المعاني الدلالية من الآية القرآنية في قوله تعالى: (يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ) غافر 19.
The semantic meanings of the Qur’anic verse in the Almighty’s saying: He knows the treachery of the eyes and what the hearts conceal. Ghafir: 19
م. د. وليد فياض حسن سعود الجبوري1
1 مدرس دكتور في اللغة والدلالة، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي, جامعة تكريت, كلية التربية للبنات.
بريد الكتروني: alfyadwlyd08@gmail.com
DOI: https://doi.org/10.53796/hnsj62/23
المعرف العلمي العربي للأبحاث: https://arsri.org/10000/62/23
الصفحات: 302 - 312
تاريخ الاستقبال: 2025-01-04 | تاريخ القبول: 2025-01-15 | تاريخ النشر: 2025-02-01
المستخلص: تعد الدراسات القرآنية من أهم سبل معرفة الجوانب الجمالية للمفرد القرآنية, والمتأمل في استقصاء المعاني الدلالية يتلمس أسرار اللفظ ؛ وذلك في بيان خصوصية المفردة في سياق النظم القرآني, وتأدية معاني المفردة أو الجملة معًا, وهذا ما تمثل في آية غافر, وانتظم البحث بصورة مطالب من تراكيب نحوية (فعلية, واسمية), وتتنوع دلالة الاسم فيها بحسب سياق الآية, أو الاشتقاق لمفردات الآية, أو الموصولات الاسمية في مقام الآية , ولخصائص الانتقاء القرآني وتفرد اللفظ الأثرٌ المتميز في دقته التعبير وإيحاء الصورة البيانية في مقام الجزاء أو الحساب . ويتمثل الهدف الرئيسي للبحث في بيان الملامح الدلالية في الآية الكريمة التي عبرها تظهر أسرار تراكيب القرآن التي يغفل تمييزها وتذوق دلالاتها ممن لا يتأمل معاني آيات الله. وحصر البحث في آية وتأملها وتدبرها يفيض من المعاني والدلالات العميقة التي يغفلها كثير من الدارسين في هذا النمط من البحوث . أما المنهجية المتبعة فقد تمت في دراسة البحث باتباع المنهج الوصفي التحليلي , وذلك بتحليل ووصف ماتتكون منه الآية الكريمة, وانتظم البحث في مطالب تم تعزيزها بأقوال النحويين وأهل الدلالة من اللغويين, واقتضت هذه الدراسة الاعتماد على مصادر ومراجع متنوعة منها كتب النحو والتفاسير, وكتب تجمع بين النحو والدلالة كالبرهان للزركشي, والاتقان للسيوطي, وملاك التأويل لأبي جعفر, وبدائع الفوائد لابن القيم, ومعاني النحو للسامرائي. أما أهم التوصيات: 1- اتباع الدارسين دراسة التراكيب القرآنية المنفردة, إذ تتولد عبرها معرفة عميقة تميز قيمة الانتقاء القرآني للمفردة او الجملة . 2- التركيز في دراسة المفردات يحمل الباحث لفتح الافق لدراسات سياقية ربما لا تتميز إلا عبر هذا النوع بتأمل الألفاظ وتدبرها.
الكلمات المفتاحية: اللفظة، خائنة، الأعين، الصدور، السياق.
Abstract: Quranic studies are one of the most important ways to know the aesthetic aspects of the Quranic vocabulary, and the contemplator in investigating the semantic meanings seeks the secrets of the word; This is in clarifying the specificity of the word in the context of the Quranic system, and performing the meanings of the word or the sentence together, and this is what was represented in the verse of Ghafir, and the research was organized in the form of demands of grammatical structures (verbal, nominal), and the meaning of the name varies in it according to the context of the verse, or the derivation of the vocabulary of the verse, or the nominal relative pronouns in the position of the verse, and the characteristics of the Quranic selection and the uniqueness of the word have a distinctive effect in its precision of expression and the suggestion of the rhetorical image in the position of reward or accountability. The main goal of the research is to clarify the semantic features in the noble verse through which the secrets of the Quranic structures appear, which are overlooked by those who do not contemplate the meanings of the verses of God. The research was confined to a verse and its contemplation and reflection overflows with deep meanings and implications that many researchers in this type of research overlook. As for the methodology followed, it was done in studying the research by following the descriptive and analytical approach, by analyzing and describing what the noble verse consists of, and the research was organized into demands that were reinforced by the sayings of grammarians and linguists of meaning, and this study required relying on various sources and references, including books of grammar and interpretations, and books that combine grammar and meaning such as Al-Burhan by Al-Zarkashi, Al-Itqan by Al-Suyuti, Malak Al-Ta'wil by Abu Jaafar, Bada'i Al-Fawa'id by Ibn Al-Qayyim, and Ma'ani Al-Nahw by Al-Samarra'i. The most important recommendations: 1- Students should study individual Quranic structures, as they generate deep knowledge that distinguishes the value of the Quranic selection of a word or sentence. 2- Focusing on the study of vocabulary leads the researcher to open the horizon for contextual studies that may only be distinguished by this type of contemplation and reflection on words
Keywords: The word, treachery, eyes, hearts, context.
المقدمة
والحمد لله المانح ما شاء لمن شاء, والغافر دون الشرك بحكم المشيئة لمن أساء, والمرسل الرسل والأنبياء, وأشهد أن لا أله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله .
دأب علماء اللغة والبيان على بيان الفروق اللغوية الدقيقة بين الألفاظ التي يستعملونها في كلامهم وشعرهم, ثم اتجه هذا الجهد إلى أشرف الكتب وهو كتاب الله ليلتمسوا ألفاظه التي تجلب الخشية والخشوع والتدبر, وكان مفتاح البيان هو استقصاء وجوه الاعجاز وبيان السبك والنظم وتلمس معانيه, وقد تظافرت جهود أهل العلم لتميز أسرار اللفظ والمعنى, والسعي لإزالة ما يشكل إلا أن بعض هؤلاء لم يصلوا لتحديد ما يشكل بين الألفاظ ويفرق في المعاني الدقيقة, حتى تصدى علماء البيان ممن ينظرون نظرات عميقة تقوم على أساس اختيار المعنى المناسب وبيان معنى المفردة, وبيان أثر التراكيب الفعلية والاسمية والأساليب في الجمل البيانية, وبيان خفايا معانيها. ومن هنا أثبت البيان القرآني علو شأنه ودقة القصدية في أداء الألفاظ المعاني وتلمسها في سياقها الذي وردت به .
أما أهدف البحث فتتلخص بالآتي: 1- يهدف البحث على النظر والتأمل في الآية بمعية السياق الذي وردت فيه . 2- بيان خصيصة وأهمية إفراد الآية أو المفردة لتمييز القيمة الدلالية لتلك الآية. 3- بيان فصاحة المفردة وأثر التأمل العميق في استشعار الإيحاء الاسلوبي للقرآن الكريم . 4- الكشف عن جماليات التراكيب في حال إفراده أو وصله فيما يتقدم على السياق المتقدم أو يتأخر عنه . 5- تمييز الجمال في معنى (خائنة الأعين) وتصوير حاسة النظر وما يعتريها في النظر ومعانيه .6- تميز خصوصية الانتقاء القرآني في بيان أثر اللفظة الدلالي ضمن سياقها بمعناها الخاص الذي يدلل على قيمتها الدلالية .
أما علة اختيار آية البحث لما يستنبط من غزارة المعاني والدلالات في تركيب الآية في سياقها ومقامها.
فما الأثر الدلالي في أصول الاسماء والأفعال في تركيب الآية ومعانيها المتنوعة؟ وما أصل الوضع لتلك الألفاظ أو التراكيب, وما الأثر الذي توحيه في السياق ؟
وقد انتظم البحث في سبعة مطالب, فكان المطلب الأول في دلالة الجملة الفعلية في الفعلين (يعلم – تخفي), أما المطلب الثاني : في دلالة خائنة من الأصل (خَوُنَ), وحوى المطلب الثالث على التعريف في أصل (الأعين), المطلب الرابع: دلالة الجموع في (أعين) واشتمل المطلب الخامس على : دلالة (ما) الموصولة في مقام هذه الآية, وكان المطلب السادس في تمكّن المفردة القرآنية (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) في السياق ومقام الآية, وختم البحث بالمطلب السابع: في بيان الصورة البيانية في (خيانة الأعين) في مقام الحساب .
المطلب الأول: المعاني الدلالية في التراكيب النحوية دلالة الجملة الفعلية في الفعلين (يعلم – تخفي)
تباينت أقوال النحويين في دلالة الفعل المضارع على أن دلالته هي حقيقة في الحال, ومجاز في المستقبل ويقوي هذا القول أن المضارع حينما يخلو من القرائن لم يُحمل إلا على الحال, أي لا يصرف الفعل للاستقبال إلا بقرينة زمنية وهذا حاله في الحقيقة والمجاز, وقيل فيه أنه حقيقة في الاستقبال مجاز في الحال وذلك لخفاء الحال, وهو صالح للحال والاستقبال لاحتماله الاعتبارين, فمن وصفه بعدم الاستقبال لأن المستقبل غير محقق الوجود فقولنا: زيدٌ يقوم غداً لأنه غير محقق, وصرح الزجاج أنه لا يكون إلا للمستقبل وأنكر أن يكون للحال, أما الجمهور وسيبويه فقالوا هو صالح لهما
(السيوطي : ج1/ ص 36 , السامرائي, 2003م :ج 3/ ص 280)
وللفعل ما يميزه عن الاسم بخصائص فالاسم يدل على الثبوت والفعل يفيد التجدد والحدوث, وذلك لأن الأفعال مقيدة بالزمن فتقيد المضارع في الحال والاستقبال, أما الاسم فهو ألزم للثبوت (السيوطي 1416هـ ـ 1996م: ج2/ ص 376, البقاعي, 2004 م: 61 )
وظاهر السياق أن علم الله يدل على الحال والاستقبال فلا يخفى علمه عما قل وكثر.
ويناسب الفعلين (يعلم – تخفي) أن ما مضى أفاد الحصول, أما في المضارع فمن شأنه أن يتكرر ويقع مرة بعد مرة, فالزمخشري صرح بذلك في قول الله : ﵟ ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ ١٥ﵞ ﵝالبَقَرَةِ :15ﵜ
, إذ تحقق الاستهزاء والنكال من الله الذي دل على تولي الله ذلك انتقامًا للمؤمنين لأن (يستهزئ) يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتا بعد وقت, وبما أن الفعل المضارع يقتضي تَجدُّدَ المعنى المُثْبَت به شيئاً بعْدَ شيء(السيوطي 1416هـ ـ 1996م : ج2/ ص 377, الزمخشري ج1/ ص67, الجرجاني ، 1413هـ ـ 1992م : ج1/ ص 174)
فالحدوث في فعلية العلم من (يعلم), وكذلك ما تخفى الصدور وإن تجدد مرة بعد مرة فهو ملازمٌ لفعل الله وصفاته بلا تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل .
ويوجز ابن المنير حال الجملة الفعلية وآثرها بقوله : طريقة العربية تَلْوِينُ الكلام وَمَجِيءُ الفعلية تَارَةً وَالِاسمية أُخرى من غير تكلف لِمَا ذَكَرُوهُ وَقَدْ رَأَيْنَا الْجُمْلَةَ الفعلية تَصْدُرُ مِنَ الأقوياء الخُلص اعتمَادًا عَلَى أَنَّ المقصود حَاصِلٌ بِدُونِ التَّأْكِيدِ (السيوطي 1416هـ ـ 1996م : ج2/ ص 379) .
وخيانة الأعين مَا تُسارِقُ مِنَ النظر إِلى مَا لَا يحل يقابله الفعل المضارع الذي ينظر بمقتضاه إلى ما يحل فيه النظر أو التمتع في قول الله: ﵟوَفِيهَا مَا تَشۡتَهِيهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡيُنُۖ وَأَنتُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٧١ﵞ ﵝالزُّخۡرُف : ﵑﵗﵜ. ولذة الأعين فِي رُؤْيَةِ ما تنشرحُ لها النفوس من الأشكال والألوان الحسنة, فلذة العيون على ما تشتهيه الانفس إذ عطف بين الشهوة واللذة (ابن عاشور ,1997 م: ج25/ ص 255) فلا خيانة فيما تلذ به الأعين لأنه وفق مراد الله دون معصيته سبحانه .
وكمال المنة والنعيم الكريم والسعة بما يعده الله للمؤمنين الصالحين الذين يحفظون جوارحهم كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي – صلى اللَّه عليه وسلم- قال: قال الله : أَعْدَدْت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطَرَ على قلب بشر (مأمون حموش اللغوي، 1428 هـ – 2007 م: ج7/ص156) (أحمد بن حنبل , 1421 هـ – 2001 م : ج13/ ص489)(السيوطي , 1416هـ ـ 1996م : ج2/ ص 376)
وبما أن الآية ابتدأت بالفعل فالمعلوم أن الِاسْم يدلُ على الثبوت والاستمرار، ويدل الفعل عَلَى التجدد والحدوث وَلَا يَحْسُنُ وَضْعُ أَحَدِهِمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ, وهذا من أسرار تقدم الفعل مما يفيد الحدوث خلافًا لما يفيد الثبوت (عبد الله علي الهتاري, ص: 20)
المطلب الثاني : دلالة خائنة من الأصل (خَوُنَ)
تعود دلالة الاسم أو المصدر (خائنة) من الأصل (خَوُنَ), الذي جاءَ من أصلٍ واحد
فالْخَاءُ وَالْوَاوُ وَالنُّونُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ التنقصُ , يقال خَانَهُ يَخُونُهُ خَوْنًا. وهو نُقْصَانُ الْوَفَاءِ, وَيُقَالُ تَخَوَّنَنِي فلانٌ حَقِّي، بمعنى تَنَقَّصَنِي, ويمثل ذلك في قَول ذُو الرُّمَّةِ:
لَا بَلْ هُوَ الشَّوْقُ مِنْ دَارٍ تَخَوَّنَهَا … مَرًّا سَحَابٌ وَمَرًّا بَارِحٌ تَرِبُ (أبن فارِس، 1423 هـ ـ 2002م:ج2/ ص231)
وخون مصدره خان بخون خونا وخينة, ولفظ الخوان أعجمي مُعرب (أبن دريد الأزدي، 1987م :ج1/ ص622)
وقد يحمل الفعل خانَ معنى إضافيًا وهو الغل , قال الزجاج :غَلَّ الرّجُلُ يَغِلّ إذا خان وذلك إذا أخذ الشيء في خفاء (أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري ، 2001م: ج8/ص 22)
ويقال للأسد (خائنُ العينِ), فالخون فترة في النظر ولذا سمي الأسدُ خوانًا, وخائِنةُ الأَعْيُنِ: مَا تُسارِقُ مِنَ النَّظَرِ إِلى مَا لَا يَحِلُّ, وهو ما جاء في أي التنزيل العزيز:(خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ) (ابن منظور :ج13/ ص 145)
ويقال: خانَ الرجلُ الأمانةَ يخونها , وهو يتعدى بنفسه, ونقول : خانَ العهدَ فهو خائن , وخائنة مبالغة قيل كسر الطرف بالإشارة الخفية, وقيل أن خائنة هي النظرة الثانية وتكون بتعمد, ويفرق بين من يوصف بالخائن والسارق بأن الأول ما جُعل عليه أمينًا, والثاني من أُخذ خفية من موضع يكون ممنوعَا من الوصول إليه (أحمد بن محمد بن علي الفيومي الحموي، أبو العباس:ج1/ص 184)
فيكون الخائنُ من ارتكب النظر على وجه الخفية, ومما دل على هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم «مَا كَانَ لنَبيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأعيُنِ» الذي يضمر في نفسه غير ما يظهر, ومن كف اللسان دون العين فقد خان, أما في عينه فقد خان وعلى ذلك تسمى (خائنة الأعين), والمسارقة في النظر خيانة, وَهِيَ مِنَ المَصادرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى لَفْظِ الْفَاعِلِ، كالعافيةِ, وعلى غرار ذلك رد شهادة الخائن والخائنة , وفصل أبو عبيد بأن الخيانة لَا تخَصَّ الخِيَانَةَ فِي أماناتِ النَّاسِ دُونَ الذي افْتَرضَ اللَّهُ عَلَى عِبادِه وائْتَمنهم عَلَيْهِ لذا قال تعالى: ﵟ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ ٢٧ﵞ ﵝالأَنفَال : ﵗﵒﵜ, فكان ارتكاب الخيانة نقصٌ في الأمانة (ابن الأثير 1399هـ – 1979م: ج2 / ص 89)
والعَيْن سُمِّيت خَائِنَة الأَعين، والخَائِنَة: الخِيانَة كالخَاصَّة بمعنى الخُصُوصِ (المديني،:ج1/ ص627)
وأما ما وردَ على بناءِ (فاعِلة) وأُوّل بالمصدر لفظُ (خائنِة) في سورة غافر بقوله: ( يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ), وتنوعت الأقوال فذكر أبو حيان الأندلسي: الجواز بكون (خائنة) مصدرا كالعافية والعاقبة , على معنى: يعلم خيانة الأعين، وعندما كانت الأفعال التي ينوى بها التكتم أفعالٌ بدنية فأخفاها خائنة الأعين من ذلك كسر جفنٍ وغمز ونظر وبها يفهم منه معنى ويريد صاحبها معنى آخر, والذي جوّزَ إبقاء (خائِنة) على بناء اسم الفاعِل فذلك على تقدير صفة لموصوف محذوف , وذلك على دلالّة لفظ الأعين على معنى: يعلم نظرة الأعين الخائِنة. ( الأزهري, 2001م: ج7/ ص 238 ) (أفراح عبد علي كريم الخياط – 1424 ه- 2003: ص 55)
ويشتمل معنى خائنة الأعين: أنها هي النظرة المُريبة أو أنها المختلسة، وذلك باستراق النظر إلى ما لا يحلّ (أحمد مختار عمر، 1429 هـ – 2008 م: ج1/ ص 709)
والمتأمل لفظ (خائِنة) على نفس الوزن أَيْ: عَلَى خِيَانَةٍ، فَاعِلَةٍ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَالْكَاذِبَةِ وذلك في قوله تعالى : ﵟ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ ١٣ﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵓﵑﵜ , أي فرقة منهم, والتي قال فيها ابن عباس رضي الله عنه : (خائِنة)أي على معصية, وهذه المعصية بخيانتهم ونقضهم العهد ومظاهرة المشركين على حرب رسول الله وهمُهم بقتله وسمه إلا قليلاً منهم ممن أمنوا من أهل الكتاب, فعبر عن الخيانة بنقض العهد وهو معنى إضافي لا الاختلاس في النظر (البغوي ,1420 هـ . :ج3/ص 31)
وأفاد الفعل (لا تزال تطلع) يدل على استمرار المضارع فهو في قوة أن يقال: يدومُ اطلاعك وهو مجاز مشهور في العلم بالأمر وكناية عن المطّلَع عليه فما زالوا يخونون وتطلع عليهم, فالخيانة مرصودة بعلم الله (محمد الطاهر بن عاشور ,1997 م.ج6/ ص 144)
وقيل في تصريف النظر , النظرة نظرتان في قوله: ﵟ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ ١٣ﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵓﵑﵜ، النظرة الأولى فليس فيها شيء، وأما الثانية فعليه مأثمها وقوله: (وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ ) هو ما ذكر الله بقوله: ﵟ يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ ١٩ﵞ ﵝغَافِر : ﵙﵑﵜ ، يذكر هذا ليكونوا أبدًا مراقبين أنفسهم، حافظين لها عما لا يحل ليوافق قول الله : ﵟإِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا ٣٦ﵞ ﵝالإِسۡرَاء ﵖﵓﵜ ، ويلزم الحذر(أبو منصور الماتريدي ، 1426 هـ – 2005 م: ج9/ ص16)
وقد يجمع النظر في (الخفاء والذلة والخلسة) معنيين معنى (الخيانة) وصورها ومعنى الخوف والترقب, وذلك في قوله: ﵟ يَنظُرُونَ مِن طَرۡفٍ خَفِيّٖۗ ٤٥ﵞ ﵝالشُّورَى : ﵕﵔﵜ
فقال بعض أهل العلم معناه أن النظر ذليل وكأنه خفي من ذلة, وقيل أنهم يسارقون النظر, أو لا يفتح عينيه إنما ينظر ببعضها, وقد صوبوا المعنى الذي ذكره ابن عباس ومجاهد بأنه النظر من طرف ذليل وصف بالذلة الذي ركبتهم حتى كادت أعينهم تغور(الطبري، 1421 هـ – 2001 م : ج8/ ص 384)
ومما يرجح في الشبه ما ذكره الزمخشري بأنّ يبتدئ نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة, وهكذا نظر الناظر إلى المكاره, وقيل أن النظر بالطرف الخفي أن يحشرون عمياً فلا ينظرون إلا في قلوبهم (الزمخشري ج4/ ص231) (ابن الجوزي, – 1422 هـ : ج4/ص 69).
وقيل ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عمياً والنظر بالقلب خفيّ (أبو حفص سراج الدين الحنبلي الدمشقي النعماني, 1419 هـ -1998م:ج17/ص 216)
الوجه الأخير وهو نظر القلب استبعده ابن عطية والزمخشري على أن الظرف يحتمل أن يريد به العين ( ابن جزي, 2012: ج2/ ص 252) لأن الأسلوب في التعبير عن مجازاة الله ومحاسبته للناس إذ ذاك، وفي التعبير عن عدم تمكن الكافرين والجاحدين يومئذ من المكر أو الكذب أو إخفاء الحقائق. (البوطي-, 1420 هـ – 1999 م, ص: 255)
المطلب الثالث التعريف في أصل (الأعين)
جاء في العين للخليل بأن العين النّاظرة لكلّ ذي بصر, ثم ذكر ما اشترك بالمعنى للعين وعَيْنُ الماء، وعَيْنُ الرُّكبة (الفراهيدي: ج2/ ص 254- 255)
والعِينُ: بَقَرُ الوحش وهو اسم جامع لها كالعِيس للإبل, ويُوصَفُ بسَعَةِ العَيْنَ، فيقال: بقرة عَيْناءُ وامرأة عَيْناء، ورجلٌ أَعْيُنَ، ولا يقال: ثورٌ أَعْيُنُ.
وفي المقاييس أصل(عَيَنَ) وَاحِدٌ صَحِيحٌ من الْعَيْنُ وَالْيَاءُ وَالنُّونُ يَدُلُّ عَلَى عُضْوٍ يُبصرُ به ويُنظرُ، ومنه يُشتقُ , وَالْأَصْلُ فِيه ما تقدم (ابن فارِس، 1423 هـ ـ 2002م: ج4/ص 199)
وتطلق العين على كل ذي بصر من الناس والحيوان, وفي الحديث عن النبي عليه السلام: « في العينين الدية » (نشوان بن سعيد الحميرى اليمني, 1420 هـ – 1999 م: ج7/ص 4847)
ويطول وصف معاني العين إذ تبلغ سَبْعةٌ وأَرْبَعُونَ معْنًى مِن معانِي العين لأن مايخصنا في هذا المقام ( الأعين الخائنة) (الزَّبيدي :ج35/ص 450)
المطلب الرابع دلالة الجموع في (أعين)
قد تنوب دلالات الجموع في أسما مختلفة, ومنها هذا المقام لتؤدي معنى أبلغ مما لوجاءت على عادتها كثرة أو قلة.
إذ يرى المبرد أن القول فِي : (عين أعين) أنه جاء على الأصل مثل كلب وأكلب وأعيان على الْبَاب كقول الشَّاعِر:
ولكنِّما أغدُو عليَّ مُفاضَةٌ … دلاصٌ كأعيانِ الجَرادِ المُنَظَمِ
وَقَالَ آخر:
فَقَدْ أرُوعُ قُلوبَ الغَانياتِ بِهِ … حتَّى يَملْنَ بأجيادٍ وأعْيَانِ (المبرد: ج2/ص 199)
وقد ينوب في كلام العرب للاسم في الاستعمال وزنان من جمع التكسير أولها للقلة ويكون الثاني للكثرة ويستعمل أحدهما مكان الآخر، مثل جمع قلة على وزن أفعل:(أعين), وفي جمع كثرة على وزن فعول (عيون), ومع أن الغالب استعمال (عيون) مكان (أعين) للقلة والكثرة معا مثل
: (أوجه، وجوه) (د. عزيزة فوّال بابستي1413 هـ (ج2/ ص1137- 1138)
المطلب الخامس دلالة (ما) الموصولة في مقام الآية
جاء ذكر بالموصولات في التصريح للوقاد أن الموصول: ” هو في الأصل اسم مفعول من وَصَلَ الشيء بغيره إذا جعله من تمامه ” (الأزهري، زين الدين المصري، الوقاد 1421هـ- 2000م: ج1/ص 148)
ويبين السامرائي علة تسمية الأسماء الموصولة كما أسلف السابقون من النحويين أنها توصل الكلام بما بعدها فيكون هو من تمام معناها، لأن الأسماء الموصولة لا يتضح معناها فهي أسماء ناقصة الدلالة، إلا إذا وصلت بالصلة فإذا قلت (جاء الذي) لم يفهم ما المعنى المقصود، فإذا جئت بالصلة اتضح المعني المقصود والمراد بيانه (السامرائي- 1423هـ ـ 2003م: ج1/ ص119) فمن هذه الاسماء (ما) وهي محل التبيان ,إذ وردت (ما) الموصولة في سياقات كثيرة في كتاب الله سبحانه مع غيرها من الموصولات التي يستدعيها مقام السياق ويقضي معناها ونوعها . فورود (ما) في قول الله: (مَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ ), ولبيانها وأمثالها نجد سيبويه يخص ويقرن من الاسماء الموصولة (من وما) التي نخص (ما) بالبحث فقال: وتكون (من), للمسألة عن الأناسي، ويتم بها الجزاء للأناسي، وتكون بمنزلة (الذي) للأناسي, , وأما (ما ) فهي مبهمة تقع على كل شيء ( سيبويه، 1408 هـ – 1988 م: ج4/ص228) (السامرائي- 1423هـ ـ 2003م: ج1/ ص131)
ويبدو أن (ما) من الاسماء الموصولة التي خُصت بما خُصت أخواتها من أغراض أهمها: (الإبهام) عندما تريد إبهام الذات أو الشيء عن السامعين (السامرائي- 1423هـ ـ 2003م: ج1/ ص131120)أو(استهجان) التصريح بالاسم فيؤتى بالذي ونحوه موصولا بما صدر منه من فعل أو كقوله تعالى : ﵟ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْۚ ٦٩ﵞ ﵝالأَحۡزَاب : ﵙﵖﵜ
، أو كقولك: (لقد فعل فلان ما فعل) فلم تذكر الِفعْلةَ وذلك استهجانا لها, أو يكون(التعظيم)؛ وذلك بأن تذكرهُ بصلته المعظمة وقد يكون (للتحقير) كقولك:(هذا الذي شتم أباه), وقد يفيد (التفخيم) ومنه قوله: ﵟ فَغَشِيَهُم مِّنَ ٱلۡيَمِّ مَا غَشِيَهُمۡ ٧٨ﵞ ﵝطه : ﵘﵗﵜ {فغشيهم من اليم ما غشيهم} [طه: 78]، وقوله: ﵟ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَآ أَوۡحَىٰ ١٠ﵞ ﵝالنَّجۡم : ﵐﵑﵜ , وقد يكون (للإختصار) (السامرائي- 1423هـ ـ 2003م:ج1/ ص120) , ونرى من هذه الاغراض ما يتشاكل مع اتساع معنى(ما) الموصولة في سياقاتها خلافًا لغيرها من الموصولات في مقام ما تخفي الصدور خيرًا او شرًا .
وللاسم الموصول (ما) اغراض تختص بها وهي أنها تقع على ذوات ما لا يعقل، وعلى صفات من يعقل، فمن الأول قولك (آكل ما تأكل) وقوله تعالى: ﵟ وَأَلۡقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلۡقَفۡ مَا صَنَعُوٓاْۖ ٦٩ﵞ ﵝطه : ﵙﵖﵜ ، فما كان في يمينه العصا، والذي صنعوه أفاعيهم المتخيلة وهذا لغير العاقل, أما الثاني في وقوعها على صفات من يعقل قوله عز وجل: ﵟ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ ٣ﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵓﵜ، قالوا أي الطيب منهن (ابن يعيش:2/ 380) (السامرائي- 1423هـ ـ 2003م:ج1/ ص120)
ويحتمل في (ما) اشتمالها على النكرة والمعرفة في بعض سياقاتها ، فالمعرفة هي ما كانت موصولة, والنكرة يجيء (ما) بمعنى(شيء) ، وإمّا موصوفة بمعنى شيء نحو (أعطيته ما سُرّ به) أي شيئًا سُرّ به، أو الذي سرّ به وكقوله تعالى: ﵟ وَقَالَ قَرِينُهُۥ هَٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ٢٣ﵞ ﵝق : ﵓﵒﵜ، فهذا يحتمل المعرفة والنكرة, وَكذلك إِنْ حَسُنَا مَعًا جاز الأمران كَقَوْلِهِ تعالى: ﵟ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ ٤٨ﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵘﵔﵜ: ( رضي الدين الاستراباذي, 1395 – 1975 م :ج4/ ص250)(السيرافي:2/ 437) (الزركشي:(4/ 398) (السامرائي- 1423هـ ـ 2003م: ج1/ ص132)
وقد أخذت (ما) مدى أو منحًا صوتيًا يوافق استعمالها عبر مد الألف المتسعة في آخرها, وهذا ما تشاكل بالاتساع في معناها خلاف (من) المقيدة بالسكون بأولي العلم, فمن هنا لا تخلو من الإبهام لعلة المد والاتساع في هواء الفم ومشاكلة الاتساع في المعنى , فإنَّ المعنى لمعين ممن يعقل قصروها عليه وابدلو الألف نونًا ساكنة فصارت (منْ) فذهب امتداد الصوت فصار قصر اللفظ موازنًا لقصر المعنى كما جاء في بدائع الفوائد (ابن القيم الجوزية, 1416هـ – 1996م:1/ 131) (السامرائي- 1423هـ ـ 2003م:ج1/ ص131)
المطلب السادس تمكّن المفردة القرآنية (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) في السياق ومقام الآية
لخصوصية الانتقاء القرآني الأثر في تفرد الكلمة ودقة معناها الخاص وتعود هذه الخصيصة في هذا إلى السياق القرآني, فالترادف إن وجد في اللغة فهو بعيدٌ ولا يقع مع تهذيب التعبير القرآني, لتمكن اللفظ من معناه وسياقه, كما لا يقع في ألفاظ كثيرة تماثلها في القرآن (أحمد ياسوف، 1419 هـ ـ 1999م: ص 74 ).( محمد ياس خضر الدوري, 2005م: ص24)
إنّ الله سبحانه مطّلعُ فيما يكسبه الإنسان ويجترحه سواء كان بجوارحه أو وساوسه الخفية أو بنفسه, إذ عبّر البيان القرآني بأدق وصف لها بأنها النظرة المريبة بخائنة الأعين أي تلك الأعين الخائنة, ومر هذا المعنى عبر معنيين الأول: اسم فاعل الخائنة, أو بمعنى خيانة الأعين على كونها كالمصدر من العاقبة أو العافية التي مر تفصيلها، كأنها تخون صاحبها فتنم عمّا أضمر في نفسه، وتخون الحق والأمانة إذ تغمز وتسترق النظرة المحرمة(البوطي- 1999 م : ص 255)
ويستشهد بمشهد خيانة العين في القران(ۡيَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ) ولا نكتفي باستقلال القرآن بهذه الصيغة إنما نريد التوصّل إلى أبعادها الجمالية, كما تفرد لفظ(فزّع) في قول الله: (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ (سبأ 23) فانظر وتأمل غرابة فصاحتها، لتعلم أن الفكر لا يكاد يقع عليها لدقة جمالها في موضعها, ولعلّ جمال (خائنة) يكمن في صيغتها على اسم الفاعل، حينما هي تدلّ على الحركة أكثر من الاسم، وكذلك تفيد الكثرة في استمرارها (أحمد ياسوف، 1419 هـ ـ 1999م.: ص301-302)
المتأمل للفظ (خائنة) المنتهي بالتاء دون القول باسم الفاعل للتاء المتصلة بالمصدر أثر دلالي لا نجده في المجرد منه , ونظير ذلك ما مثله أبو هلال العسكري في جمال وجود (مرضعة) في سياق: ﵟ يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ ٢ﵞ ﵝالحَج : ﵒﵜ من ناحية العطف من الام, أما الزمخشري فقد تسائل لبيان الفرق أنه لِمَ لمْ يقال: مرضع وقيل : مرضعة لأن المرضع في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي, أما المرضع التي من شأنها أن تُرضع فإن لم تباشر لدلالة الهول التي ألقمتْ ثديها ونزعته لما جاءها وما لحقها من الدهشة ولِما لها من فاعلية كبرى تناسب الهول (أحمد ياسوف، 1419 هـ ـ 1999م ص: 244) فكذلك فإن الله عالمٌ بخفايا خيانة العين وحال تلبسها المذموم .
وقد ترى تميزًا جليًا في لفظة(خائنة) عن سارقة أو بائقة أو خافيه وغيره, ومثال ذلك فيما يعضد تمكن اللفظة, فمما تأوله الرافعي في قول الله: ﵟ أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلۡأُنثَىٰ ٢١ تِلۡكَ إِذٗا قِسۡمَةٞ ضِيزَىٰٓ ٢٢ﵞ ﵝالنَّجۡم : ﵑﵒ-ﵒﵒﵜ, فما حشُنت إلا في موقعها فكانت غرابة اللفظ أشد ملائمة , ونرى مثل هذا بأبلغ صوره في سياق (خَائِنَةَ) والله اعلم (أحمد ياسوف، 1419 هـ ـ 1999م. ص: 291)
المطلب السابع: الصورة البيانية في (خيانة الأعين) في مقام الحساب
تقدم على سياق العلم بخائنة الأعين حدث جلل تبعثرت به القبور وخرج ما في الصدور في قوله: ﵟ وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡأٓزِفَةِ إِذِ ٱلۡقُلُوبُ لَدَى ٱلۡحَنَاجِرِ كَٰظِمِينَۚ مَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ حَمِيمٖ وَلَا شَفِيعٖ يُطَاعُ ١٨ يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ ١٩ وَٱللَّهُ يَقۡضِي بِٱلۡحَقِّۖ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَقۡضُونَ بِشَيۡءٍۗ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ٢٠ﵞ ﵝغَافِر : ﵘﵑ – ﵐﵒﵜ .
على أن الأزفة هي القريبة أو العاجلة القيامة ويُصور لنا كأنها مقتربة زاحفةً والانفاس مكروبة, يرافقها ضغط على الحناجر وهم كاظمون لما يجول في أنفاسهم وآلامهم, إذ يكربهم الكظم ويثقل صدورهم (سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي (ت 1385هـ) ، – 1412 هـ : ج5/ ص 3075 )
ولعظم هذا اليوم على حد وصف وسرد سورة غافر(سيد , 1412 هـ : ج5/ ص 3064 ) ﵟ وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡأٓزِفَةِ إِذِ ٱلۡقُلُوبُ لَدَى ٱلۡحَنَاجِرِ كَٰظِمِينَۚ مَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ حَمِيمٖ وَلَا شَفِيعٖ يُطَاعُ ١٨ ﵞ ﵝغَافِر : ﵘﵑ ﵜ
ومراد التذكير بالقيامة وأهوالها, كذا في قوله: ﵟ وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡحَسۡرَةِ إِذۡ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ وَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ ٣٩ﵞ ﵝمَرۡيَم : ﵙﵓﵜ , وكذا قوله: ﵟ أَزِفَتِ ٱلۡأٓزِفَةُ ٥٧ﵞ ﵝالنَّجۡم : ﵗﵕﵜ
من تأمل الإشارة لذلك اليوم ومواقفه المختلفة, فقد تختلف الإشارات في الآيات مع وحدة الموقف أو اختلاف العبارة والاختبار لاختلاف المقاصد والمواطن كما في قوله تعالى: ﵟ فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلَآ أَنسَابَ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ وَلَا يَتَسَآءَلُونَ ١٠١ﵞ ﵝالمُؤۡمِنُون : ﵑﵐﵑﵜ, وقوله: ﵟ وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسۡـُٔولُونَ ٢٤ﵞ ﵝالصَّافَّات : ﵔﵒﵜ, وقوله: ﵟ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُسۡـَٔلُ عَن ذَنۢبِهِۦٓ إِنسٞ وَلَا جَآنّٞ ٣٩ﵞ ﵝالرَّحۡمَٰن : ﵙﵓﵜ. ويتأكد موقف أهل الجنة على عملهم وفرحهم بذلك وحسرة أهل النار( ابن الزبير :ج2/ص327) وحينئذ تبرز في هذه الموقف (خائنة) أي الخيانة المذمومة في النظر الذي جاء الأمر والنهي عنه بقول الله: ﵟ قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ ٣٠ وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ ٣١ﵞ ﵝالنُّور : ﵐﵓ – ﵑﵓﵜ, وفي الحديث: “ابن آدم! لك أول نظرة وإياك والثانية” , وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه: “يا عليّ! لا تتبع النظرةَ النظرة. فإن لك الأولى وليس لك الآخرة ” (المودودي: ج1/ 82), وفي هذا الموقف لا يجدون حميمًا يعطف ولا شفيع, وهم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء حتى لفتة العين وسر الصدر المستور (سيد قطب , 1412 هـ : ج5/ ص 3074 )
ويصور الحال في خائنة الأعين بصور واشارات في التقصير لحاسة النظر على أن الخائنة في منظور المقصرين مع الله حينما تأخذ السِنة والسبات أوقات المناجاة مع الحي القيوم كما جاء في قصة داوود : «كذب من ادّعى محبتى وإذا حبّه الليل نام عنّي ) أو أن خائنة الأعين عند العارفين حينما يكون لهم ما يشير لهم خبرقلوبهم عما تقع عليه عيونهم, وهذان موقفان للخائنة بين التقصير في مناجاة الله, أو صرف النظر لغير طاعة الله , أو النظر لغير المحبوب بأي وجه كان, ففي الخبر: حبّك الشىء يعمى ويضم, وَما تُخْفِي الصُّدُورُ فالحقّ به خبير (القشيري :ج3 / ص 303 )
وبهذا التصوير العجيب، في عِظم علم الله بالغيب، وأحاطته بكل شيء يقف الحس مشدوها يخفق تحت وقع هذه اللمسات البيانية العميقة في التصوير البياني القرآني, وتحت هذه الإيحاءات الصوتية العجيبة يقف المتدبر وهو يقفو مسارب علم الله، ومواقعه وهو يتتبع الحمل المكنون في الأرحام، والسر المكنون في الصدور في قوله : ﵟ يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ ١٩ ﵞ ﵝغَافِر : 19ﵜ
فيتبع الحركة الخفية في جنح الليل وسروب النهار، ومع كل مستخف، وكل سارب، وكل جاهر، وكل هامس, إلا أن هذه المواقف الرهيبة الخاشعة لا تملك النفسُ معها إلا أن تلجأ إلى الله خاشعة منيبة ( محمد بن سعد الدبل :1431 هـ – 2010 م: ص: 97)
الخاتمة
تنوعت دلالات الجملة في القرآن الكريم بحسب تراكيبها الفعلية والاسمية, وتحددت معانيها ودلالاتها عبر السياق والمقام والتي تتلخص بنتائج عدة منها :
1- دلالة الأفعال بما يتناسب مع مقام الحال فلعلم المشتق من العلم (يعلم) أوسع من المعرفة وكذا الخفاء أعم من الستر فكل لفظ من الأفعال له وقعه في الحدث الذي سيق له .
2- مناسبة الأفعال المضارعة لصور التجدد, وأثرها في مراقبة الله بعلمه بالأفعال والأقوال وما خفي ودق من عمل صالح أو طالح .
3- تعدد دلالات الاسم في الآية بمعانٍ عديدة فتناسب نقصان الوفاء فيمن أُتمن فخان, فيؤخذ من دلالة (خائن) دلالة المبالغة, كذلك تعديه بنفسه, فتنوعت صياغته فتارة ينسب للمصدر وتارة جوزوه اسم فاعل على تقدير حذف صفة الموصوف.
4- يتشاكل أو يتقابل حال بحال في مقارنة أفعال النظر, فالنظر في الخيانة أو ما يشابهها من المعاصي يقابل أفعال النظر في مقام الحساب, فنظر الطرف الخفي الذليل في مقام الجزاء هو جزاءٌ لما أسلف من تعدي خيانة النظر أو ما يماثله من المعاصي .
5- تتناسب أساليب الجموع في العربية لتأدية معنى أبلغ مما يوضع له بالأصل في القلة أو الكثرة, وهذا استعمال مشهور في القرآن وكلام العرب .
6- تفيد الاسماء الموصولة الإبهام أو العموم, فمقام (ما) في الآية ذو دلالة غلى الإحاطة بكل ما تعلق بصلة الموصول في أي سياق .
7- زيادة المبنى على المعنى متحقق في التاء المتصلة ب(خائنة) فالتاء الملحقة بالمصدر دلت على تحقق الحدث والثبوت فيها , وهذا ما يتحقق في تمكن اللفظ في موضعه وهو سر من أسرار تراكيب القرآن .
8- يحتمل سياق الخيانة معانٍ, أما معنى خيانة العين لصاحبها في مقام صرف النظر لما حرم الله أو ما لا يرضي الله, أو عبر الإشارة لمنظور التقصير بالنوم عن القيام بين يدي الله.
الإتقان في علوم القرآن: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت911هـ)، تحقيق: سعيد المندوب- دار الفكرـ لبنان، ط1، 1416هـ ـ 1996م.
البحث الدلالي في نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي (ت: 885 هـ): عزيز سليم علي القريشي, آب 2004 م … جمادى الآخرة 1425هـ, إشراف الأستاذة المساعدة الدكتورة: لطيفة عبد الرسول عبد.
بدائع الفوائد: محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله الشهير بـ (ابن القيم الجوزية) (ت752هـ)، تحقيق: هشام عبد العزيز عطا ـ عادل عبد الحميد العدوي ـ أشرف أحمد، مكتبة نزار مصطفى الباز ـ مكة المكرمة، ط1، 1416هـ – 1996م.
البرهان في علوم القرآن: أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (ت: 794هـ), تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم , ط:1، 1376 هـ – 1957 م – دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه.
تاج العروس من جواهر القاموس: محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض الملقّب بمرتضى الزَّبيدي (ت1205هـ)، دار الفكر – بيروت.
التحرير والتنوير: الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (ت1393هـ)- دار سحنون للنشر والتوزيع- تونس، 1997 م.
التسهيل لعلوم التنزيل: أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبلي الغرناطي (ت: 741هـ),الشارقة , المنتدى الاسلامي, 2012, اعتنى به : ابو بكر عبدالله سعداوي.
تفسير الماتريدي (تأويلات أهل السنة): محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي (ت333هـ)، تحقيق: د. مجدي باسلوم- دار الكتب العلمية – بيروت، لبنان، ط1، 1426 هـ – 2005 م.
تهذيب اللغة: أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري(ت370هـ)، حققه: محمد عوض مرعب- دار إحياء التراث العربي – بيروت, دمشق، ط1 ، 2001م.
1999م.
جمهرة اللغة: أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت: 321هـ), تحقيق: رمزي منير بعلبكي- دار العلم للملايين – بيروت, ط:1، 1987م.
دقائق الفروق اللغوية في البيان القرآني: د. محمد ياس خضر الدوري، أطروحة دكتوراه في جامعة بغداد، كلية التربية (ابن رشد)، 2005م.
دلائل الإعجاز في علم المعاني: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني(ت:471هـ)، تحقيق: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة ـ دار المدني بجدة، ط3، 1413هـ ـ 1992م.
زاد المسير في علم التفسير: عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (ت:597هـ)، المكتب الإسلامي – بيروت، ط3، 1404هـ.
شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في النحو: خالد بن عبد الله بن أبي بكر بن محمد الجرجاويّ الأزهري، زين الدين المصري، وكان يعرف بالوقاد (ت: 905هـ) -دار الكتب العلمية – بيروت-لبنان, ط:1, 1421هـ- 2000م.
شرح الرضي على الكافية لابن الحاجب: تأليف الشيخ رضي الدين محمد بن الحسن الاستراباذي النحوي 686 هـ, تحقيق وتصحيح وتعليق: أ. د. يوسف حسن عمر, 1395 – 1975 م
العين: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت:175هـ)، تحقيق: د.مهدي المخزومي ود.إبراهيم السامرائي- دار ومكتبة الهلال.
في ظلال القرآن: سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي (ت 1385هـ) ، دار الشروق – بيروت – القاهرة ، ط / 17 ، – 1412 هـ .
الكتاب لسيبويه: عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب سيبويه (ت: 180هـ) , تحقيق: عبد السلام محمد هارون, مكتبة الخانجي، القاهرة, ط: الثالثة، 1408 هـ – 1988 م.
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي (ت:538هـ)، تحقيق : عبد الرزاق المهدي- دار إحياء التراث العربي – بيروت.
اللباب في علوم الكتاب : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني (ت: 775هـ), تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض: دار الكتب العلمية – بيروت / لبنان , ط:1، 1419 هـ -1998م.
لسان العرب: محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري (ت:711هـ)- دار صادر– بيروت، ط1.
لطائف الإشارات – تفسير القشيري: عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (ت: 465هـ), تحقيق: إبراهيم البسيوني: الهيئة المصرية العامة للكتاب – مصر, ط :3.
معالم التنزيل في تفسير القرآن تفسير البغوي: محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (تـ 510هـ) تحقيق : عبد الرزاق المهدي – دار إحياء التراث العربي – بيروت ، ط / 1 ، 1420 هـ .
معاني النحو: د. فاضل صالح السامرائي- دار الفكر للطباعة ـ عمان، ط2، 1423هـ ـ 2003م.
ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل: أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي، أبو جعفر (ت: 708هـ),وضع حواشيه: عبد الغني محمد علي الفاسي- دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان.
النهاية في غريب الحديث والأثر: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (ت: 606هـ), المكتبة العلمية – بيروت، 1399هـ – 1979م, تحقيق: طاهر أحمد الزاوى – محمود محمد الطناحي.
همع الهوامع شرح جمع الجوامع: جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي(ت:911هـ)، تحقيق: الدكتور عبدالحميد هنداوي، المكتبة التوفيقية ـ القاهرة، مصر.