سلسلة أسرار الترابط في القرآن الكريم: الجمل اللاحمة (سورة آل عمران)

Series of Secrets of Interconnection in the Holy Qur’an: Interlocking Sentences (Surat Al Imran)

أ.د. أيمن عيد الرواجفة1، سلافة عبد النور سليمان2

1 جامعة الطفيلة التقنية / الطفيلة – الأردن. بريد الكتروني: aimanr@yahoo.com

2 جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية -أم درمان – السودان. بريد الكتروني: Sulafasuluman12307@gmail.com

DOI: https://doi.org/10.53796/hnsj63/24

المعرف العلمي العربي للأبحاث: https://arsri.org/10000/63/24

الصفحات: 422 - 436

تاريخ الاستقبال: 2025-02-07 | تاريخ القبول: 2025-02-15 | تاريخ النشر: 2025-03-01

Download PDF

المستخلص: يمكن تعريف الجمل اللاحمة على أنها: الجمل أو أشباه الجمل أو الكلمات أو حتى الحروف المشتركة بين جملتين بحيث تكتمل الجملة الأولى بها وتأخذ معنى كاملًا، وتكتمل بها الجملة الثانية وتأخذ معها معنى كاملًا آخر. وقد يكون في الآية الواحدة أكثر من جملة لاحمة، وقد تأتي كذلك بين آيتين (أطراف الآيات) … وسنورد هنا أمثلة من مواضع مختلفة من سورة آل عمران، للتأصيل لهذا المفهوم والتأسيس له. مع التأكيد على أن هذا المفهوم لا يلغي أو يتعارض مع المعنى الأصلي للآيات الكريمات، ولقد اعتمدنا على عدة تفاسير لتوضيح المعاني وتفسير الجمل.

الكلمات المفتاحية: القران الكريم، سورة ال عمران، الجمل اللاحمة.

Abstract: Interlocking sentences can be defined as: sentences, phrases, words, or even letters shared by two sentences, such that the first sentence is completed with them and takes on a full meaning, and the second sentence is also completed with them and takes on another complete meaning. There may be more than one interlocking sentence within a single verse, and they may also occur between two verses (at the edges of the verses). We will provide examples from various positions in Surat Al-Imran to establish and ground this concept. It is important to emphasize that this concept does not negate or conflict with the original meaning of the noble verses. We have relied on several interpretations to clarify the meanings and explain the sentences.

Keywords: The Holy Quran, Surat Al Imran, Interlocking Sentences.

مقدمة:

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

إن إنزال القرآن الكريم على هذه الأمة منة عظمى، لأنه سبيل الهداية، وطريق السلامة من الضلال والغواية: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ ﴿123﴾ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾([1])  

والاستفادة الحقة من هذا الكتاب العظيم تكون بدوام الصلة به علمًا وعملًا، تلاوة وتدبرًا وفهمًا

﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾([2])

ومن سبل ذلك التدبر والفهم الذي من خلاله النظر فيما كتب أهل العلم في تفسير القرآن الكريم، أما التدبر فهو النظر في كل ما جاء فيه من القواعد والكليات

قال تعالى﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾([3])

أنزله بهذا اللسان لنعقله ونتفهمه، وأمرنا بتدبره، والتفكر فيه والاستنباط لعلومه، وما ذاك إلا لأن تدبره مفتاح كل خير ومحصل للعلوم والأسرار.

فلله الحمد والشكر والثناء الذي جعل كتابه هدى وشفاء ورحمة ونورًا وتبصرة، وتذكرة، وبركة، وهدى وبشرى للمسلمين.

نقدم في هذا البحث مصطلحًا جديدًا من مصطلحات الترابط في القرآن الكريم، وهو مصطلح “الجمل اللاحمة” الذي قدمه وأصل له الدكتور أيمن عيد الرواجفة، الأستاذ بجامعة الطفيلة التقنية بالأردن، والذي قدم نماذج علمية توصل هذا المصطلح الجديد من خلال عدة أبحاث قام بنشرها ولي عظيم الشرف أن أكون من الذين اختارهم الدكتور أيمن عيد الرواجفة للمشاركة في تأصيل هذه الفكرة، والذي نحسبه من العلماء المجتهدين الذين سخرهم الله عز وجل لخدمة كتابه العظيم. نسأل الله له القبول والأجر العظيم.

مشاركتنا في هذا البحث تقديم نموذج يؤصل مفهوم “الجمل اللاحمة” من خلال أمثلة من مواضع مختلفة من سورة آل عمران

دعوة منا للتدبر في إعجاز القرآن الكريم، مع التأكيد على أن هذا المفهوم لا يلغي أو يتعارض مع المعنى الأصلي للآيات.

نسأل الله العظيم أن يشكر للدكتور أيمن عيد الرواجفة هذا الصنيع المبارك وأن يجزيه أفضل الجزاء، وأن ينفع بهذه الفكرة المسلمين والمسلمات المتدبرين المتأملين في إعجاز هذا الكتاب العظيم.

وإني لأحمد الله سبحانه وتعالى أن مكنني من المشاركة في إعداد هذه الورقة البحثية، وإني لأرجو أن أكون قد وُفقت في عرض وتأصيل هذه الفكرة الجديدة وإني أسأل الله القبول.

د/ سلافة عبد النور سليمان

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة آل عمران

قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ([4])

“الله” مبتدأ، “لا إله إلا هو” خبره، والتقدير لا إله في الوجود إلا هو، واسمه “الحي القيوم” أي هو الحي وهو القائم بالقسط والقائم على كل نفس بما كسبت.

الكلمة اللاحمة:

قوله تعالى ” هُوَ “، ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾، ﴿ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾

هُوَ

الكلمة اللاحمة قوله تعالى ” هُوَ “

حيث أخذت بها الجملة الأولى معنى كاملاً، وأخذت بها الجملة الثانية معنى كاملاً.

الجملة الأولى :

قوله تعالى : ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ

المعنى : أنه لا إله في الوجود إلا هو.

الجملة الثانية:

قوله تعالى ﴿ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ

المعنى : أسمه الحي القيوم.

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ([5])

﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ ، ﴿ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

الكلمة اللاحمة:

هي قوله تعالى “هو” ، ﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ ، ﴿ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

هو

هُوَ

الجملة الأولى :

قوله تعالى﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ

المعنى : أنه لا إله في الوجود إلا هو

الجملة الثانية:

قوله تعالى ﴿ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

المعنى : اسمه العزيز الحكيم

تفسير الآية:

روى أنه لما قدم وقد بنى نجران وهم ستون راكبًا، خاصموا في أن عيسى عليه السلام، إن لم يكن ولدًا لله فمن أبوه؟ فقال عليه السلام: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى. قال: ألم تعلموا أن الله حي لا يموت وعيسى يموت، وأن ربنا قيم على العباد ويحفظهم ويرزقهم وعيسى لا يقدر على ذلك؟ وأنه لا يشق عليه شيء في الأرض ولا في السماء وعيسى لا يعلم إلا ما علم ويموت وربنا منزه عن ذلك كله؟ فانقطعوا ، فنزل الله فيهم سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية. ([6])

تضمنت هذه الآيات تقرير إلهية الله وتبينها، وإبطال إلهية ما سواه ومن ضمن ذلك رد على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى بن مريم عليهما السلام، وتضمنت إثبات حياته الكاملة وقيوميته التامة، المتضمنتين جميع الصفات المقدسة، وإثبات الشرائع الكبار، وأنهما رحمة وهداية للناس، وتقسيم الناس إلى مهتدٍ وغيره وعقوبة من لم يتهد بها، وتقرير سعة علم الباري ونفوذ مشيئته وحكمته. ([7])

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ([8])

تفسير الآية الكريمة:

القرآن العظيم كله محكم، كما قال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ([9])

فهو كتاب مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ([10])

وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعض ومطابقته ألفاظًا ومعنى، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله تعالى “منه آيات محكمات” أي واضحات الدلالة “هن أم الكتاب” أي أصله الذي يرجع إليه كل متشابه وهو معظمه وأكثره.

منه “وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ” أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان لكون دلالتها مجملة أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها. فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي فهذه الطريقة تصدق بعضه بعضًا ولا يحصل مناقضة ولا معارضة. ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين، “فأما الذين في قلوبهم زيغ” أي ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم “فيتبعون ما تشابه منه” أي يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى التشابه ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على التشابه “ابتغاء الفتنة” وقوله “وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله” للمفسرين قولان: جمهور يقف على “إلا الله”، وبعضهم يعطف عليها “والراسخون في العلم” وذلك كله محتمل، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وفهمه كان الصواب الوقوف على “إلا الله”، لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته نحو صفات الله وكيفيتها، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور تعرضًا لما لا يعنى لأنه لا يعلمها إلا الله. وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلّمون. ([11])

وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح، كان الصواب أن يُعطف “الراسخون” على ا”لله”، فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها إلا الله تعالى. والراسخون في العلم يعلمون أيضًا فيؤمنون بها ويردونها للحكم، ويقولون: “كل” من المحكم والمتشابه “من عند ربنا”. وفيه تنبيه على الأصل الكبير وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله، واشتبه عليهم مجمل المتشابه، علموا يقينًا أنه مردود إلى المحكم، وإن لم يفهموا وجه ذلك، ولما رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه، وزجر عن اتباع المتشابه قال: “وما يذكر” أي يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه “إلا أولو الألباب”. أي أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصته من بني آدم، يصل التذكير إلى عقولهم فيأخذون ما ينفعهم فيفعلون، وما يفندهم فيتركونه. ([12])

الجمل اللاحمة في هذه الآية الكريمة:

الكلمة اللاحمة: قوله تعالى “منه”

الجملة الأولى:

“هو الذي أنزل عليك الكتاب منه”، أي : من القرآن أي : من الله، وهي كقوله تعالى﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ([13])

الجملة الثانية:

﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ([14])

الجملة الثالثة: الجملة اللاحمة: “الراسخون في العلم”

﴿وما يعلم تأويله إلا الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾. المعنى هنا أن هذه الآيات لا يعلم تأويلها الحق إلا الله والراسخون في العلم، أي الذين ثبتوا في العلم وتمكنوا منه.

الجملة الرابعة:

﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ([15])

والمعنى هنا هو أن أولئك المتمكنون من العلم يؤمنون بأن القرآن من عند الله، ولا يختلفون في الإيمان بين الآيات المحكمات والمتشابهات، وما يفعل ذلك إلا أصحاب العقول السليمة التي لا تخضع للهوى والشبهة.

هو

قال تعالى :﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ([16])

تفسير الآية الكريمة:

هذا تقرير من الله تعالى للتوحيد بأعظم الطرق الموجبة له، وهي شهادته تعالى، وشهادة خواص الخلق وهم الملائكة وأولوا العلم. أما شهادة الله تعالى فيما أقامه من الحجج والبراهين القاطعة على توحيده، وأنه لا إله إلا هو، فنوع الأدلة في الآفاق والأنفس على هذا الأصل العظيم.

وأما شهادة الملائكة بهذا فتفسرها أخبار الله لنا بذلك، وإخباره رسله. وأما شهادة أهل العلم فلأنهم هم المرجع في جميع الأمور الدينية، خصوصًا في أعظم الأمور وأجلها وأشرفها، وهو التوحيد. فالله شهد به بنفسه، وأشهد عليه خواص خلقه. وفي الآية أيضًا دليل على شرف العلم.

ولما قرر توحيده سبحانه وتعالى، قرر عدله فقال “قائماً بالقسط”، أي لم يزل متصفًا في أفعاله وتدبيره بين عباده، فهو على صراط مستقيم فيما أمر به ونهى عنه وفيما خلقه وقدره. ثم أعاد تأكيد توحيده فقال ﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ([17])

الكلمة اللاحمة في الآية الكريمة: قوله تعالى “هو”.

الجملة الأولى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾، أي “هو” الله يشهد أنه لا إله إلا هو.

الجملة الثانية: “هو والملائكة وأولوا العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو”.

الجملة الثالثة:قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ

أي أن الله وملائكته وأولو العلم يشهدون بأن الله هو الذي يستحق الربوبية والتوحيد، ويقرون بأنه تعالى لم يزل متصفًا في أفعاله وتدبيره بين خلقه وعباده.

الجملة الرابعة : قوله تعالى: ﴿ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أي أن الله هو العزيز الحكيم.

قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿26﴾ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ([18])

تفسير الآية:

في هذه الآية الكريمة يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم “قل اللهم مالك الملك” أي: أنت الملك المالك لجميع الممالك، فصفة الملك المطلق لك، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك، ثم أشارت بقية الآية العظيمة إلى أن الله تعالى ينزع الملك من الأكاسرة والقياصرة ومن أتبعهم ويؤتيه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الأسباب التي جعلها الله سببًا لحصول ذلك الملك، الإيمان والعمل الصالح.

ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ﴾، من يطيع الله فهو عزيز ومن عصى الله فقد كتبت عليه الذلة، ﴿إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي: لا يمتنع عليك أمر من الأمور بل الأشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك.

﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾

أي: تدخل هذا على هذا، وهذا على هذا، فينشأ من ذلك الفصول والضياء والنور والشمس والظل والسكون والانتشار، ما هو من أكبر الأدلة على قدرة الله وعظمته وحكمته ورحمته.

“تخرج الحي من الميت” كالفرخ من البيضة، وكالشجر من النوى، وكالزرع من بذرة وكالمؤمن من الكافر، “وتخرج الميت من الحي” كالبيضة من الطائر، كالنوى من الشجر وكالحَب من الزرع، وكالكافر من المؤمن، وهذا أعظم دليل على قدرة الله، وأن جميع الأشياء مسخرة مدبرة لا تملك من التدبير شيئًا.

فخلق تعالى الأضداد، والقصد من ضده بيان أنها مقهورة.

﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾

أي: ترزق من تشاء رزقًا واسعًا من حيث يحتسب ولا يحتسب.

الجملة اللاحمة في الآية الكريمة:

هي قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

فالله سبحانه وتعالى قدير يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، والله قدير يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويرزق من يشاء بغير حساب.

الجملة الأولى:

قوله تعالى:﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

المعنى الأول:

لك القدرة الكاملة الباهرة تؤتي الملك من تشاء وتنزعه ممن تشاء فهو خير كله كيفما أقتضت حكمتك.

الجملة الثانية: ﴿إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾

المعنى الثاني:

لك القدرة الكاملة الباهرة في حال الليل والنهار وفي المعاقبة بينهما، وحال الحي والميت في إخراج إحدهما من الآخر.

قال تعالى:﴿ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿ 29 ﴾ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾([19])

تفسير الآية الكريمة:

قال الإمام القاسمي رحمه الله مفسراً الآية الكريمة: “قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله. ويعلم ما في السماوات والأرض، والله على كل شيء قدير.” هذا توعد لمن أراد إخفاء مودة الكفار وموالاتهم أو إظهارها، أو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو الكفر. وفي هذه الآية تنبيه من الله تعالى لعباده على خوفه وخشيته، لكيلا يرتكبوا ما نهى عنه، فإنه عالم بجميع أمورهم وقادر على معالجتها بالعقوبة. وإن أنظر من أنظر منهم فإنه يمهل، ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر. ولهذا قال بعد هذا:

﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ.

أي يوم تجد كل نفس جزاء ما عملت من خير وتجد ما عملت من سوء محضرا، “ويحذركم الله نفسه” كرره ليكون على بال منهم، لا يغفلون عنه. وقال أبو السعود: تكريرا لما سبق، وإعادة له لا للتأكيد فقط، بل لإفادة ما يفيده قوله عز وجل “والله رؤوف بالعباد” من أن تحذيره تعالى من رأفته بهم ورحمته الواسعة، أو أن رأفته بهم لا تضيع تحقيق ما حذر من عقابه، وأن تحذيره ليس مبنيا على تنافي صفة الرأفة، بل هو متحقق مع تحققها. ([20])

الجملة اللاحمة:

قوله تعالى: “ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.”

“والله على كل شيء قدير يوم…”

قال تعالى: ﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾([21])

تفسير الآية الكريمة:

وتأتي الآية الكريمة على لسان عيسى عليه السلام: أي أتيت بنفس ما جاءت به التوراة وما جاء به موسى عليه السلام. وعلامة الصادق أن يكون خبره من نفس خبر الصادقين، يخبر بالصدق ويأمر بالعدل من غير تخالف ولا تناقض، إذ لا يشتبه الصادق بالكاذب في دعوى النبوة أبداً، فالنبوة يترتب عليها هداية الخلق وضلالهم وسعادتهم وشقاؤهم. ثم أخبر الله سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام أن شريعة الإنجيل فيها سهولة ويسر فقال: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ يدل ذلك على أن أكثر أحكام التوراة لم ينسخها الإنجيل، بل كان متمماً لها ومقرراً.

“وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ” تدل على صدقي ووجوب اتباعي. “فاتقوا الله” بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ فإن طاعة الرسول من طاعة الله. “إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ” وعلى لسان عيسى عليه السلام فهو يستدل بتوحيد الربوبية الذي يقر به كل أحد على توحيد الألوهية الذي ينكره المشركون. فكما أن الله هو الذي خلقنا ورزقنا وأنعم علينا نعمًا ظاهرة وباطنة، فليكن هو معبودنا الذي تألهه بالحب والرجاء والدعاء والخوف والاستعانة وجميع العبادات. وقوله “هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ”

“هذا” عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله، “صراط مستقيم” موصل إلى الله وإلى حقيقته، وما عدا ذلك فهي طرق موصلة إلى الجحيم.

الكلمات اللاحمة في الآيات الكريمة:

قوله تعالى: “وأطيعون”

وقوله تعالى: “فاعبدوه”

الجملة الأولى:

قوله تعالى ﴿وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾

المعنى الأول:

الآية الكريمة على لسان سيدنا عيسى عليه السلام ، المعنى فيها : وجوب اتباع سيدنا عيسى وطاعته فقد جاء بآيات من الله تدل على صدقه ووجوب اتباعه.

الجملة الثانية :

قوله تعالى ﴿وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ

المعنى الثاني:

وجوب طاعة سيدنا عيسى عليه السلام ، لأن طاعة الرسول طاعة لله ، وهذاإقرار منه عليه السلام بأنه عبدُ مخلوق.

الجملة الثالثة:

قوله تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ﴾

المعنى الأول:

على لسان عيسى عليه السلام : فليكن الله معبودنا فهو ربنا الذي خلقنا ورزقنا وأنعم علينا.

الجملة الرابعة: ﴿فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾

المعنى الثاني:

إن عباده الله وتقواه وطاعة رسوله (صراط مستقيم) موصل إلى الله وإلى جنته. قال تعالى: ﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾([22])

تفسير الآيات الكريمة:

لما ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهودياً، والنصارى أنه نصرانياً، وجادلوا في ذلك، رد الله عليهم في مواجهتهم ومجادلتهم من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن جدالهم في إبراهيم هو جدال في أمر ليس لهم به علم، فلا يمكن لهم ولا يُسمح لهم أن يحتجوا ويجادلوا في أمر هم أجانب عنه. هم جادلوا في أحكام التوراة والإنجيل سواء أصابوا أم أخطأوا، فليس لهم المحاجة في شأن إبراهيم.

الوجه الثاني: أن اليهود ينتسبون إلى أحكام التوراة، والنصارى ينتسبون إلى الإنجيل، والتوراة والإنجيل لم ينزلا إلا من بعد إبراهيم، فكيف ينسبون إبراهيم إليهم وهو قبلهم، متقدّم عليهم؟ هل هذا يعقل؟ إن الله عز وجل برأ خليله من اليهود والمشركين وجعله حنيفاً مسلماً. وجعل أولى الناس به من آمن به من أمته ، وهذا النبي وهو محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه. ([23])

الجملة اللاحمة في الآية الكريمة هي قوله تعالى:

﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾

الجملة الأولى

﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾

المعنى الأول:

إن الله سبحانه وتعالى نهى عن المحاجة والمجادلة بغير علم، وأن من تكلم بذلك فهو متكلم في أمر لا يمكن منه ولا يسمح له، فالله سبحانه وتعالى هو العالم والمحيط بكل شيء.

الجملة الثانية :

قوله تعالى﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾

المعنى الثاني:

إن الله يعلم أن خليله إبراهيم ما كان من اليهود ولا النصارى ولا المشركين فقد جعله سبحانه وتعالى حنيفاً مسلماً ، وجعل أولى الناس به من آمن به من أمته، وهذا النبي وهو محمد صلى الله عليه وسلم ومن أمن معه فهم الذين اتبعوه وهم أولى به من غيرهم، فالله هو العالم بكل شيء وهم لا يعلمون.

قال تعالى: ﴿ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ *يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾([24])

قال الإمام الرازي رحمه الله: اتفق المفسرون على أن هذا بقية كلام اليهود وفيه وجهان:

الأول: المعنى ولا تصدقوا إلا نبياً يتبع شرائع التوراة، فأما من جاء بغير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه. وهذا مذهب اليهود إلى اليوم.

المعنى الثاني: أنه ذُكر قبل هذه الآية قوله تعالى: “آمِنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ” ثم قال: “ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم” أي لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لمن تبع دينكم.

﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾

اعلم أن الله تعالى حكى عن اليهود أنهم قالوا: يؤمنون وجه النهار ويكفرون آخره ليثيروا بذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام، فأجاب سبحانه وتعالى: “قل إن الهدى هدى الله.” والمعنى أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذا الشيء قوة ولا أثر.

“قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم”

الفضل: الرسالة، وفي اللغة الزيادة، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان “بيد الله” أي إنه مالك له وقادر عليه. وقوله: “يؤتيه من يشاء” أي هو تفضل موقوف على مشيئته، وهذا دليل على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق.

﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ مؤكداً لهذا المعنى، لأن كونه واسعاً يدل على كمال القدرة، وكونه عليماً على كمال العلم، فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء. ثم قال: “يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.” وهذا كالتأكيد لما تقدم، والفرق بين هذه الآية وما قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادة من جنس المزيد عليه، فبين بقوله: “إن الفضل بيد الله” إنه قادر على أن يؤتي بعض عباده ما أتاهم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها. ([25])

ثم قال: ﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ﴾

والرحمة المضافة إلى الله سبحانه وتعالى أمرٌ أعلى من ذلك الفضل، فإن هذه الرحمة ربما بلغت في الشرف وعلو الرتبة إلى أن تكون من جنس ما أتاهم بل تكون أعلى وأجل من أن تقاس إلى ما أتاهم، ويحصل من مجموع الآيتين أنه لا نهاية لمراتب إعجاز الله وإكرامه لعباده، وإن قصْر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة وعلى أشخاص معينين جهل بكمال الله في القدرة والحكمة.

الجملة اللاحمة في الآية الكريمة:

قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾

الجملة الأولى:

قوله تعالى ﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾

المعنى الأول:

أن التفضل موقوف على مشيئته سبحانه وتعالى فهو واسع الفضل والإحسان عليم بمن يصلح الإنسان فيعطيه، ومن لا يستحقه فيحرمه إياه.

الجمل الثانية:

قوله تعالى﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾

المعنى الثاني:

والله واسع العطاء عليم بمن يستحق رحمته المطلقة التي تكون في الدنيا متصلة بالآخرة وهي نعمة الدين ومتمماته فالله وسع كل شيء رحمة وعلماً وفضلاً.

قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾([26])

تفسير الآيات الكريمة:

قال الإمام الشعراوي مفسراً “وهذا القول الحكيم ينهى عن اتباع الهوى الذي يؤدي إلى الفرقة برغم وضوح آيات الحق. فهؤلاء الذين يتبعون الهوى سيصليهم الله النار ولهم عذاب عظيم.

﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ﴾ تَكْفُرُونَ وهنا يجب أن نعلم أن الاسوداد والابيضاض هما من آثار اختلاف البيئات في الدنيا، فالشخص الأسود يزيد الله في تكوينه بما يناسب البيئة. أما في هذه الآية، فهي تتحدث عما سوف نراه في الآخرة، حيث يكون السواد والبياض مختلفين. ([27])

“يوم تبيض وجوه”، وهي وجوه أهل السعادة والخير، أهل الإتلاف والاعتصام بحبل الله، و”تسود وجوه”، وهي وجوه أهل الشقاوة والشر، أهل الفرقة والاختلاف. هؤلاء اسودت وجوههم بما في قلوبهم من الخزي والهوان والذل والفضيحة، وأولئك ابيضت وجوههم لما في قلوبهم من البهجة والسعادة التي ظهرت آثارها على وجوههم. ([28])

الجملة اللاحمة في الآية الكريمة:

قوله تعالى: ﴿ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾

الجملة الأولى :

قوله تعالى ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾

المعنى الأول:

النهي عن اتباع الهوى الذي يؤدي إلى الفرقة والاختلاف برغم وضوح الآيات فجزاء ذلك العذاب العظيم.

الجملة الثانية:

﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾

المعنى الثاني:

في ذلك اليوم الذي تبيض فيه وجوه من النور ، تسود فيه وجوه وصحف من الظلمة ذلك بأنهم كفروا وكذبوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اعترافهم به قبل مجيئة ، فأولئك لهم العذاب العظيم.

الخاتمة

إن القرآن الكريم هو معجزة النبي (صلى الله عليه وسلم) الكبرى ، فقد هيئ الله له معجزة عقلية بيانية يدركها الإنسان أو يزداد علماً بآفاقها وميادينها بمقدار إمعان عقله وفهمه وحسن تدبره لآيات الله العظيمة.

في هذه الورقة قدمنا ” مفهوم الجمل اللاحمة ” من خلال سلسلة الترابط القرآني وطبقنا هذا المفهوم على سورة آل عمران ، وقد أظهرت الورقة نماذج لإتساع ورحابة معاني كلمات وآيات القرآن الكريم ، فالنص القرآني الواحد يحوي مدلولات متنوعة ومتناسقة، وكل مدلول يستوفي حظه من البيان والوضوح دون اضطراب في الأداء أو أختلاط في المعنى.

نسأل الله – عز وجل- بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى، أن يجعلني وإياكم من أهل القرآن وخاصته، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجه الكريم وأن يسدد خطانا، ويحقق رجاءنا إنه سميع مجيب وهو حسبي ونعم الوكيل.

المصــــــــــــــادر والمراجـــــــــــــــع

  1. القرآن الكريم.
  2. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان، الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السَّعدي.
  3. تفسير القاسمي المسَّمى محاسن التأويل، للإمام محمد جمال الدين القاسمي.
  4. الجامع لأحكام القرآن، تفسير الإمام القرطبي – الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن أبي بكر القرطبي.
  5. التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي – أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن ابن الحسين التيمي الرازي.
  6. تفسير الشعراوي، للإمام محمد متولي الشعراوي.
  7. تفسير النسفي المسمى، مدارك التنزيل وحقائق التأويل للإمام عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي.

الهوامش:

  1. – سورة طه ، الآية (123)

  2. – سورة ص ، الآية (29)

  3. – سورة يوسف ، الآية (2)

  4. – سورة آل عمران ، الآية (1)

  5. – سورة آل عمران ، الآية (6)

  6. – تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، العلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السَّعدي – ص 122

  7. – المرجع السابق ، ص 122

  8. – سورة آل عمران ، الآية (7)

  9. – سورة هود ، الآية (1)

  10. – سورة المائدة ، الآية (50)

  11. – تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص 122

  12. – المصدر السابق ، ص 123

  13. – سورة الجاثية ، آية (13)

  14. – سورة آل عمران ، آية (7)

  15. – سورة آل عمران ، الآية (7)

    1. سورة آل عمران، الآية 18

    1. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 124، 125

    1. سورة آل عمران، الآيات 26،27

  16. – سورة آل عمران ، الآية رقم (29-30)

  17. – تفسير القاسمي ، المسمى محاسن التأويل، الإمام محمد جمال الدين القاسمي، ج4، ص 54

  18. – سورة آل عمران ، الآية (50-51)

  19. – سورة آل عمران ، الآية (66-67)

  20. – الجامع لأحكام القرآن، الإمام القرطبي، ج1 ، ص 135

  21. – سورة آل عمران ، الآيات (73-74)

  22. – التفسير الكبير للإمام الرازي، ج3 ص (259- 260- 263)

  23. – سورة آل عمران ، الآيات (105-106)

  24. – تفسير الشعراوي ، للإمام محمد متولي الشعراوي، ج3- ص1667- 1668

  25. – تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 142- 143