المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية

Trial before the International Criminal Court

م.م. جواد عبد الكاظم رزيج1، أ.د. رامي عبد الحي2

1 الجامعة الاسلامية في لبنان، كلية الحقوق، قسم الدراسات العليا. بريد الكتروني: jjawad1986@gmail.com

2 تدريسي في الجامعة الاسلامية في لبنان، كلية الحقوق، قسم الدراسات العليا. بريد الكتروني: Rabdulhay@hotmail.com

DOI: https://doi.org/10.53796/hnsj63/8

المعرف العلمي العربي للأبحاث: https://arsri.org/10000/63/8

الصفحات: 161 - 175

تاريخ الاستقبال: 2025-02-07 | تاريخ القبول: 2025-02-15 | تاريخ النشر: 2025-03-01

Download PDF

المستخلص: تُعد الجريمة ضد الإنسانية واحدة من أخطر الجرائم الدولية التي تسود المجتمع الدولي في الوقت الحاضر، كونها تُعد من الجرائم الحديثة نسبياً، وكون مفهومها كان حبيس الاطر الدينية والفلسفية والاخلاقية، ولم يرتقِ إليها الفكر القانوني إلّا حديثاً عندما ألجأته إليها الفظائع المرتكبة في حروب كثيرة؛ كالحرب العالمية الأوّلى والحرب العالمية الثانية، وما تلاهما من مجازر في رواندا ويوغسلافيا. كما أن الجريمة ضد الإنسانية تمثل إحدى الجرائم الدولية، إذ ان السلوك غير المشروع المكون لتلك الجريمة له مساس بالمصلحة الدولية التي يحميها القانون الجنائي الدولي، عكس الجريمة الوطنية التي لا تمس مصالح دولية يحرص المجتمع الدولي على حمايتها. ومن هذا المنطلق فإننا نقوم في بحثنا هذا بدراسة طرق الطعن بالعقوبات الصادرة بحق مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، وبيان اجراءات الطعن بالاستئناف، والاثار المترتبة عن الطعن بالاستئناف.

الكلمات المفتاحية: محاكمة، الجرائم، ضد الإنسانية، مرتكبي، القتل، التعذيب، الإبادة، إنتهاكات، حقوق الإنسان، المحكمة الجنائية، الاستئناف.

Abstract: Crime against humanity is considered one of the most dangerous international crimes that prevail in the international community at the present time, as it is considered a relatively recent crime, and because its concept was confined to religious, philosophical and moral frameworks, and legal thought only recently rose to it when it was drawn to it by the atrocities committed in many wars. Such as World War I and World War II, and the massacres that followed in Rwanda and Yugoslavia. The crime against humanity also represents an international crime, as the illegal behavior that constitutes that crime harms the international interest protected by international criminal law, unlike a national crime that does not affect international interests that the international community is keen to protect. From this standpoint, in our research we study the methods of appealing the sentences issued against perpetrators of crimes against humanity, explain the procedures for appealing the appeal, and the effects resulting from the appeal.

Keywords: trial, crimes, against humanity, perpetrators, murder, torture, genocide, violations, human rights, criminal court, appeal.

المقدمـــة

منذ العصور القديمة، كانت رغبة الإنسان في السيطرة والتوسع تحفّزه على الدخول في صراعات وحروب بهدف تحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك، فإن هذه الصراعات غالبًا ما تُحَقِّر قيم الحياة وتُسفر عن انتهاكات كبيرة للقوانين الإنسانية والدولية. من بين هذه الانتهاكات، تبرز جرائم ضد الإنسانية كواحدة من أخطر التجاوزات، حيث تتضمن هذه الجرائم أفعالًا بشعة ومروعة يتعرض لها المدنيون بشكل خاص. عبر التاريخ، شهد المجتمع البشري العديد من الحروب والنزاعات الدامية، التي تخللها تنفيذ أبشع أشكال القتل والتعذيب والإبادة. تسببت هذه الجرائم في تدمير الكثير من قيم الحضارة الإنسانية وانتهاك القوانين الإلهية والإنسانية على حد سواء. فقد عانت الشعوب من أسوأ أشكال التهجير والتشريد، وشهدت أفظع حالات القمع والتمييز. ويبقى الضحايا الأبرياء هم الأكثر تأثرًا، حيث يعانون من معاناة لا توصف وتشوهات جسدية ونفسية تدوم لسنوات. إن هذه الجرائم تعكس غياب الإنسانية والأخلاق في بعض الظروف، وتذكّرنا بأهمية العمل المشترك من أجل تعزيز السلم والأمان واحترام حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم. كان القرن العشرين من أعنف الأوقات التي مرّت في تاريخ البشريّة، فتبقى الحربان العالميتان الأوّلى والثانية وصمة عار في جبين المتسببين فيهما على مر العصور، بسبب جسامة الانتهاكات التي وقعت في حق الإنسانية، إذ انتشرت المقابر الجماعية التي تحتوي الملايين من الرجال والنساء والأطفال.

أولاً: أهمية الدراسة

طالما أن مفاهيم حقوق الإنسان والحرية تتوافق مع مبادئ القانون الطبيعي والميثاق الدولي، وكذلك فلسفة الفكر السياسي للإنسان، فإن الوعي الفائق والنضج يحتل مكانة رائدة في الدساتير والأنظمة المعاصرة، لأنه مرتبط بفلسفة ونظرية القانون الطبيعي ويؤسس دولة قانونية حديثة. كما تبرز الاهمية في إبراز المحاكم في صيانة أمن وإستقرار المجتمع الدولي، والحفاظ على كرامة وحياة الانسان من الافعال اللاإنسانية، وإرسال إشارة واضحة وحازمة الى كل من تسول له نفسه الاعتداء على الانسان، أو من يرتكبون إنتهاكات وجرائم خطيرة تعرض أمن وإستقرار العالم للخطر، وبأن هناك قضاء جنائي دولي فعال يستطيع أن يحاكمهم وينزل بهم أشد العقوبات جراء ما اقترفوا من جرائم خطيرة.بالإضافة الى المساهمة في تفعيل دور المحاكم من أجل القيام بالمهام المنوطة بها حماية الانسان والمعاقبة على الجرائم ضد الإنسانية، وبيان الصعوبات التي تواجهها في القيام بدورها، والقيود التي تثقل كاهلها للقيام بهذا الدور على أتم وجه.

ثانياً: الهدف من الدراسة

ومن أهداف هذه الدراسة الحد من حدوث إنتهاكات حقوق الإنسان. ولموضوع الجرائم ضد الإنسانية أهمية كبيرة من خلال التعرف على هذا النوع من الجرائم، كما التعرف على كافة جوانبها المتعلقة بأسبابها وإقامة المسؤولية الجنائية الدولية تجاهها.

ثالثاً: إشكالية الدراسة

لا بد من القول أن العقاب على الجريمة ضد الإنسانية، يؤدي بالدرجة الأوّلى الى حماية الصفة الإنسانية في الانسان، وحماية هذه الصفة تقتضي حماية الحقوق الاساسية التي تستلزم إسباغ هذه الصفة على الكائن الحي الذي يتمتع بها. وأهم هذه الحقوق حقه في الحياة، وفي سلامة جسده، وفي حريته، وفي عرضه، وفي شرفه وإعتباره.

رابعاً: أسئلة الدراسة

  1. ماهي العقوبات التي يتم فرضها على مرتكبي الجرائم ضد الانسانية.
  2. هل يحق الطعن بهذه الجرائم.

خامساً: أسباب إختيار الموضوع

من أهم أسباب إختيار الموضوع إستمرار إرتكاب الجرائم ضد الإنسانية لحد اليوم من طرف دول نصبت نفسها دولاً فوق العادة أو بالأحرى فوق القانون، كما أن تلك الجرائم ترتكب من جماعات مسلحة تابعة أو مدعومة من تلك الدول أو إرهابية، والذي تتخذه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول وتنفيذاً لسياساتها التوسعية، فما حدث بسجن أبو غريب بالعراق ومعتقل غوانتانامو، وما يحدث بالاراضي الفلسطينية يومية من طرف الاسرائيليين.

سادساً: المنهج المتبع في الدراسة

سوف نتناول موضوع الجريمة ضد الإنسانية من خلال إستعمال المنهج التاريخي من أجل الوقوف على التطور التي حصل في حماية وتعزيز الانسان ضد الافعال اللاإنسانية. بالاضافة الى المنهج التحليلي للنصوص القانونية المتعلقة بالجريمة ضد الإنسانية، وشرح أحكامها وتحديد آثارها بالتعليق والنقد لهذه النصوص للخروج بنتائج إيجابية تساعدنا على إيجاد حلول مناسبة لاشكالية البحث.

سابعاً: خطة الدراسة

للتوسع ومن أجل الاجابة على الاشكالية ، فقمنا بتقسيم بحثنا الى مطلبين، سنتناول فـي المطلب الأوّل إجراءات الطعن بالاستئناف أمام المحكمة الجنائية الدولية، وفي المطلب الثاني الآثار المترتبة عن الطعن بالاستئناف أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحل الطعن.

المطلب الاول

المحاكمات في الجرائم ضد الإنسانية

بعد توجيه الاتهام إلى المتهم (بعد إنتهاء المرحلة التمهيدية)، فإن المتهم يجب إحالته من قبل الدائرة التمهيدية إلى الدائرة الابتدائية (الدائرة المحاكمة) التي تتكون من ثلاثة قضاة من قضاة شعبة المحاكمة، لغرض محاكمة المتهم عن التهمة أو التهم الموجهة له(يشوي، 2010م، ص 247)، وتأمر المحكمة بما يلي: “أن هذا الشخص لا يتحمل أي حقوق وإلتزامات، وإما أن الاتهـام الموجه إليه له أساس وتواصل محاكمته” (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة 10) في إطار محاكمة عادلة ومنصفة ومستقلة يتمتع فيها بكل الحقوق والضمانات، لتحيله على الدائرة الابتدائية، لكن قبل ذلك هناك إجراءات لا بد من إحترامها. بالإضافة إلى ذلك، فإن أطراف الدعوى يتمتعون بطرق متعددة للطعن، والهدف من ذلك طلب عرض الحكم الصادر ضده علي هيئة قضائية أعلی من التي أصدرته وذلك لمراجعته سواء من الناحية الواقعية أو القانونية.

  1. إجراءات المحاكمة:

لا بد من القول أن المحكمة الجنائية الدولية تميزت عن المحاكم التي سبقتها، بأن هناك نوعين من الجلسات تعقدها الدائرة الابتدائية (دائرة المحاكمة)، هما:الجلسات التحضيرية، إذ يجب عليها عقد جلسة تحضيرية واحدة على الأقل، فهي مُلزمةٌ فَور تشكيلها أن تعقد مثل هذه الجلسة بُغية تحديد موعد المحاكمة، ويجوز لها عقد جلسات تحضيريّة أخرى -حسب الاقتضاء- بالتداول مع الأطراف، والغرض منها تسهيل سير الإجراءات بصورة عادلة وسريعة، أما النوع الثاني فهي جلسات المحاكمة، وفيها تتخذ سائر الإجراءات في هذه المرحلة.

  1. سير المحاكمة أمام الدائرة الابتدائية:

يقصد بسير المحاكمة أمام الدائرة الابتدائية إجراءات المحاكمة، أي تلك الإجراءات التي تتخذها المحكمة أو تأمر باتخاذها أثناء نظر الدعوى سواء كانت متعلقة بتحقيقها أو بالحكم فيها (محمد، ۱۹68، ص۱۸۹(.

إذ تبدأ إجراءات عمل المحكمة الجنائية الدولية من تاريخ إحالة القضية لها من مكتب المدعي العـام، إذ تتولى الدائرة الابتدائية في المحكمة باستلام القضية من أجل التداول مع الأطراف وإتخاذ التدابیر اللازمة لضمان سیر إجراءات المحكمة بشكل سریع وعادل، كما تقوم الدائرة الابتدائية بتحديد اللغة أو اللغات الواجب إستعمالها في المحكمة، كما تفصح المحكمة عن الوثائق والمعلومات التي لم يسبق الكف عنها، وذلك من أجل التحضير للمحاكمة قبل بدئها.

وفي بداية أولى جلسات المحكمة، يجب على الدائرة الابتدائية أن تتلو على المتهم التهم المسندة إليه، ويجب أن تتأكد الدائرة الابتدائية من أن المتهم يفهم طبيعة التهم، وعليها أن تعطيه الفرصة للاعتراف بالذنب، أو للدفع بأنه غير مذنب، وأثناء سير إجراءات المحاكمة فإنه يجوز للدائرة الابتدائية الفصل في قبول الأدلة أو رفضها، وإتخاذ جميع الخطوات اللازمة للمحافظة على النظام الجلسة، وفي سبيل الارتقاء بالعمل القضائي لدى المحكمة، فإن الدائرة الابتدائية تكفل إعداد سجل كامل بالمحاكمة يتضمن بياناً دقيقاً بالتدابير يتولى المسجل استكماله والحفاظ عليه.

يعتبر حضور المتهم أمراً ضرورياً عند النظر في دعواه من طرف الدائرة الابتدائية، وهذا يعني عدم إمكانية صدور حكم غيابي ضده من طرف المحاكم الجنائية الدولية.

وهذا هو المبدأ المتبع أمام مختلف هذه المحاكم، وبالعودة إلى الأنظمة الأساسية لها نجدها لا تنص على إمكانية أن تنظر الدعوى في غيبة المتهم، بالنسبة إلى جلسة إعتماد التهم أمام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، هناك إمكانية أن تتم في غياب الشخص المعني بالأمر إذا كان هذا الأخير يواصل تعطيل سير الجلسة، لكن في غير هذه الحالة فالمتهم يجب أن يكون حاضراً أمام المحكمة (نظام روما الأساسي، المادة 63).

وفي حال تم إعتماد حلول أخرى غير إقصاء المتهم من الجلسة عند تعطيله لسيرها، قد تبدو هذه الحلول غير ملائمة، وبالتالي يمكنه متابعة سيرها من خارج قاعة المحكمة ويقع توجيهه من محامٍ، ولا تتخذ مثل هذه التدابير إلا في الظروف الاستثنائية، بعد أن يثبت عدم كفاية البدائل المعقولة الأخرى ولفترة محدودة فقط طبقاً لما تقتضيه الحالة (نظام روما الأساسي، المادة 63)، ونفس هذا الإجراء تم إعتماده من قبل المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة المادة (۲۱/4) من نظام المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة الذي وقع اقتباسه من المادة (14/3) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التي تنص “أي شخص صدر ضده إتهام وبمقتضى الأحكام الواردة في هذا النظام، فإنه له الحق أن يحضر دعواه ويدافع عن نفسه، وله الحق في مساعدة مدافع يختاره بنفسه”.

إذا اعتقدت الدائرة الابتدائية على ضوء المعطيات المقدمة أن هناك أسباباً معقولة تدعو إلى الاعتقاد أن المتهم قد ارتكب جزءاً أو كل الجرائم، فإنها تصادق على قرار الاتهام، كما تنظر في إمكانية إصدار أمر دولي بالإيقاف يقع توزيعه على كل الدول (القواعد الاجرائية وقواعد الإثبات، القاعدة 61).

إذاً لا يمكن أن يكون هناك حكماً غيابياً صادراً عن مختلف المحاكم الجنائيّة الدولية، فالمتهم يجب أن يكون حاضراً في المحاكمة، وذلك طبقاً لما ورد في أحكام نظام القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات الخاص بالمحـاکم الجنائية الدولية المؤقتة، ومع ذلك وخلافاً للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة، ليس هناك أي إجراء ضمن نظام القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات للمحاكم الجنائية الدولية المؤقتة ينص على إقصاء الدفاع عندما يتم مثول المتهم أمام أي دائرة من دوائر المحكمة، “الدائرة الابتدائية للمحكمة يجب أن توضح للمتهم أنه من حقه أن يكون حاضراً في المحكمة خلال جميع مراحل المحاكمة، كما أنه من حقه أن يتم إبلاغه بقرار الاتهام، كما تثبت من إحترام الإجراءات الأوّلية وكل الإجراءات الأخرى خلال سير المحاكمة أمام المحكمة المختصة.

وعند مناقشة مسألة جواز المحاكمة غيابياً بموجب مشروع “النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” من لجنة القانون الدولي، طرحت آراء ثلاثة: الأوّل ويمثله بعض أعضاء اللجنة وبعض الدول وعلى رأسها فرنسا، حيث أيَّدَ إدراج نص يُمَكِّن المحكمة من إجراء المحاكمات بغياب المتهم، وذهب رأيٌ ثانٍ إلى عدم جواز المحاكمة الغيابية، إلا في ظروف محدودة جداً، أما الرأي الثالث وتبنته أستراليا، ولَقي تأييداً واسعاً، فقد طالب بإستبعاد المحاكمة الغيابية تماماً، لأن فكرة المحاكمة الغيابية غير ملائمة للجرائم التي تدخل في إختصاص المحكمة، فينبغي أن لا تُدعى المحكمة للعمل إلا في ظروف يمكن فيها تنفيذ الأحكام والعقوبات التي تصدرها، ولأن فرض الأحكام والعقوبات غيابياً دون إمكانية تنفيذها من شأنه أن ينال من سمعة المحكمة، وبالتالي فإن وجود هذه المحاكمات لن يكون مُجدياً، فالضحايا والشهود لن يحصلوا على قرار نهائي، وسيكون هناك دائماً إحتمال إجراء المحاكمة مجدداً بعد القبض على المتهم أو تسليم نفسه، وبالتالي فإن عليهم الحضور أمام المحاكمة ليدلوا بشهادتهم ثانيةً، كما ان النص على ذلك يُعد تأكيداً للحق في المحاكمة الحضورية، الوارد في الفقرة الفرعية (3/د) من المادة (14) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وعند مناقشة المسألة في مؤتمر روما فقد طرحت الآراء ذاتها، فإقترحت بعض الوفود تسويةً لاقت القبول، تتضمن إستبعاد إمكانية إجراء المحاكمات الغيابية، مع إعتماد نص مشابه للقاعدة (61) من القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات لمحكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا، فنصت المادة (63) من النظام الأساسي على أنه: (1-يجب أن يكون المتهم حاضراً في المحاكمة.2-إذا كان المتهم الماثل أمام المحكمة يواصل تعطيل سير المحاكمة، يجوز للدائرة الابتدائية إبعاد المتهم، وتوفر له ما يمكنه من متابعة المحاكمة وتوجيه المحامي من خارج قاعة المحكمة عن طريق استعمال تكنولوجيا الإتصالات إذا لزم الأمر، ولا تتخذ مثل هذه التدابير إلّا في الظروف الاستثنائية، بعد أن يثبت عدم كفاية البدائل المعقولة الأخرى، ولفترة محدودة فقط طبقاً لما تقتضيه الحالة).

وبتقديرنا فإنَّ الإتجاه الذي أخذ به النظام الأساسي للمحكمة سليمٌ، فحضور المتهم المحاكمة عن جريمة دولية أمر ذو أهمية كبيرة، لا بسبب إنسجامها مع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية فحسب بل بغية إثبات الوقائع، وتمكين المتهم من الدفاع، ومن ثم تمكين المحكمة من إصدار حكم وعقوبة قابلة للتنفيذ في حالة الإدانة، وبما أن الفقرة الفرعية (2/ب) من المادة (61) تسمح باعتماد التهم في غياب المتهم، فإن إجراء محاكمته غيابياً سيكون غير مفيد عملياً، لأنه ستتم إعادتها عندما يُسَلِّم نفسه، أو يُلقى القبض عليه.

إنَّ الأنظمة الأساسية للمحـاكم الجنائية الدولية ترى أن الدائرة الابتدائية للمحكمة المعنية مدعوة إلى ضمان سير الدعوى وفق إجراءات عادلة وسريعة، وأن تنعقد في جو من الاحترام التام لحقوق المتهم والمراعاة الواجبة لحماية المجنى عليهم والشهود (نظام روما الأساسي، المادة 64).

بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ الدائرة الابتدائية للمحكمة الجنائية الدولية سواءً أكانت دائمة أو مؤقتة عندما تنظر في الدعوى يمكنها أن تأمر باتخاذ الإجراءات الخاصة التي تمكن من حماية الحياة الخاصة للضحايا والشهود وتوفیر الحماية لهم، وهذه الحماية تكون ضرورية في الحالات التي يخشى فيها على سلامة هؤلاء أو سلامة عائلاتهم، وتكون هذه الإجراءات ضرورية عندما تنطوي الجريمة على عنف جنسي، أو في حالة وجود ضحية العنف الجنسي (نظام روما الأساسي، المادة 68).

وإن عددً كبير من الشهود قد يرفض أداء الشهادة إذا لم تضمن لهم حماية خصوصيتهم، كذلك فإنَّ حضورهم أمام المحكمة يمكن أن يُمثل مصدر خشية في أن يتم إثارة جروح وذكریات يريدون نسيانها، ومن هنا، فإنَّ عدم حضورهم يمكن أن يؤثر على عمل المحكمة، ومن ثم فإنَّه يجب على هذه المحاكم أن تضمن حضورهم، وذلك بتوفیر الضمانات المطلوبة التي تُمكن من حمايتهم، لكن يجب التذكير أن هذه الإجراءات التي تأمر بها يجب أن لا تمس أو تتعارض مع حقوق المتهم أو مع مقتضيات إجراء محاكمة عادلة ونزيهة (القواعد الاجرائية وقواعد الإثبات القاعدة 75).

وفي هذا السياق، فإنَّ هذه الدوائر مطلوب منها أنْ تأخذ في الاعتبار أنّها ليست مقيدة بالتفسيرات التي تعطيها الأجهزة القضائية الأخرى لمفهوم حقوق المتهم، لذلك يجب أن يكون للمحاكم الجنائية الدولية تفسيرها الخاص لهذا المفهوم الذي يجب تفسيره وتأويله ضمن السياق الذي ورد فيه، مع الأخذ بعين الاعتبار تحقيق التوازن المطلوب بين حقوق المتهم وحقه في محاكمة عادلة وعلنية، وبين حماية الضحايا والشهود ضمن الإطار الذي يسمح به القانون.

وتعترف الأنظمة الأساسية لهذه المحاكم بصفة صريحة بالرابط الموجود بين إحترام حقوق المتهم وحماية الشهود (نظام محكمة يوغسلافيا، المادة 20/1)، هذه الأنظمة كرست وأكدت علی حق كل شخص وجهت إليه التهمة في أن يحاكم محاكمة علنية، وفي أن تكون المحاكمة منصفة وتجري على نحو نزيه (نظام روما الأساسي، المادة 67).

غير أنّه يمكن للدائرة الابتدائية، بالنظر إلى ظروف معينة من ذلك مثلاً حماية المجنى عليهم أو الشهود أو لحماية المعلومات السرية والحساسة التي يتعين تقديمها كأدلة أن تقرر إنعقاد بعض الإجراءات في جلسة سرية (نظام روما الأساسي، المادة 64)، كما يمكن إقصاء الصحافة والجمهور من قاعة المحاكمة خلال فترة محدودة أو طول الجلسة بالنظر إلى أمور تتعلق بالنظام العام أو الأخلاق الحميدة لضمان السرية وحماية الضحايا أو الشهود أو لضمان عدم كشف هويتهم أو لاعتبارات تتعلق بمصلحة القضاء (القواعد الاجرائية وقواعد الإثبات القاعدة 79).

ومع ذلك فقد أكدت الدائرة الابتدائية للمحكمة الدولية الخاصة بیوغسلافيا السابقة في قضية المدعو “تادیتش” على أن أحكام النظام الأساسي لهذه المحكمة، قد فضل بصورة واضحة مبدأ العلنية في الإجراءات باعتباره يُمثل ضمانة هامة يمكّن من خلاله مراقبة حسن سير القضاء، وهو ما أكدت عليه أيضاً المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بقولها “أن العلانية في المحاكمة تمثل ضمانة تؤدي إلى تحقيق الديمقراطية”، كما أكدت هذه الدائرة على مبدأ العلانية في المحاكمة لا يعتبر حقاً للمتهم فقط، وإنّما هو حق أيضاً للمجتمع الدولي الذي يجب أن يعلم بالمحاكمات الجارية أمام المحاكم الجنائية الدولية، وبالرغم من ذلك فقد رأت الدائرة الاستئنافية بمحكمة “ستراسبورغ” أن مبدأ العلانية في المحاكمة لم يتم خرقه إذا ما اتفق طرفي الدعوى على أن تتم الجلسة بصفة سرية، واشترطت أن يتم هذا التنازل عن مبدأ العلانية بصفة رضائية ومن تلقاء النفس وليس تحت ضغط أو إكراه.

لكن في كل الحالات، فإنّ الدائرة الابتدائية لمختلف المحاكم الجنائية الدولية لها أن تأمر بحضور الشهود وإدلائهم بشاهدتهم وتقديم المستندات وغيرها من الأدلة، كما تتخذ هذه الدائرة التدابير اللازمة لحماية المعلومات السرية، إضافةً إلى حماية المتهم والشهود والمجنى عليهم، والفصل في أية مسائل أخرى ذات صلة (نظام روما الأساسي، المادة 64).

أما في الحالة التي يعترف فيها المتهم بالذنب، فإن الدائرة الابتدائية يجب أن تتثبت ما إذا كان المتهم يفهم طبيعة ونتائج الاعتراف بالذنب، وأن هذا الاعتراف قد صدر طوعاً عن المتهم بعد تشاور كافٍ مع محامي الدفاع، وما إذا كان الاعتراف بالذنب تدعمه وقائع الواردة في ملف الدعوى (نظام روما الأساسي، المادة 65)، وللدائرة الابتدائية إذا ما اقتنعت بثبوت المسائل المشار إليها في الاعتراف بالذنب مع أية أدلة إضافية جرى تقديمها تقريراً لجميع الوقائع الأساسية اللازمة لإثبات الجريمة المتعلق بها الاعتراف بالذنب، ويجوز لها أن تدين المتهم بتلك الجريمة، أما إذا لم تقتنع تعتبر الاعتراف بالذنب كأنه لم يكن، وعليها في هذه الحالة أن تأمر بمواصلة المحاكمة وفقاً لإجراءات المحاكمة العادية.

وما يمكن ملاحظته والإشارة إليه أن هذا الإجراء يختلف باختلاف المحاكم إذ يتم الترافع والدفاع أمام المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة سواءً أكان المتهم مذنباً أو غير مذنب، ويتم طرح سؤال الاعتراف بالذنب أو عدم الاعتراف به عند أول مثول المتهم أمام هذه المحاكم وقبل بداية إجراءات المحاكمة.

وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى قضية المدعو “درازان ارديموفيتش” الذي مثل أمام الدائرة الابتدائية للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، وقد ترافع عن نفسه على أساس أنه مذنب بارتكابه جرائم ضد الإنسانية، لكنه أضاف ما يلي “سيدي الرئيس لقد أجبرت علی إتيان مثل هذا التصرف، وإذا ما رفضت القيام بذلك ربما أكون قد قتلت في نفس الوقت مع هؤلاء الأشخاص، لقد أبدیت امتعاضي ورفضي لمثل هذه التصرفات، وقد وجه إليه إنذار مفاده إذا ما كنت متأسفاً أو نادماً، ويمكن أن أكون إلى جانب هؤلاء القتلى، وأنا لست خائفاً على نفسي، لكني کنت خائفاً على زوجتي وإبني الذي كان يبلغ من العمر تسعة أشهر في ذلك الوقت، والذين كان يمكن أن يكون مصيرهم الموت إذا ما رفضت القيام بمثل هذا التصرف”.

وفي هذه الظروف رأت الدائرة الابتدائية إنطلاقاً من الصلاحية المخولة لها قانوناً أن تتثبت من الاعتراف بالذنب الذي أُسس عليه المتهم دفاعه، وذلك على مستويين الشكلي والجوهري، وأن تتثبت أيضاً أن هذا الاعتراف بالذنب من قبل المتهم كان بصفة إرادية وأنه كان نتيجة لوعي تام وكامل بطبيعة الاتهام والنتائج المترتبة عليه، كما لاحظت الدائرة الابتدائية أن مضمون الدفاع الوارد بعد الاعتراف بالذنب يمكن أن يكون معياراً لتحديد قيمة هذا الاعتراف، وإذا ما رأت وقدرت أن هذا الاعتراف لا قيمة له، فلها أن تقرر أن هذا الاعتراف لا يترتب عنه أية نتائج قانونية، وقد اعتبرت الدائرة الابتدائية أن المتهم أراد الاعتراف بالذنب ليبرر أن ما قام به هو تنفيذاً لأوامر وأنه خاضع لها باعتبار أنه مرؤوس وأنه واقع تحت إكراه مادي ومعنوي ناتج عن خوف على نفسه وعلى أسرته، ورأت الدائرة أن ذلك لا يعفي المتهم من المسؤولية الجنائية باعتبار أن المادة (7) من نظام للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة استبعدت بصورة صريحة أي دفاع مستند إلى الخضوع إلى أوامر الرئيس، وأقرت أن المتهم “آدريموفيتش” مذنب ويتحمل المسؤولية الجنائية بصورة تامة.

ويبدو الأمر علی خلاف ذلك فيما يتعلق بالإجراءات أمام الدائرة الابتدائية للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة، إذ إنّ هذا الأمر يتم في بداية المحاكمة، حيث تنص المادة (14/۸) من نظام روما الأساسي على ما يلي: “في بداية المحاكمة يجب على الدائرة أن تتلو على المتهم التهم التي اعتمدتها الدائرة التمهيدية، ويجب أن تتأكد الدائرة الابتدائية من أن المتهم يفهم طبيعة التهم، وعليها أن تعطيه الفرصة للاعتراف بالذنب وفقاً للمادة (65) أو للدفع بأنه غير مذنب (نظام روما الأساسي، المادة 64/8).

وما يمكن ملاحظته أن الخيار في هذا الأمر متروك للمتهم، إذ يمكن أن يعترف المتهم بأنه مذّنب بعد قراءة قرار الاتهام مباشرة، وهذا الاعتراف بالذنب يمكن أن يساهم في تقليص مدة المحاكمة إذا ما اقتنعت المحكمة به لتقضي بعد ذلك بإدانته، مع أنه يمكن أن يعترف المتهم بالذنب رغم أنه بريء أو أنه يعترف بالذنب ولا يدرك طبيعة ما اعترف به، ولأجل ذلك فإن الدائرة الابتدائية للمحكمة المعنية يجب أن تتأكد أن هذا الاعتراف بالذنب معزز بأدلة يحتويها ملف القضية، وأن هذا الاعتراف تم طواعية وعن وعي تام وأنه تم أيضاً بالتنسيق مع الدفاع وفهم طبيعة النتائج المترتبة عليه، كما يجب عليها أن تتأكد أن هذا الاعتراف ليس مصطنعاً، فإذا ما اقتنعت بهذا الاعتراف بالذنب فإنّها تصرح بإدانة المتهم، أما إذا لم تقتنع فإنها تأمر بمواصلة المحاكمة طبقاً للإجراءات العادية.

كما أن المحكمة ليست ملزمة بأية مناقشات تقع بين الدفاع والمدعي العام تتعلق بإدخال تعديلات على التهم أو الاعتراف بالذنب أو العقوبة الواجب تطبيقها (نظام روما الأساسي، المادة 65/4،5).

وما يمكن تلخيصه بالنسبة لإدارتها للدعوى من طرف المحكمة، تستمع المحكمة لأقوال المتهم وتواجهه بالأدلة وبالأقوال التي أدلى بها، وتدار الجلسة أمام مختلف المحاكم الجنائية الدولية على النحو التالي: تلاوة قرار الاتهام بكامله، توجيه الاتهام إلى المتهم ليرد عليه بالنفي أو بالإيجاب، توضيح سلطة الاتهام وجهة نظرها، مناقشة المحكمة لأدلة كل من الاتهام والدفاع، إستجواب شهود الإثبات قبل شهود النفي، توجيه المحكمة أي سؤال إلى أي شاهد أو متهم يتبادر إلى ذهنها نتيجة ما يدور من مناقشات في الجلسة، توجيه الاتهام والدفاع بكل حرية أسئلة للشهود والمتهمین، شرح الدفاع أسباب ووسائل دفاع، شرح الاتهام أسباب وسائل اتهامه، تمكين المتهم من شرح وجهة نظره، وأخيراً إصدار المحكمة قرارها بالإدانة والعقاب في حالة ثبوت التهمة، أو بالبراءة في حالة عدم ثبوتها، ومع هذا فإن المحاكمة لا تكون عادلة إلا إذا إحترم القضاة القواعد المتعلقة بمقبولية أدلة الإثبات.

المطلب الثاني

حقوق المتهم الماثل أمام المحكمة الجنائية الدولية

يُعـدّ موضوع حقوق المتهم أمام المحكمة ودوائر النيابة العامة من أهم المواضيع القانونية، فقد تناوله الدارسون والباحثون فـي العديد من أبحاثهم ودراساتهم، وذلك لتعلقه بحقوق وحريات الإنسان وحقه في الدفاع عن نفسه أمام المحاكم ودوائر النيابة العامة، وقد تم كفالة هذه الحقوق والنص عليها في العديد من الاتفاقات الدولية والإعلانات العالمية والدساتير المختلفة، كذلك تم الإشارة إلى هذه الحقوق والتأكيد عليها في قوانين الإجراءات المختلفة لمعظم الدول، وهذا الفرع سيتناول بالدراسة ثلاثة أركان أساسية كالآتي: علانية المحاكمة، والاستعانة بمحام، وإستجواب المتهم.

  1. علانية المحاكمة:

تُعدّ علانية المحاكمة ضمانة من ضمانات المتهم وحق من حقوق الدفاع عن نفسه أمام المحاكم، إذ تضمن للمتهم أيضاً رقابة للرأي العـام على ما يدور في جلسات المحاكمة بما يعزز من ثقة الرأي العـام بالسلطة القضائية والأحكام الصادرة عنها، والعلانية في اللغة من الإعلان أي المجاهرة (قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا، رقم (10) لسنة 2005، المادة 19)، ويعلن علناً، والعلانية خلاف السر وهو ظهور الأمر، وقد تفيـد مجرد الإعلان أو الإعراب عن المراد ومكاشفة شخص آخر به (آبادي، 2013 ص 1235).

أمـا إصطلاحاً فلم تُعرّف التّشريعات الوطنية العلانية ولا الإتفاقـات الدولية والمعاهدات العلانية، إذ تركت المجال للفقه والاجتهـاد القضائي تعريفهـا، ويمكـن تعريفها بأنها “تمكين جمهور من الناس وبشكل متساوي ودون تمييز بين فرد وآخر من حضور جلسات المحاكمة من أجل متابعة مـا يدور فيها من مناقشات ومرافعات وما يتخذ بها من إجراءات” (الكيلاني، 1985، ص 559).

ولا شك أن العلانية تُعدّ عنصراً من عناصر المحاكمة العادلة إذ بموجبها يُتاح للجمهور مراقبة السلطة القضائية فـي جميـع إجراءات التحقيق والمحاكمة، ويلاحظ أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وإنطلاقاً من الحفاظ على حقوق المتهم وضمانات المحاكمة العادلة أكد على ضرورة أن تجـري المحاكمة علنية، إذ نصت المادة (64/7) على ما يأتي: “تنعقد المحاكمة في جلسات علنية، بيد أنه يجوز للدائـرة أن تقرر أن ظروفاً معينة تقتضي بعض التدابير في جلسات سرية”.

ویرى بعض الباحثين أن العلانية في المحاكمـات الجزائية تحقق الردع العام لدی جمهور الحضور خصوصاً إذا ما علمنا أن نفسية الأشخاص تختلف فيما بينهـم وبين أفراد العائلة الواحدة فهناك من يتعلم أساليب الإجرام على سمعته وكرامته لأن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع العيش دون أقرانـه (مرغلاني، 2005م، ص105).

ونلاحظ أنَ معظم التّشريعات العربية أكدت على ضرورة أن تكون المحاكمات علانية، إذ نصّت المادة (268) من قانـون الإجراءات الجنائية المصري رقم (150) لسنة 1950م على ما يلي: “يجب أن تكون الجلسة علانية، ويجوز للمحكمة أن تأمر بسماع الدعـوى كلها أو بعضها في جلسة سرية”، وتطبيقاً لذلك قضت محكمة النقض المصرية في أحد قراراتها على أنـه: “المحكمة ليست ملزمة بإجابة طلـب الخصوم جعل الجلسة سرية إذ لم ترَ محلاً لذلـك، ولا يترتب على رفضها هذا الطلب حرمان المتهم من تقديم البينات التي يراها إلا أنه لا مانع يمنعه من تقديمها في الجلسة العلانية شفهياً أو فـي مذكـرة، فإذا هو لم يفعل فلا يلومن إلا نفسه” (مجموعة أحكام محكمة النقض، رقم 228، ص 264).

ويمكن القول أنّ المحكمة الجنائية الدولية ومن خلال دراسة نظامها الأساسي انسجمت مع التشريعات الوطنية والاتفاقات الدولية في النص بشكل صريح على ضمانة حق المتهم في علانية المحاكمات، وذلك عندما تضمنت المـادة (67/1) وتحت باب حقوق المتهم، حق المتهم في إجراء المحاكمة علانية، التي نصت على أنه: (عند البت في أي تهمة، يكون للمتهم الحق في محاكمة علنية)، أي يجب أن تكون جلسات المحاكمات علانية وإجراء جلساتها بصورة شفهية وتمكين الجمهور من حضورها، بما في ذلك الصحافة، ويجب كذلك أن تعلن المحكمة عن موعد ومكان جلسات المرافعة للجمهور، وأن توفر التسهيلات اللازمة لحضورهم في الحدود المعقولة، باستثناء حالات خاصة، وهي التي يظهر فيها أن العلانية تضر بمصلحة العدالة، ومع ذلك نرى وجوب التشدد في تفسير تلك الحالات، كونها جاءت على سبيل الاستثناء، وبالتالي لا يمكن القياس عليها، كما أن قاعدة العلانية تمثل حقاً من حقوق المتهم، لذا فإن إهدارها بدون سبب معقول يُعَد إهدراً لضمانة أساسية من ضمانات المحاكمة العادلة، وبموجب الفقرة (7) من المادة (64) فإن الأصل هو أن تُعقد المحاكمة في جلسات علنية، بَيدَ أن للدائرة الابتدائية أن تقرر عقد جلسة سرية في حالات محددة لتحقيق الأغراض المبينة في المادة (68) والمتعلقة بحماية المجني عليهم والشهود عند إشتراكهم في الإجراءات، أو لحماية المعلومات السرية أو الحساسة التي يتعين تقديمها كأدلة.

  1. الاستعانة بمحام:

تُعدّ إستعانة المتهم بمحام من الضمانات المهمة المكفولة بموجب التشريعات والاتفاقات الدولية، فالدفاع عن النفس من أهم الحقوق التي منحها المشرع للمواطن للدفاع عن نفسه أثناء التحقيق ضد كل مـا يثار من تهم تمسه، ولقد أقرت القوانین هذا الحق للخصوم، وأجبرت السلطات القائمة على تمكين المواطنيـن أو المتهمين من ممارسة هذا الحق، وبالتالي فإنّ تعطيل هذا الحق يترتـب عليه بطلان التحقيق (العلي، 2005م ، ص 143).

وفي هذا المجال أكدت محكمة النقض المصرية أن الدفع ببطلان الاستجواب لعدم دعوة محامـي المتهم للحضور رغم عـدم تنازله عن الدعـوی صراحةً يعد دفع جوهري لتعلقه بحرية الدفاع وبالضمانـات الأصلية التي كفلها القانون لحقوق هذا المتهم (مجموعة أحكام محكمة النقض، س 19، رقم 176 ، ص 891).

ونظراً لأهميّة هذا الحق فقد أكدت عليه المواثيق الدولية والإقليمية على حدٍ سواء، ونصت عليه الفقرة الفرعية (4/ب) من المادة (21) من النظام الأساسي لمحكمة يوغوسلافيا السابقة، والفقرة الفرعية (4/ب) من المادة (20) من النظام الأساسي لمحكمة رواندا، وتُعدّ المحكمة الجنائية الدولية جزء من المنظومة القضائية الدولية والتي انسجمت مع الأجهزة القضائية الوطنية في إحترام حقوق المتهم في التأكيد على حقه في الاستعانة بمـحـام إذ أكدت عليه الفقرة الفرعية (1/ب) من المادة (67) “النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” التي أوجبت أن يُتاح للمتهم ما يكفي من الوقت والتسهيلات لتحضير دفاعه، وللتشاور بحرية مع محامٍ يختاره، وذلك في جوٍ من السرية؛ كما نصت المادة (55/2/ج) من النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية على ما يلي: “الاستعانة بالمساعدة القانونية التي يختارها وإذا لم يكن لدى الشخص مساعدة قانونية توفر له تلك المساعدة في أية حالة تقتضي فيها دواعـي العدالـة”؛ كما نصت المادة (55/2/د) على أنه: “يجري استجوابه فـي حضور محـامٍ، ما لم يتنازل الشخص طواعية عـن حقه في الاستعانة بمحامٍ”.

ويلاحظ أن جميع التشريعات الوطنية والنظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية والاتفاقات الدولية أجمعت على إحتـرام حـق المتهم فـي الدفـاع عن نفسه وضرورة توكيل محام للدفـاع عنه أمام المحاكم والنيابة العامة.

  1. إستجواب المتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية:

ويعد الاستجواب من أهم إجراءات التحقيق الابتدائي الهادفة إلى البحث عن الأدلة، إذ بواسطته يتوجه الشخص القائم بالتحقيق مباشرة إلى المتهم ذاته للوقوف على الحقيقة والوصول إلى إعتـراف منه يثبت التهمة المنسوبة إليه، أو إتاحة الفرصة له للدفاع عن نفسه حتى يتمكن من دحض الأدلة والشبهات القائمة ضده.

ويقصد باستجواب المتهـم: “إجراء من إجراءات التحقيق بمقتضـاه يتثبت المحقق من شخصية المتهم ويناقشه في التهمة المنسوبة إليه على وجـه مفصل في الأدلة القائمة فـي الدعوى إثباتاً ونفياً” (سلامة، 1980م، ص256).

ومن تعريفـات الاستجواب المختلفة نلاحظ أنه يقوم على ثلاثة عناصر مهمة هي: (أن توجـد تهمة يتم توجيهها لشخص ما يتم التثبـت مـن شخصيته، كما یتم مناقشته عنها بصورة تفصيلية، وهـذا الشخص يسـمى متهمـاً، وأن مواجهة المتهـم بالأدلة التي من شأنها إثبات التهمة المنسوبة إليه، وأنه يحق للمتهم دحض هـذه الأدلة وتفنیدها، وهذا الحق هو حق دستوري) (الجوخدار، 2011م، ص 78).

ويُعدّ الاستجواب من الضمانات المكفولة للمتهم بموجب قوانين الإجراءات؛ إذ لا يجوز للنيابة العامة توقيف المتهـم عن أي جرم مسند إليه إلا بعد إستجوابه ومناقشته بالتهمة المسندة إليه مناقشة تفصيلية؛ إذ يضمن المتهم معرفة التهمة المسندة إليه بشكل صريح وواضح ليستطيع تحضير دفاعه وبياناته أمام النيابة العامة (خليل، 1986م، ص9).

وقد كفلت المحكمة الجنائية الدولية بموجب نظامها الأساسي المُعتمد في روما سنة 1998م للمتهم حق إستجوابه ومناقشته بالتهمة المسندة إليه بشكل تفصيلي وبحضور محام للدفـاع عنه، ما لـم يتنـازل المتهم عن حقه في الاستعانة بمـحـام طواعية، وكذلك كفلت المحكمة الحق للمتهم بالاستعانة بمترجم لحظة إستجوابه، وذلك إذا جرى إستجوابه بغير لغته حفاظاً على حقوقـه فـي توضیح التهمة المسندة إليه بشكل تفصيلي وبلغة المتهم وبشكل صريح وواضح.

ونظراً لخطورة الاستجواب وخوفاً من إستخدامه وسيلة للضغط على المتهم وإنتزاع الاعتراف منه بارتكاب الجريمة، فقد طالب فقهاء القانون الجنائي بإحاطته بمجموعة من الضمانات التي تكفل للمتهـم الدفاع عن نفسه وإثبات براءته، سـواء من خلال التشريعات الوطنية أو الدولية كنظام روما الأساسي، وذلك لأن المتهم قد يتـم استجوابه من السلطات الوطنية بناءً على طلـب مقدم بموجب الباب التاسع من نظـام روما الأساسي، وتُعد من أهم هذه الضمانات:

1-إحاطة المتهم علماً بالجريمة المنسوبة إليه:

يجب على الشخص القائم بالاستجواب إخبار المتهم بعد التثبت من شخصيته بجميع الأفعال المنسوبة إليه وإحاطته علماً بالشبهات القائمة ضده، وتتجلى أهمية إحاطة المتهم علماً بالواقعة المنسـوبة إليه والأدلة المتوفرة ضده فـي كـون هـذه الإحاطة تعتبر من الأمور الهامة لصحة ما يبديـه المتهم من أقـوال واعترافات فيما بعد، فضلاً على أنها تساعد المتهم على تحضير دفاعه بنفسه أو بواسطة وكيله إذا تطلب الأمر ذلك، وهـذا ما يتطلبه المنطق لأنه لا يمكن لهذا المتهم أن يقـدم دفاعـه ويناقش الأدلة القائمة ضده ما لم يكن على معرفة وعلم بتلك التهم (ظفير، 2005م، ص 161).

كذلك أكدّ على هذه المسألة نظام روما الأساس، فقد أكد على حق المتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية في معرفة التهمـة المسندة إليه، إذ نصت المادة (55/2/أ) منه على أن “يجـري إبلاغـه قبـل الشروع في إسـتجوابه، بأنَّ هناك أسباباً تدعو للاعتقاد بأنّه ارتكب جريمة تدخل في إختصاص المحكمة”. وتجـدر الإشارة إلى أن نظام روما الأساس لم يكتف بالنص على مسألة إحاطة المتهم علماً بالجريمة المنسوبة إليه، وإنَّما رتب البطلان فيهـا إذا أغفل المحقق ذلك، وهذا ما نصت عليه المادة (68/7) من هـذا النظام بقولها “لا تقبل الأدلة التي يتم الحصول عليها نتيجة إنتهاك لهذا النظام الأساس أو لحقوق الإنسان المعترف بها دولياً إذا كان الانتهاك يثیر شكاً في موثوقية الأدلة، وإذا كان قبول هذه الأدلة يمسُ بنزاهة الإجراءات ويكون من شأنه أن يلحق بها ضرراً بالغاً”.

وقد أكدت على هذا الحق المواثيق الدولية والإقليمية (العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المادة 14/3/أ)، كما أن الفقرة (ب) من المادة (14) من ميثاق محكمة نورمبرغ قد نصت على “حق المتهم في أن يعطى أية إيضاحات متعلقة بالجريمة الموجهة إليه”، ونصت الفقرة الفرعية(4/د) من المادة (21) من النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة على حق المتهم في أن يُبَلَّغ في أقرب وقت وبلغة يفهمها بطبيعة التهمة الموجهة إليه وبأسبابها، كما جاءت الفقرة الفرعية(4/أ) من المادة (20) من النظام الأساسي لمحكمة رواندا بنص مُماثل.

2- عدم التأثير على إرادة المتهم:

يجب أن يكون الاستجواب قد تم مباشرته في ظروف لا تأثير لها في إرادة وحرية المتهـم في إبـداء أقوالـه ودفاعـه، وخصوصاً إذا ما أدركنا أنه من السهل إجبار الشخص على الكلام، ولكن مـن الصعب إجباره على قول الحقيقة، وهذا التأثير في إرادة المتهم قد يكـون مادياً بالعنف والتعذيب ونحوها، وقد يكون معنوياً بالتهديد والوعد ونحوها (بشیت، 1998م، ج2، ص154)، كما منعت التشريعات الوطنية ممارسة أي شكل من أشكال التعذيب.

كما أن نظام روما الأساسي قد حظر إجبـار الشخص علی تجریم نفسه والاعتراف بأنّه مذنب، وحظر كذلك إخضاع الشخص للتعذيب والإكراه والعنـف وأي شكل من أشكال القسر، ولم يكتفِ نظـام روما الأساسي بالنص على حظر هذه الأشكال، وإنّما رتب البطلان على الاعتراف الـذي يتـم الحصول عليه نتيجة الإكراه أو التهديد أو نحوها.

3-إستدعاء الشهود ومناقشتهم:

تَضَمَّنَ “النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” ليوغسلافيا السابقة هذا الحق فنص عليه في الفقرة الفرعية (4/هـ) من المادة (21)، كما جاءت الفقرة الفرعية (4/هـ) من المادة (21) من النظام الأساسي لمحكمة رواندا بنص مُماثل، كذلك لم يغفل “النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” هذا الحق، فنص عليه في الفقرة الفرعية (1/هـ) من المادة (67) التي أوجبت السماح للمتهم بأن يستجوب شهود الإثبات بنفسه أو بواسطة آخرين، وأن يؤمن له حضور وإستجواب شهود النفي بنفس الشروط المتعلقة بشهود الإثبات، كما أن له الحق في إبداء أوجه الدفاع وتقديم أدلة أخرى مقبولة بموجب النظام الأساسي، ذلك أن من الأركان الرئيسة لمبدأ تكافؤ الفرص بين الدفاع والادعاء، هو حق المتهم في استدعاء الشهود وسؤالهم (محمد، 1992، ص235).

5-أن يدلي المتهم ببيان شفوي أو مكتوب، من غير أن يحلف اليمين، دفاعاً عن نفسه:

إنّ تحليف المتهم اليمين يُعَدُّ صورة من صور الإكراه المعنوي للتأثير في إرادة المتهم، لذلك فقد استقرت التشريعات الإجرائية الوطنية على عدم تحليف المتهم اليمين عند استجوابه، وإلا كان الاستجواب باطلاً (عبيد، 1978، ص395)، وذات الضمانة مقررة أيضاً في “النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” ليوغسلافيا السابقة، فبموجب الفقرة الفرعية (4/ز) من المادة (21)، من حق المتهم عند الفصل في أية تهمة موجهة إليه، أن لا يُجبر على أن يشهد ضد نفسه، أو الاعتراف بجرمه. كما انها مكفولة أيضاً بموجب الفقرة الفرعية (4/ز) من المادة (20) من النظام الأساسي لمحكمة رواندا. وكذلك الحال بموجب الفقرة الفرعية (1/ح) من المادة (67) من “النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية”. فتوجيه اليمين للمتهم تجعله في موقف مُحرج قد يضعه بين خيارين: فإما أن يكذب ويُنكر الحقيقة، أو أن يُضحي بنفسه ويعترف، ولهذا فمن القسوة وضع المتهم بين مصلحته في حلف اليمين كذباً فيخالف معتقداته الدينية والأخلاقية، وبين أن يقرر الحقيقة ويتهم نفسه ويعرضها للعقوبة، وبما أن إكراه المتهم على الإقرار بالذنب لا يجوز بأي وسيلة كانت، فيجب عدم تحليف المتهم اليمين عند الإدلاء بإفادته.

5-ألا يفرض على المتهم عبء الإثبات أو واجب الدحض على أي نحو:

نصت الفقرة الفرعية (1/ط) من المادة (67) “النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” على أن إعتبار المتهم بريئاً إلى أن تثبت إدانته في سياق محاكمة تتوفر له فيها جميع ضمانات المحاكمة العادلة، إنما هو شرط له أبلغ الأثر على العدالة الجنائية، فهو يعني أن عبء الإثبات يقع على الإدعاء، وإذا توفرت أسباب معقولة للشك، فيجب ألا يدان المتهم، لذلك كما أن الفقرة (3) من المادة (66) منه قد نَصَّت على أنه: (يجب أن تقتنع المحكمة بأن المتهم مذنب بصورة لا تدع أي مجال معقول للشك قبل أن تدينه). في حين أن النظامين الأساسيين لكل من محكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا اكتفا بالنص على قرينة البراءة، بأن المتهم يُعَدُّ بريئاً حتى تثبت إدانته (النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافية السابقة المادة 21، النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا، المادة 20/3).

الخــاتمة

سنورد فيما يلي أبرز النتائج التي تم التوصل إليها، وأبرز الاقتراحات التي نرتئيها:

أولاً: النتائج

أهم النتائج التي تمّ التوصل إليها في هذا البحث، هي:

  1. تبين وجود تشابه تام بين أحكام المادة (7/1 و 2) من نظام المحكمة الجنائية الدولية وأحكام المادة (12/ أولاً وثانياً) من قانون المحكمة الجنائية العراقية الرقم (10) لسنة 2005، بإستثناء جريمة الفصل العنصري فإنها لم ترد في أحكام “قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا”.
  2. وقد حدد نظام المحكمة الجنائية الدولية عقوبات للجرائم الداخلة في إختصاصه، في حين أن قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا لم يحدد العقوبات للجرائم الداخلة في إختصاص المحكمة، بل أحال ذلك للقوانين العقابية الأخرى المنصوص عليها في أحكام المادة (17/ أولاً وثانياً) والمادة (24/ أولاً وخامساً) من قانون المحكمة، وهي قانون العقوبات البغدادي لسنة 1919 وقانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 وقانون العقوبات العسكري رقم 19 لسنة 2007 وغيرها من القوانين، وإن الطريق ما زال طويلاً للوصول إلى الزجر التام لهذا النوع الخطير من الجرائم الدولية، طالما ما زال ذلك مرتبطاً بالسياسة الدولية وبمصالح الدول الكبرى في العالم، وطالما لا توجد هناك نية حقيقية من قبل جميع الدول لقمع وردع مرتكبيها، فالإدانة وحدها لا تكفي إذ لا بد أن تقترن بالعقاب حماية لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المقررة بموجب قواعد القانون الدولي، فكثيراً ما تصطدم المساعي لتحقيق العدالة الجنائية الدولية في هذه الجرائم كما نص عليها نظام روما الأساسي لعام 1998 بالواقع والصراع الدولي والمصالح الشخصية للدول الكبرى ومطامعها، إلا انه تم إرساء نظام المسؤولية الجنائية الدولية عن الانتهاكات لقواعد القانون الدولي الإنساني.
  3. أظهرت التشريعات الدولية الضعف في العقوبات المفروضة على جرائم ضد الإنسانية، حيث أن عدم فرض عقوبة الإعدام على الجرائم المرتكبة وفقًا للمواد المنصوص عليها في “النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” لا يتناسب مع خطورة بعض الجرائم مثل الإبادة والقتل والترحيل القسري. ونتيجة لذلك، يصبح من الغير مناسب في بعض الحالات قبول إحالة هذه الجرائم إلى المحكمة المذكورة أعلاه، لأنها قد لا تكون قادرة على تحقيق العدالة للضحايا بشكل كافي مع استمرار رفض فرض عقوبة الإعدام على الجرائم البشعة التي ارتُكبت.

ثانياً: الاقتراحات

وبعد أن انتهينا من إستعراض موضوع بحثنا توصلنا إلى جملة من الاقتراحات:

  1. ينبغي أن تتضمن المسؤولية الجنائية عن جرائم ضد الإنسانية مسؤولية مزدوجة تشمل الفرد الطبيعي الذي يرتكب تلك الجرائم، وذلك لضمان عدم هروب أي منهما من العقاب بسبب أهداف سياسية. كما يتعين تعزيز وتفعيل دور المنظمة الدولية للشرطة الجنائية “الإنتربول” ليتمكن من التحقيق في جميع الجرائم الدولية بحرية، ويجب أن يكون هناك سجن خاص به لمعاقبة المرتكبين لهذه الجرائم. بالإضافة إلى ذلك، يجب على الدول الأطراف في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 وفقًا للمادة 146 أن تلتزم بسن تشريعات جنائية تسمح لها بمحاكمة مرتكبي الجرائم الحرب، تمامًا كما في القانون البلجيكي.
  2. إن جريمة الأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تسبب عمداً في معاناة شديدة أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو الصحة العقلية أو البدنية، المنصوص عليها في المادة (12) من “قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا” فقرة (أولاً/ي) مقتبسة من نص المادة (7/1) من نظام المحكمة الجنائية الدولية، وهذه العبارة تصطدم مع مبدأ المشروعية، وهو لا جريمة إلا بنص، ويفتح الباب واسعاً للقضاء لاختلاق جرائم غير واردة، وبالتالي يجب تحديد الجرائم الداخلة في إختصاص المحكمة وعقوبتها بشكل واضح وصريح، وكذلك إستنادا لمبدأ المشروعية “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”، فكان واجباً على المشرع العراقي وضع عقوبات للجرائم الداخلة في إختصاص المحكمة الجنائية العراقية العليا وعدم إكتفائه بإحالتها إلى القوانين العقابية الأخرى، فلا بد أن يكون لكل قانون يحدد الجرائم الداخلة في إختصاصه نصوص عقابية، كما أن الاقتباس الحرفي لما ورد بنص المادة (7/1) من نظام المحكمة الجنائية الدولية وتضمينها في المادة (12/أولاً) من “قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا” رقم (10) لسنة 2005 أدى إلى التطرق لجرائم منصوص عليها وعلى عقوباتها وفقاً لأحكام قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل، فلا موجب للنص عليها مجدداً لأن المشرع العراقي كان موفقاً بالنص عليها في أحكام قانون العقوبات العراقي أكثر مما ورد في قانون المحكمة الجنائية الدولية.

قائمة المراجع

لندة معمرة يشوي، المحكمة الجنائية الدائمة واختصاصها، عمان، دار الثقافة للنشر والتوزيع.

المادة (10) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

عوض محمد، الأحكام العامة في قانون الإجراءات الجنائية الليبي، الجزء الأوّل، الطبعة الأوّلى، المكتب المصري الحديث للطباعة والنشر، الإسكندرية-مصر.

المادة (63) من نظام روما الأساسي.

المادة (63) من نظام روما الأساسي.

القاعدة (61) من القواعد الاجرائية وقواعد الإثبات للمحاكم الجنائية الدولية المؤقتة.

المادة (64) من نظام روما الأساسي.

المادة (68) من نظام روما الأساسي.

القاعدة (75) من القواعد الاجرائية وقواعد الإثبات للمحاكم الجنائية الدولية المؤقتة.

المادة (20/1) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة.

المادة (67) من نظام روما الأساسي.

المادة (64) من نظام روما الأساسي.

القاعدة (79) من القواعد الاجرائية وقواعد الإثبات للمحاكم الجنائية الدولية المؤقتة.

المادة (64) من نظام روما الأساسي.

المادة (65) من نظام روما الأساسي.

المادة (64/8) من نظام روما الأساسي.

المادة (65/4/5) من نظام روما الأساسي.

المادة (19) من “قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا” رقم (10) لسنة 2005.

الفیروز آبادي، القاموس المحيط، دار الحديث القاهرة، القاهرة.

فاروق الكيلاني، محاضرات في قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني والمقارن، الجزء الثاني، الطبعة الثانية، دار الفارابي، عمان.

کمال سراج مرغلاني، حقوق المتهم في ضوء نظام الإجراءات الجزائية السعودي، الرياض.

نقض مصري، 30/10/1993، مجموعة أحكام محكمة النقض.

محمد سالم العلي، الوجيز في أصول المحاكمات الجزائية، عمان، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2005م.

نقض مصري، 28 أكتوبر 1968م، مجموعة أحكام محكمة النقض.

المادة (14/3/ب) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

المادة ( 8/2/ج) من “الاتفاقية الأمريكية”.

المادة (6/3/ب) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

مأمون محمد سلامة، قانون الإجراءات الجنائية، دار الفكر العربي، مصر.

حسن الجوخدار، التحقيق الابتدائي في قانون أصول المحاكمات الجزائية – دراسة مقارنة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان.

عدلي خليل، استجواب المتهم فقهاً وقضاءً، المكتبة القانونية، القاهرة.

سعد محمد ظفير، الإجراءات الجنائية في المملكة العربية السعودية، الریاض.

المادة (14/3/أ) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، نصت على حق الشخص في أن يتم إعلامه سريعاً وبالتفصيل وبلغة يفهمها، بالتهمة الموجهة إليه وأسبابها”؛ كما نصت على ذلك الحق المادة (6/3/1) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

حسن بشیت، ضمانات المتهم في الدعوى الجزائية خلال مرحلة التحقيق، عمان، دار الثقافة للنشر.

فاضل زيدان محمد، سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة (دراسة مقارنة)، مطبعة الشرطة، بغداد.

رؤوف عبيد، مباديء الإجراءات الجنائية في القانون المصري، الطبعة الثانية عشر، مطبعة جامعة عين شمس.

الفقرة (3) من المادة (21) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافية السابقة.

الفقرة (3) من المادة (20) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا.