بناء منظومة الأمن في القرآن دراسة تدبرية في سورة الأنعام
BUILDING A SECURITY SYSTEM IN THE QUR’AN: A CONTEMPLATIVE STUDY OF SURAT AL-AN’AM
أ.د. رقية طه العلواني1
1 كلية الآداب، جامعة البحرين.
بريد الكتروني: drruqaia@yahoo.com
DOI: https://doi.org/10.53796/hnsj62/17
المعرف العلمي العربي للأبحاث: https://arsri.org/10000/62/17
الصفحات: 206 - 227
تاريخ الاستقبال: 2025-01-04 | تاريخ القبول: 2025-01-15 | تاريخ النشر: 2025-02-01
المستخلص: تروم هذه الدراسة توضيح مفهوم الأمن في القرآن، وعلى وجه التحديد صلته بالإيمان بلا ظلم . وقد أبرزت الدراسة أن الإيمان في القرآن يحفز الأفراد على الالتزام بالتزاماتهم وعهودهم واتفاقاتهم مع خالقهم سبحانه مانح الحياة والأمن وحرصت الدراسة على تقديم بناء منظومة الأمن من خلال تدبر سورة الأنعام، التي ناقشت الأمن بشموله، وأسسه، وأنواعه المختلفة. فقد قدمت السورة أمثلة على الأمن، مؤكدة أهمية بناء نظام أمن شامل كمقصد السورة الأنعام من خلال التركيز على الإيمان والأمانة والعمل الصالح والالتزام بوصايا الخالق سبحانه للناس جميعا. وأكدت الدراسة من خلال ذلك أن الإيمان والعقيدة هما الأساس في بناء هذا النظام، من وارتباطها بتعزيز الأمانة والالتزام بالوصايا العشر المذكورة في ختام السورة توصي الدراسة بأهمية إلقاء الضوء على التطبيقات العملية لمفاهيم الأمن في القرآن، لتعزيز فهمنا لأهمية الأمن الأخلاقي وغيره كجوانب أساسية في الحياة الإنسانية، فالأمن ثمرة تتعزز من خلال التزام الفرد بالقيم الأخلاقية والمبادئ الدينية، مما يسهم في بناء مجتمع أمن ومستقر.
الكلمات المفتاحية: سورة الأنعام، مفهوم الأمن، القرآن، الإيمان، الوصايا العشر، الأمن الأخلاقي.
Abstract: This study aimed to elucidate the concept of security in the Quran, specifically its connection to faith without injustice. It highlighted that faith motivates individuals to uphold commitments, covenants, and agreements with their Creator, who is the bestower of life and security. The topic of security was addressed in both Meccan and Medinan Surahs of the Quran, examining the problem of security absence, its remedies, and diverse approaches suitable for all environments and times. The study included practical aspects of this issue through an analysis of Surah Al-An'am, which comprehensively discussed security, its foundations, and its various forms. Examples of security were presented within this Surah, emphasizing the importance of building a comprehensive security system as an objective of Surah Al-An'am. It underscored that faith and creed are fundamental in constructing this system, through understanding the concepts of faith and righteous deeds, reinforcing trustworthiness, and adhering to the Ten Commandments mentioned at the end of the Surah. The study recommends the significance of shedding light on practical applications of security concepts in the Quran, enhancing our understanding of the importance of morals and other forms of security as integral aspects of human life. Security is fortified through individual commitment to moral values and religious principles, contributing to the establishment of a secure and stable society.
Keywords: Surat Al-An‘am, concept of security, Quran, faith, Ten Commandments, moral security.
مقدمة
يعد الأمن قوام حياة الأفراد والمجتمعات الإنسانية واستقرارها وتقدمها على مختلف الأصعدة. كما يشكل اليوم إشكالية متشبعة غاية في التعقيد في خضم عالمنا المعاصر . فالأمن الغذائي والأمن الدفاعي والأمن النفسي والأمن الاقتصادي والأمن الأخلاقي…انعكاسات حقيقية لما يرومه إنسان القرن الحادي والعشرين من تطلعات مشروعه في تحقيق الأمن .
ويبقى العالم بمؤتمراته وندواته ومواثيقه الدولية المعلنة وغير المعلنة، يصول ويجول تارة بأوراقه المكتوبة وأخرى بالياته رحلة منهكة باحثا فيها عن خارطة طريق لمشروع الأمن !!! وقد ظهرت آثار ذلك الاهتمام والبحث في بروز عدد كبير من الكتابات في الفكر الغربي حول أهمية الأمن بكل أشكاله وخاصة الأمن الأخلاقي.
وفي الوقت الذي يقدم القرآن للإنسانية منظومة الأمن وأساليب تحقيقها بكل أنواع الأمن؛ يشكل بذلك خلاصة ما يلهث الإنسان المعاصر خلفه في أنفاق المجالس والمنظمات الدولية، جاعلا الأمن ثمرة للإيمان والعمل الصالح. وتعد سورة الأنعام التي نزلت في مكة من أبرز السور التي تناولت بناء منظومة الأمن وشروط تحققها في حياة الفرد والمجتمع، قال تعالى: ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بالله ما لم يُنزل به عَلَيْكُمْ سُلطَانًا فَأَيُّ الفريقين أحَقُّ بالأمن إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الأمنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام: 80-82) .
من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة من خلال توضيح مفهوم الأمن في القرآن المرتبط بالإيمان بلا ظلم؛ إيمانا يدفع بالإنسان إلى الولوج في عالم من الالتزامات والعهود والمواثيق مع خالقه واهب الحياة والأمن. وقد جاء في القرآن الكريم الحديث عن الأمن في سور مكية ومدنية، كما عالج في أكثر من موضع إشكالية غياب الأمن وسبل معالجته وأساليب تحصيله بأساليب متنوعة لا تختص ببيئة معينة بل تصلح لكل بيئة وزمان. وتتناول الورقة جوانب تطبيقية لهذه القضية من خلال تدبر سورة الأنعام التي تناولت الأمن بعمومياته وأسسه ومختلف أنواعه مع ذكر نماذج للأمن فيها. وقد خاصت الدراسة إلى أن بناء منظومة الأمن من مقاصد سورة الأنعام التي جاءت تركز على الإيمان والعقيدة وترسيخها، وأنها أسست لذلك من خلال مفهوم الإيمان والعمل الصالح، والأمانة والوصايا العشر التي وردت في ختام السورة.
المبحث الأول: المدخل المفاهيمي للأمن
والدراسات السابقة
أولا: مفهوم مفردة الأمن في اللغة
الأمن ضد الخوف، وهو عدم توقع مكروه في الزمن الآتي، وأصله طمأنينة النفس وزوال الخوف، يقال: أمن أمناً، أي: اطمأن ولم يخف، فهو آمن، وأمن البلد، أي: اطمان فيه أهله.
والفيروز أبادي، يرى أن الأمن والأمن كصاحب يعنيان الضد من الخوف، والأمانة والأمنة تعنيان الضد من الخيانة. ومن يؤمن بهما ويعتمد عليهما فهو أمين وأمان والإيمان يعني الثقة وإظهار الخضوع، والأمين هو القوي، وناقة أمون هي الناقة الثابتة الخلق وثقافة. وأعطيته من أمن مالي تعني أنه تمت مكافاته بسبب صدقه وثقته([1]) .
وجاء في في القاموس المحيط : أمن ، أمناً وإمنا ، بالكسر فهو أمن وأمين ، ، كفرح وأمير . فهو آمن وأمن وأمين . و ( أمن الخطر ) ومن الخطر : سلم منه . و ( أمن خصمه ) : جعله آمناً . و ( الأمان ) : الطمانينة.([2])
وفي اللغة العربية، يُطلق مصطلح الأمن على عدم الخوف والحفظ والثقة، وطلب الحماية والسلام وما إلى ذلك. وهناك ثراء لغوي كبير في ذلك، حيث يصعب فصل هذه المعاني عن بعضها نظرا لتداخلها وترادفها في بعض الأحيان. وتلعب هذه المفردات دورًا تكامليا في إثراء مفهوم الأمن بشكل عام.
كما وردت كلمة ( الأمن ) في المعاجم العربية بعدة اشتقاقات وغير خاف ما للمشتقات من أثر قائم في وفرة الألفاظ بحسب ما تقتضيه الحاجة والسياق وذلك لأن : ” لكل نوع من المعنى نوعاً من اللفظ هو به أخص وأولى ، وضروباً من العبارة هو بتأديته أقوم وهو فيه أجلى. ([3])
فمشتقات الأمن على الإجمال هي : ( أمن وأمناً وأماناً وأمنةً وأمانة وإيماناً ومأمنا ) .
ثانيا: الأمن في القرآن
الأمانة والأمن والإيمان مصطلحات قرآنية مركزية متقاربة متناغمة في جذرها الاشتقاقي وأصوات حروفها كما في دلالتها ومعناها كما يقول محمد جبل: جاء ذكر لفظة (الأمن) في كتاب الله ومشتقاته في نحو ثمانية وأربعين موضعا، وباشتقاقات عدة. ([4])
رأى الأصفهاني في مفرداته أن أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف، والأمن والأمانة والأمان في الأصل مصادر، ويجعل الأمان تارة اسما للحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن وتارة اسما لما يؤمن عليه الإنسان… و ( آمن) تقال على وجهين أحدهما متعد بنفسه، يقال: أمنته أي جعلت له الأمن، ومنه قيل الله مؤمن والثاني غير متعد، ومعناه صار ذا أمن والإيمان هو التصديق الذي معه أمن، وليس من شأن القلب ما لم يكن مطبوعا عليه أن يطمئن إلى الباطل.
كما أن الأستاذ محمد العفيفي، من خلال كتابيه القرآن ودعوة الحق) و (القرآن تفسير الكون والحياة، أعطى بعدًا جديدًا لمفهوم المفردة القرآنية عندما قال: – فإن كل كلمة في القرآن تعطيك مع اتصالها فصلاً خاصاً بها وحدها، لا يتكرر في القرآن كله بعد ذلك. ([5])
الأمر الذي يتطلب تتبع مفردة الأمن في القرآن، وما يحققه تتبع هذه المفردة في كتاب الله من حقائق حولها. يقول الأستاذ العفيفي: (فكلما تدبرنا أي كلمة قرآنية متعددة المواقع، في موقع جديد من مواقعها فإن تعداد المواقع إنما هو تحقيق الاستجابة لحاجاتنا إليه …… عندما نجد الكلمة قد جاءت في القرآن مرة واحدة، فالحياة كلها، على إمتدادها، والوجود كله على امتداده، لا يمكن أن يكون أيهما بحاجة الى كلمة أخرى، ما دامت الكلمة القرآنية قد (أحكمت) فجاءت موفية بالحاجة حيث لا يحتاج لغير هذه الكلمة القرآنية الواحدة أبداً … أما اذا كانت هناك حاجتان اثنتان لا ثالث لهما، فلا بد أن لهاتين الحاجتين، كلمتين مفصلتين، وإن كانت صيغتهما القولية واحدة). ([6])
من هنا فإننا يجب أن نتدبر كل مفردة قرآنية من خلال اتصالها بمواقعها وعلاقاتها في القرآن كله. وعند تتبع كلمة الأمن في القرآن نجد أنها مرتبطة بجنسها من مفردات. فقد وردت لفظة الأمن في القرآن بمعنى الأمانة ضد الخيانة، ومنه قوله سبحانه وتعالى : ( فإن أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ). (البقرة : 283) ونحو ذلك في سورة آل عمران 🙁 وَمِنْ أَهْل الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنُهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ).
وجاء في معاني الأمن في كتاب الله المقابل للخوف كما في قوله تعالى في سورة الأنعام ومن معانيه كذلك المكان الأمن، ومنه الآية في سورة التوبة: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ( التوبة : 6).
من هنا تتضح أهمية الاهتمام بالمفردة القرآنية والنظر في سياقات ورودها، وعند تتبع مفردة الأمن في القرآن الكريم يتضح لنا تجاوزها للمعنى المعجمي وعمق الترابط بين المعاني التي وردت لها بحسب السياق.
كما تتضح الصلة الوثيقة فيما بين تلك المعاني للمفردة؛ فكل لفظ منها يتضمن معنى اللفظ الآخر بنحو ما فـ (الإيمان) يفيد الطمأنينة والسكينة والأمان؛ و (الأمانة) تفيد التصديق بمن تأمنه على شيء، والاطمئنان له؛ و الأمن) يفيدها كلها فهو يتحقق بوجود الإيمان والأمانة. الأمر الذي يشير إلى أن الأمن ثمرة ونتيجة ومحصلة نهائية ينعم بها الأفراد والمجتمعات عند تحقق شروطها ومقتضياتها.
وثمة أمر آخر يتضح للمتدبر حين يقف عند مفردة الأمن في القرآن الكريم ويبحث في السور التي وردت فيها المفردة أنها غالبا وردت في سور مكية وسبع سور منها فقط مدنية.
ولا تذهب الدراسة إلى ما ذهب إليه بعض الكتاب أن الحكمة من وراء ذلك؛ حاجة العهد المكي إلى مزيد من الأمن المفقود يومئذ للمؤمنين، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة المنورة وقامت لهم دولة أصبح الحديث عن الأمن حسب الحاجة والضرورة بل ترى الدراسة أن منظومة الأمن بدأ العمل على تحصيل مقتضياتها منذ بدء الرسالة القرآنية في مكة فكانت الحاجة إلى ورود مفردة الأمن قوية، ثم لما انتقل المؤمنون إلى المدينة بات تحصيل ثمرة الأمن واضحا في حياتهم ومجتمع المدينة الأول فكان ورودها في سبع سور مدنية فقط.
والأمانة والإيمان والأمن يرتبط بعضها ببعض من جهة البناء اللغوي، ومن جهة المعنى الشرعي، فلا يتحقق الأمن الشامل إلا بأداء الأمانة كاملة، ولا يؤدي الأمانة كاملة إلا من حقق الإيمان الكامل، فمن أتى بالإيمان كاملا تخلق بالأمانة، فتحقق له الأمن الشامل في الدنيا والآخرة وبقدر نقص الإيمان تنقص الأمانة فينقص بنقصها الأمن.
وفي السنة ما يدل على ارتباط الإيمان بالأمانة في أحاديث كثيرة منها قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاع” : ألا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أمِنَهُ النَّاسُ عَلى أَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ “… رواه أحمد. وفي حديث آخر” والمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلى دِمَانِهِمْ وأموالهم “رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
ما أن فقد الأمانة يدل على بداية فقد الإيمان كما قال ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ أَوَّلَ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ ……
وهذه الآية الواردة في سورة الأنعام ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن ) (الأنعام: 94) ، جاءت تعبر عن سنة من السنن القرآنية في الأنفس والمجتمعات مفادها؛ أنه لا يوجد أمان بدون إيمان، ولا يوجد مبرر لتفسير معنى “الأمان” في هذه الآية بالتقييد بالأمان في يوم القيامة فحسب، بل يشمل المفهوم الأمن الروحي والأمن الدنيوي بكل جوانبه ومعانيه.
كما يلاحظ أن الآية الكريمة تضع شرطا لكفاية الإيمان ودوره في إحداث وتحقيق الأمان وهو عدم خلط الإيمان بالظلم ولم يلبسوا إيمانهم بالظلم، وبالحقيقة فإن هذا الشرط لا يتعارض مع جوهر الإيمان بل هو من ضرورياته وتكملاته، فالإيمان لا يتوافق ولا يجتمع مع الظلم.
والأمن ضرورة لا قيام للعمران ولا للتمدن إلا به، يقول الماوردي: اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء، هي قواعدها وإن تفرعت، وهي: دین متبع، وسلطان قاهر ، وعدل شامل، وأمن، وخصب دار، وأمل فسيح فجعل الأمن أحد القواعد الكبرى التي تصلح بها الدنيا، فإذا فات آل أمرها إلى الفساد. ثم يشرح هذه القاعدة فيقول: «فهي أمن عام تطمئن إليه النفوس، وتتيسر فيه الهمم، ويسكن فيه البريء، ويأنس فيه الضعيف، فليس الخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة”. ([7])
ويجعل الجويني الأمن والعافية، من أهم النعم على الإنسان، فيقول: «لا تصفو نعمة من الأقذار، ما لم يأمن أهل الإقامة والأسفار من الأخطار والأغرار .. فالأمن والعافية قاعدتا النعم كلها، ولا يهنا بشيء من دونها «فمقصد حفظ الأمن يأتي في مقدمة مقاصد الدين، فيحفظه يأمن الناس على دينهم، وعباداتهم، وأنفسهم، وأعراضهم، ومعاشهم، وحرياتهم، وغير ذلك مما يتعلق بالحياة.
يقول الغزالي: إن نظام الذين لا يحصل إلا بنظام الدنيا.. فنظام الدين بالمعرفة والعبادة، لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات من الكسوة، والمسكن والأقوات، إلى أن يقول: فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضروريات”([8]).
ثالثا: الدراسات السابقة
تناولت العديد من الدراسات قضية الأمن في القرآن الكريم منها على سبيل المثال:
أولا: كتاب مدخل إلى نظرية الأمن والإيمان في سعادة الإنسان وتقدم المجتمعات المؤلفه: عبد الوهاب المصري([9]). وقد أوضح الكاتب أنه على المسلمين أن يسعوا جاهدين لتحقيق الأمن في جميع جوانب الحياة، سواء كان ذلك الأمن الشخصي أو الاجتماعي أو الروحي. كما أوضح أن القرآن الكريم يقدم توجيهات شاملة لتحقيق الأمن والسلام، ويعلم المؤمنين أن الأمن هو نتيجة تحقيق العدل والتوازن والتقوى في الحياة الفردية والمجتمعية.
ومن المؤلفات في هذا الموضوع كذلك مقومات الأمن الاجتماعي في الإسلام للدكتور محمد عمارة. حيث ناقش الدكتور محمد عمارة مفهوم الأمن الاجتماعي وأهم مقوماته في الإسلام وكيف نحقق العدل والتكافل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي. كما ناقش أهميته بالنسبة للعمران الإنساني بالنسبة للفرد على وجه التحديد، ومصادر انبعاث الخوف والنتائج المترتبة على ذلك، وسيل الأمن في مجتمعنا المعاصر، ومفهوم الرؤية الإسلامية للأمن الاجتماعي للفرد على معاشه ومقومات حياته المعيشية من خلال نظرية الإستخلاف الإلهى للإنسان لاستعمار الأرض وحقوق الإنسان كمقوم من مقومات هذا الأمن، ومنها الحرية، المساواة المشاركة في الشئون العامة ([10]).
وهناك من تناول مقصد حفظ الأمن في القرآن ضمن سلسلة محاضرات أو ندوات عملية قدمت فيها بعض الأوراق العلمية([11]).
إضافة إلى ذلك فقد تعدد الكتب والرسائل العلمية التي تناولت سورة الأنعام المباركة منها:
– تفسير سورة الأنعام للأستاذ الدكتور طه العلواني رحمه الله حيث جاء تفسيره للسورة أنموذجا لتفسير القرآن بالقرآن مع التركيز على بعض الأدوات التفسيرية للسور مثل مفهوم «عمود السورة» و «نجوم السورة»، وكذا قراءته لآيات القتال في القرآن، إلا أنه تظل المساحة الأكبر لاشتغال العلواني هي في تأسيس هذه الفكرة كسمة من سمات حاكمية القرآن ككتاب منهج ([12]). آيات العقيدة في سورة الأنعام دراسة بلاغية تحليلية لمريم بنت سلمان العبيد الطباق في سورة الأنعام دراسة تحليلية بلاغية سيتي نورديانا، لمحات من إعجاز سورة الأنعام لحسن محمد باجودة ([13]).
وثمة كتب ودراسات أخرى اختصت بالحديث عن الوصايا العشر في سورة الأنعام وأهميتها في تقوية علاقة الإنسان بالله عز وجل، وذلك من خلال تدريب المسلمين على العبودية والتوحيد وتقوية علاقة الإنسان بأسرته من خلال نشر البر والإحسان والعطف بني الناس، وأوضحت أن تلك الوصايا أيضا تهدف إلى حفظ الأموال والأعراض، بالإضافة إلى نشر جانب من الوفاء بالعهود، وتؤكد أهمية اتباع شرع الله عز وجل منها على سبيل المثال الوصايا العشر للشيخ محمود شلتوت حيث عرض باختصار لطيف معاني وآثار هذه الوصايا العشر التي تحدد ضرورات الدين الخمس ايضاً الكتاب لطيف ويسهل قراءته وفهم معانيه ، ملامح الإعجاز البياني في الوصايا العشر عند الشيخ محمود شلتوت لمؤلفه إسماعيل محمد الأنور؛ وهو بحث نشر في مجلة محكمة ([14]).
المبحث الثاني: أسس بناء منظومة الأمن في سورة الأنعام
تمهید
أسست السورة المباركة دعائم الأمن على الإيمان الذي يصنع التغيير وهو إيمان يرتبط بالعمل الصالح الذي يصحح كل ألوان الفساد والانحراف وتعد سورة الأنعام العظيمة أنموذجا واضحًا لفهم منظومة الأمن في القرآن الكريم.
وسورة الأنعام سورة مكية اتفاقا – في الجملة .. آياتها مائة وخمس وستون آية. وعن ابن عباس رضي الله عنه أنها نزلت بمكة جملة واحدة ليلا، معها سبعون ألف ملك يشيعونها قد سدوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد، وعن أسماء بنت يزيد، قالت: نزلت سورة الأنعام على النبي – صلى الله عليه وسلم – جملة، وأنا أخذة بزمام ناقة النبي – صلى الله عليه وسلم – إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة. وهذا هو القول الراجح الذي تؤيده الأدلة وسياق الآيات ([15]).
وفي ترتيب المصحف جاءت بعد سورة المائدة التي هي من أواخر ما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام. وسورة المائدة هي سورة المواثيق والعقود وأعظم ميثاق بين الإنسان هو ذاك الميثاق بينه وبين خالقه – عز وجل – عقد الإيمان والخضوع والاستسلام لأمره سبحانه. وسورة الأنعام تتصل بسورة المائدة اللاحقة لها في وقت النزول بمواصلة العقد والميثاق مع الخالق سبحانه ومقتضيات ذلك في الواقع الإنساني وتفاصيله، هذا إلى جانب ما جاءت به مثيلاتها من السور المكية من تأكيد مفاهيم الوحدانية الله سبحانه وتعالى.
وسميت هذه السورة بسورة الأنعام، لما تكرر فيها من ذكر لفظ الأنعام ست مرات من قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا…) (الأنعام: 136) الى قوله (إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَٰذَا) (الأنعام 144) ولأنها هي السورة التي عرضت لذكر الانعام على تفصيل لم يرد في غيرها من السور، فقد ورد ذكر الأنعام في مواضع كثيرة من القران عرضا ، أما سورة الأنعام فقد جاءت بحديث طويل عن الانعام استغرق خمس عشرة أية، من أول الآية 136 الى آخر الأية 150.
والعلاقة بين بناء منظومة الأمن وسرة الأنعام وثيقة/ الأمر الذي يقتضي الكشف عن مقاصد هذه السورة المباركة.
أولاً: مفهوم مقاصد السورة القرآنية وفوائد الاهتمام به:
يراد بمقاصد القرآن، القضايا العامة والمحاور الكبرى الرئيسية التي جاء القران لتقريرها وعليه فمقاصد الشريعة جزء من مقاصد القران، وليست كل القران، أما مقاصد السور فهي جزء من مقاصد القران، اذ نزلت كل سورة من سوره لتحقيق تلك المقاصد الكبرى من هداية البشر الى توحيد الله سبحانه وتزكية النفس والقيام بالخلافة على الأرض وعمارتها بالإيمان والعمل الصالح.
ولم يفرد غالب العلماء المتقدمين علم مقاصد السور بتأليف مستقل، بل جاء في ثنايا كتبهم في التفسير وعلوم القران مختلطاً بغيره كما هو الغالب في كثير من الموضوعات المماثلة. الا ان الكثير من العلماء الأقدمين اهتموا ببيان الأهداف والمقاصد لسور القران الكريم، منهم الفيروزابادي (817ه) في بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز.
وممن اهتم بمقاصد السور البقاعي رحمه الله حيث يقول: إن من عرف المراد من اسم السورة عرض مقصودها، ومن حقق المقصود منها عرف تناسب أيها وقصصها وجميع اجزائها، فإن كل سورة لها مقصد واحد يدار عليه أولها وآخرها ويستدل عليه فيها، فترتيب المقدمات الدالة عليه على اكمل وجه وأبدع منهج، واذا كان فيها شيء يحتاج دليلا استدل عليه. وهكذا في دليل الدليل وهلم جرا ثم قال: “وتتوقف الاجادة فيه – أي علم المناسبة – على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها”. ([16])
ويظهر من عبارة البقاعي أهمية الوقوف على مقاصد السور في الكشف عن أوجه التناسب بين الآيات في السور وبين السور كذلك من ناحية أخرى، وهو ما عرف عند العلماء بعلم المناسبات.
وقد تختلف عبارات المفسرين في تحديد المصطلحات المستعملة بمعنى مقاصد السور فمنهم، من عبر عنه بسياق السورة، وغرض السورة، والوحدة الموضوعية، والوحدة السياقية للسورة، وموضوع السورة العام، وعمدة السورة، وعمود السورة، وهدف السورة والوحدة البنانية والوحدة الموضوعية للسورة القرآنية … ([17])
وبرز في القرن العشرين الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا في تفسير المنار باهتمامهما بالوحدة الموضوعية للسورة. والمراد بهذا أن يكون الموضوع للسورة أساسا في فهم الآيات التي نزلت فيه. وقد سار على هذا النهج عدد من المعاصرين منهم محمود شلتوت([18])، ومحمد عبد الله دراز، ومحمد المدني وغيرهم كثيرون.
كما برز في العصر الراهن مصطلحات تدور في ذات الفلك مثل: الوحدة البنائية والموضوعية للسورة القرآنية، التي تعرف بأنها الهدف والمحور الأساس الذي تندرج موضوعات السورة فيه على ترتيبها.
وذكر العلواني رحمه الله أن جمهرة المعنيين بالدراسات القرآنية سلموا بالوحدة البنانية على مستوى السورة فالسورة وحدة لها عمود يقوم بناؤها عليه، وذلك العمود هو موضوعها الأساس. والموضوعات الأخرى موضوعات معضدة سائدة تدور حول ذلك العمود، والقرآن بجملته يقوم على أعمدة ثلاثة : أولها: التوحيد وثانيها: التزكية. وثالثها : العمران ([19])
ومن أبرز فوائد الوقوف على مقاصد السور ومحاورها؛ الإفادة في التطبيق والتنزيل للايات في واقع الحياة. فالغاية من إنزال القرآن العظيم فهمه وتدبره لتطبيقه وتنزيله في الواقع. فهذه العلوم المتعلقة بسور القرآن الكريم كلها تروم تيسير الفهم والتطبيق المعاني القرآن وغاياته في الواقع الإنساني، ولذا نجد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم – كان يعلم الصحابة رضوان الله عليهم العلم والعمل لأن الغاية الأساسية من العلم العمل. ويمكننا القول إضافة إلى هذا أن الكشف عن مقاصد السور، تدحض العديد من الشبهات التي يروج لها كثير من المستشرقين وغيرهم ممن يبترون الآيات القرآنية عن سياقاتها ومقاصدها الظاهرة لتمرير أفكار مسبقة، حتى صارت بعض الشبهات تعرض وكأنها مسلمات.
من هنا أكد محمد دراز رحمه الله أهمية الاهتمام بمقاصد السور وأثرها في دفع شبهات المستشرقين حول القرآن الكريم. فقد حاول عدد منهم الإشارة إلى أن ترتيب الآيات في السور القرآنية كان من اجتهاد الصحابة الأمر الذي انعكس على تباين موضوعات السورة الواحدة. ([20])
وواقع الأمر أن ترتيب الآيات كما هو معلوم جاء بتوقيف من النبي عليه الصلاة والسلام من جبريل وحيا عن الله سبحانه وتعالى. الأمر الذي يجعل البحث عن التناسب بينها من أعظم الأمور التي ينبغي الاهتمام بها.
يقول ابن عاشور رحمه الله في ذلك: ” وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من آيات القرآن؛ لأن من جملة وجوه الإعجاز أمورًا لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفى في غرض من الأغراض ، وإنما تنزل سور القرآن في أغراض مقصودة، فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام” . ([21])
من هنا يتضح أن الاهتمام بالتعرف على الغرض أو المقصد العام لسور القرآن يدفع أي شبهة تروم التقول على القرآن بانعدام النظم فيه أو ضعفه. كما تدفع ما قد يتوهمه القارئ من تفرق الموضوعات في السورة دون ناظم لها فيوقعه ذلك في الانصراف عن التفكر والتدبر في مقاصدها والغاية التي لأجلها سيقت تلك الموضوعات والقصص في هذه السورة أو تلك. ويظهر ذلك جليا في القصص القرآني الذي تناولته العديد من سور القرآن. إلا أن القصة التي تذكر في سورة معينة لها غرض يتوافق مع مقصد السورة التي تناولتها، يختلف عن غيرها .
كما أن وقوف المفتر على مقاصد السور يسدد الفكر والاجتهاد ويضبطها من الوقوع في الزلل والشطط وربما الانحراف في التأويل فالوقوف على مقصد كل سورة يقتضي استقراء آياتها والتأمل العميق فيما تدل عليه معان تحقق مراد الله تعالى من كلامه.
وقد أشار إلى هذه الفائدة من تحديد محور السورة ومقصدها؛ ابن عاشور حيث أكد ضرورة مراعاة تفسير معاني الآيات الواردة في السورة بناء على ما يتناسب مع محورها ومقصدها العام، ودلل على ذلك بمثال في سورة التين وهو يفسر المراد بقوله تعالى: ( أحسن تقويم) .من الآية: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقويم) ..} التين: 4{. ويقول بأن المراد بالتقويم: ” جعل الشيء في قوام، أي عدل وتسوية وأحسن التقويم أعدله واليقه بنوع الإنسان، وهذا يقتضي أنه تقويم خاص بالإنسان لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات … وهذا التقويم هو الإعداد والتأهيل القادر من خلاله على الفهم والعقل والإرادة والإبداع … وليس تقويم صورة الانسان الظاهرة، إذ لا أثر لهذا في إصلاح النفس وإصلاح الغير والأرض، إذ لو كان هذا هو المراد لذهبت المناسبة التي في بداية السورة من القسم بالتين والزيتون … فإن العقل أشرف ما خص . به نوع الإنسان من بين الأنواع، ولذلك كان هو المقصود من الآية ، وأما خلق جسد الانسان في أحسن تقويم فلا ارتباط له بمقصد السورة” ([22])
وهذه من الفوائد العظيمة التي تجعل المفسر يسير في بيانه لمعاني الآيات في إطار وحدة مقصد السورة لا بعيدا عنها.
كما أوضح ذلك عبد الحميد الفراهي حين قال : ” اعلم أن تعيين عمود السورة هو إقليد المعرفة نظامها .. ولكنه أصعب المعارف، ويحتاج إلى شدة التأمل والتمحيص وترداد النظر في مطالب السورة المتماثلة والمتجاورة، حتى يلوح العمود كفلق الصبح، فتضيء به السورة كلها، ويتبين نظامها، وتأخذ كل آية محلها الخاص ويتعين من التأويلات المحتملة أرجحها” ([23])
من هنا جاء اهتمام عدد من الكتاب المعاصرين بمقاصد السور ومحاورها، خاصة في ظل ما يثيره البعض من شبهات حول القرآن ونظمه وموضوعاته. فالحديث عن مقاصد السور ومحاولة فهمها والإفادة من ذلك في معالجة الواقع الإنساني، يعد من الوسائل العظيمة والغايات النبيلة لدفع الشبهات وتعزيز الإيمان بكتاب الله سبحانه وتعالى والحث على التمسك به وتطبيق تعاليمه في الحياة.
وعند الحديث عن سورة الأنعام تنوعت عبارات العلماء في الكشف عنها فقد عرض الشيخ محمود شلتوت للحديث عن أهداف السورة ومقاصدها الإجمالية، مشيرا إلى القضايا الأساسية لأصول العقيدة والإيمان، تلك القضايا التي تناولتها ، وقضية الوحى والرسالة، وقضية البعث السورة الكريمة متمثلة في قضية الألوهية والجزاء، وكان سلاح ذلك التناول – على نحو ما بين – الحجة المتكررة، والآيات المصرفة، والتنوع العجيب، والبرهان القاطع في طريق الإلزام والإقناع ([24])
ومع تخصيص المساحة الأكبر في تلك السورة الكريمة للتعامل مع القضايا الرئيسية وهي قضية الألوهية وعبادة الله وحده، وقضية الوحي والرسالة، وقضية البعث والجزاء، إلا أن السورة تناولتها بأساليب وعبارات متنوعة ومتكررة، بهدف إثارة العقل والوجدان وتعزيز الإيمان بهذه القضايا الأساسية بأسلوب متسق في النظم والأسلوب.
وعند التدبر في السورة المباركة نلحظ أنها تناولت إلى جانب الحديث عن التوحيد تأسيس منظومة الأمن بكل ألوانه وصوره؛ بل إن الحديث عن التوحيد وإبطال حجج المشركين والملحدين جاء أساسا للأمن وتحقيقه وفق النهج القرآني كما سيأتي بيانه.
الأساس الأول للأمن في سورة الأنعام: التوحيد والإيمان
تشكل الأجواء التي نزلت فيها هذه السورة العظيمة أنموذجا لغياب الأمن في المجتمع الأول الذي تنزلت فيه الآيات، فقد تميزت تلك الفترة بقسوة المشركين وعنفهم في مقاومة الدعوة الإسلامية وإنكارها، وجاءت السورة التي نزلت في أغلب الأقوال في السنة الرابعة من البعثة مستعرضة الأدلة على توحيد الله وقدرته ثم ساقت أدلة المشركين وشبههم فأبطلتها وفقدتها. حتى استطاعت دعوة الإسلام بعد أن كانت سرية أن تعلن عن نفسها بعد الخفاء، وأن تتحدى بصوت عال ونداء جهير، بعد أن كان المؤمنون بها يلجئون إلى الشعاب والأماكن البعيدة ليؤدوا صلاتهم، ورأى المشركون أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – ماض في إعلان دعوته وتلاوة ما أنزل عليه من الكتاب، وفيه إنذار لهم وتفنيد لمعتقداتهم، وتسفيه لآرائهم، وإنكار لآلهتهم، وتهكم بأوثانهم وتقاليدهم البالية. يقول الرازي في ذلك الإمام الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب:
(إن هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة أحدهما أنها نزلت دفعة واحدة، والثاني أنها شيعها ألف من الملائكة. والسبب في ذلك أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين) ([25]).
من هنا جاء مفتتح السورة بقوله جل شأنه مبينا بشاعة جريمة الكفر به : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) (سورة الأنعام: 1) وجاء بذكر الظلمات والنور لفظة عامة تحتمل المعاني الحسية للنور والظلمة وكذلك المعنوية من الجهل والشك وغياب الأمن الفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي..
وقد نزلت سورة الأنعام تطبيقا واقعيًا لإشاعة النور والأمن الإنساني من خلال ما جمعته من العقائد الصحيحة كلها وما غنيت به من الاحتجاج لأصول الدين، وتفنيد شبه الملحدين، وإبطال العقائد الفاسدة، وتركيز مبادئ الأخلاق الفاضلة.
ويقول الشيخ محمد رشيد رضا: لو سميت سور القرآن بما يدل على جل ما تشتمل عليه كل سورة أو على أهمه لسميت هذه السورة سورة عقائد الإسلام، أو سورة التوحيد، على ما جرى عليه العلماء من التعبير عن علم العقائد بالتوحيد لأنه أساسها وأعظم أركانها، فهي مفصلة لعقيدة التوحيد مع دلائلها، وما تجب معرفته من صفات الله تعالى وآياته ولرد شبهات الكفار على التوحيد وما يتبع ذلك من هدم هياكل الشرك وتقويض أركانه، ولإثبات الرسالة والوحي وتفنيد شبهاتهم على الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإلزامهم الحجة بآية الله الكبرى وهي القرآن ([26]). وثمة أمر آخر يكشف النقاب عن محورية موضوع الإيمان والتوحيد في سورة الأنعام متمثلاً في التناسب بين مفتتح السورة وآخرها، يقول الله عز وجل في الآية الأخيرة من السورة :
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سريع الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَ لغَفُورٌ رَّحِيم) ( الأنعام: 165). وفي الآية الأولى يقول عز وجل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ السَّمَاوَاتِ وَا وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ)
ولعل واحدا من أبرز أسباب الصراع بين البشر وفقدان الأمن في مجتمعاتهم؛ غياب فهم قضية التفاوت في الأرزاق بين البشر، وهو أمر حلت الإشكال فيه تلك الآية الأخيرة من سورة الأنعام وعالجت أهم أسباب غياب الأمن الكامنة في صراع البشر فيما بينهم.
وتعد سورة الأنعام المكية من أبرز النماذج القرآنية لتأسيس أصول الإيمان بالله سبحانه وتعالى وركائزه مع بيان مختلف الأدلة والبراهين التي تخاطب الإنسان عقلا وروحا وقلبا مهما كانت خلفيته الاعتقادية من هنا توالت الآيات في السورة لتوصل الإنسان العاقل إلى الإيمان بوجود رب واحد منزه عن الشبيه والمثيل، واحد لا شريك ولا ند له. ومن ثم وجب إفراده بالعبادة والخضوع لأحكام شريعته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، الأمر الذي يصل بالإنسان إلى القيام بمقتضيات الأمانة: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ. وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) (الأنعام:2-3).
من هنا كان من أهم مقتضيات الأمن الإيمان فالإيمان يحقق الطمأنينة في النفس وسكونها من حيث الإجابة عن كافة التساؤلات الكبرى التي أقضت مضاجع البشرية عبر تاريخها وإلى اليوم من الحديث عن وجود خالق للكون إلى الحديث عن مصير العالم وقد جاءت الآيات في سورة الأنعام منذ أولها بأساليب متنوعة لإيقاظ بواعث الإيمان والتوحيد في قلب الإنسان. فلفظة الإيمان ومشتقاتها التي وردت في القرآن فيما يزيد عن خمسمائة مرة. فما بين الحديث بأسلوب العاطفة وتحريك الوجدان إلى العقل ودعوته للتفكر والنظر وإعمال كافة الحواس وتشغيلها وإطلاقها في الآيات الكونية المبثوثة، إلى النظر في تاريخ الأمم السابقة واستحضار عاقبتها، والتذكير بما حل بها من دمار وخراب وفقدان للأمن الغذائي والاستقرار الذي كانت تنعم به.
والربط بين حلول الكوارث وفقدان الأرزاق وضيقها من جهة والتنكص عن المنهج الإيماني | الحق حق يبز في آيات سورة الأنعام ومنها قوله تعالى: (ألمْ يَرَوْا يَرَوْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم قَ مِّن قَرْنٍ مكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ تُمكن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأنشأنا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخرين). (الأنعام: 6).
فالإيمان يشكل درعا واقيا أمام مقوضات الأمن الغذائي والبيئي وغيرها كثير مما تعراف عليه الإنسان في العصر الحاضر بهذه المسميات. وفي هذا المعني يقول ابن القيم رحمه الله: «ومن عقوبات الذنوب أنها تزيل النعم، وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب، كما قال على بن أبي طالب – رضي الله عنه -: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة. وقد قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) [سورة الشورى: 30].
وقال تعالى: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [سورة الأنفال: 53] . فأخبر الله تعالى أنه لا يغير نعمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غير غير عليه، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد فإن غير المعصية بالطاعة، غير الله عليه العقوبة بالعافية، والذل بالعز.. ([27]))
من هنا جاءت سورة الأنعام بقضية التوحيد في مختلف الآيات فيها. ونوعت الأساليب في عرض قضية الإيمان وتجديده . ومن ذلك بيان ضعف الإنسان وعجزه مهما بلغت قوته أمام قدرة الله سبحانه وقهره. قال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الخبير ) (سورة الأنعام: 18) وقد فسر ابن عاشور القهر الحقيقي هنا بأنه الذي لا يجد المقهور منه ملاذا؛ لأنه قهر باسباب لا يستطيع أحد خلق ما يدافعها.. ومعنى القهر فوق العباد أنه خالق ما لا يدخل تحت قدرهم بحيث يوجد ما لا يريدون وجوده كالموت، ويمنع ما يريدون تحصيله كالولد للعقيم والجهل بكثير من الأشياء، بحيث إن كل أحد يجد في نفسه أمورًا يستطيع فعلها وأمورًا لا يستطيع فعلها ([28]).
من هنا جاءت بعدها شهادة التوحيد العظيمة التي تعطي الإنسان الشعور بالأمان الداخلي النابع من يقين الإنسان بعجز الخلق عن فعل شيء أو الإيقاع به أو إيصال الضرر إليه. (قُل أي شيء أَكْبَرُ شَهَادَةً قُل الله شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله الهة أخرى قُل لا أشهد) ( سورة الأنعام: 19).
وقد يتوهم الفرد أن هناك من البشر من يملك له الضر أو النفع، أو يملك له رزقا من دون الله إذا رضي عنه، وإن سخط سيمنع عنه الرزق…. كل ذلك أعمال تناقض صفاوة التوحيد ونقاوته، لا يستقيم معها التوحيد، التوحيد الخالص الذي يخلص فيه القلب من النظر لأي أحد إلا الله عز وجل نفعا وضرا واستعانة وعطاءً واستغاثة وتوكلا ورزقا، فلا بد للإنسان أن يخلصها من شوائب الشرك، والنظر إلى الخلق.
ويلحظ المتدبر في السورة أن الآيات المباركة وزعت بحسب قضية الإيمان والأمانة اللذين يؤديان إلى الأمن. فمن الآيات الأولى في السورة إلى نهايتها، جاء الحديث عن وسائل تعزيز الإيمان في الفكر والقلب والواقع، وربط ذلك بتحقق الأمن واستحقاق الإنسان للتنعم به، لتوضح أن الأمن ثمرة ونتيجة مترتبة على القيام بالإيمان والأمانة ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن( والإيمان يولد عند الإنسان التجانس مع كل ما حوله من آيات في الأنفس والكون والمجتمع، مع انعدام الشعور بأي شكل من أشكال الصراع. وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام:38).
وسورة الأنعام من أعظم الأدلة على التوافق والتجانس بين الإنسان والكون، تجعل الإنسان يطوف بنظره في الكون والطبيعة. من هنا جاء تذكير الإنسان بالطبيعة والكون وموارده في مختلف أجزاء السورة الكريمة الأمر الذي يسوق الإنسان إلى اكتشاف قوانين وسنن التعامل مع الكون والكائنات. وذكر الأنعام في السورة وبيان الأحكام والتشريعات الربانية فيها، ضمن هذا التوافق والتجانس. فذكر الأنعام والزروع والنخيل في السورة يؤكد أهمية العناية بها في الحفاظ على خلقتها وتركيبها والانتفاع بها وفق أوامر الله الخالق سبحانه لها، الأمر الذي يربط بين الإيمان والأمانة هنا. فمن الأمانة أن ينتفع الإنسان بما خلق الله في الكون دون إفساد لها أو إضرار بها بأي شكل من أشكال الفساد. والآيات وردت لبيان ظلم من منع وأهدر الانتفاع بالأنعام اتباعًا الأهواء نفوسهم. (سورة الأنعام 138-140).
كما تضمنت السورة المباركة ضمن أساليب تثبيت الإيمان وتعزيزه في النفوس؛ تحريك العقل واستعمال الأساليب العقلية؛ ومن ذلك كثرة استخدام كلمة (قل) فقد وردت في السورة 42 مرة لتلقين النبي الكريم عليه الصلاة والسلام والمؤمنين أساليب الحجج الساطعة والبراهين القاطعة في إيضاح القضايا الإيمانية. ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه، موضحا الأساليب التي سلكها إبراهيم عليه السلام مع قومه في إقامة الحجة على بطلان عبادة الأوثان وفضله عليه السلام في تعزيز التوحيد الخالص.
والعلاقة بين ما جاء على لسان إبراهيم عليه السلام من مواجهة قومه بكفرهم وضلالهم، وطبيعة الظروف التي كان يعيشها المسلمون أنذاك في مكة، واضحة، وفيها دلالة على تحرر إبراهيم عليه السلام من كل دواعي الخوف والقلق إزاء ما قام به قومه من إيذاء وتوعد له بالعقوبة. وفي ذلك دليل على أثر الإيمان في تعزيز الشعور بالأمن الذي يدفع الإنسان إلى المواجهة في تعزيز الحق والدفاع عنه. من هنا جاء التقرير لمن هو أحق بالشعور بالأمن من المؤمنين الراسخين الموقنين بالله وحده دون شريك وهنا تأتي الآية في تقرير أن الذين صدقوا مع ربهم وأخلصوا ولم يشركوا ولم يخلطوا عبادتهم بشرك، أحق بالأمن من عقابه، والذين يشركون بربهم فهم الخائفون من عقابه، ففي عاجل الدنيا وجلون من حلول سخط الله، وعذاب الآخرة يقين الوقوع عليهم.
كما ورد لفظ الجلالة 137 مرة في السورة بين لفظى ” الله ” “رب” مع اشتقاقاتها المتنوعة. هذا إضافة أيضاً إلى الضمائر التي تحيل إلى الله تعالى و هي 278 ضميرا الأمر الذي يشير إلى ارتباط الأمن بعلاقة الإنسان بخالقه وتصحيح تلك العلاقة.
فكلما ضعف التوحيد ضعف الأمن، وكلما زاد الشرك زاد الخوف، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدةٍ وغير ذلك؛ فَسَبَبُهُ مُخَالَفَةٌ الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى غير الله، ومن تدير هذا حق التدير وَجَدَ هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي غيره عُمُومًا وخصوصا، ولا حول ولا قوة إلا بالله ([29]).
الأساس الثاني: الأمانة
أصل اشتقاق الأمانة الفعل الثلاثي أمن وزوال الخوف؛ لأن الأمانة إنما توضع في الأصل عند أمين، والأمين ثقة لا يخون والأمانة ضد الخيانة، ومعناها: سكون القلب والتصديق للمؤتمن عليها والتصديق للمؤتمن عليها، وقال الراغب والأمن والأمان والأمانة في الأصل مصادر، ويجعل الأمان للحالة التي يكون عليها الإنسان تارة وأحيانا لما يؤمن عليه الإنسان.
حفظ المرء لكل ما يجب حفظه من حقوق أو واجبات أو حدود أو أشياء مادية أو معنوية سواء كانت الله تعالى أم لأفراد المجتمع ، وهي ضد الخيانة – ٢ قال أبو حيان : (الأمانة: الظاهر || كل ما يؤتمن عليه من أمر وي وشأن دين ودنيا ، والشرع كله أمانة، وهذا قول الجمهور([30]).
قال الطاهر بن عاشور : المراد بالأمانة حقيقتها المعلومة ، وهي الحفاظ على ما عهد به ورعيه ، والحذار من الإخلال به سهوا أو تقصيرا فيسمى تفريطا وإضاعة، أو عمدا فيسمى خيانة وخيسا). ([31])
فالأمانة وفاء بتكاليف الكتاب العزيز والسنة الشريفة والائتمار بأمرهما والوقوف عند حدودهما من هنا كانت جميع الفرائض والأوامر الربانية داخلة ضمن الأمانات بل هي من أعظمها في كتاب الله سبحانه وتعالى.
من هنا كان التلازم بين الأمن والإيمان والأمانة في سورة الأنعام واضحًا. والإيمان المتجسد في سورة الأنعام يعزز الأمن الشامل في المجتمع، ونجدد التذكير بأن الأمن ليس بشكل واحد في وقتنا الحاضر، نتحدث عن أشكال متعددة من الأمن مثل الأمن الغذائي والأمن الفكري.
ومن أجل تحقيق الأمن الغذائي، يجب أن يكون هناك الالتزام بالأمانة، والاعتراف بأن مقدرات الكون والثروات هي أمانات يجب الحفاظ عليها وتوزيعها بعدالة.
والمتدبر في السورة، يلحظ أنها السورة التي جاءت بما أطلق عليه المفسرون بالوصايا العشر، وهي ثلاث آيات جاءت في أواخر سورة الأنعام. وتشكل هذه الوصايا القواعد والأسس لكل صلاح بشري فرديا كان أو جماعيا، وهي لب الأمانة التي يحمل الإنسان مسئولية القيام بها والحفاظ عليها في واقعه ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا يُكَلَّفَ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام 151-153) والترابط بين هذه الوصايا وقضية الأمانة يتضح من خلال ربط المفهوم العميق للإيمان بالعمل الصالح والحفاظ على الوصايا العشر التي جاءت في أواخرها، الكفيلة بتحقيق الأمن بكل مستوياته وأشكاله.
فالترابط بين الأمن كثمرة ونتيجة مترتبة على تحقيق الإيمان والأمانة في الحياة الإنسانية؛ من أبرز مقاصد سورة الأنعام.
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهم بظلم أُولَئِكَ لَهُمُ الْأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ). وفي الحديث عن أنس بن مالك قال: ما خطبنا نبي الله – صلى الله عليه وسلم – إلا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له».
فإيمان الفرد يدفعه إلى أداء الأمانات وحماية كل المقدرات الإنسانية من خلال الاعتقاد أن أموال الناس وأعراضهم وأرواحهم أمانة وحولها سور عظيم ينبغي حماية ذلك السور والحفاظ عليه وعدم الاقتراب منه.
والإيمان الذي تبنيه سورة الأنعام وساقت مختلف الأساليب والحجج لترسيخه حتى غرفت بسورة الحجة البالغة والحجاج؛ يحقق الأمان للمجتمع بأسره.
حيث يصبح الإيمان عاملا مولدًا للأمانة حارسًا للأمن. فالأمن لا يتحقق إلا بوجود العدالة التي يؤسسها القرآن في جذر قلوب الأفراد بالربط بينها وبين الإيمان.
فالإيمان المتجسد في سورة الأنعام يعزز الأمن الشامل في المجتمع، مثل الأمن الغذائي والأمن الفكري والالتزام بالأمانة، والاعتراف بأن مقدرات الكون والثروات هي أمانات يجب الحفاظ عليها وتوزيعها بعدالة لتحقيق الأمن بكل صوره.
فالتحديات التي تواجه الأمن ترتبط إلى حد كبير بضياع الأمانة وقلتها الأمر الذي يجعل منها ضرورة لصلاح المجتمعات الإنسانية واستقرارها.
الأساس الثالث: الوصايا العشر وبناء منظومة الأمن
الوصايا العشر وردت في أواخر سورة الأنعام العظيمة ضمت أصول الفضائل في الدين والأسرة والمال
والنفس التي تطهر النفوس والمجتمعات من كل رذيلة ومنقصة، فأغلقت منافذ الشر وما يمكن أن يهدد أمن الناس على نفوسهم وأعراضهم وأموالهم. ولتأكيد ذلك ختمت الوصايا بالحديث عن الصراط المستقيم في دلالة واضحة أن من أراد الهداية والثبات على الصراط المستقيم، فلابد له من الالتزام بها وعدم الخروج عنها (فاتبعوه).
ويذكر القرآن البشرية بهذه الوصية من خلال تأكيد حقيقة أن هذه الوصايا العشر، جاء بها جميع الأنبياء: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (الأنعام 154-155) هذه وصية من الله لعباده بأن يلتزموا بما وصاهم به في هذه الآيات ليسعدوا في الدنيا والآخرة.
قال الله – تبارك وتعالى : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقَ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغ أشده وأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا تُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .
وتشكل هذه الوصايا العشر عند التدبّر فيها القواعد الدينية والاجتماعية التي تنظم حياة الإنسان والمجتمع من خلال إقامتها على علاقة الإنسان مع ربه، ونفسه، والكون، والناس. وإذا تحقق التوازن والانضباط في هذه العلاقات الثلاث، ستكون المنظومة الحياتية متوازنة ومنسجمة، تثمر الأمن بكل أنواع وصوره.
فهي وصية من الله – عز وجل للمؤمنين، وهذا دليل على عظيم شأن هذه الوصايا وأهميتها واشتمالها على خيري الدنيا والآخرة، وهي تشتمل على عناصر الدين الكبرى عند الله – سبحانه وتعالى ونقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال عن هذه الآيات الثلاث إنهن محكمات وهن أم الكتاب، وذكر ابن مسعود رضي الله عنه أن من أراد أن ينظر إلى وصية الرسول – صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ الآيات الثلاثة من سورة الأنعام .
يقول في هذا السياق الشيخ محمود شلتوت رسمت هذه الآيات للإنسان طريق علاقته بربه الذي يرجع إليه الإحسان، ووضعت الأساس المتين الذي يبنى والفصل في كل شيء، عليه صرح الأسر التي تكون الأمة القوية الناجحة في الحياة وسدت منافذ الشر الذي يصيب الإنسان من الإنسان في الأنفس والأعراض والأموال، وهي عناصر لابد السلامة الأمة من سلامتها ثم ذكرت أهم المبادئ التي تسمو بالتزامها، والمحافظة على الحياة الاجتماعية الفاضلة ([32]).
من هنا فالمتدبر في هذه الوصايا العشر يجد أنها تشكل السياج الأمني للحفاظ على المقاصد الخمس التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع وهي: حفظ الدين والنفس، والعقل والنسل والمال كما يقول الغزالي رحمه الله([33]).
فالقرآن العظيم في السورة يبين أن أساس كل الانحرافات الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية تكمن في الاختلال في علاقة الإنسان بربه وخالقه وما يمكن أن يعتريها من شوائب – شوائب الشرك، شوائب الضلال. من هنا حين بدأ بقضية التشريع في الآية : (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشركوا به شيئًا ) [الأنعام: 151] ابتدأ بقضية الشرك لأن الشرك هو أم الكبائر، الذي يشكل في المجتمع عمليات وخطوط انحراف واضحة في مختلف الجزئيات، و لذلك القرآن العظيم في آخر الآية قال ذلِكُمْ وَصَاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } }الانعام : {151
كما أن في الربط بين الإيمان والتشريعات معنى عظيمًا يظهر في قوله تعالى: ( وَذَرُوا ظاهر الإثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ) [الأنعام: 120] قال الماوردي في تعليقه على هذه الآية: قوله عز وجل: )وَذَرُوا ظَاهِرَ الأَثْمِ وَبَاطِنه (فيه أربعة تأويلات:أحدها سره وعلانيته ([34]) وكذلك أن ظاهر الاثم ما يفعله بالجوارح، وباطنه ما يعتقده بالقلب.
}ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الأنعام: 151] فأحكام التشريع بما فيها من الحكم و المقاصد التي تقتضي التعقل لفهمها ووعي أهمية تطبيقها في الواقع الإنساني هي الكفيلة بتحقيق الأمن الحقيقي حين يحل الناس ما أحل الله ويحرمون ما حرم الله، لا ما حرم أو أخل شركاؤهم.
من هنا يمكن القول بأن الآيات العظيمة في السورة وضعت الأسس العامة للحفاظ على الأمن بكل أنواع وصوره وابتدأت الحديث الحفاز على مابات يُعرف اليوم بالأمن الفكري والذي عرفه بعض المعاصرين بأنه تحصين وحماية الحالة العقائدية في حياة الإنسان المسلم عن كل ما يهدد بقائها واستمراريتها؛ ضد كل ما يسعى إلى زوبان هوية وثوابت الفكر، في فكر عقائدي واقد ودخيل. وتكمن أهمية الأمن الفكري في سعيه لمعالجة أسباب تفرقة الناس في الحياة وتنوع أديانهم وأعراقهم والوانهم وأهوائهم واستيعاب التجاذب الواقع بين مصالحهم والذي انتج الواناً من الصراع ودفع بالحضارات القائمة في الدول للبحث عن وسائل وأسباب للحماية والأمن بكل أنواعه، كما تبحث الدول أيضاً عن ما يحقق لها الغلبة، قدأبت المجتمعات وأفرادها تبحث دوماً عن أسباب توسعة وسائل استجلاب الأمن ([35])
عرفه بعض الكتاب المعاصرين بأنه مجموعة من الإجراءات والأساليب المعنوية والمادية التي يجدر بالمؤسسات الاجتماعية اتخاذها من خلال البناء العقلي لي المعنوي للإنسان وذلك بغرس المعتقدات الصحيحة وقيم المجتمع التي تقوم بتوجيه السلوك وفق ما يحقق أمن المجتمع في جميع الجوانب، كما أنه تحصين للعقل من خلال تفعيل مدركات الفرد لتمكينه من القدرة على التمييز بين مختلف ما يسمعه ويراه ويقرؤه ثم قبوله أو رفضه بعد ذلك إذا كان فيه مساس بأمن المجتمع في مختلف جوانب الحياة ([36]).
وتأتي الوصية الثانية ضمن الوصايا العشر داعمة الأمن الأسري ومؤسسة له من خلال حرص الإسلام على إنشاء علاقات أسرية متينة، فأسسها على أساس التراحم واعتبره أساسا يقوم على رقة تقتضي الإحسان للمرحوم والعطف عليه والحنو بل تقتضي إرادة المنفعة للغير وإعمار القلب بحب الخير والنفع والبدل والعطاء للآخرين وإذا كان عطف الآباء على أبنائهم وابتغاء الخير لهم هو من باب الفطرة التي جبل الإنسان عليها فقد أمر سبحانه وتعالى الأبناء بير الآباء وخفض الجناح لهم.
إن تربية النشء على قيم التراحم وبناء أسر على صلة الأرحام والعمل على صيانتها يجعل العلاقات الأسرية علاقات متينة يسود فيها التعاون والتكافل بشتى أنواعه والإحسان للأباء والأقارب واجب يلتزم به المؤمن بالله تعالى المعظم لكتابه، فيصل قريبه بالمعروف، وببذل الجاه والنفع البدني والمالي، بحسب ما تتطلبه قوة القرابة والحاجة لما في ذلك من أهمية بالغة في بناء المجتمع القوي المتماسك؛ فالتألف والترابط بين أفراد المجتمع بصفة عامة، وبين ذوي القربي والأرحام بصفة خاصة، من أهم الدعائم اللازمة لتحقيق الأمن الأسري.
ثم تأتي الوصية الثالثة ( ولا تقتلوا أولادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ )، حيث أوصى الله تبارك وتعالى الآباء بعدم قتل الأبناء خشية الفقر، فإنه سبحانه هو الرزاق، رزق الأبناء على الله كما رزق الآباء على الله ؛ قال الحافظ ابن كثير: “لما أوصى تعالى بالوالدين والأجداد، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد، فقال تعالى : ( ولا تقتلوا أوْلادَكُم منْ إمْلاق )؛ وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سولت لهم الشياطين ذلك، فكانوا يبدون البنات خشية العار، وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار. وقد ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال((أن تجعل لله نِدًّا وهو خلَقك ))، قلت: ثم أي؟ قال: (( أن تقتل ولدَك خشية أن يَطعَم معك )).
(من إملاق): أي من الفقر الواقع بهم يقتلونهم بسبب الفقر الواقع عليهم فلما كانوا مفتقرين فهم محتاجون للرزق لعيلوا أنفسهم ثم أولادهم لذا بدأ تعالى برزقهم هم أولاً لأنهم محتاجون ثم رزق أولادهم. ولا يخفى ما أسسته الآية الكريمة من قاعدة حفظ المال وعدم إتلافه وضياعه إلى جانب حفظ النفس والعلاقات الأسرية والبر بالأبناء والحفاظ عليهم.
وتأتي الوصية الرابعة : قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )، الوصية بالنهي عن قربان الفواحش بأنواعها، والفاحشة هي كل ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال، وقد كان ابن مسعود يقول: “لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه ([37])“.
وتدخل هذه الوصية ضمن إطار الأمن الأخلاقي بأنه الشعور بالطمأنينة الذي يتحقق بحفظ العرض والنسل والقيم والأخلاق وعدم انتهاكها أو المساس بها.
فالشعور بالطمأنينة الذي يتحقق من خلال المحافظة على العرض والنسل والقيم والأخلاق وحمايتها من الخروج بها عن قواعد الضبط الاجتماعي من خلال ممارسة الدور الوقائي والقمع والعلاج الكفيل بتحقيق ذلك.
وتمثل الأخلاق العمود الأساسي العملي للتوحيد حيث يكون سلوك الفرد من خلال قوة إيمانه ونقاوة توحيده. كما يؤكد التوحيد الهدف الأعلى لهوية الإنسان هو استخدام الله تعالى للإنسان على الأرض. وينبغي أن يتضمن الاستخدام الأمانة، ومضمون هذه الأمانة الإلهية هو الوفاء بالواجب الأخلاقي في كل شيء ويتحقق ذلك في الأسرة، التي هي أساس المجتمع، ومن خلالها يتجسد تطور الحضارة الإنسانية، والهدف الحقيقي لإرادة الله تعالى على الأرض ([38]).
أما الوصية الخامسة في قوله تعالى : ( ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إلا بِالْحَقِّ ، فقد جاءت بالنهي عن قتل النفس التي حرمها إلا بالحق النفس المعصومة التي لا يجوز قتلها بغير حق، وقد جرم سبحانه في العديد من الآيات في كتابه هذه الفعلة: ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) [النساء: 93]
وهنا تعزى إلى القرآن تعزيز قيمة النفس الإنسانية ورفعها، والاهتمام بها بغض النظر عن الدين والمعتقد الله الذي خلقها وبرأها. قد أكد الله سبحانه على عظمة النفس وقدسيتها، حيث أقسم بها قائلاً: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاها” [الشمس: 7] ، وأبرز عظمة جريمة الاعتداء عليها قائلاً: “كتبنا على بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا” [المائدة: 32].
فالحفاظ على النفس وصية خالدة بعد الحفاظ على الدين، وذلك لأن الحفاظ على النفس من ضروريات الحياة الإنسانية واستمرارها.
ولعل من أبلغ العبارات في شرح مفهوم حفظ النفس ما أورده الشاطبي رحمه الله حين أشار إلى المعاني الثلاث في حفظها وهي: الاحتفاظ بأصلها من خلال الشرعية في التكاثر، والحفاظ على بقائها بعد خروجها من العدم إلى الحياة من خلال توفير المأكل والمشرب وكل ما يحتاجها من الداخل، وتوفير الملبس والمسكن وكل ما يحتاجها من الخارج. وتجدر الإشارة إلى أن كل هذه الجوانب قد ذكرت أصلاً في القرآن، وفي السنة النبوية، وتكملة هذه الجوانب تتم عن طريق الحفاظ على النفس بعيدًا عن أن تقع في الحرام مثل الزنا، وذلك بأن يتم الزواج الشرعي الصحيح ويتم توفير جميع ما يتعلق به من الطلاق والخلع واللعان وما شابه ذلك. ويتم حفظ ما تتغذى به النفس من خلال تناول ما لا يضرها أو يؤذيها أو يفسدها، وتوفير ما يلبي احتياجاتها المتعلقة بالأطعمة والصيد والأضحية والحدود الشرعية والقصاص، واحترام المصاعب والظروف المتعلقة بهذه الأمور وأمور مشابهة، وحفظ النسل يدخل في هذا السياق وأصولها مذكورة في القرآن الكريم والسنة النبوية ([39])
والوصية السادسة : قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مال اليتيم إلا بالتي هي أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشَدَّهُ ) النهي عن أموال اليتامى إلا بالتي هي أحسن: كما نهى الله سبحانه عن مقاربة مال اليتيم في الوصية السادسة، ومن باب أولى أكله إلا بالتي هي أحسن، ولا يفهم من قوله : ( حَتَّى يبلغ أشده ) أنه يجوز قربان وأكل أموال اليتامى إذا بلغوا أشدهم، بل المراد ببلوغ الأشد أنه تدفع إليهم أموالهم؛ كما بين ذلك قول ربنا في كتابه : ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا يَلْغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ……. [النساء: 6] ، وقال الله تبارك وتعالى محذرًا من أكل أموال الناس : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) [النساء: 1.10
وقد كان للتشريعات القرآنية والنبوية دور عظيم في الحفاظ على حقوق الأيتام، حيث قضت على الممارسات السلبية التي كانت متعارفا عليها في الجاهلية، مثل عدم توريث الأطفال الصغار وحرمان البنات من الميراث. كما قام الإسلام بتحطيم الطموحات الشخصية للأشخاص الذين يتسابقون للزواج من اليتيمات بهدف الاستحواذ على ممتلكاتهن. وعندما يتزوجونهن، لا يقدمون لهن مهرا.
وأمر الإسلام بالاهتمام الكامل والشامل برعاية الأيتام، محذرا من العواقب السيئة للإهمال في هذا الشان. كما يأمر بأن يعامل الناس الأيتام بالمحبة والرحمة والعطف والشفقة، تماما كما يعاملون أبناءهم ([40]).
ولا تخفى أهمية العناية بالأيتام وحقوقهم ودورها في تحقيق أمن المجتمع والحفاظ عليه وحماية الفئات التي يمكن أن تكون عرضة للاعتداء على حقوقها.
وتنتقل السورة المباركة إلى الوصية السابعة: قوله تعالى : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) حيث يأمر الله سبحانه في هذه الآية بإقامة العدل في الكيل والوزن، وفي سور أخرى أرسل رسولاً بهذا الأمر حيث قال شعيب عليه السلام لقومه : يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهِ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ) [هود: 84]
ومع كون المعنى الذي تدل عليه الآية في الأصل في المكيال والميزان، إلا أنها تشير إلى العدل في كل أمر، ومن هنا ذهب بعض العلماء إلى تعميم التطفيف عام في كل قول وعمل، ولا يختص بالتطفيف في الكيل والميزان.
وحفظ الوفاء في المكاييل والموازين يحافظ على قيمها ويصون أمانتها ويحمي أمنها. وعندما يشيع التلاعب بالعلاقات المالية في عمليات الشراء والبيع، يتأثر المجتمع المسلم بالضعف والتدهور الأخلاقي والقيمي، وتنتشر القيم الفاسدة والصفات الذميمة بين أفراده؛ فجاء التشديد والنهي وصية لبيان خطورة هذه الممارسات ونقضها للوازم الإيمان.
ثم تأتي الوصية الثامنة : قوله تعالى : ( وإذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى )، حيث أمر الله في هذه الآية بأن يعدل الإنسان في أقواله وأفعاله حتى مع أقرب الناس إليه؛ يقول ابن عاشور رحمه الله:
هذا جامع كل المعاملات بين الناس بواسطة الكلام وهي الشهادة ، والقضاء ، والتعديل ، والتجريح ، والمشاورة ، والصلح بين الناس ، والأخبار المخبرة عن صفات الأشياء في المعاملات : من صفات المبيعات ، والمؤاجرات ، والعيوب ؛ وفى الوعود ، والوصايا ، والأيمان وكذلك المدائح والشتائم كالقذف ، فكل ذلك داخل فيما يصدر عن القول. ([41])
أما الوصية التاسعة : قوله تعالى : ( وبعهد الله أوفوا ) ، أمر الله بالوفاء بعهده؛ قال الحافظ ابن كثير : قال ابن جرير : يقول وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا، وإيفاء ذلك أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم، وتعملوا بكتابه وسنة رسوله، وذلك هو الوفاء بعهد الله : ( ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ؛ يقول تعالى: هذا أوصاكم به وأمركم به، وأكد عليكم فيه ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )؛ أي: تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه قبل هذا . ” وتختم الآيات الكريمة بالوصية العاشرة : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) ، أمر الله باتباع صراط الله المستقيم ونهى عن التفرق واتباع السبل.
وبعد أن ساق سبحانه ما تقدم من الوصايا وطلب العمل بما جاء من الأوامر، وترك ما نهى عنه سبحانه، وحصل بذلك البيان والإرشاد من تلك الوصايا الجامعة، وهي تمثل الصراط المستقيم قال سبحانه مشيرًا إليها : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستقِيمًا ) ، فدين الله سبحانه وشريعته هي الصراط المستقيم، ثم أمرهم باتباعه، فقال : ( فَاتَّبِعُوه ) ، ونهاهم عن اتباع السبل المخالفة لهذا المنهج القويم فقال : ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بِكُمْ عَنْ سَبيله )، قال الحافظ ابن كثير: “أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ونحو هذا”.
فهذه الوصايا مجمع عليها من الأديان، وهي الأساس لتكوين الجماعات الفاضلة، وقد جاءت بها الأديان كلها ورضيتها الشرائع الوضعية المستقيمة، وهي من وصايا الإسلام الذي هو دين الله الخالد الذي لا يقبل الله سواه، وإن هذا الدين هو الذي فرضه الله على البشر، منذ خلقهم، جاء به آدم عليه السلام ومن تبعه من الأنبياء والرسل وتم برسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الدين الذي يشمل العقائد الصحيحة والأحكام العامة التي لا تتغير بتغير الزمان أو المكان أو بتغير أحوال الناس في سلسلة حياتهم الإنسانية على وجه الأرض مهما اختلفت ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم وبيئاتهم، و به صلاح حياتهم ومعاشهم وأمنهم.
ولعل من جميل القول ما ذكره الشاهد البوشيخي : ( قد ورد اللفظ بعدة أشكال لكنه لم يرد مقيدا بشيء لا بوصف ولا بإضافة، ومعنى ذلك أنه غير قابل للتبعيض، فالأمن شيء كلي شامل لا يقبل التبعيض، فهذه نقطة مهمة وهو أن الأمن نعمة يتنعم بها الناس إما أن تكون وإما أن لا تكون، ولا يمكن أن تكون مبعضة، بمعنى ينعمون بنوع من الأمن ولا ينعمون بأنواع أخرى ولا سيما بالنسبة لأهل الإيمان، لأن المنطق الذي يحكم دائرة الإيمان بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي دائرة التكليف ودائرة الشهادة على الناس، بينما الدائرة الأخرى ليست مكلفة، ولذلك إذا تمت الاستجابة للتكليف تكون النتائج وتكون الآثار الطيبة وتكون الثمرات وتكون الخيرات، وإذا لم تتم الاستجابة تكون العقوبات. بينما في دائرة غير الإيمان قد يتم التنعم الدنيوي حتى يرتحل الناس ولا يكون إشكال لأنهم ليسوا مكلفين بهذه الأمانة ([42]).
وبهذا يمكننا القول أن الأمن في القرآن الكريم ثمرة ونتيجة لعمل متواصل وسعي في رضى الله سبحانه وسير على الصراط المستقيم، وقيام بأوامره وتحقيق لوصايه واجتناب لنواهيه. كما أن استحضار البيئة والظرفية التي نزلت فيها سورة الأنعام أول ما نزلت تشير إلى قضية في غاية الأهمية متمثلة في قدرة الإنسان المؤمن على التغلب على الظروف والتهديدات الخارجية التي يمكن أن تسبب له غيابًا أو ضعفًا في الشعور بالأمن ولا يعني ذلك التقليل من شأن وأهمية الاهتمام بتحسين الحالة المعاشية والخارجية التي يعيشها الفرد لتحقيق الأمن له، ولكن تعني أن الشعور بالأمن هو شعور داخلي بالدرجة الأولى نابع من داخله، حين يحقق التوافق بين حاجاته المادية والمعنوية والروحية من خلال الامتثال لأوامر الله سبحانه وتعالى والابتعاد عن نواهيه.فقد نزلت سورة الأنعام المباركة في وقت كان المسلمون فهي يعانون من ضعف الجوانب الأمنية في حياتهم بكل أنواعها وصورها، إلا أن ذلك كله لم يرفع المسؤولية عن الفرد في القيام بدوره إزاء بناء منظومة الأمن في حياته والإسهام في تعزيزها مهما كانت الظروف.
ولعل من أوائل من تعرض لمفهوم الشعور بالأمن النفسي العالم ماسلو حيث أكد أهمية الحاجة إلى الشعور بالأمن من خلال نظريته في الدافعية معتبرا أن الشعور بالأمن والانتماء والمحبة حاجات أساسية لتوافق الفرد. كما أكد أن هناك ثلاثة أبعاد للطمأنينة النفسية وهي: شعور الفرد بالانتماء وإحساسه بأن له مكانة في الجماعة وشعور الآخرين بأنهم يتقبلونه، وشعوره بالسلامة وتجنب الخطر والقلق والتهديد والخوف.
ويأتي المفهوم القرآني للأمن النفسي مغايرا لذلك، فجميع الأنبياء عليهم السلام كانوا على خلاف مع أقوامهم بل إن أقوامهم مارسوا عليهم أساليب مختلفة من التهديد والوعيد والإيذاء النفسي والجسدي ورغم ذلك كانوا أكثر الناس شعورًا باليقين والطمأنينة لوعد الله سبحانه وتعالى. وتقدم سورة الأنعام المباركة نموذج إبراهيم عليه السلام، ذلك النبي الفرد الذي عاش آمنا في ظل أجواء من الخوف والتهديد والقلق والصراع والضغوط التي مارسها قومه عليه فتهديد قومه له بالحرق حيا في النار، لم يغير من ثباته على الحق.
إنها القوة الداخلية التي يحدثها الإيمان نتيجة لذلك الشعور بالسلام الذاتي الذي يستشعر به المؤمن
لعلاقته الوثيقة بالله سبحانه وتعالى.
ثم تأتي الآيات بالحديث عن كل الأنبياء الأنبياء الذين ساروا على نفس سيرة إبراهيم عليه السلام في مواجهة الضغوطات والتحديات الخارجية والقدرة على التعامل مع الظروف الصعبة والصدمات. وهذا ما أشار إليه بعض علماء النفس بأنه الصلابة النفسية Psychological Solidity
تلك الصلابة التي تجعل من المؤمن إنسانا قويا معرضا عن المكذبين راسخا على ما يؤمن به من قيم ومبادئ ولو خالفه كل من حوله.
لقد أسس القرآن العظيم في هذه السورة وغيرها من خلال عرض قصص الأنبياء مع أقوامهم لتعزيز الشعور بالثبات، أولَئِكَ الَّذِينَ هذى الله فيهدَاهُمُ اقْتَدِة أو الصلابة النفسية ومواجهة الضغوطات بل وتحديها وعدم الهروب منها.
ولذلك جاءت الآيات بعد ذلك اتبع ما أوحي إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إله إلا هُوَ وَأَعْرِضْ عن المشركين) (سورة الأنعام: 106)
كما جاء الإعلان النهائي للسورة في تحرر الإنسان من الخضوع لسلطة أي أحد سوى الله سبحانه وتعالى، فلم يعد الإنسان يذل نفسه إلا أمام الخالق العظيم، فانطلقت إرادته من كل القيود وتحررت روحه من هوى الأوصياء من الكهان وغيرهم: ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأنا أوَّلُ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (163-162)
فالمؤمن يخضع في حياته لمنهج الله عز وجل وهو مطالب بهذا المنهج وحمايته، ذاك الذي يسهم في بناء الإنسان الواعي القادر على القيام بأعباء الاستخلاف والعمران الحضاري، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (سورة الأنعام: 165)
فتعزيز مبدأ الاستخلاف في الأرض يبدأ ذاتيا، من خلال تربية الإنسان ليقوم بالدور المناط به وتنمية الإنسان لنفسه تكمن في ترويضها على مواجهة مختلف التحديات، وليس مجرد تنمية الموارد الخارجية المتاحة لإشباع حاجاته، فالاستخلاف تنمية أخلاقية تهدف إلى تكوين الإنسان. وهو بذلك ليس عملاً دنيويا ، يهدف إلى مجرد تحسين الحياة الإنسانية على الأرض بقدر ما يروم تمكين الإنسان من تقديم العمل الصالح الذي هو جوهر الاختبار الإنساني. فالأمن هو ثمرة القيام بمهمة الاستخلاف على أتم وأكمل وجه.
إن مفهوم الأمن الذي يقدمه القرآن الكريم في سورة الأنعام وغيرها من سور القرآن، هو ما يحتاج إليه الإنسان.
فالأمن الذي أسسه القرآن الكريم ثمرة ونتيجة مترتبة على التزام الفرد والمجتمع بالإيمان والأمانة. الأمر الذي يحقق للأفراد الرسوخ والقوة النفسية بما يجعلهم قادرين على تجاوز مختلف الظروف والتحديات التي قد يتعرضون لها. ويعتبر الأنبياء الذين هم صفوة الخلق أقدر الناس على تحصيل الأمن والشعور به رغم ما تعرضوا له من مشاق وصعوبات نظرا لأنهم أكمل الناس إيمانًا وأمانة .
الخاتمة والتوصيات
ناقشت هذه الدراسة مفهوم الأمن في القرآن الكريم الذي يرتبط بالإيمان بلا ظلم. وقد أوضحت الدراسة أن الإيمان يدفع الإنسان إلى الالتزامات والعهود والمواثيق مع خالقه، الذي يمنح الحياة والأمن. تناولت الدراسة أيضا مفهوم الأمن في القرآن الكريم الشمولي، وتضمنت الدراسة جوانب تطبيقية لهذه القضية من خلال تدير سورة الأنعام، التي تناولت الأمن بشكل عام وأسسه وأنواعه المختلفة. كما استعرضت نماذج للأمن في هذه السورة، وتسليط الضوء على أهمية بناء منظومة الأمن كهدف لسورة الأنعام. وأكدت الدراسة أن الإيمان والعقيدة هما الأساس لبناء هذه المنظومة، من خلال فهم مفهوم الإيمان والعمل الصالح، وتعزيز الأمانة وتطبيق الوصايا العشر المذكورة في ختام السورة.
وتوصي الدراسة بأهمية التركيز على التطبيقات العملية لمفهوم الأمن في القرآن الكريم، لتعزيز فهمنا لأهمية الأمن الأخلاقي والأمن بشكل عام كجزء أساسي من الحياة الإنسانية. فالأمن يتعزز من خلال التزام الفرد بالقيم الأخلاقية والمعايير الإيمانية، مما يسهم في بناء مجتمع أمن ومستقر. كما توصى أيضا بتحليل العوامل التي تؤثر في تحقيق الأمن وتطبيقها في دراسات مستقبلية، مثل العدل والمساواة والتعايش السلمي بين الأفراد والشعوب بالإضافة إلى ذلك، يمكن دراسة الأمن في سياقات مختلفة، مثل الأمن الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والتكنولوجي، وفهم تفاعلها مع مفهوم الأمن في القرآن الكريم.
علاوة على ذلك، يمكن أن تتضمن الدراسات المستقبلية تحليل تأثير الأمن الروحي والنفسي على حالة الفرد والمجتمع، ودراسة كيفية تعزيز هذا الأمن من خلال العبادة والتأمل والطمانينة النفسية. كما يمكن أيضا استكشاف دور التعليم والتثقيف في تعزيز الأمن وتوجيه سلوك الأفراد نحو الأخلاق السامقة وأثر تطبيقها.
المراجع
- الأعنزي، جهاد (2004) علاقة اشتراك الطالب في جماعة النشاط الطلابي بالية النفسي والاجتماعي لدى طالب المرحلة الثانوية بمدينة الرياض جامعة نايف للعلوم الأمنية.
- الأصفهاني، حسين بن محمد (2001) المفردات في غريب القرآن بيروت: دار الكتب العلمية.
- البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (1999) الصحيح الرياض دار السلام.
- البقاعي برهان الدين إبراهيم بن عمر (1408هـ / 1987م). مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور. تحقيق الدكتور عبد السميع محمد أحمد حسنين دار المعارف.
- ابن تيمية (2004). الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المملكة العربية السعودية.
- التوحيدي، أبو حيان (1993م). البحر المحيط، دار الكتب العلمية، بيروت.
- توينبي، ارنولد (2003) تاريخ البشرية بيروت الأهلية للنشر والتوزيع.
- جبل، محمد حسن (2010) المعجم الاشتقاقي المؤصل لآلاف الكلمات القرآن الكريم. مصر: دار الأدب.
- الجهني، عبد الرحمن (2011) المهارات الاجتماعية وعلاقتها بالسلوك التوكيدي والصلابة النفسية لدي طلاب المرحلة الثانوية مجلة جامعة أم القرى للعلوم الاجتماعية.
- ابن الجوزي أبو الفرج عبد الرحمن (1987). نظم أعين النظار في علم الوجوه والنظائر بيروت الرسالة.
- الجوزية ابن قيم (2019) الداء والدواء، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الرابعة. ابن حبان محمد (1993). صحيح ابن حيان بيروت الرسالة.
- دراز، محمد عبد الله مدخل إلى القرآن الكريم دار القلم، 1984م.
- الدوسري، مديرة (1429هـ). أسماء سور القرآن وفضائلها (الطبعة الثانية) الرياض دار ابن الجوزي
- الرازي، فخر الدين (1981) التفسير الكبير بيروت: دار الفكر.
- السلامي، عبد الحميد طبشو (2010). الأمن الأخلاقي دراسة في فلسفة الأمن والسلام الأخلاقي. دار الفكر العربي.
- السهلي، عبد الله (2006). الأمن النفسي وعلاقته بالتحصيل الدراسي لدى طلاب دور العائلة في الرياض. السعودية جامعة نايف للعلوم الأمنية.
- السيوطي، جلال الدين الدر المنثور في التفسير بالمأثور. دار الفكر للطباعة والنشر.
- شرف الدين جعفر (1420هـ) مواصفات خاصة لسور القرآنية بيروت دار التقريب بين المذاهب الإسلامية.
- شلتوت محمود (1978). الوصايا العشر مصر : دار الشروق
- شلتوت، محمود (2004) تفسير القرآن الكريم دار الشروق، ط12، مصر.
- الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (2001). جامع البيان عن تأويل أي القرآن مصر دار حجر
- ابن عاشور، محمد الطاهر (2004) تفسير التحرير والتنوير تونس: دار التونسية للنشر.
- عثمان إسماعيل صديق (2022م). الأمن الفكري أهميته ومهدداته وطرق ووسائل تعزيزه من المنظور الإسلامي، مجلة جيل الدراسات المقارنة، العدد السادس.
- العجوري، ع. م. (2009) الأمن الأخلاقي دراسة قرآنية موضوعية رسالة ماجستير منشورة) الجامعة الإسلامية، غزة.
- العفيفي، محمد (1976). القرآن ضوء الحق مقدمة في علم التفسير القرآني القاهرة: دار الهلال.
- العلواني طه جابر. (2012) تفسير سورة الأنعام دار السلام مصر، 2012م.
- العلواني طه جابر الوحدة البنائية للقرآن المجيد. مكتبة الشروق الدولية، 2006م.
- العلواني رقية طه (2016) تدبر سورة الأنعام (محاضرة). تم الوصول إليها من : 2020 ،تاريخ الوصول: 3 يوليوhttps://www.youtube.com/watch?v=4KcWEvKrR54.
- الغزالي، أبو حامد (1424هـ / 2004م). الاقتصاد في الاعتقاد. دار الكتب العلمية.
- الفاروقي، إسماعيل راجي (1982م). التوحيد، مدارات للأبحاث والنشر. الفراهي، عبد الحميد. (بدون) دلائل النظام عناية السيد بدر الدين الإصلاحي الدائرة الحميدية.
- القرطبي، أبو عبد الله محمد (2006). الجامع لأحكام القرآن بيروت الرسالة.
- قوزح مريم عطا (2011م) أحكام مال اليتيم في الفقه الإسلامي، مريم عطا قوزح، رسالة ماجستير في جامعة النجاح منشورة على الرابط:
https://repository.najah.edu/server/api/core/bitstreams/5acf6038-1639-4b54-9ссе- b3907527aad/content
– لشين عبد الفتاح (1982). من أسرار التأويل في القرآن مصر دار نهضة مصر.
– الماوري، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب (1401هـ / 1981م). تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك. تحقيق: محمد هلال السرحان دار النهضة العربية.
– المناوي، زين الدين محمد عبد الرؤوف (1990). التوقيف على محمات الطعريف مصر: دار علم الكتب.
الهوامش:
-
() لفيروز أبادي، محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم الشيرازي الفيروز أبادي، من أئمة اللغة والأدب، وكان مرجع عصره في اللغة والحديث، والتفسير، توفي سنة 817 هجرية. ↑
-
() الفيروز أبادي : القاموس المحيط ، 1547/2 . ↑
-
() ان عبد القاهر الجرجاني : الرسالة الشافية ، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ، 46 ، ص 117 . ↑
-
() محمد جبل المعجم الاشتقافي الموصل الألفاظ القرآن الكريم 2010 على الرابط الإلكتروني:. https://waqfeya.net/book.php?bid=11686 ↑
-
() محمد العفيفي القرآن دعوة حق، مقدمة في علم التفصيل القرآني، المطبعة المصرية – الكويت – الطبعة الأولى 1376هـ / 1976م ص 5 ↑
-
() محمد العفيفي، القرآن تفسير الكون والحياة من 205 ↑
-
() أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوري، تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك، تحقيق: محمد هلال السرحان، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، ط1: 1401هـ/1981م ↑
-
() أبو حامد الغزالي الاقتصاد في الاعتقاد، ، ص 128دار الكتب العلمية، ط1 – 1424 هـ- 2004م، ص 128 ↑
-
() طبعة مؤسسة الرسالة سورية، 1993 ↑
-
() مكتبة الإمام البخاري، مصر، 2009م ↑
-
() على الرابط الإلكتروني https://al-furqan.com/ar/ : ↑
-
() انظر تفسير سورة الأنعام، طه العلواني، دار السلام، القاهرة، ط1، 2012 ↑
-
() هذه الرسائل وغيرها متاحة على الموقع https://ebook.univeyes.com/89565 ↑
-
() مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالإسكندرية المجلد 33 العدد 7 2017 الصفحة 735-1925 على الرابط
https://ebook.univeyes.com/219622#:~:text= ↑
-
() نقلا عن جلال الدين السيوطي، الدر المنثور ف بالتفسير بالمأثور، دار الفكر للطباعة والنشر،-https://quran tafsir. 11net/seoty/sura6-ayal.html#p ↑
-
() الفراهي، عبد الحميد، دلائل النظام. عناية السيد بدر الدين الإصلاحي، الهند: الدائرة الحميدية، 1388هـ 1968م، ص 77. وانظر كذلك العمراني، طه جابر. الوحدة البنائية للران المجيد. مصر: مكتبة الشروق الدولية، مصر، 2006، ص 27 ↑
-
() الفراهي عبد الحميد دلائل النظام عناية السيد بدر الدين الإصلاحي الهند الدائرة الحميدية، 1388هـ 1968م، من 77. وانظر كذلك العلواني طله جابر الوحدة البنائية للقرآن المجيد، مصر مكتبة الشروق الدولية، مصر ، 2006 ص 27 ص. ↑
-
() شلتوت، محمود تفسير القرآن الكريم بيروت: دار الشروق، لبنان ط 12، 2004 م ، 1\ ص 24. وقد سار على ذكر مقاصد السور في بدايات كل سور القرآن الكريم. ↑
-
() الوحدة البنائية، مرجع سابق، ص 60. ↑
-
() دراز، محمد عبد الله مدخل إلى القرآن الكريم، الكويت دار القلم، 1984م، من 45 ↑
-
() ابن عاشور، محمد الطاهر التحرير والتنوير، تونس: الدار التونسية للنشر، 1984، 1/ ص 162 ↑
-
() التحرير والتنوير، مرجع سابق، 30، ص 424 ↑
-
() دلائل النظام، مرجع سابق، ص 77 ↑
-
() ال محمود شلتوت، تصير الأجزاء العشرة، ص 211. ↑
-
() الرازي – فخر الدين . أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين، التفسير الكبير، ج12 ، ص117. وانظر كذلك: طه جابر العلواني، تفسير سورة الأنعام ،دار السلام للطباعة والنشر، مصر، 2012م، على الرابط https://alwani.org/wp-content/uploads/2017/03/27 ↑
-
() محمد رشيد رضا، تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 8/ 238-239 ↑
-
() ابن قيم الجوزية، انظر الداء والدواء، دار المعرفة، بيروت، ص 74. ↑
-
() ابن عاشور، التحرير والتنوير ، الرابط :https:\\quran-tafsir.net\ashour\sura6-aya18.html#p8 ↑
-
() ابن تيمية، الفتاوي، ج 25، 15، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف المملكة العربية السعودية، 2004م ↑
-
() أبو حيان التوحيدي، البحر المحيط، ج8، ص 509 ↑
-
() ال ابن عاشور التحرير والتنوير، ج 22، ص 129 ↑
-
() تفسير القرآن الكريم ” الأجزاء العشرة الأولى ” ص ٣٩٣ ↑
-
() ابو حامد الغزالي، المستصفى، ص174 ↑
-
() انظر: تفسير النكت والعيون (161\2). ↑
-
() إسماعيل صديق عثمان الأمن الفكري أهميته ومهدداته وطرق ووسائل تعزيزه من المنظور الإسلامي، مجلة جيل الدراسات المقارنة، العدد السادس، يونيو 3022م ، https://jilrc.com/archives/15323 ↑
-
() https://www.asjp.cerist.dz/en/down/Article/206/5/2/1000tk ↑
-
() رواه البخاري برقم (4358)، ومسلم برقم (2760) ↑
-
() الفاروقي، إمساعيل راجي التوحيد، مدارات لؤلعبات والتشرينوت، 1982 (ط 1 ↑
-
() الموافقات، ج4، ص 27 وما بعدها. ↑
-
() انظر في تفاصيل ذلك لله ؟ أحكام مال اليتيم في الفقه الإسلامي، مريم عطا قوزح، رسالة ماجستير في جامعة النجاح منشورة. على الرابط https://repository najah.edu/server/api/core/bitstreams/Sacf6038-1639-4b54-9cce-063907527aad/content2011م ↑
-
() ابن عاشور التحرير والتنوير، https://quran-tafsir.net/ashour/sura6-aya152.html#p19 ↑
-
() مفهوم الأمن في القران الكريم – الشاهد البوشيخي https://al-maktaba.org/book/31871/14335#p1 ↑