قراءة في رواية (دلالة الفضاء في سيرة مدينة) لعبد الرحمن منيف
الطويل عبد العزيز1
1 كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، القنيطرة -المغرب
بريد الكتروني: ettouil.abdellaziz@gmail.com
DOI: https://doi.org/10.53796/hnsj63/20
المعرف العلمي العربي للأبحاث: https://arsri.org/10000/63/20
الصفحات: 355 - 376
تاريخ الاستقبال: 2025-02-07 | تاريخ القبول: 2025-02-15 | تاريخ النشر: 2025-03-01
المستخلص: هدف هذا البحث الى تقديم قراءة لمتن عبد الرحمن وقد حاول الباحث التركيز على بعض الأمكنة المثيرة والفاعلة في النص الكشف عن مغاليق النص وكذا إبراز القيم الاجتماعية والأخلاقية والنفسية والإنسانية بشكل عام لمدينة عمان خلال فترة الأربعينات. وهذه الأمكنة التي تطرق لها الباحث لها اكتسبت ثقلها الدلالي من خلال احتضانها لتجارب عاشها المؤلف والذين زامنوه كما انها ارتبطت بأحداث هامة عرفتها المرحلة، فكانت بذلك بمثابة بؤرة لتصريف مواقف الشخصيات. وقد استطاع منيف بشكل ملفت للنظر أن يعبر عن مقاصده من خلال تقديمه لمجموعة من الفضاءات التي ظلت موشومة في ذاكرته (الكتاب، المدرسة، الكلية، الصيدليات، المستشفيات، السوق، دكان عبيدان، الفصول، المدينة،...) وقد جعلها تساهم في توليد معاني جديدة ولم يوظفها فقط لتأدية ذاك الدور التقريري. ومن مميزات هذا النص ايضا استثمار منيف لمجموعة من التيمات التي أصبح لها وزنها في إطار المناهج الحديثة والعلوم الإنسانية - تيمة اللباس والموت، تقاليد، عادات تحليلات سياسية دقيقة للصراع الكلاسيكي الدائر في المنطقة (العربي / الإسرائيلي).
الكلمات المفتاحية: رواية، عبد الرحمن منيف، مدينة عمان.
تقديم:
من أجمل ما تنعم به الكتب الأدبية بشكل عام والروايات بشكل خاص هو ذلك الاستقبال الجميل على حد تعبير روبرت هانز الذي يمنح للقارئ دور الجراح لجسد النص والمحلل لمضامينه المعلنة والمضمرة. ولقد تكون هذه المضامين، على أشكالها المتشعبة بمثابة نواقيس مرتبطة ببعضها كلما تحرك ناقوس من بينها صدحت النواقيس الأخرى بسيمفونية متكاملة النغمات والرنات لتتناثر معها أحاسيس القراءة مثل باقات الورود المتساقطة على عروس في حفل زفافها.
فالشخصيات لوحدها لا تصنع الأحداث إلا من خلال تموقعها داخل أمكنة وأزمنة معينة . أما عن الزمان فقد يكون محددا، مبهما أو حتى متخيلا، لكن الحديث عن الأمكنة هو حديث بشجون خاص لأنه يصنع حلاوة الرواية وتفاصيلها الصانعة للتموج البديع.
فالفضاء هو المرتع وهو المنبت ، إنه أصل الأشياء بلغة دافيد ليبز، وهو الذي يمنح للرواية طقوس الصعود والنزول، الثبات والتغير، الحركية والجمود، الصمت و الضجيج. ويسعى هذا المقال الماتع إلى الخوض في دواليب الفضاء الروائي من خلال طرح فرضية الفضاء المؤنسن الذي يختزن الأفراح والأقراح في زمرة من الذكريات الصانعة للحدث الإنساني، داخل رواية لا تشبه في صنعها لهذا الحدث الروايات الأخرى الموسومة بالاستعراض فحسب والمتمنعة عن القارئ الفطن والحذق.
هذا القارئ الفطن هو الذي يجسد خطواته الباحث الألمعي الدكتور عبد العزيز الطويل الذي استطاع بحنكة الجراح لرواية “سيرة مدينة ” لعبد الرحمان منيف أن يحقق نموذجا فريدا من التشخيص الدقيق لتمثلات الفضاء وأن يبني دلالة كبرى تتجاوز لغة التنميط والأعراف التأويلية الشائعة، وذلك بضمانة بروفايل المتخصص السوسيولوجي والأنتربولوجي العارف برموز الأمكنة ومعاني الأرصفة والأحياء والدروب والأزقة والحارات والمؤهل لفك شفرات الفضاء الناطق أو الصاخب أو الساكن .
إن نص المقال الذي بين أيدينا هو تجلي واضح لفكرة الفضاء المؤنسن الغاص بالمعاني والرموز. وإذا كان هكذا وهو حتما هكذا، أليس من الإبداع الحقيقي توفير شرطه هذا لتكتمل وصفة النجاح و علامة الدقة فيه؟
كريم بوكرين
أستاذ متخصص في اللغة والتواصل وعلم الاجتماع بجامعة ابن طفيل ،القنيطرة المغرب
الفصل الأول: مفهوم الفضاء وعلاقته بالبنيات السردية:
أولاً: مفهوم الفضاء
قبل الشروع في تحديد مفهوم الفضاء والحديث عن كيفية اشتغاله وعلاقته مع باقي البنيات السردية الأخرى لا بد من أن نضع تمييزا بين مفهومين كثيرا ما يقع الخلط بينهما: المكان والفضاء. فالمكان لغويا يقصد به اسم مكان … صيغة تدل على مكان وقوع الفعل ([1])، ويقصد بالفضاء:
المكان اتسع او ما اتسع من الأرض ([2])
وتقابل كلمة ESPACE بالكلمات فضاء، حيز، فسحة … ([3])
في حين تقابل كلمة LIEU بالكلمات مكان، موضع، محل، حيز، مقام ([4]).
أما اصطلاحا عني بالمكان الحيز الضيق المحدود المنغلق تقول ”سيزا قاسم” بانه
الإطار الذي تقع فيه أحداث الرواية ([5])
أما الفضاء فقد عرفة ‘حميد الحميداني’ بقوله:
مجموعة الأمكنة التي تقوم عليها الحركة الروائية المتمثلة في سيرورة الحكي وبالتالي فهو أكثر اتساعاً وشمولية من المكان ([6])
لقد وقع الاختيار على المكان أو الفضاء الروائي بوصفه عنصرا شكليا فاعلا في الرواية لما يتوفر عليه من أهمية كبرى في تأطير المادة الحكائية وتنظيم الأحداث والحوافز، وكذلك بفضل بنيته الخاصة والعلائق التي يقيمها مع باقي مكونات الخطاب الروائي ورغم أهمية المكان يلاحظ قصور على مستوى دراسة تمثله في النص الروائي. في حين نلاحظ اهتماما متزايدا بمنطق الأحداث ووظائف الشخصيات وزمن الخطاب ولا توجد أية نظرية للمكان الروائي باستثناء بعد الإشارات العابرة.
إلا أننا نسجل أهمية بعض الدراسات التي استطاعت ملامسة موضوع المكان وتجدر الإشارة هنا إلى الفيلسوف غاستون باشلار Gaston Bachelard من خلال دراسته ”شعرية الفضاء”، La poétique de l’espace والتي ترجمها إلى العربية الروائي’ غالب هالسا، تحت عنوان ”جمالية المكان”،
ويعتبر باشلار:
أن العمل الأدبي حين يفتقد المكانية فهو يفتقد خصوصيته وبالتالي أصالته. ([7])
لان التعبير عن المكان ليس تعبيرا عن رؤية أو تصور فقط، ولكنه تعبير عن قيمة فنية في الصورة أيضا في نفس الإطار نذكر دراسة ‘يوري لوتمان’ y. lotman ”مشكلة المكان الفني ”التي وردت في كتابه” بناء العمل الفني ” La Structure du texte artistique” التي أبرز من خلالها اهمية هذا المكون في العمل الإبداعي كما ربط بين إحداثيات المكان وحقول معرفية اخرى سياسية، إيديولوجية، أخلاقية واجتماعية.
ونجد’ بورنوف Bourneuf ‘سنة 1978 ينحو نفس المنحى حيث أثار مسألة تشكيل المكان مقترحا الوصف وبطريقة دقيقة طوبوغرافية المكان ودعا ايضا إلى دراسة مظاهر الوصف والاهتمام بوظائف المكان في علاقاته مع الشخصيات والمواقف والزمن، ودعا أيضا إلى دراسة التعمق في قياس درجة كثافة أو حضور المكان هذا دون إغفال القيم الرمزية والإيديولوجية المرتبطة به. وتعتبر دراسة هنري میتران Mitterand.H رائدة حول كيفية اشتغال المكان في الرواية، ينطلق ميتران من حقيقة مفادها، أن هناك تطابقا بين المكان والشخصية، فمن وجهة نظره أن المكان يمتلك بالضرورة قيما اجتماعية وأخلاقية يفترض توفرها بالتأكيد في ساكنه او عابره.
ويؤكد هنري ميتران على أن أهمية عنصر المكان بقوله:
”ان المكان هو الذي يؤسس الحكي لان الحدث الروائي يحتاج الى مكان كما يحتاج الى شخصيه وزمن فالمكان هو الذي يمنح للخيال مظهر الحقيقة.”([8])
وتتجلى ايضا اهميه تشكيل الأمكنة في الرواية لأنها اصبحت عنصرا حكائيا بالمعنى الدقيق للكلمة وبؤرا يفسر على ضوئها النص عن طريق الاستفادة من المنطق والسيمائيات وسائر العلوم الإنسانية الاخرى وهكذا اصبحت الشعرية الحديثة تنظر الى الفضاء الروائي نظره جديده تغنيه وتغتني به مما اعاد له حضوره على مستوى التحليل والبحث.
كما يكمن دور المكان في تقريب المجردات إلى الفهم بواسطة تحويلها إلى محسوسات وفي هذا السياق يورد محمد سويرتي رأيا ل يمنى العيد ورد في كتابها ”في معرفة النص” يقول:
إن ثمة ظاهرة أخرى لها اهمية كبيرة بالنسبة إلى تشكيل عالم الرواية وهي إضفاء البعد المكاني على الحقائق المجردة.([9])
ومن جهة ثانية ترتبط إحداثيات المكان بالقيم المجردة، فانطلاقا من مجموعة من الأنساق المكانية يمكن الظفر بوصف الواقع بدقة لنأخذ على سبيل المثال مفهومين مثل يمين / يسار وهما قيمتان مكانيتان نجد أنهما يوظفان في عدة مجالات وخصوصا السياسي والاخلاقي كما أن نماذج العالم الاجتماعية والدينية والسياسية تنضوي على إحداثيات مكانية مثل فوق / تحت ،السماء / الأرض … وقد تتحول هذه العلاقة إلى تضاد أخلاقي واقتصادي بين الطبقات يقول يوري لوتمان:
ومن ثم تصبح الأنظمة التاريخية واللغوية القومية للمكان عمادا ينتظم حوله بناء ‘صورة للعالم’ وتكون هذه الصورة نسقا إيديولوجيا متكاملا يتعلق بنمط معين من الثقافات وقد تكتسب الأنساق المكانية الخاصة التي يبدعها نص بعينه او مجموعة من النصوص دلالة من خلال وضعها في إطار ‘بنیة صور العالم هذه’ ([10])
من خلال هذه الفقرة يحاول لوتمان ابراز مساهمه الاحداثيات المكانية باعتبارها وسيله لرصد الواقع ورسم صورة عنه سياسيا اخلاقيا واجتماعيا…..
بل الاكثر من ذلك ان المكان بإمكانه الكشف عن نفسيه الشخصيات وهكذا يغدو المكان في الرواية بمثابه بؤرة ضرورية تدعم الحكي وتنهض به ويساهم في استكناه المسكوت عنه في النص وتفجير طاقاته الدلالية وهكذا سيتحول المكان الى عنصر اساسي وجوهري ويحدث قطيعه مع مفهومه كديكور وعلى هذا الاساس اصبح الفضاء الروائي عنصرا متحكما في الوظيفة الحكائيه والرمزية للسرد وذلك بفضل بنيته الخاصة والعلائق المترتبة عنها لذلك لا يمكن اعتبار المكان عنصرا زائدا في الرواية فهو يتخذ اشكالا ويتضمن معاني عديده بل انه قد يكون في بعض الاحيان الهدف من وجود العمل كله تحليلنا للفضاء الروائي يمكننا القبض على الدلالة الشاملة للعمل في كليته.
ثانيا: الفضاء وعلاقته بالبنيات السردية:
بعد هذا المدخل الموجز والمقتضب عن أهم التصورات حول مفهوم الفضاء الروائي ومدى أهميته في تفعيل وتشكيل النص وكذا مساهمته الكبيرة في توليد مغاليق النص وتفجير طاقاته الدلالية، يمكننا طرح تساؤلين أساسيين: الأول يتعلق بكيفية اشتغال هذا العنصر، والثاني متعلق بالعلائق التي ينسجها المكان مع باقي البنيات السردية الأخرى.
بدءا، يمكن القول ان الرواية سابقا كانت تتعامل مع عنصر المكان باعتباره عنصرا تزيينيا أي يقتصر دوره على المظهر التزييني Décoratif بحيث لا يساهم إلى جانب البنيات الأخرى في توليد المعاني على العكس من ذلك بالنسبة للرواية الحديثة التي اعتبرته (اي المكان) عنصرا فاعلا ومتفاعلا مع باقي المكونات الأخرى، إذ نجده يؤسس معها علاقات وشيجة، وعدم النظر إليه ضمن هذه العلاقات والصلات يجعل من الصعب فهم الدور النصي الذي ينهض به الفضاء الروائي داخل السرد ويورد حسن بحراوي في هذا الصدد رأيا لروسم Rossum إن الفضاء الذي درسه الشعريون يتميز بكونه:
ليس فقط هو المكان الذي تجري فيه المغامرة المحكية ولكن ايضا أحد العناصر الفاعلة في تلك المغامرة نفسها ([11])
وبفضل هذا التوجه الحديث لم يعد الفضاء يعاني من بطالة فنية أو جمالية او قصور في إنتاج الدلالة.
- علاقته بالزمان:
فيما يتعلق بالنسبة لطبيعة العلاقة القائمة بين الزمان والمكان يمكن أن نسجل الملاحظة الاولى، وهي أن مواصفات الأمكنة تتغير بتغير الأزمنة خصوصا إذا خلت هذه الأمكنة فتتحول بذلك من أماكن أليفة إلى أخرى موحشة، كما تتغير الأمكنة حسب الفصول وقد اشار غاستون باشلار إلى هذه الفكرة في إطار حديثة عن ألفة البيت ودفئه في فصل الشتاء بالمقابل وحشة اللابيت ويؤكد النابلسي هذا الطرح ويرى بأن الأمكنة تختلف حسب تعاقب الفصول واختلافها:
وهذه الفصول أماكن أكثر منها أزمنة فكل فصل منها يترك المكان بتشكيل مختلف ويبني المكان الأصلي امكنة جديدة فترى المكان الواحد وقد تغير إلى امكنة أربعة من خلال هذه الفصول الأربعة لونا ورائحة وشكلا ومزاجا. ([12])
فالزمن هو الذي يخلق نوعا من الدينامية بالنسبة للمكان، ذلك أن سيرورة الزمن المتدفق تقتضي بالضرورة مكانا، لذلك الأسبقية للزمان على الفضاء لذلك وجدنا بعض النقاد يعطون الأسبقية للزمن على الفضاء خصوصا ‘فيسجربر Wesgreber ‘الذي يعتبر الزمان عنصرا أساسيا لوجود العالم تماشيا مع نفس الطرح قيل بأن التحديدات الزمنية لوضعية الحكي أكثر من التحديدات المكانية في الرواية.وترى ‘سيزا قاسم’:
أن الزمان لا يوجد مستقلا عن المكان ([13])
وهكذا نلخص إلى حقيقة مؤكدة مفادها أن الأزمنة تفعل فعلها في الأمكنة.
- علاقته بالحدث:
وكما يرتبط الفضاء الروائي بزمن القصة فانه يقيم صلات وثيقة مع الاحداث ويتأثر بها ويؤثر فيها، وبالتالي يساهم في إنتاج وتوليد المعاني. إن ظهور الشخصيات ونمو الأحداث يساهم بشكل كبير في تشكيل البناء المكاني في النص فالمكان لا يتشكل إلا باختراق الأبطال له، وتتشكل الأمكنة أيضا من خلال الأحداث التي يقوم بها الابطال، ومن هذا المنطلق يمكن القول إن بناء الفضاء الروائي مرتبط بخطية الأحداث السردية حيث يمنح الرواية تماسكها وانسجامها، ذلك أن المكان هو أحد العوامل الأساسية التي يقوم عليها الحدث وفي هذا السياق يورد ‘حسن بحراوي’ رأيا لـ ‘شارل غريفل’، اثناء تحليله للعلاقة التي تربط الأحداث بالفضاء:
إن المكان في الرواية هو خديم الدراما، فالإشارة إلى المكان تدل على أنه جرى وسيجري به شيء ما فمجرد الإشارة إلى المكان كافية لكي تجعلنا ننتظر قيام حدث ما ليس هناك مكان غير متورط في الأحداث ([14]).
وفي نفس السياق يحمل لنا ‘جورج بلان’ خطابا قاطعا حول علاقة الحدث بالمكان الروائي حينما يربط الحدث ربطا دياليكتيكيا بالأمكنة:
ف’ حيث لا توجد احداث لا توجد امكنة’. ([15])
استنادا إلى هذه الأراء التي تلتقي كلها حول حقيقة ثابتة مفادها ان المكان لا يرد معزولا عن باقي البنيات السردية، بل هو مجموعة من العلاقات ووجهات النظر التي تشكل فضاء الرواية، ويمكن أن ندعم هذا الطرح بنص لبورنوف و ويلت Bourneuf et oullet ”عالم الرواية”L’Univers du Roman ‘:
إن المكان يكون منظما بنفس الدقة التي نظمت بها العناصر الأخرى في الرواية، لذلك فهو يؤثر فيها ويقوى من نفوذها كما يعبر عن مقاصد المؤلف، وتغيير الأمكنة الروائية سيؤدي إلى نقطة تحول حاسمة في الحبكة وبالتالي في تركيب السرد والمنحى الدرامي الذي يتخذه ([16])
- علاقته بالشخصية:
لا أحد أصبح اليوم يجادل في كون الشخصية تقع في صميم الوجود الروائي إذ لا رواية بدون شخصية تقود الأحداث وتنظم الأفعال وتعطي القصة بعدها الحكائي … والشخصيات تساهم بشكل فعال في تشكيل البناء المكاني في النص، فالمكان لا يتشكل إلا باختراق الأبطال له، وهو أيضا (أي المكان) يتشكل توافقا مع طبائع الشخصيات وأمزجتها، والإنسان على العموم يرتبط ايضا ارتباطا لصيقا بالمكان الذي يسكنه إلى درجة التماهي أو الحلول فيه:
إن المكان، في حالات كثيرة ليس حيزا جغرافيا فقط، فهو أيضا البشر والبشر في زمن معين … فالمكان يكتسب ملامحه من خلال البشر الذين عاشوا فيه، والبشر هم تلخيص للزمن الذي كان، وفي مكان محدد بالذات ([17])
وفي نفس السياق ترى ‘سيزا قاسم’:
إن المكان حقيقة معاشة ويؤثر في البشر بنفس القدر الذي يؤثرون فيه، فلا يوجد مكان فارغ أو سلبي، ويحمل المكان في طياته قيما تنتج من التنظيم المعماري كما تنتج من التوظيف الاجتماعي فيفرض في كل مكان سلوكا خاصا على الناس الذين يلجون إليه. ([18])
وبحكم هذه الصلة الوشيجة بين الشخصيات والمكان كما أوضحنا فانه كان من الطبيعي أن
تظهر تأملات تحاول أن تبحث في جوهر الموضوع، إذ نسجل بروز اتجاهين متناقضين:
الأول يقول بتطابق الشخصية والمكان كما أوضحنا سلفا ويمثل هذا الاتجاه الشعرية الحديثة التي تعتبر المكان خزانا حقيقيا للأفكار والمشاعر تؤكد على علاقة التأثر والتأثير بين المكونين.
أما الاتجاه الثاني فيعطي للشخصيات اهمية فائقة في تشكيل المكان وذلك لاعتبارات عدة: أولها ان الشخصية تتميز بالدينامية عكس المكان الذي يتسم بالجمود والثبات ايضا الشخصية لها القدرة على التنقل والتدخل في حين المكان ليس لديه قيمة إلا إذا حصل فيه شي وهذا التناقض في اعتقاد الكثير من النقاد كان سببا رئيسيا في عدم قيام شعرية ناجزة للفضاء الروائي كما هو الشأن بالنسبة لباقي البنيات السردية الأخرى، ولعل الشاكر النابلسي، يزكي هذا الطرح، إذ نجده يؤكد على أهمية فعل الإنسان في المكان يقول:
فالإنسان من خلال حركته في المكان يقوم برسم جماليات هذا المكان، والمكان بدون إنسان عبارة عن قطعة من الجماد لا حياة ولا روح فيها، كذلك فان الانسان بمشاعره وعواطفه ومزاجه يأخذ من طقوسها وفصولها. ([19])
ويؤكد النابلسي هذه الفكرة معتبرا أن الإنسان هو الذي يرسم المكان ويشكله ويكشف لنا عن جماليته، فطبيعة الشخصية في الرواية تفرض إحلالها مكانا ينسجم وموقعها الاجتماعي، لكن هناك نظاما يقر بان نفس مواصفات المكان تنطبق على ساكنه:
إن بيت الإنسان امتداد له، فاذا وصفت البيت فقد وصفت الإنسان ([20])
ويؤكد ‘غاستون باشلار’، على علاقة المكان بالإنسان مركزا على مفهوم الألفة التي يحس بها ساكن البيت مثلا، لكن البيت يوفر الدفيء لساكنه ويعيش الإنسان من خلاله تجارب متعددة، وهكذا يصبح البيت دامجا للذكريات الغائبة والاحلام المستقبلية، وبالرغم من انسياب وتدفق الزمن يظل البيت هو هو منقوشا على جدران الذاكرة:
باختصار فان البيت الذي ولدنا فيه قد حفر في داخلنا المجموعة الهرمية لكل وظائف السكنى، إنه رسم بياني لوظائف سكنى ذلك البيت المحدد وكل البيوت الأخرى فهي تنويعات على نفس اللحن. ([21])
وفي سياق حديثنا عن الشخصية وعلاقتها بالفضاء الروائي نصادف مفهوم ‘وجهة النظر’، فالمكان لا يظهر إلا من خلال شخصية تعيش فيه أو تخترقه ،وهكذا وبوسع الخطاب الروائي أن يعرض علينا المكان سواء بشكل مجزأ ومفكك حين يستعمل وجهة النظر المتقطعة أو على نحو شمولي إذا كانت الرؤية متسعة، وفي كلتا الحالتين سيكون المنظور السردي هو المتحكم لبناء الفضاء وإعطائه طابعه المتميز.
والفضاء في الرواية ينشا من وجهات النظر المتعددة لأنه يلمس على عدة مستويات أولا من طرف الراوي باعتباره كائنا مشخصا وتخيليا أساسا وخلال اللغة التي يستعملها وكل لغة لها صفات خاصة لتحديد المكان (غرفة، حي مدينة، فصل ٠٠٠)
ثم من طرف الشخصيات الأخرى التي يحتويها المكان وفي المقام الأخير القارئ الذي يدرج وجهة النظر الخاصة به.
الفصل الثاني:
المحور 1:
- دلالة الفضاء من خلال سيرة مدينة
المحور 2:
- تيمة الموت
- تيمة اللباس
”سيرة مدينة ”لعبد الرحمن منيف من الصعب تحديد هذا المؤلف ضمن جنس أدبي محدد، وهكذا يتبادر إلى الذهن مجموعة من التساؤلات:
إلى أي نوع ينتمي هذا النص هل إلى السيرة الذاتية ام ينتمي إلى المذكرات واليوميات ام إلى الكتابة التاريخية ام يمكن إدراجه ضمن الكتابات الروائية؟
الإجابة عن هذه الأسئلة قد نلتمسها أولا من تصريح الكاتب في مقدمة الكتاب إذ يقول:
هذا الكتاب عبارة عن سيرة لمدينة، هي عمان ليس سيرة ذاتية لكاتبه وإن تقاطعت السيرتان بسرعة وجزئيا في بعض المحطات، كما أنه ليس رواية لأن الخيال فيه محدود وان استعار من الرواية بعض ادواتها كطريقة العرض والبناء…هذا اولا، وثانيا: لا يدعي هذا الكتاب أنه ‘تاريخ’ لعمان بالوقائع والأرقام، إذ لم يعتمد على المراجع والمصادر. ([22])
ثم نلتمسها ثانيا من خلال تحليلنا لبنية النص التي لم تكن بنية خالصة-، أقصد انتماءها إلى نوع محدد دون غيره، بل كانت هذه البنية مجموعة من البني انتمت إلى الانواع السابقة مع توفر خطابات وأنماط من الكتابة قد تقترب من الأدب خصوصا في طريقة العرض والبناء وقد تبتعد عنه مثل بعض التقارير والتعليقات الفكرية حول ظواهر اجتماعية من عادات وتقاليد قضايا سياسية طبعت المرحلة خصوصا وأن فترة الأربعينيات كانت مليئة بالأحداث السياسية الساخنة (الحرب العالمية، الحرب العربية / الإسرائيلية).
لذلك وجدنا الكاتب لا يتردد في تحليل هذه القضايا بشكل مفصل يقول:
إن موقف الاتحاد السوفياتي وموقف الشيوعيين العرب أيضا لم يكونا متوافقين مع قناعات وتطلعات الجماهير، أولا بتبني التقسيم ثم باعتراف الاتحاد السوفياتي بدولة إسرائيل … مما خلق موقفا سلبيا خلال فترة طويلة تجاه الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية العربية. ([23])
وهو بهذا الموقف يقدم لنا قراءة مدققة عن الواقع السياسي السائد في عمان، بالإضافة إلى هذا نجد الخطاب السيكولوجي الذي يحاول من خلاله الكاتب تأمل سلوكات محددة ومواقف معينة مارسها المتكلم من جهة والذين زامنوه من جهة ثانية (الجدة وشخصيات اخرى) والأمثلة في هذا الباب وخصوصا سلوكات ومواقف شيوخ الكتاتيب وكذا أساتذة ومديرو المدارس التي مر بها.
وبصيغة أخرى يمكننا إعادة النظر في الأسئلة التي طرحناها في البداية، إن الكتاب ”سيرة مدينة” لا ينتمي إلى المذكرات لأن هذه الأخيرة تقتضي تسجيلا كرونولوجيا تراعى فيه عملية ضبط الزمن الدقيق (الساعة، اليوم الشهر٠٠٠) وهذا ما لم يتوفر في السيرة وإن توفرت بعض ملامحه الباهتة من الناحية الزمنية بسبب تدخل الكاتب في الزمن ذاته اختصارا وبترا وإضافة، والكتاب مع ذلك يستفيد من المذكرات كمادة خام تشتغل عليها السيرة.
والنص ليس رواية كما صرح الكاتب منذ البداية، فهو عبارة عن سرد كرونولوجي لمجموعة من الأحداث التي عرفتها المرحلة بأسلوب متميز، اعتمادا على الذاكرة ذاكرة الطفل الفتية مستعينا بشخصية الجدة التي لها أهميتها على الرغم من سذاجتها وعفويتها فهي شكلت بالنسبة للصغير شخصية مرجعية طالما استنجد بها في الكثير من الحالات المستعصية (تساؤل الطفل عن الحرب الموت، الشجرة التي تطعم نوعين من الفوا كه…)
وفي كل الأحوال لا مفر من تصنيف النص مادام الأخير يحمل بنية أتوبوغرافية واضحة استطاعت أن تمتص مختلف البنى المشار إليها أنفا محولة النص إلى كتابة تنتمي إلى عالم التجارب الذاتية، فما هي مقومات السيرة الذاتية في نص عبد الرحمن منيف؟
سبقت الإشارة إلى أن ”سيرة مدينة” تجربة من تجارب السيرة الذاتية بالرغم من محاورتها لنصوص عديدة وبني ادبية وغير أدبية، ولعل التعريف العام الذي قدمه ‘فليب لجون’ في كتابه ”السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الادبي ” ينسجم إلى حد ما مع النص الذي نحن بصدد تحليله يقول حول هذا الجنس:
حكي استعادي مكتوب نثرا يرويه شخص واقعي عن وجوده الخاص عندما يركز على حياته الفردية … ([24])
إذا انطلقنا من هذا التعريف على أن ”سيرة مدينة” نص سردي يقوم أساسا على الاستذكار والنبش في الذاكرة محاولا بذلك استقطاب كل الماضي الذي مر به السارد مند ان كان طفلا لكي يسير بالتاريخ إلى الأمام مستنفرا ذاكرته و مستعيدا لحظات متفرقة من هنا وهناك ترتبط أساسا بطفولته وصباه ومن خلال تلك الاستفادة يتم التركيز على موضوعات اساسية تشترك فيها كل السير الذاتية وهي تيمات الوعي بالفضاء، والشخصيات إلى جانب تيمات أخرى لا تقل اهمية سندرجها لاحقا. ومن الملاحظ ايضا ان الكاتب لجأ في السيرة إلى استعمال ضمير الغائب، وهذا لا يتناقض مع طبيعة الخطاب السيرذاتي وغالبا ما لجأ إليه الكثير من كتاب السيرة الذاتية مثل ‘طه حسين’ في ”الأيام” واستعمال هذا الضمير بالنسبة ل ‘عبد الرحمن منيف’ ينطلق من نفس المنطلقات العامة التي تمكن صاحب النص من النظر إلى تجربته بعين أقرب إلى الموضوعية، وكأن ضمير الغائب معادل موضوعي لشخصية اخرى خلقها الكاتب خلقا جديدا، الشيء الذي لا يسمح به ضمير المتكلم المجبور على الذاتية والرؤية الفردية للأحداث والوقائع.
باقتضاب حاولت تصنيف النص استنادا على مجموعة من المعطيات والمؤشرات النصية بالإضافة إلى تصريحات الكاتب في مقدمة الكتاب. ويمكن لقارئ هذا النص منذ الوهلة الأولى أن يلاحظ مدى استئثار عنصر المكان بمساحة نصية واسعة بدءا من العنوان ومرورا بكل فصول السيرة. والأمكنة التي تطرق لها الكاتب عديدة ومتنوعة: المدينة، الحي، المقابر، المكتبة، المدرسة، الصيدليات، الملاعب، الفصول … ولعل هذا الاكتساح تعبیر واضح عن أهمية حضور المكان في ”سيرة مدينة ”لأنه – أي الاكتساح -ينسحب على جل فصول السيرة، هذا على المستوى الكمي، كما على مستوى كيفية اشتغاله فسأحاول تقسيم الأمكنة إلى نوعين:
أماكن ثابتة وهامشية لا تساهم في إنتاج الدلالة بمعنى أنها عاطلة فنيا وجماليا،و أخرى تساهم في إنتاج الدلالة و هذه ا لأمكنة هي التي يمكن تسميتها بالفضاءات انسجاما مع تعريف ‘سيزا قاسم’ الذي سقناه في المقدمة النظرية في إطار تمييزها بين المكان و الفضاء، هذه الأخيرة تكتسب قيمتها الفنية و الجمالية بفعل اختراقها من طرف الشخصيات، أو من خلال احتضانها لتجربة ذاتية معينة كما هو الشأن بالنسبة لمجموعة من الفضاءات الموجودة في ”سيرة مدينة” و بالتالي تصبح هذه الأخيرة تساهم في الكشف عن المسكوت عنه في النص و التعبير عن الدلالات التي يتوخاها الكاتب كمثال على النوع الأول من الأمكنة من خلال السيرة يقول السارد في وصفه لمكتب ”الشيخ حافظ”:
كان يقع في اول جبل عمان، على السفح الجنوبي نهاية شارع خرفان بين درج الكوربا ودرج جويبر …. ([25])
أما عن مكتب ”الشيخ سليم’‘:
كان هذا المكتب وسط السوق في الجهة الغربية من الجامع الحسيني ([26])
يلاحظ أن الكاتب يقدم لنا صورة فوتوغرافية للكتاتيب التي مر بها وكذا موقعها الجغرافي ومن الأمثلة الأخرى التي نوردها: وصفه الدقيق لموقع المدرسة الجديدة يقول:
بناية قديمة كانت في يوم بعيد ثكنة عسكرية، تقع في شارع جانبي متفرع عن شارع الأمير طلال، وسط السوق لا تبتعد إلا قليلا عن الجامع الحسيني وسينما البتراء والمنشية…([27])
وفي حديثه عن المدرسة العبدلية يقول:
عند تلاقي الطريق المنازل من جبل عمان من ناحية الشمال الغربي بطريق واد السير، وعلى بعد أمتار من قيادة الجيش مقر كلوب باشا وغير بعيد عن المفوضية الإنجليزية، ثم السفارة بعد ذلك كانت المدرسة العبدلية. [[28]]
إن هذه الأمكنة المقدمة إلينا يوجد منها الكثير، مادام الكاتب يـقدم لنا صورة عن مدينة عمان خلال فترة الأربعينيات استنادا على ذاكرته، يقتصر دورها فقط على الوظيفة الاخبارية، لأنها لم تحضر بثقلها الدلالي لتعميق الدلالة بل فقط قدمت كإشارة للمكان. وهذا النوع من الأمكنة لا يؤدي أي وظيفة جمالية لذلك كان معطلا فنيا.
يقول شاكر النابلسي عن المكان الفوتوغرافي في:
وهو المكان الذي يصور تصويرا ضوئيا خالصا، كما هو على ارض الواقع دون تدخل من الروائي، ودون ان يكتسي بحالة نفسية من حالات الروائي المختلفة. وهو مكان من الامكنة العاطلة عن العمل والتي تشكو من بطالة فنية واضحة في العمل الروائي. ([29])
هذه بعض النماذج التي تندرج ضمن الأمكنة الثابتة، أما النوع الثاني فله وظيفة جمالية وفنية أكثر منها إخبارية وذلك راجع لمساهمتها الفعالة في تفجير مغاليق النص يقول السارد:
كان مكتب الشيخ حافظ هو السجن الأول الذي يتردد عليه الطفل … تتوسط الباحة الخارجية الشجرة الملعونة ….([30])
انطلاقا من عقد مقارنة بين المقاطع الأولى وهذا المقطع يتضح لنا جليا هذا الحضور الواضح للذات كما اننا نسجل تلك العلاقة الموحشة بين الذات والمكان، وهكذا اكتسبت هذه الأمكنة جماليتها من خلال ما تسكبه عليها النفس من مشاعر يقول النابلسي:
فالأمكنة هي نحن وما يحيط بنا من مشاعر وافکار. ([31])
ولعل سبب تلك العلاقة العدوانية والمتوترة بين الطفل والمكتب، لأن هذا الأخير سلبه الإحساس بالأمان وارتباطه بأمه وبكل الذكريات الجميلة هذا كما انه اقتيد إليه عن طريق خدعة ذكية هي أن الشجرة الوحيدة يمكن أن تطعم لوزا و مشمشا في نفس الوقت، وعلى الرغم من احتجاج الطفل على هذه الخدعة الدنيئة (إضرابات عن الطعام) ما كان عليه إلا أن ينفتح انفتاحا اضطراريا على عالمه الجديد”المسيد” ناسجا علاقات جديدة لازالت منقوشة في ذاكرته يقول:
سوف تنقضي سنوات كثيرة على ذلك اليوم، لكنه لايزال محفورا في الذاكرة كأنه وقع بالأمس، بالأمس تماما: رائحة المكان عيون الأطفال التي تراقب الجديد كلمات الشيخ القاسية نظراته الحادة …. ([32])
وسيستمر الكاتب في تقديم رحلته الماراطونية في الكتاتيب التي ارهقته صحيا – اعتمادا على ذاكرته وكما هو معروف أن الذكرى تجعل المكان اليفا إذ من خلالها يستطيع السارد تصريف ما يختزنه في اعماق ذا كرته من تجسيدات للأمكنة ودفئها وقساوتها في الزمن الماضي.
ومن بين الفضاءات التي أسهب الكاتب في وصفها فضاء المدارس، بل الأكثر من في ذلك أنه اطلعنا على السياسة التربوية المنتهجة المتمثلة في ”العصا أفضل معلم” ولعل هذه الطريقة عانى منها الأطفال الأمرين خصوصا في فضاء المكتب ومن بين هذه المقاطع:
– إذا هربت مرة ثانية .. إذا دخنت مرة ثانية … راح تموت
بين يدي و بعد قليل و بصوت ملئ بالقسوة
-فهمت؟
و يكون الجواب هزات راس متواصلة، فيصرخ
-يالله… إنقلع من وجهي([33])
ورغم ما تسببه هذه السياسة من آلام للأطفال، فان الكاتب لم يتوان لحظة في رصد تلك العلاقة الحميمية التي تربط الأطفال بعالمهم المدرسة وذكرياتهم الطريفة والجميلة، التي لم تزده إلا رسوخا في الذاكرة، ومن بين الذكريات التي نسجوها في اجواء المدرسة:
- وقوفهم دقيقة صمت ترحما على صديقهم ‘ أحمد إسماعيل’، الذي داسته سيارة
- الاستاذ مولود وخطه الجميل وروحه الساخرة
- الاستاذ ابو كلام وطريقته الرائعة والخفية في استعمال المسطرة
- محنة الأطفال في فصل الشتاء وتسامح الأساتذة معهم
- وأبرز حدث شد الأطفال حدث المظاهرة.
وهذه الفضاءات (المدرسة العبدلية، المدرسة العبسلية، مدرسة التجهيز٠٠٠)
تمتلك جماليتها من خلال الأحداث المتنوعة التي نسجها الكاتب فيها، وبالتالي يمكننا استخلاص ذلك البعد النوستالجي “La Nostalgie” من الأمكنة الماضية. وهناك فضاء آخر حظي باهتمام الكاتب ‘المقابر’، وقد ارتبط هذا المكان بشخصية مشهورة في اوساط عمان وهي ”أم علي شرشوحة” التي كانت تعرف بدقة احوال المقابر والأموات المدفونين بها، لذلك منحت هذه الشخصية مجموعة من الألقاب كان يقال لها: البيرق أو البورزان وسميت أيضا الراديو ذلك راجع لإلمامها الخارق بأحوال الناس.
والموقع الجغرافي للمقابر في عمان منحها أكثر من دلالة، فهي ليست مجرد اماكن للدفن ولكن كانت أيضا تحمل بعدا أعمق صرح به الكاتب يقول:
لم تكن هذه الأمكنة، بالمواقع التي تحتلها، مجرد اراض للدفن أو لإعلان نهاية إنسان ما، كانت أكثر من ذلك لارتفاعها وإطلالها على اجزاء واسعة من المدينة، مساحة للتأمل والذكرى لإعادة الأسئلة وأيضا لكي تنبه كل إنسان إلى النهاية التي تنتظره، فلا يسرف بالثقة والوهم. ([34])
بالإضافة إلى هذا البعد الدلالي امتلكت المقابر بعدا آخر، إذ أنها أصبحت رمزا للشجاعة والقوة فالذي يستطيع أن يجتاز هذا المكان ليلا يكسب الرهان والذين يعجزون يخسرون الاستقرار والشجاعة، وهذا دليل على مدى وحشة ورهبة هذا المكان.
وكما سبقت الإشارة، فان الأمكنة تمتلك قيما اجتماعية اخلاقية دينية … يفترض توفرها في ساكنه او عابره، وهذا الطرح ينسجم إلى حد كبير مع وضعية المقابر في مدينة عمان فعلى الرغم من كونها مجرد أمكنة للدفن، الا انها تختلف وفق طقوس وعادات كل توجه ديني، لذلك لمسنا تباينا واضحا بين قبور المسلمين والمسيحيين لا من حيث كيفية تشييع الجنازة وكذلك من حيث المظهر الخارجي للمقابر، يقول السارد:
تأخذ جنازات المسيحيين الجانب الأيسر لتصعد التلة القاسية نحو الكنيسة الصغيرة في زاوية المقبرة حيث تجري الطقوس الأخيرة … أما جنازات المسلمين فتواصل الطريق قبل أن يبلغ التل ذروته وراء سور متواضع ناحية اليمين تصل إلى مقبرة المسلمين ([35])
من خلال هذا المقطع نستشف ذلك التمييز الواضح بين مقابر المسلمين والمسيحيين وللتأكيد على هذا التمييز وظف الكاتب قيمتين مكانيتين هما يمين- يسار، وهذا التصور ينسجم مع توجه’ پوري لوتمان’ الذي أبرز الإحداثيات المكانية بقيمها وابعادها في رسم صورة عن الواقع بمختلف الأحداثيات المكانية بقيمها وابعادها في رسم صورة عن الواقع بمختلف مستوياته السياسي والأخلاقي والديني، فهذه الأمكنة التي ذكرنا بشكل عام
اكتسبت جماليتها من خلال إسقاط ابعادها على القيم المجتمعية (الأخلاقية، السياسية، الدينية)، كما أنها -أي الأمكنة- تكشف عن حالة الشخصية النفسية وكذا عن تصوراتها ومواقفها، كما أن تبني المرء مكانا معينا لا يتم وفق معايير منطقية لأن الإنسان كما تقول ‘سيزا قاسم’:
يصبو إلى رقعة يضرب فيها بجذوره وتتأمل فيها هويته وثم يأخذ البحث عن الكيان والهوية شكل الفعل على المكان لتحويله إلى مرآة ترى فيها ”الأنا” صورتها … فاختيار المكان وتهيئته يمثلان جزءا من بناء الشخصية البشرية، قل لي اين تحيي أقل لك من انت. ([36])
فالإنسان إذن يصبغ محيطه بصبغته كما أن المكان يسقط قيمه على ساكنه، هذه الجدلية هي التي تكشف لنا عن وثيق العلاقة بين المكان والشخصية.
تجربة أخرى ظلت محفورة في قبو ذاكرة الكاتب ،فبعد قضاء الطفل لفترة طويلة في الكتاتيب المختلفة ثم المدارس سينفتح اليافع على المدرسة الثانوية، هذا الانتقال كان بالنسبة إليه فجائيا، وجد معه صعوبة في التأقلم نتيجة تباين المستويات وتنوعها، بالإضافة إلى تعدد اللهجات مما خلق أجواء من التعصب والنزعات وبعض التحالفات يقول السارد:
طلبة العبدلية مثلا أيا كانت الصلة التي تربطهم سابقا يصبحون أصدقاء شديدي العصبية والتضامن بل ومستعدين للدخول في معارك إذا تعرض أحدهم للاعتداء أو للسخرية، ولا يختلف طلبة المدارس الأخرى عن العبدلية إن لم يكونوا أكثر ترابطا، خاصة الذين جاؤوا من خارج عمان. ([37])
ومع مرور الوقت سيتكيف الطفل مع الفضاء الجديد ناسجا علاقات جديدة فالذاكرة لازالت تحتفظ بعدد كبير من أسماء الأساتذة وسلوكاتهم ومزاجهم ومن بينهم ‘علي روحي’ و ‘على سيدو’ وتبقى الشخصية الأكثر ديوعا وأهمية في أوساط المدرسة بل وفي أوساط عمان ‘يعقوب هاشم’ أستاذ الرياضيات بالإضافة إلى شخصيات أخرى ولا يتوانى الطفل اليافع عن إعطاء وصف دقيق لأساتذته لا من حيث الشكل الفيزيولوجي وكذا طبائعهم، يقول عن الأستاذ هاشم:
رجل شديد البساطة بشكله وملابسه، وبعض الأحيان بتصرفاته رغم كونه الأخ الشقيق لرئيس الوزراء ‘ابراهيم هاشم’ كان قليل العناية بشعره وثيابه وكثير العناية بالمسالة التي يفكر بها ويريد حلها. ([38])
من خلال ما سبق يتضح أن فضاء المدرسة اكتسب أهمية كبرى من خلال ادماجه لتجربة تخللتها أحداث مختلفة، ونسجت على إثرها علاقات متشعبة، فالتجربة في واقع الأمر هي التي تحرك المكان وتحدد الغاية الجمالية والدلالية التي وظف لتأديتها، وفي هذا السياق يشير ” ياسين النصير” بقوله:
“لا ينهض المكان إلا بتجربة عظيمة فيه”. ([39])
وفي نفس الاطار ذهب هنري ميتران” إلى أن المكان لا تكون له أهمية إلا إذا حدث فيه شيء. وعن طريق فضاء المدرسة، انفتح الأطفال على “السوق” المجاور، هذا الفضاء وشم في ذاكرة التلاميذ لأنهم كانوا يقضون أغلب وقتهم فيه على الرغم من تهديدات المدير “على سيدو” المتكررة. هذا ما يدل على ارتباطهم الوثيق بمكانهم المميز ‘السوق’ ولعل السبب في ذلك هو اكتشافهم لعلاقات جديدة وعقليات أخرى تختلف كليا عن عالم المدرسة، وقد استفاد التلاميذ استفادة كبيرة داخل السوق، خصوصا من كيفية البيع والشراء يقول السارد:
” كان عدد كبير من التلاميذ يقضون وقتا طويلا في السوق رغم التعليمات المشددة التي يكررها المدير “على سيدو وخلال هذا الوقت يتلقون دروسا من نوع آخر «. ([40])
وغالبا ما كانت الجدة توبخ الأطفال لذهابهم إلى السوق وترى في ذلك خطرا محدقا بهم لأنه يلهيهم عن الدراسة، وما يؤكد هذا، أن الجدة عبرت عن ارتياحها خصوصا بعدما انتقل الأولاد إلى الكلية الإسلامية البعيدة عن السوق
يقول السارد:
وقبل أن تنتهي العطلة الصيفية تم تسجيل الصغار في الكلية العلمية الإسلامية.
قالت الجدة:
– خلصنا من السوق وطلايب السوق …
وأضافت كأنها تخاطب نفسها،
– الله سبحانه وتعالى، ما خلق للبني آدم قلبين خلق له قلب واحد، أما يقرأ ويتعلم، وهذا اللي له حظ، أو يقول له، أنا ما على دور خبزتك وروح اشقی واتعب حتى تعيش. ([41])
الى جانب “فضاء السوق” هناك أماكن أخرى قرب المدرسة لازالت تتذكرها ذاكرة الطفل “خمارة قعوار ” هذا المكان شد إليه التلاميذ وسبب هذا الارتباط يرجع بالأساس إلى تردد أحد الشخصيات البارزة في عالم الشعر والسياسة على هذه الخمارة، وهذه الشخصية هي “عرار ” الذي كان محبوبا لدى التلاميذ، مما دفعهم إلى حفظ بعض أشعاره ومن بين هاته المقاطع:
فمن سجن إلى منفى**** ومن منفى إلى غربة
ومن كر إلى فر **** ومن بلوى إلى رهبة
فبي من كل معركة **** أثرت عجاجها ندبه([42])
هذا الإعجاب المتزايد به كان يجعله يشعر بنشوة واعتزاز بالنفس ويصيح في وجه ندمائه:
شايفين يا بجم شو أهمية الشعر حتى أولاد المدارس حفظوه! ” ([43])
وهناك أماكن أخرى استهوت التلاميذ وعاشوا فيها أحداث متنوعة من بينها السينما والأفلام التي كانت تعرضها خصوصا فيلم ”عنترة وعبلة” “الوردة البيضاء” لمحمد عبد الوهاب… هذه الذكريات الجميلة لازالت راسخة في ذاكرة الكاتب.
وتبقى الكلية الإسلامية من الأمكنة الأكثر التصاقا بذاكرة اليافع، لأن هذه الأخيرة احتضنت أحداثا متنوعة حساسة وذلك راجع لطبيعة المرحلة في ظل الصراع العربي الإسرائيلي.
وسكان عمان وجدوا ضالتهم في هذه الكلية وذلك راجع لعدة اعتبارات أهمها الوازع الديني، إلا أنه وبعد عودة مجموعة من المثقفين إلى عمان حاملين معهم طروحات سياسية متباينة، احتضنتهم الكلية الإسلامية لتصبح ساحة للعمل السياسي «إخوان المسلمين” من جهة والقوميين والبعثيين والشيوعيين من جهة ثانية.
ويقدم لنا الكاتب بطريقة مدققة الصراع الدائر بين الأستاذ تقي الدين النباهي الذي كان يرى في الإسلام حلا للمعضلات السياسية والاقتصادية المطروحة وبين مختلف التوجهات التقدمية داخل صفوف الطلبة، ومن أجمل المقاطع التي نستشهد بها:
يرى الأستاذ النباهي أنه:
”ليس في العالم سوى ثلاث نظریات وثلاثة مذاهب الرأسمالية والشيوعية والإسلام، ولا مجال إلا اختيار واحد من هذه الثلاثة”. ([44])
وهو بذلك يصفي حسابه مع القوميين والبعثيين لينقض بعد ذلك على الشيوعيين ويضيف قائلا:
القومية رابطة زائفة، الديمقراطية بضاعة غربية، ومادام الأصل زائفا فالفرع كذلك الشيوعية إلحاد واغتصاب لحقوق الغير الطبيعية التي وزعها الخالق وخلق الناس طبقات ولذلك ليس هناك حل سوى الإسلام”. ([45])
إلا أن الاستاذ يفشل في إقناع الطلبة الذين يثقلون كاهله بالأسئلة المنطقية والمعقولة لأن طرحه لا يرتكز على برامج وعلى تقديم نظام سياسي اقتصادي إسلامي، كما هو الشأن بالنسبة للتوجهات الأخرى، بل يكتفي بالسب و الشتم والسخرية، مما أفقده مصداقيته في أوساط الطلبة و حتى الإدارة التي بدت متعاطفة معه في البداية، اكتشفت أن الرجل يريد تكوين حزب أكثر مما يهدف إلى إشاعة ثقافة، وكانت هذه الأنشطة السياسية تتجاوز المكان الواحد إذ كانت تربط علاقات بين فضاءات أخری مطران و الكلية الإسلامية حتى بين المدن عمان و أربد و السلط من خلال الزيارات و الندوات المختلفة.
ومن الأمكنة الأخرى التي لها أهميتها وتقلها الدلالية الصيدليات، والمختبرات و العيادات الطبية دكان عبيدان … هذه الأمكنة بالإضافة إلى وظائفها العادية كانت عبارة عن خلايا للعمل السياسي.
فهذه الأمكنة اكتسبت ثقلها من خلال ارتباطها بأحدات هامة عرفتها المرحلة، فكانت هذه الأمكنة بؤرة لتصريف مواقف الشخصيات كما أنها (أي الأمكنة)مقدمة عن طريق التذكر والحنين إلى الماضي والذكرى هي التي تصبغ عنصر الألفة على المكان مهما كان ضاربا في القدم، فحين يصبح المكان ملعبا للذكرى وحافزا للغور في قبو الذاكرة تحس الشخصية بالألفة تجاه ذلك المكان.
إن الذكرى إذن تساهم في الكشف عن جماليات المكان وابعاده الدلالية وهذا ما ينطبق إلى حد بعيد على الأمكنة المقدمة لنا في “سيرة مدينة”.
عمان والمجال الطبيعي:
أبدع منيف في رسم صورة مزركشة عن الفضاء الطبيعي لعمان والقارئ ل ‘’سيرة مدينة” يستمتع بتلك المقاطع الرائعة، فقد جعلها منيف صورا متعددة تقوم بتقديم نفسها للعين أولا، ثم تجعل الذهن يفكر فيها، وكأن القارئ يدفع دفعا إلى هذه الصور عند قراءتها فيصبح في داخلها، ثم يدفع بالتالي إلى الطبيعة ليصبح وسطها ومن هنا فإننا لا يمكن أن ننتهي من قراءة مقطع من بين مقاطع السيرة إلا ونجد أنفسنا في داخل هذه الصور وفي داخل الطبيعة في آن واحد. ومكمن الإبداع في هذا التصوير للمجال الطبيعي، يتمثل في ذاك الانزياح والتسامي عن اللغة التقريرية وتبني لغة ذات شحنة وحمولة دلالية. فبمجرد أن نقرأ مقطع معين، إلا ونحس بنقلة نوعية على مستوى نبرة الخطاب الذي يخلخل العلاقات التركيبية والدلالية على مستوى الكتابة المتميزة بالكثافة التي تقلب اللغة رأسا على عقب وتشحنها بما يتوخاه الكاتب ويبقى هذا المقطع الذي يصف فيه الكاتب تدفق المياه وكأنها سجين تمكن من استرجاع حريته المفقودة معبرا عن اللغة الموظفة
يقول:
“ليس هناك أروع ولا أخطر من منظر هذه المياه خاصة لمن يراها لأول مرة، إنها تتدفق بغزارة وكأن أحد يدفعها. بل الأكثر من ذلك تضحك وهي تندفع وتضحك بطريقة أقرب إلى العربدة، فها قد بدأت رحلتها البراقة الحافلة في هذه الحياة بعد أن طال سجنها وانتظارها في باطن الأرض”. ([46])
ويوجد الكثير من هذه المقاطع المثقلة بالإيحاءات و الدلالات في السيرة، تنم عن تمكن ودربة الكاتب من الكتابة الروائية والتي تجسد نوع من اللغة التشخيصية والتي تسموا إلى ما قد يمكن أن نسميه بالشعر النثري كأقصى ما يمكن أن تصل إليه شعرية اللغة في نص كـ «سيرة مدينة” يضيف:
فجأة بدأت تتململ، ثم راحت تهدي، كان هديانها نشيداً مجهولاً يعلن ولادة جديدة”.([47])
وهذا النوع من الخطاب استمد جذوره من الحركات التجديدية في الغرب في إطار ما سمي بالرواية الجديدة”Le Nouveau Roman”. ويتجسد كذلك في تجربة العديد من المبدعين “حليم بركات” “حيدر حيدر” من خلال روايته المعروفة “الزمن الموحش” ويتجسد أيضا في نصوص متفرقة لكتاب في المشرق والمغرب لكن أصول هذا النوع من السرد اقتحم الحقل العربي في فترة دقيقة من فترات المثقافة مع الغرب، وبالضبط في زمن الحركة المهجرية خاصة على يد ‘جبران خليل جبران’ في نصوصه السردية.
وكما أشرت سابقا إن المجال الطبيعي في عمان غير مستقر على حال بل يتغير ويتلون بتغير فصول السنة وقد استعرض منيف في “سيرة “مدينة” أربع صور طبيعية مختلفة للمكان الواحد كما يتضح من خلال المقاطع.
- الصورة الأولى:
“ما إن تمر أسابيع قليلة حتى تتساقط أوراق أشجار اللوز فتتعرى الأغصان تماما وتدخل أم محي الدين في سبات عميق ([48])
- الصورة الثانية:
“في وقت من الأوقات توقف المطر!
بدت عمان هذه الأيام رخوة مليئة بالندوب، أقرب إلى الهشاشة، حتى تكاد تشبه رغيفا نقع في الماء أو ثوبا غارقا في الوحل” ([49])
- الصورة الثالثة:
أشجار اللوز وقد كانت أقرب إلى الحطب المنسي تكسيره خلال فصل الشتاء، كلما دبت فيها الحياة بنشوة جارحة” ([50])
- الصورة الرابعة:
“الصيف في عمان شاسع ومديد ويبدأ قبل الصيف بفترة طويلة! ” ([51])
إنها أربعة مقاطع تمثل أربعة فصول تأخذ معها فضاءات عمان تشكيلات جديدة بتعاقبها لذلك يرى ‘شاكر النابلسي’ كما أشرت في المقدمة النظرية أن هذه الفصول أمكنة أكثر منها أزمنة لأن كل فصل من هذه الفصول يترك بصماته الواضحة على المكان لا من حيث اللون والرائحة أو المظهر الخارجي.
مجمل القول إن ”سيرة مدينة” تدور محاورها حول تاريخ عمان في فترة زمنية معينة، محاولاً رسم جمالية هذه المدينة ومحاولا كذلك إعادة الزمن إلى الوراء واستعراض مختلف الأحداث التي وقعت ولكن المدينة في تظل أكثر اتساعا وتعقدا فهي:
الحياة بتعددها وتنوعها، هي الأمكنة والبشر والشجر ورائحة المطر، وهي التراب أيضا، وهي الزمن ذاته لكن في حالة حركة … المدينة هي الأحلام والخيبات التي ملأت عقول الناس وقلوبهم. ([52])
فالسؤال الذي يؤرق بال الكاتب هل يمكن استعادة هذا الزخم؟ هل يمكن القبض على الزمن؟ إذا استطعنا أن نفعل ذلك تمكنا بالفعل من استعادة المدينة في لحظاتها الدافئة، الواقع يبدو ذلك مستحيلا ولم يجد منيف من وسيلة سوى الالتجاء الى صفحات ذاكرته لرسم صورة تقريبية عن المدينة اطيافها ،ظلالها، ذكرياتها الجميلة والقبيحة ….، هذا الحنين إلى الأمكنة القديمة هو بمثابة هروب من الحاضر- حتى وإن لم يعبر الكاتب عن ذلك- أو ارتحال من الحاضر إلى الماضي، ومحاولة للتعالي عن الحاضر باللجوء إلى الماضي وأمكنته وكأنه يقف على الأطلال كما كان يقف الشاعر العربي في الجاهلية، حيث كان يعتبر مكان الماضي هو الصديق والحبيب.
من هنا كان للمكان في ”سيرة مدينة” قيمتان: قيمة عبرت عن ذاتها صراحة، وهي قيمة معطاءة غنية دافئة،أليفة، وهذه تتمثل بالأماكن التي حاول الكاتب استعادتها عن طريق التذكر، وقيمة اخرى لم يصرح بها الكاتب ولكن استخلصناها ضمنيا، وهي قيمة سارقة، ناهبة مخيفة و تتمثل بالأماكن الحاضرة، ومما يؤكد هذا الطرح هو ذلك الاحساس بالاطمئنان والامان للأمكنة الماضية وبالتالي اعتبرت هذه الأمكنة بمثابة ملجأ وملاذا يلتجئ إليه الشخص كلما أحس بتذمر.
وتجدر الإشارة أن المدينة التي قدمها لنا الكاتب في عمان الأربعينات، اي قبل نصف قرن تقريبا عندما كانت ‘عمان’ بلدة صغيرة ولم تكن واسعة كبيرة ذات ملامح مختلفة مختلطة، كما هي عليه الآن، فعمان الماضية كانت دافئة بعلاقاتها الاجتماعية المتميزة وحنان الأرحام الأولي، رحم الجدة، وبيت الطفولة والمدرسة العبدلية والمظاهرات ضد التحالف الإمبريالي الصهيوني، بالإضافة إلى حركتها الحياتية العامة، ومن هنا كانت مكان الألفة، ومكان الذكرى فيما بعد.
ان عمان لم تعد تلك البلدة كما صورها لنا منيف لقد تغيرت كليا، لكن صورتها ظلت موشومة على جدران ذاكرة الكاتب، هذه المدينة أيضا منحت حيزا لا بأس به من كتابات الروائي المعروف ‘غالب هلسا’ في روايته ”سلطانة ”لكن في صفائها ونقائها يقول ‘شاكر النابلسي’:
لو قدر لهلسا أن يعود إلى عمان قبل موته (1989) او قبل كتابة هذه الرواية (1988)، ويرى عمان كما اصبحت عليه الآن، لما استطاع ان يكتب هذه الرواية، ولعل هذا ما يفسر امتناع عبد الرحمان منيف عن زيارة عمان قبل أن يتم روايته عن عمان الذي يخطط لها الان (1993) كما علمت. [[53]]
ومما يؤكد حسرة منيف ومعاناته من جراء افتقاده للأمكنة الماضية هو ذلك الاصرار الكبير الذي عبر عنه في فصول عديدة للعودة إلى الينابيع الأولى على الرغم من وعيه التام باستحالة ذلك يقول:
هذه هي المدينة واشياء اخرى كثيرة صغيرة، فهل يمكن استعادتها؟ هل يمكن استعادة ضوء الشمس الغاربة، أو القبض على لحظة الفرح التي كانت ثم مضت؟ هل تستطيع ان تسترد العاصفة أو نثبت أمواج البحر ونقاط المطر التي تهبط من السماء؟ ([54])
هذا الإصرار المتزايد لإحياء وإعادة الأمكنة الماضية، يوحي بحقيقة واحدة كما اسلفت سابقا وهو ذاك التذمر والاستياء من الوقت الراهن وما يسببه من عذابات وإحباطات للأشخاص خصوصا أولئك الذين كرسوا حياتهم للتعبير عن قضايا الإنسان العربي ومعاناته.
تيمة الموت في سيرة مدينة لعبد الرحمن منيف:
-تعتبر موضوعة الموت من القضايا المستعصية التي اصطدم بها الإنسان واعطاها مجموعة من التفسيرات استنادا إلى مرجعيته واعتقاداته إلا أن الطفل يظل الأكثر تأثرا بهذه الموضوعة، وما يؤكد ذلك أن العديد من كتاب السيرة الذاتية ‘عبد المجيد بن جلون’ ‘طه حسين’ ‘عبد الرحمن منيف’ منحوا هذه التيمة حيزا كبيرا من كتاباتهم الإبداعية، فالاصطدام الفجائي بهذه الموضوعة يدفع الطفل لطرح تساؤلات فلسفية عديدة تندرج من البسيط إلى المعقد، إلا أن الاجوبة التي يتلقاها غالبا ما تكون مبهمة بعيدة عن المعقول من قبيل مثلا:
”ذهبوا إلى الجنة” – ”انتقلوا إلى السماء ذهبوا ولم يعودوا”—” سنلتقي بهم في الجنة” فهذه الإجابات لا تشفي غليل الطفل مما يتجرأ على طرح اسئلة اخرى أكثر تعقيدا مثلا يتحدثون عن الوسيلة التي يتم بها الرحيل إلى العالم الآخر، يرغبون في مشاهدة الجنة، الله… وفي غالب الأحيان فإن مثل هذا النوع من الأسئلة يحرج الأمهات وبالتالي يكون مصير الطفل الفيلسوف القمع المطبق.
وفي ”سيرة مدينة” احتلت موضوعة الموت مكانة مهمة بل الأكثر من ذلك حدث الموت كان عاملا رئيسيا في انفتاح الطفل واكتشافه لفضاءات عمان الجديدة، فالأطفال في هذه المدينة وقبل مقتل الملك الغازي كانوا يعتقدون ان العالم يبدأ وينتهي داخل كل حي، يقول السارد:
هذه هي المرة الأولى التي يعرف فيها امتداد الحي واتساعه كمكان وكبشر وإنه يتجاوز بيت ابو شامة والحجة أنيسة هذا هو إذن أول اكتشاف حقيقي للمدينة وصدف أنه ترافق واصطدم بالموت! .[[55]]
تصريح السارد يبرز هول وجسامة الحدث ”صدمة الموت” الذي يخلف ورائه أجواء مليكة بالحزن والرهبة على الرغم من تباين طقوس تشييع الجثة حسب اختلاف الأديان وتباين العادات والتقاليد بالإضافة إلى الانتماء الطبقي.
وقد صور لنا ‘عبد الرحمن منيف’ طقوس الموت في الأوساط الشعبية وما تتميز به من بكاء وعويل الذي يعلو فوق كل الأصوات وفي أغلب الحالات يتحول إلى طقوس رهيبة تعرف بالندبة ومرد ذلك بالأساس إلى سيادة التفكير الخرافي وكذا طبيعة الأواصر التي تربط أفراد الطبقة الشعبية.
أما بالنسبة للفئات الميسورة فان الموقف يقل حدة، كما أن طقوس الموت في المدينة تختلف عند البدو، فتشييع الجثة في المدينة يرافقه الكثير من المظاهر والرسميات والأمر يختلف عند البدو، فالموت خال من اي احتفال وشكليات إذ لا يكاد يعرف بموت فلان حتى تجرى عملية التشييع، غسله تكفينه ثم الصلاة عليه في جامع متواضع تم دفنه دون تعقيدات، ومن بين المقاطع التي تصف بدقة لحظة الموت يقول السارد:
يندفع الناس بثقل يترافق بحزن قهار يمتلئ الجو بالرهبة ا كثر من قبل وتسيطر رائحة الموت فوق جميع الرؤوس يبكي الصغار بخوف وتبدو لهم استحالة العودة إلى بيوتهم سالمين.[[56]]
وغالبا ما يسبب حدث الموت إزعاجا للأطفال ويعرضهم لمجموعة من الكوابيس اثناء الليل، وكالعادة الموروث الشعبي في عمان ملي بأنواع العلاجات المضادة للكوابيس ومن بينها:
- طريقة الطاسة
- ترتيل بعض الأدعية وآيات قرآنية
- الطريقة المميزة التي تعتمدها الجدة والمتمثلة في: ‘الورقة البيضاء”
وذا كرة عمان احتفظت بشخصية مشهورة اقترن اسمها بل وتجسد في الموت وهي” أم علي شرشوحة”، ولعل السبب في منحها هذه الدلالة المخيفة، أولا لملازمتها الطويلة للمقابر، كما أن بكاءها بل عويلها المرتفع الذي يجوب المدينة أصبح بمثابة مؤشر على وفاة شخص ما، يقول السارد عن هذه الشخصية:
كانت كما يروي الكثيرون تبدأ بالبكاء والندب وهي تجتاز بوابة المقبرة ثم ينفجر وسط الظلمة فجأة موت عويلها ويسمع إلى مسافات بعيدة.[[57]]
هذا بالإضافة إلى أنها كانت على علم بكل اموات المقابر بل وحتى ظروف وفاتهم ونوعية الجنازة التي اقيمت للمتوفي وتفاصيل أخرى لاحقة ترتبط بالخصومات التي تنشا بين أقارب وورثة الميت بسبب الإرث لذلك أصبحت هذه الشخصية مختصة في عالم الأموات عن جدارة، بحيث اقترن اسمها بالموت في اوساط عمان، وتجسدت معالم الموت وتوضحت صورته بالنسبة للأطفال بعد وفاة العديد من الشخصيات البارزة: ‘الملك الغازي’، ‘هاني الجفة’ لاعب كرة القدم مشهور في عمان، إلا أن وفاة التلميذ ‘أحمد إسماعيل’ خلف جوا مفعما بالحزن والأسى في المدرسة بل وفي عمان يقول السارد:
دخل معلم الصف الأستاذ ابو داوود وبكلمات حزينة لا تخلو من شفقة وحزن أبلغ التلاميذ أن سيارة د هست زميلهم أحمد وقتلته وطلب منهم أن يقفوا دقيقة حداد على روحه. ([58])
صدمة الموت اصبحت أكثر ضراوة واستبداد بأهالي عمان خصوما بعد انتشار وباء التيفوس والكوليرا اللذين حصدا المئات من السكان ولعل أبرز ضحية لهذا الوباء شخصية ‘العبيدان’ رجل اشتهر بتعاطيه المكشوف للسياسة داخل دكانه البسيط الذي أصبح بمثابة خلية للعمل السياسي يقول السارد:
قد يكون عبيدان مات موتا طبيعيا وربما من الرعب (!) لكن الشيء المؤكد أن التيفوس الذي مر تلك السنة خلق حالة الخوف أقرب إلى الفزع ([59]).
وقد شعرت جدة الطفل بخطر الموت المحدق يقترب منها بسبب حدة انتشار الكوليرا مما دفعها إلى إصدار مجموعة من الوصايا، يضيف قائلا:
قالت الجدة وهي تسمع أخبار الموت كل يوم
– يا با إنى مسلمة عليكم و اريد اقول لكم في أمان الله
وحين نظرت إليها العيون متسائلة، تابعت
– يا با إني أريد أموت بديرتي وموصية اندفن بصف أمي وأبوي ([60])
إلا أن الجدة كتب لها حياة جديدة، وسافرت إلى بغداد والتحق بها الحفيد بعد انتهائه من الدراسة في الثانوية لكن الموت لا يرحم، ينتزع منا أعز ما نحب، وتكون الصدمة قوية، إلا أنها ومع مرور الوقت تتقادم لكنها تظل موشومة في الذاكرة.
وهذا ما حدث للحفيد عندما فقد جدته التي طالما دافعت عنه قي مواقف عديدة يحفظها الصغير جيدا كما أنها منحته في كل مراحل حياته الحنان والدفيء والإحساس بالأمان.
تيمة اللباس في سيرة مدينة لعبد الرحمان منيف:
موضوعة اللباس، حظيت باهتمام خاص من طرف منيف الذي خصص لها فصلا بأكمله، متحدثا عن الزي وتقاليده في عمان خلال فترة الأربعينات، وقد استهل حديثه عن هذه التيمة بذلك الرفض وتلك السخرية التي تقابل بها الأزياء المستوردة من الخارج ومن مظاهر هذا التعصب، ثورة تلاميذ العبدلية على السدارات (نوع من الطرابيش المنتشرة في العراق) التي قدمتها الجدة هدية لأبنائها بعد عودتها من بغداد. إلا أن الطربوش يظل الزي الأكثر ديوعا وانتشارا في المدينة، على الرغم من انه يعود إلى الفترة العثمانية المبكرة، قد حرس سكان هذه المدينة على ارتداء الطربوش مهما كان تباين مشاربهم وانتماءاتهم الطبقية، مما أضفى على هذا الأخير نوعا من القدسية.
ولازالت ذاكرة عمان تتذكر مجموعة من رجالاتها يقدمهم الكاتب بطريقة مستملحة، وقبل الإشارة إلى مجموعة من النماذج أشير إلى أن الطربوش في أوساط هذه المدينة أصبح يحمل أكثر من دلالة فهو مؤشر على التفوق، لذلك كان يقدم كجائزة للمتخرجين من الجامعات، بالإضافة إلى دلالته على وظيفة رسمية عالية يقول السارد:
فرؤساء الوزارات والوزراء وكبار الموظفين أيا كانت أصولهم اعتمدوا الطربوش زیا وحرسوا على ارتدائه. ([61])
كما أن الطربوش كان يعبر عن حالة الرجل النفسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن بين النماذج المقدمة لنا في السيرة تذكر:
- احمد الطراونة يبدو بالطربوش خائفا
- احمد اللوزي يبدو بطربوشه أكبر من عمره بسنوات عديدة
وإذا كانت للطربوش هذه الدلالة فان لموقعه على الراس دلالة أعمق، إذ نحدد من خلاله مزاج الشخص وكذا طبائعه، ومن بين النماذج المقدمة في السيرة:
– ‘أبو حسن الحلاق’ يفضل أن يكون طربوشه مائلا مستريحا إلى الخلف الموقع يؤشر على رضا وخلو البال وحب الطرب
-‘روكس بن زائد العزيزي’، فموقع الطربوش على راسه يدل على القوة والصرامة والجدية البالغة … بالإضافة إلى نماذج اخرى.
هكذا أصبح الطربوش على الرغم من’ تفاهته ‘يحمل دلالة عميقة، ويمكننا تحديد مزاج الفرد وكذا موقعه الاجتماعي، بحسب الموقع الذي يتخذه فاذا كان مستقيما وثابتا يؤشر على الجدية والصرامة وانشغال البال أما إذا كان مائلا إلى الوراء أو إلى الخلف فيدل على المزاج الرائق والمتسع ويمكن أن نقرب أكثر من الصورة، إذا ما عدنا إلى فضاءات مراكش وطريقة ارتدا تهم المائل للطربوش التي لا تخلو من مرح واتساع الخاطر.
ونورد مقطعا يوضح الصورة أكثر يقول منيف:
بشير الصباغ مدير الكلية الإسلامية … يستقبل بعض التلاميذ المتأخرين في الإدارة، فان ازاح طربوشه فمعنى ذلك أنه يقدم النصح … أما إذا كان طربوشه بوضع ‘الاستعداد’، فلابد عندئذ من توقع اقصى الاحتمالات. ([62])
والطربوش لابد أن يرافقه زي محدد -تم التواضع عليه – ويختلف و يتباين تبعا للوظيفة والموقع الاجتماعي وقد قدم منيف مجموعة من الشرائح الاجتماعية وتحدث عن كيفية تعاطيها مع الزي بشكل عام.
الموظفين: مهما كان موقعهم الاجتماعي، لابد أن يلبسوا السترة والبنطال.
الشيوخ: فيكتفون بالقفطان دون الاستغناء عن الطربوش.
أما الأغنياء والميسورين، فنتيجة لانفتاحهم الحضاري فانهم حسموا أمرهم بارتداء الزي الأفرنجي -زي الأفندية – السترة والبنطال وبلون واحد على حد تعبير منيف.
يلاحظ كيف أن الموقع الاجتماعي له الأثر البالغ في التحكم في مسالة الزي وقد اشار إلى ذلك PHILIPPE PERROT يقول:
ارتداء الملابس يضم أساسا عدة دلالات: يظهر رمزیا وبتراض مرة واحدة او بشكل متفرق طبيعة الشيء، الـأقدمية، التقاليد، ما يخص الفرد، الإرث، الانقسام الطبقي للمجتمع، الإنحدار، الدين، الأصل الجغرافي … الانتماء السياسي أو الإيديولوجي باختصار أنه بمثابة مؤشر دال، فاللباس يوضح الطبقات والوحدات بحسب شفرة Code’ مضمونة ومسموح بها من طرف المجتمع ومؤسساته. ([63])
والزي بشكل عام هو مؤشر من المؤشرات التي تساعد على فهم وقراءة مجتمع ما وما طرأت عليه عدة تغيرات نتيجة المثاقفة و التفاعل والتصادم الحضاري كما انه -الزي- يتغير ويتبدل بتبدل الزمن، فالزي الذي كان يرتديه سكان عمان في فترة الأربعينات قد تم تجاوزه بل أنه ربما قد يكون اندثر ولم يعد له وجود إلا في المتاحف لعل هذا النص المقتطف من مقالات Philippe Perrot-” Une Histoire du Costume- يبرز دينامية وتطور الملابس
يقول :
كذلك في القرن 19 حمل معه انتصار البورجوازية، حمل ايضا انتصار البدلة بجعله يخترق الطبقات و المحيطات فارضا تدريجيا بنظامه الاقتصادي السياسي الاخلاقي رمزه اللباسي في كل احتواءاته الاقتصادية و الإيديولوجية. ([64])
يريد من خلال كلامه هذا، أن اللباس لا يستقر على حال، فهو يتغير بتغير انماط الإنتاج فاللباس الذي كان سائدا مع الإقطاعيين قد تمت الثورة عليه بمجرد انتصار البورجوازية، بل الأكثر من ذلك أن اللباس يصبح هو المعبر والمؤشر عن النمط الاقتصادي والإيديولوجي المتبع.
وهو تقريبا ما حدث في عمان، فبمجرد ما تسربت إلى أجوائها مظاهر مستوردة -نتيجة دور الإعلام- سرعان ما احتضنها شباب عمان، وهكذا بدأت مجموعة من الألبسة الضاربة في القدم والتي كانت تعني بالنسبة للعمانيين الشيء الكثير، تتلاشى وتتبدد وقد اشار منيف إلى ذلك في قوله:
في ظل هذا المناخ لعل أبرز مظاهر الرفض تتمثل في مجالات رئيسية ثلاثة، السياسة واللباس والتحدي الطبقي بحثا عن مواقع جديدة أو صورة جديدة. ([65])
وهذا التحدي غالبا ما كان يواجه بالرفض من طرف عقليات المحافظين، الذين ينظرون إلى الماضي بنظرة قدسية.
خاتمة:
إن اشتغالنا على ”سيرة مدينة” لعبد الرحمن منيف كان محاولة أولى، نظرا لتعدد مواضيع المتن و غناه، لا شك أنه سيكون محط اهتمام بالغ من طرف العديد من الدارسين والباحثين، ولحسن حظي اتيحت لي فرصة الاشتغال على آخر إنتاجات هذا الروائي المتمرس(تجدر الإشارة أن هذه القراءة لمتن عبد الرحمن منيف اشتغلت عليها في سنة 1995 وقررت الآن نشرها ) هكذا فقد حاولت التركيز على بعض الأمكنة المثيرة و الفاعلة في النص و أبرزت من خلالها مساهمة بنية الفضاء في الكشف عن مغاليق النص و كذا إبراز القيم الاجتماعية والأخلاقية والنفسية والإنسانية بشكل عام لمدينة عمان خلال فترة الأربعينات.
وهذه الأمكنة التي تطرقت لها اكتسبت ثقلها الدلالي من خلال احتضانها لتجارب عاشها المؤلف والذين زامنوه كما انها ارتبطت بأحداث هامة عرفتها المرحلة، فكانت بذلك بمثابة بؤرة لتصريف مواقف الشخصيات.
وقد استطاع منيف بشكل ملفت للنظر أن يعبر عن مقاصده من خلال تقديمه لمجموعة من الفضاءات التي ظلت موشومة في ذاكرته (الكتاب، المدرسة، الكلية، الصيدليات، المستشفيات، السوق، دكان عبيدان، الفصول، المدينة،…) وقد جعلها تساهم في توليد معاني جديدة ولم يوظفها فقط لتأدية ذاك الدور التقريري.
ومن مميزات هذا النص ايضا استثمار منيف لمجموعة من التيمات التي أصبح لها وزنها في إطار المناهج الحديثة والعلوم الإنسانية – تيمة اللباس والموت، تقاليد، عادات تحليلات سياسية دقيقة للصراع الكلاسيكي الدائر في المنطقة (العربي / الإسرائيلي) …
ولعل هذا المقطع المقتطف من عدد الطريق -مارس 1994 – والمبثوت على غلاف المؤلف يلخص بشكل عام محتوى السيرة: “كيف يكتب الروائي سيرة مدينة؟ تجربة ربما لم يعرفها بعد أدبنا العربي الحديث، عبد الرحمن منيف يروي هذه المرة سيرة مدينة محددة، هي عمان خلال فترة زمنية معينة هي الأربعينات، سيرة مدينة عاش الروائي إحدى فترات تناميها وتحولاتها، رأى توالد البيوت والشوارع والأسماء وتكاثر تجمعات البشر والعلاقات بين المكان والناس والزمن…”
المصادر:
الرواية: عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” الطبعة الأولى، 1994
المراجع:
-الكتب بالعربية:
– بحراوي حسن، ”بنية الشكل الروائي”، المركز الثقافي العربي، بيروت الطبعة الأولي، 1990
-حميد لحميداني،” بنية النص السردي”، الطبعة الثانية، 1993
-سويرتي محمد، ”النقد البنيوي والنص الروائي” ج 2، الطبعة الثانية
– قاسم سيزا، ”بناء الرواية”، الطبعة الأولي 1985
– النابلسي شاكر، ”جمالية المكان في الرواية العربية”، الطبعة الأولي 1994
-الكتب بالفرنسية:
Henri Mitterand : le Discours du Roman, P.U.F, 1980
-الكتب المترجمة:
– غاستون باشلار، ”جمالية المكان”، ترجمة ‘غالب هلسا’، الطبعة الثالثة، 1991
– فليب لجون’ ‘الميثاق والتاريخ الأدبي”، ترجمة ‘محمد علي’، الطبعة الأولى1994
-وینیک ووارين،”نظرية الأدب” ترجمة ‘صبحي محي الدين’، الطبعة الأولي1972
- المجلات:
مجلة ”آفاق” عدد2، 1992
مجلة ”شؤون أدبية”، عدد24، 1993
مجلة ”عيون المقالات”، عدد8، 1987
- المقالات بالفرنسية:
Philippe Perrot “Une Autres Histoire Du Costume” –
- المعاجم والقواميس:
– ”المعجم العربي الحديث ”، تأليف: خليل الجر، مكتبة لاروس باريس، 1987
-”المنهل”، تأليف : عبد النور جبور و ادریس سهیل
الهوامش:
-
خليل الجر ”المعجم العربي الحديث” مكتبة لاروس باريس 1987ص 1147 ↑
-
نفسه ص911 ↑
-
عبد النور جدور و د. سهيل إدريس المنهل ص 406 ↑
-
نفسه ص613 ↑
-
سيزا قاسم” بناء الرواية” ص 102 ↑
-
حميد لحميداني ”بنية النص السردي” ص 64 ↑
-
غالب هنسا ”مقدمة جمالية المكان” ص 6 ↑
-
Hitterand ”Le Discours du Rowan” P.U.F 1980 P. 194 ↑
-
محمد سويرتي النقد البنيوي و النص الادبي ص 75 ↑
-
يوري لوتمان ”’مجلة عيون المقالات” تر: سيرا قاسم ”ص 70 ↑
-
بحراوي حسن، ”بنية الشكل الروائي”، ص:29 ↑
-
النابلسي شاكر، ”جمالية المكان في الرواية العربية”، ص:14 ↑
-
قاسم سيزا، ”بناء الرواية”، ص:104 ↑
-
بحراوي حسن، ”بنية الشكل الروائي”، ص:30 ↑
-
نفسه ص:30 ↑
-
– بحراوي حسن، ” مجلة افاق”عدد 92)2، ص: 135 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:5 ↑
-
قاسم سيزا، ” مجلة عيون المقالات ”، عدد87-8ص 63 ↑
-
النابلسي شاكر، ”جمالية المكان في الرواية العربية”، ص:96 ↑
-
ویلیک ووارين،”نظرية الأدب” ترجمة ‘صبحي محي الدين’، ص228 ↑
-
غاستون باشلار، ”جمالية المكان”، ترجمة ‘غالب هلسا’،ص44 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:5 ↑
-
نفسه ص:227 ↑
-
فليب لجون’ ‘الميثاق والتاريخ الأدبي”، ترجمة ‘محمد علي’، ص 22 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:35 ↑
-
نفسه ص:42 ↑
-
نفسه ص:181 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:51 ↑
-
النابلسي شاكر، ”جمالية المكان في الرواية العربية”، ص:21 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:42 ↑
-
النابلسي شاكر، ”جمالية المكان في الرواية العربية”، ص:95 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص: ↑
-
نفسه ص :52 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:28 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:28 ↑
-
قاسم سيزا، ” مجلة عيون المقالات ”، عدد87-8ص 63 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:101 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص: 103 ↑
-
ياسين النصير ”مجلة شؤون أدبية عدد 24-83 ص 85 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:102 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:109 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:102 ↑
-
نفسه ص:122 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:212 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص: 212 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:167 ↑
-
نفسه ص:145 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:171 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:142 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:154 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:163 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:245 ↑
-
النابلسي شاكر، ”جمالية المكان في الرواية العربية”، ص:104 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:246 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:12 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:13 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:26 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:32 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:206-207 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:201 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:88 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص:89 ↑
-
Philippe Perrot “Une Autres Histoire Du Costume- P 32” – ↑
-
Philippe Perrot “Une Autres Histoire Du Costume -p34 ↑
-
عبد الرحمان منيف ”سيرة مدينة” ص: 98 ↑