تونس 1، كلية الآداب منوبة، فريق البحث في البلاغة والحجاج،  سلسلة آداب، 1998.
  6. سعيد جلال: معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، دار الجنوب للنشر، تونس، 2004.

الطلبة محمد سالم محمد الأمين: الحجاج في البلاغة المعاصرة، بحث في بلاغة النقد المعاصر، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2008.

  1. عادل عبد اللطيف: بلاغة الإقناع في المناظرة، منشورات ضفاف، بيروت، ط1، 2013.
  2. قادا عبد العالي: بلاغة الإقناع، دراسة نظرية وتطبيقية، دار كنوز المعرفة، عمان، ط1، 2016.
  3. كريستيان بلانتان: الحجاج، تر، عبد القادر المهيري، دار سيناترا، تونس، 2008.
  4. لجنة من العلماء السوفييت: الموسوعة الفلسفية، إشراف روزنتال/ يودين، تر، سمير كرم، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1974.
  5. محمد حسن مهدي بخيت: الفلسفة الإغريقية من طاليس إلى أبروقلوس، عالم الكتب الحديث إربد، الأردن، ط1، 2015.
  6. محمد حسن مهدي بخيت: علم المنطق، المفاهيم والمصطلحات، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، ج1، ط1، 2013.
  7. الموسوي رحيم أبو رغيف: الدليل الفلسفي الشامل، دار المحجة البيضاء، بيروت، ج3، ط 1، 2013.
    • المصادر باللغة الأجنبية:

Jeans Jaques Robrieux, Rhétoriquess et argumentation, sous direction de Daniel Bergez, Armand colin, 3éd, Paris , 2010.

  1. Olivier Reboul, Introduction à La Rhétorique, Théorie et Pratique, Press Universitaires de France, Paris, 1991.
  2. Platon, Protagoras, Trad. Chambry, Garnier Flammarison, Paris, 1967.

Platon,Le tèètète, trad.Chambry, Garnier Flammarion, Paris,1967.

Theodor Gomperz, Les sophistes, les penseurs de la grèce, Les sophistes Le philosophe, éd, Manucius, Paris, 2008.

الهوامش:

  1. الريفي هشام: الحجاج عند أرسطو، ضمن: أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم، إشراف حمادي صمود، جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، تونس 1، كلية الآداب منوبة، فريق البحث في البلاغة والحجاج،  سلسلة آداب، 1998، م39، ص 54.
  2. ينظر: سعيد جلال: معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، دار الجنوب للنشر، تونس، 2004، ص 24.
  3. ينظر: توماس. أ. سلوان: موسوعة البلاغة، تر، لفيف من المترجمين، إشراف وتقديم عماد عبد اللطيف، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2016، ج3، ص: 666
  4. ينظر: كريستيان بلانتان: الحجاج، تر، عبد القادر المهيري، دار سيناترا، تونس، 2008، ص 9.
  5. Theodor Gomperz, Les sophistes, les penseurs de la grèce, Les sophistes Le philosophe, éd, Manucius, Paris, 2008, p p 43 – 44.
  6. توماس. أ. سلوان: موسوعة البلاغة، ج3، ص: 223. 
  7. Olivier Reboul, Introduction à La Rhétorique, Théorie et Pratique, Press Universitaires de France, Paris, 1991,P 20.
  8. Theodor Gomperz, les sophistes, Op.Cit, pp,  64-65-66
  9. Olivier Reboul, Introduction à La Rhétorique, Op.Cit, P: 19.
  10. ينظر: توماس أ. سلوان:  موسوعة البلاغة ،ج2  ص: 586.
  11. Olivier Reboul, Introduction à la Rhétorique, Op.Cit,  p: 19
  12. Jeans Jaques Robrieux, Rhétoriquess et argumentation, sous direction de Daniel Bergez, Armand colin, 3éd, Paris ;2010, p: 18
  13. Olivier Reboul, Introduction à La Rhétorique, , Op. Cit,  pp: 16-17-18
  14. ينظر: رولان بارث: قراءة جديدة للبلاغة القديمة، تر، عمر أوكان، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1994، صص15 – 16. 
  15. Theodor Gomperz, Les sophistes,Op.Cit, p- p :117-131
  16. ينظر: لجنة من العلماء السوفييت: الموسوعة الفلسفية، إشراف روزنتال / يودين، تر، سمير كرم، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1974، ص:169.
  17. Jeans Jacques Robrieux, Rhétorique et Argumentation, Op.Cit,  P :19
  18.  ينظر: قادا عبد العالي: بلاغة الإقناع، دراسة نظرية وتطبيقية، دار كنوز المعرفة، عمان، ط1، 2016، ص 4.
  19. ينظر: كريستيان بلانتان : الحجاج، ص ص 11- 15.
  20. Olivier Reboul, Introduction à La Rhétorique, Op.Cit, P :16.
  21. ينظر: محمد حسن مهدي بخيت: علم المنطق، المفاهيم والمصطلحات، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، ط1، 2013، ج1، ص ص 35 – 36.
  22. Theodor Gomperz, Les sophistes, Op.Cit, P : 15
  23.  توماس أ. سلوان:  موسوعة البلاغة ، ج3، ص 667.
  24.  Platon, Protagoras, Trad. Chambry, Garnier Flammarison, Paris, 1967,P P :65-66
  25. لطلبة محمد سالم محمد الأمين: الحجاج في البلاغة المعاصرة، بحث في بلاغة النقد المعاصر، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2008، ص26.
  26. ينظر: الريفي هشام: الحجاج عند أرسطو، ضمن: أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم، ص75.
  27. ينظر: محمد حسن مهدي بخيت: الفلسفة الإغريقية من طاليس إلى أبروقلوس، عالم الكتب الحديث إربد، الأردن، ط1، 2015، ص142.
  28.  ينظر: م . ن، ص 105.
  29. ينظر: عادل عبد اللطيف: بلاغة الإقناع في المناظرة، منشورات ضفاف، بيروت ، ط1، 2013، ص 36.
  30. ينظر: أفلاطون: المحاورات الكاملة، تر، شوقي داود تمراز، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1994، م الثاني، ص 374.
  31. ينظر: م . ن، م الثاني، ص ص 317 –  318.
  32. ينظر: م . ن، م الثاني، ص 266.
  33. ينظر: م . ن، م الثاني، ص ص530 – 533.
  34. ينظر: رولان بارث:  قراءة جديدة للبلاغة القديمة، ص ص18 – 19.
  35. Platon,Le tèètète, trad.Chambry, Garnier Flammarion, Paris,1967,P 125
  36. ينظر: الريفي هشام: الحجاج عند أرسطو، ص ص96 – 99.
  37. ينظر: أفلاطون: المحاورات الكاملة، م الثاني، ص 329
  38. ينظر: م . ن، م الثاني، ص 376.
  39. ينظر: الريفي هشام: الحجاج عند أرسطو، ص 74
  40. ينظر: أفلاطون: المحاورات الكاملة، م الثاني، ص 536.
  41. أفلاطون: المحاورات، أوطيفرون، الدفاع، أقريطون، فيدون، تع، زكي نجيب محمود، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1937، ص 88.
  42. أفلاطون: المحاورات الكاملة، م الثاني، ص 324.
  43. ينظر: م . ن، م الثاني، ص 400.
  44. ينظر:  رولان بارث : قراءة جديدة للبلاغة القديمة، ص 17.
  45. ينظر: توماس أ. سلوان: موسوعة البلاغة، ج3، ص ص 195 – 197.
  46. ينظر: الموسوي رحيم أبو رغيف: الدليل الفلسفي الشامل، دار المحجة البيضاء، بيروت، ط 1، 2013، ج الثالث، ص 404. 
  47. ينظر: م . ن، ص 104. 
  48. Jean Jaques Robrieux, Rhétorique et argumentation, Op.cit , p 17.