مقالة عن الزهد في شعر أبو العتاهية

فيكار احمد حمه رشيد1

1 جامعة آيدن إسطنبول، تركيا.

HNSJ, 2022, 3(12); https://doi.org/10.53796/hnsj31236

Download

تاريخ النشر: 01/12/2022م تاريخ القبول: 20/11/2022م

المستخلص

يتطرق هذه المقالة المتواضعة عن (الزهد في شعر أبي العتاهية) وشجعني الى ذلك لما لها أهمية موضوع البحث حيث أنه يشكل منعرجا مهما في المجال الأدبي. في شعر العربي عامة والعصر العباسي خاصة ، وجمعت المادة المتعلقة بالموضوع فحاولت دراستها عنده مستندة إلى ديوانه ومصادره تاريخية وأدبية ،بدأت بالتمهيد بداية ظهور الزهد في الشعر العصر العباسي وسبب ظهور هذا الغرض في هذا العصر، ثم انتقلت إلى تعريف الزهد لغة واصطلاحا، وبعد ذلك عرّفت أبي العتاهية وسبب كنيته وتقسيم حياة ابي العتاهية في ناحية أدبية إلى قسمين ، وبعد ذلك ذكرت دوافع الزهد عند أبي العتاهية ، وبعده أتيت بموضوعات الزهد في شعر أبي العتاهية مع شواهد شعرية ،وبعده مظاهر الزهد في شعر أبي العتاهية مع شواهد شعرية ،وبعد ذلك بينت القيمة الأدبية لزهد أبي العتاهية ،وفي الأخير ختمت بحثي بخاتمة ورأي الشخصي استخلصنا فيها زبدة ما جاء في الموضوع ،وقائمة المصادر والمراجع واعتمدت بمنهج التاريخي الأدبي الوصفي التحليلي .

المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه الذين أمنوا بالله ربا وبمحمد رسولا وأما بعد:

يتطرق هذه المقالة المتواضعة عن (الزهد في شعر أبي العتاهية) وشجعني الى ذلك لما لها أهمية موضوع البحث حيث أنه يشكل منعرجا مهما في المجال الأدبي. في شعر العربي عامة والعصر العباسي خاصة ، وجمعت المادة المتعلقة بالموضوع فحاولت دراستها عنده مستندة إلى ديوانه ومصادره تاريخية وأدبية ،بدأت بالتمهيد بداية ظهور الزهد في الشعر العصر العباسي وسبب ظهور هذا الغرض في هذا العصر، ثم انتقلت إلى تعريف الزهد لغة واصطلاحا، وبعد ذلك عرّفت أبي العتاهية وسبب كنيته وتقسيم حياة ابي العتاهية في ناحية أدبية إلى قسمين ، وبعد ذلك ذكرت دوافع الزهد عند أبي العتاهية ، وبعده أتيت بموضوعات الزهد في شعر أبي العتاهية مع شواهد شعرية ،وبعده مظاهر الزهد في شعر أبي العتاهية مع شواهد شعرية ،وبعد ذلك بينت القيمة الأدبية لزهد أبي العتاهية ،وفي الأخير ختمت بحثي بخاتمة ورأي الشخصي استخلصنا فيها زبدة ما جاء في الموضوع ،وقائمة المصادر والمراجع واعتمدت بمنهج التاريخي الأدبي الوصفي التحليلي .

والله وليّ التوفيق

تمهيد

كان العصر العباسي هو عصر الازدهار والارتقاء في شتى المجالات ، ظهرت في العصر العباسي تيارات فكرية كثيرة ونزعات عقلية لم تشهده العصور السابقة له، وقد رسخت في جذور الفكر العربي عامة والأدبي بخاصة، وامتازت بالجديد والتنوع، وكانت تحول فکري على الموجود في الساحة الفكرية آنذاك، لأنها نتاج لظروف سياسية، واجتماعية، وثقافية ودينية، كما اقتحمت بعض الظواهر الحياة الأدبية ؛ حيث ظهرت معطيات أحدثت نقلة نوعية في الأدب والشعر ، ولعل من أبرز ما يميز هذا العصر هو حالة الزهد التي انتشرت في الحياة كتيار مضاد لحياة اللهو والمجون ؛ لتطبع على الصور الأدبية المختلفة وخاصةً الشعر الذي ظهر بشكل مختلف ، وقد تعلق الأمر بوجود خصائص شعر الزهد في ذلك العصر.

ولقد ظهر الزهد واشتهر في ذلك العصر من خلال الشعراء الذين قاموا بتوضيح هذه الحالة في أشعارهم المختلفة، حيث قام الشعراء بالدعوة إلى التوبة والعودة إلى الله تعالى من خلال قصائدهم. ومن هنا كان للزهد دوراً بارزاً في الشعر العباسي الذي جاء بمثابة دعوة إيمانية صريحة.

ويجدر بالذِّكر أنّ الشُعراء تفرّغوا بشكل كامل للزُّهد، فلم يتطرّقوا إلى شيء غيره، وأدخلوا فيه الفلسفة والحكمة، يمتلك شعر الزّهد العديد من الخصائص التي تعكس مواضيعه وجمالياته العامة، ومن أهمّ ما يميز أتباع هذا المنهج التزامهم بمنهج دينيّ مستقيم، رافضين الدنيا وشهواتها، ومن شُعراء هذا العصر أبو العتاهيّة الذي يُصوّر الآخرة، وما يحدث فيها من أهوال، بالإضافة إلى أبيات تحمل العظة، وتُعنَى بتقلُّبات الأزمان.

1- تعريف الزهد

1-1 لغة: جاء في لسان العرب والقاموس المحيط أن لفظ “زهد” ” الزهد” و “الزهادة ” في الدنيا ولا يقال الزهد إلا في الدين خاصة. والزهد([1]) ضد الرغبة والحرص على الدنيا والتزهيد في الشيء وعن الشيء خلاف الترغيب فيه والزهيد: الحقير، وعطاء زهيد: قليل والزهيد: القليل، والضيق الخلق كالزاهد، وقليل الأكل، والوادي الضيق، وازدهده: عده قليلا. ([2])

ورد في تفسير هذه اللفظة في المعاجم العربية مرتبطا بمعناها الديني ففي الصحاح “الزهد خلاف الرغبة في الشيء، ويقال فلان يتزهد بمعنى يتعبد. ([3])

2-1 اصطلاحا: هو الكف عن المحارم والتوبة إلى الله وهو القناعة والاكتفاء بالحاجة والرضي بالقليل وصرف النظر عن الحياة وزينتها، وهو نهي النفس عن الهوى وتخلية القلب وصفاؤه ورقته. ([4])

2- تعريف بأبي العتاهية

هو الشاعرُ أبو إسحق إسماعيلُ بنُ القاسمِ بنُ سويد بن كيسانَ العينيّ، وهو من قبيلة عنزةَ بالولاء؛ لذلك سُمِّيَ العنزيّ، و(أبو العتاهية) هي كنيتُه. وُلِد في العام 747م في قرية عين التمر؛ وهي قرية تقع بالقُرب من المدينةِ، ويُقال إنّها قُربَ الأنبار، وغربيّ مدينة الكوفة، علماً بأنّه قد انتقلَ في صغرِه بصحبةِ أبيه إلى الكوفة التي جمعت عدداً من العلماء، والمُحدِّثين، والزهّاد المُتعبِّدين، وفيها عاصرَ عدداً كبيراً من الشُّعراءِ، والعلماء، ومنهم: علقمةُ بن قيس، والربيعُ بن خيثم، وسفيانُ الثوريّ، وأبو حنيفةَ، وغيرُه. ([5]) ظهرت موهبته في نظم الشعر مبكراً واشتهر بهذا وسمع به المتأدبون من الفتيان فكانوا يتوافدون عليه لسماع شعره. وقد توفي أبو العتاهية في بغداد في عهد الخليفة المأمون. وكان ذلك في عام 826م.

1-2 سبب تسمية أبي العتاهية

لقد وردت بعض الأسباب المختلفة في سبب حصول الشاعر أبي إسحق على كنية “أبي العتاهية” ، ومن هذه الأسباب هو قول الخليفة المهدي له يوما “أنت إنسان متحذلق ” ([6])، وقيل أن الرجل المتحذلق يقال له “عتاهية” ، ومن ثم أصبحت كنيته التي تلازمه هي “أبو العتاهية” ، كما قيل في ذلك أيضًا أنه سُمي بهذا الاسم لأنه كان يحب الشهرة والتعته ؛ حيث أن كلمة عتاهية لها عدة معاني أخرى ولا تقتصر على معنى واحد . ([7]) ومما ورد أيضًا في هذا الشأن أن سبب حصوله على لقب “أبي العتاهية” هو جنونه وتعتهه بإحدى جواري الخليفة المهدي في بغداد والتي عُرفت باسم “عتبة” ؛ حيث تعلق بها كثيرًا مما جعله يذكرها في شعره ؛ غير أنها رفضته بسبب قباحة شكله ؛ وهو ما أثرّ به وجعله يتجه إلى حياة الزهد والوعظ ، وهكذا اختلفت الأقاويل على سبب تسميته بهذا الاسم ولكنهم لم يختلفوا على شهرته به في كل الأزمنة والعصور. ([8])

ومن الجدير بالذكر أنه تم إطلاق هذا اللقب عليه بما كان يعيش في بغداد، ويقول بعض المؤرخون أن هذا اللقب هو كنية له ولد بها منذ صباه، وسواء كان هذا الاسم كنية يحملها أو لقبة يناديه الناس به، فقد كان أبو العتاهية يكرهه ولا يحب أن ينادي به، وكان يفضل أن يلقبه الناس بأبي اسحق، مثلما كان يفعل أصدقائه.

2-2 حياة أبي العتاهية من الناحية الأدبية ينقسم إلى قسمين متناقضين:

1-2-2الأول: حياة الغزل والمنادمة حيث عاش حياته في فترة شبابه كبقية شعراء عصره فقد أنشد في الغزل والمجنون والرثاء والمديح والفخر.

2-2-2 الثاني: حياة الوعظ والتقشف فهو أصبح زاهدا عندما قارب الخمسين من عمره وذكره الأصفهاني في الأغاني:” كان أبو العتاهية لا يفارق الرشيد في سفر لا حضرإلا في طريق الحج، وكان يجرى عليه في كل سنه خمسين ألف درهم سوى الجوائز والمعادن، فلما قدم الرشيد الرقة سنة (181) لبس الشاعر الصوف وتزهد وترك حضور المنادمة والقول في الغزل”. ([9])

3- دوافع الزهد عند أبي العتاهية

هناك أسباب كثيرة دفعت أبي العتاهية إلى الزهد منها:

1-3 العامل الديني: لعل الأمر ليس صعبا ولا جديدا إذا قلنا إن أبا العتاهية كان مطعونا في دينه أصلا قبل أن نناقش تمسكه الديني ومطعونا في أخلاقه وتصرفاته، فقد وجهت تهمة الزندقة إلى الشاعر أكثر من مرة، وربما كانت تهمة الزندقة متأتية من عدة مواضع:

– أن تهمة الزندقة كانت شائعة جدا في العصر العباسي وأخبارها مبثوثة في الكتب لا تحتاج إلى دليل.

– سلوكه المشين أيام شبابه دفعه إلى اتهامه بالزندقة أيضا.

– كثرة بكائه ورثائه ل “علي بن ثابت” وكان قد قتل على زندقته قد دفعت إلى اتهامه بالزندقة.

2-3 العامل الدنيوي: الذي يرجح أن أبا العتاهية ذهب مذهب الزهد بسببه كثيرا منها:

– الكآبة والعزلة التي عانى منها الشاعر خاصة بسبب الصدمات التي وقعت له جراء فشله في حب “عتبة” التي أخلص لها الحب.

– وهناك دافع آخر نراه وجيها في تبرير زهد أبي العتاهية وهو الاستعداد النفسي لدى أبي العتاهية.

– أما السبب الآخر الذي ربما يكون قد دفعه إلى الزهد فهو ما عناه لكونه ابن لأسرة فقيرة وذلك ما جعله زهيدا في متع الحياة.

ويحدد أبو العتاهية معالم طريق الزهد التي ينبغي أن يسلكها الزهاد، وهذه المعالم تؤسس على عناصر أساسية كالتقشف، واعتزال الناس، واستحضار التاريخ للعبرة والتأسي، ويعبر أبو العتاهية عن ذلك فيقول:

رَغيفُ خُبْزٍ يَابِس ٍ تَأكُلُهُ في زاوِيِــهْ

وكُوزُ ماء بـارِدٍ تَشْرَبُهُ مِنْ صافِيَهْ

وَغُرْفَةٌ ضَيّقَةٌ نَفسُكَ فيها خالِيَهْ ([10])

4- موضوعات الزهد في شعر أبي العتاهية

ويتسع أبو العتاهية في أشعاره الزاهدة حتى لتؤلف وحدها ديوانا كاملا وفعلا جمع منها “ابن عبد النمري الأندلسي” ديوانا مستقلا، وقد بني اليسوعيون على نشرتهم لأشعار أبي العتاهية باسم “الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية “ضامين إلى رواية “النمري” ما تيسر جمعه من أشعار الشاعر وقصائده لشعر الزهد عنده يشتمل على الموضوعات الآتية:

1-4 الموت

فكرة الموت ذلك المصير المحتوم للإنسان بل لكل حي كانت أقوى أسلحة أبي العتاهية يعزف عليها فيزلزل قلوب العصاة والمؤمنين على السواء، فهو يخاطب الإنسان الذي نسي الموت ويطلب الخلود في الدنيا قائلا: لا تثق بالدنيا وبالصحبة فيها فالموت يأتي ويفرق هذه الجماعة، ثم يأتي له بدليل آخر على الموت ألا وهو موت الأبوين قال: ([11])

أَنْساكَ مَحْيَاكَ المَمَاتَا فَطَليْتَ فِي الدُّنْيَا النَبَاتَا

أوَثِقْتَ بالدُنْيـــَا وأنْـــ تَ تَرَى جَمَاعَتِهَا شَتَتَا

وعزمت منك على الحيا ة وطولــها عزما بتاتا

يَا مَنْ رَأى أبَويْه فِــي مَا قَدْ رَأى كَانَا فمَاتَا ([12])

2-4 الدنيا

قال تعالى:(وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. (([13]) فالدنيا متاع زائل وعبث باطل وتمني النفس أماني يفتي الإنسان عمره في سبيل تحقيقها، والشاعر أبو العتاهية يحتقر الحياة الدنيا ويعظم الآخرة فيقول في غرور الدنيا: ([14])

نَصِبْتِ لَنَا دُونَ التَفَكُرْ يَا دُنْيَــــا أَمَانِي يُفْنِي العُمْرَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُفْنَى

حتَىَ تَنْقَضِي حَاجَاتُ مَنْ لَيْسَ وَصِلَا إِلَى حَاجَةِ حَتَى تَكُونَ لَهُ أُخْــــرَى

فالشاعر عمد إلى التشخيص فجعل من الدنيا شخصا ينصب شباكا ليصطاد بها وكأن الدنيا تتصب للإنسان حبال الأماني ليقع في شركها. فالأبيات قريبة من النثر تخلو من الموسيقى واعتمدت البحر الطويل لتعطي النفس الإنسانية نفسية في التأمل والتفكير في هذه الدنيا الفانية.

3-4 الوعظ والنصح

كان أبو العتاهية متعدد الجوانب موزع النشاط ومفتاح تلك الشخصية المعقدة شعوره بالنقص بسبب منبته المتواضع، وقد دفعه ذلك الشعور في اتجاهين رئيسيين الأول دفعه إلى مهاجمة الطبقات العليا في المجتمع، وصار بذلك من الثوار والمتمردين. أما الثاني فدفعه إلى أن يلبس مسوح الوعظ والمتصوفين لكي يتلقى معهم تكريم العامة واحترامهم، وصار بذلك من دعائم الاستقرار وحماة الآداب والتقاليد والقارئ لشعر أبي العتاهية يرى فيه قدرا كبيرا من الوعظ الخالص، ومنه قوله: ([15])

أَتَلْهو وأَيَّامُنَا تَذْ هـبُ ونَلْعَبُ والمَوتُ لا يَلْعَبُ

عَجِبْتُ لِذِي لَعِب قَدْ لَهَا عجِبْتُ ومَالِي لاَ أعْجَبُ

أَيَلْهُو ويَلْعَبُ مَن نَفْسَهُ تَمُوتُ ومَنْزِلُهُ يَخْــرَبُ

تَرَى كُلَّ ما ساءنا دائما على كُلّ مَا سَرَّنَا يَغْلِبُ ([16])

استهل الشاعر هذه الأبيات بالاستفهام الذي يحمل في طياته الاستغراب والتعجب ممن يلهو في هذه الدنيا وهو يعلم أنه سيموت، وأن منزله الذي يعمره سيخرب، ويعلم كذلك أن الأحزان في هذه الدنيا أكثر من السرور، فنصيحته في هذه الأبيات هو عدم اللعب واللهو.

4-4 ذم حياة الملوك

إن منبت أبي العتاهية المتواضع جعله يهاجم الطبقات العليا كالملوك والخلفاء وذوي المكانة والجاه وأصحاب المال فيقول في ذلك:

وكَمْ مِنْ عَظِيِم الشَأْن فِي قَعْرِ حفْرَةِ تَلَحَّفَ فِيا بالثَّرَى وتَسَرْبَلَا

لقد بدأ أبو العتاهية باستخدام “کم” الخبرية التي تفيد التكثير أي أن هناك كثيرا من أصحاب الجاه والسلطة عندما وضعوا في حفرة القبر لم ينزل معهم من حطام الدنيا شيء فأصبح التراب هو لباسهم وفراشهم، وهذا المعنى مستمد من قوله تعالى:

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ). ([17])

5- مظاهر الزهد في شعر أبي العتاهية

1-5 ترك بهائج الدنيا: قال أبو العتاهية يخاطب الدنيا ويبكيها عن الغرور: ([18])

قَطّعْتُ مِــنْكِ حَبائِلَ الآمـــــالِ وَحَطَطْتُ عَنْ ظَهرِ المَطيّ رِحالي

وَيَئِسْتُ أنْ أبقَى لشيءٍ نِلتُ ممّا فيكِ، يادُنيا، وَأنْ يَبقىَ لـــــي ([19])

2-5 اعتزال الناس: بحيث يروي ابنه محمد بن أبي العتاهية أن أباه بعد أن خرج من سجن الرشيد الزم بيته وقطع الناس” وحاول الرشيد أن يبثنيه عن ذلك لكنه كتب إليه بيتين يعلن فيهما برمة بالناس وأخلاقه واستئناسه بالوحدة: ([20])

بَرِمت بِالنّاسِ وأخلاقِهِمْ فَصِرْتُ أستأنِسُ بالوَحْدَهْ

مـــا أكثرُ النّاسِ لعَمري ومَا أقَلّهُمْ في حاصِلِ العِدّهْ ([21])

ففي البيت الأول يخبرنا أبو العتاهية أنه قطع صلته بالدنيا ورق شباك الأمل فيها ورجع عن الرحلة إليها، وعدل عن الجري وراءها والسعي في طلبها، بحيث يذهب في البيت الثاني ليبين لنا بأنه يئس من بقائه لما ملك من حطام الدنيا، لهذا لا يريد أن يربط نفسه به ولا يعول عليه ولا يهتم به.

3-5 رهبة الموت: فأبو العتاهية الذي يذكر الناس بالموت وآلامه وأهواله المرعبة نراه يرتعد من ذكره ويجزع منه جزعا شديدا، وقد ملك عليه حواسه وشغل كل تفكيره حتى أصبح لا يفكر في شيء سوى الموت، إذ يقول:

لقد لَعِبتُ وجَدَّ الموْتُ في طَلَبـــي وإنّ في الموْتِ لي شُغْلاً عنِ اللّعِبِ ([22])

4-5 أهوال الموت: يقدم لنا الشاعر في حديثه عن الموت منظرين يطيل الوقوف عليهم وهما منظر سكرات الموت وتجرع الموت غصصه، ومنظر القبور وهو يتخير دائما الأوضاع التي تثير في النفس الانقباض والوحشة والرعب والفزع، ويقصد إلى ذلك قصدا بأنه حريص على أن يثير في نفس سامعه هذه المشاعر، وكأنه يريد أن يحطم أعصابه ويتركها تنهار تحت قبضة الموت الرهيبة ويقول في ذلك:

يا كربتي يوم لا جار يبر ولا مولى ينفس إلا الله كربتــــــيه

يوم أقلب فيه شاخص بصري تميد بي في حياتهن الموت سكرتيه

إذ تمثل لي السياق وقـــــــد قلبت طرفي وقد رددت غصتيه

فالمنظر الأول يتحدث فيه عن ساعة الاحتضار ويصف ما يعانيه من كرب الموت وغصصها، وقد أخذت روحه تنحشر في صدره وغصص الموت تتردد في حلقه ومقلته تدور ولا أحد يستطيع دفع ذلك عنه.

5-5 النسك: وله في معنى النسك والتقوى أحاديث عن التواضع وترك التيه والتخلق بخلق عباد الرحمن الذين يمشون في الأرض هونا كما جاء في الكتاب العزيز إذ يقول: ([23])

حَتَى مَتى ذُو التِّيَه فيِ تَيْهِ أَصْلَحَهُ اللهَ وعَافَـــاهُ

يَتِيهُ أهل التِيهِ مِنْ جَهْلِهِمْ وهُمْ يَمُتُونَ وإنْ تَاهُوا

مَنْ طَلَبَ العِّزَ ليَبْقَى بِهِ فإنَّ عِزَّ المَرءِ تَقْــــوَاهُ

لَمْ يَعْتصِمْ بِاللِه، مِنْ خَلْقِهِ مَنْ لَيْسَ يَرْجُوهُ، ويَخْشَاهُ([24])

واتكأ على هذا المعنى وهو ترك الخيلاء والتيه، فدعا إلى التواضع لأن مصير الإنسان إلى التراب.

6- القيمة الأدبية لزهد أبي العتاهية

1-6 فنه الشعري

يعد أبو العتاهية من المطبوعين الذين يجري الشعر على لسانهم وينثال انثيالا لا يتكفله، مثله في ذلك مثل السيد الحميري وبشار، وشعراء الطبع في عصره، وكان أبو العتاهية لسهولة الشعر عليه كثيرا ما يرتجله، فلا يتكفله ولا يثقفه ومن هنا جاء اختلاطه وجمعه بین الغث والثمين. ولفظه سهل مما يجري على ألسنة الناس، وبخاصة موضوعات الزهد والمواعظ والحكمة، لأنه يوجهه إلى العامة ويخاطبهم به ولا يخاطب الخاصة ولا الملوك. ([25])

2-6 قيمة زهده

أظهر أبو العتاهية في زهدتيه ازدراء من حياة جمة وقد لفها بغشاء كالح السواد من شأنه أن يبعث على اليأس والقنوط إلا أنه من تشاؤمه قد أسدى إلى الناس نصحا ذا قيمة حقيقية ووجه كلامه إلى عقولهم مقدما لها البراهين والحجج غير مكتفي بأساليب الأقدمين الاختيارية فهو في عصر الفلسفة و التفكير وهو في عصر علم وجدل وهو في عصر نصب فيه للعقل عرش رفيع واستقى أفكاره من كتب الدينية و نظريات الفلاسفة كما استقاها من عالم التجربة و الاختبار، وراح يدعوا إلى القناعة لأن الدنيا دار الفناء ، و الآخرة خير منها فما يبنی للخراب ومن يولد يولد للموت و ما يجمع يجمع للتفريق، و ما يعتني به من أمر جسدي آخرته الفناء، وما يضحك لا يضحك إلا ليبكي فعلى الإنسان أن يعيش كمن سيموت يكتفي بالضروري ويتسلح بالتقوى وهكذا يتأهب للآخرة، ويذخر لنفسه أجرا عند الله إذ ذاك إلى عزلته سيشد الاتصال بالله عن طريق التصوف فلم يحظ بالكشف فتوجه إلى مكة وأقام بها نحو 15 سنة في الصلاة والتجريد ثم قصد مصر فلقي فيها إكراما وحفاوة. ([26])

الخاتمة ورأي الشخصي

بعد هذه الرحلة المشوقة مع ابي العتاهية وشعره الزهدي نستطيع أن نقول أن الزهد ظاهرة ضرورية تشيع في المجتمعات الإنسانية كغيرها من الظواهر الأخرى، كما أنه ظاهرة عامة تنشأ في أحضان الدين وتتطور في نطاقه وتتجه إلى قواعده وأصوله؛ لتستمد منه العون على مجابهة الحياة ، تبين لنا من خلال هذه المقالة ان أبو العتاهية من أشهر شعراء الزهد والحكمة في الأدب العربي إذ يعتبر أحد أبرز شعراء العصر العباسي انقطع إلى الزهد في أواخر حياته وأكثر من ذكر القبر واللحد وذكر الموت والبعث والوعد والوعيد أبو العتاهية جعل من شعره وسيلة للإرشاد والوعظ إلا أنه أولى موضوع الموت أهمية كبيرة وكل ما يتعلق به إلى ما يأتي بعده من عذاب القبر إلى يوم القيامة وما يتبعها من أهوال. وإذا بحثنا في زهديات أبي العتاهية نجده يتطرق في زهده إلى نقطتين بارزتين هما: الترهيب من الدنيا، والترغيب في الآخرة.

ونراه من زهديات أبي العتاهية الدعوة إلى القناعة والاكتفاء من الدنيا بالقليل وتستدعي منه ذم الحرص والجشع والطمع والبخل، والإقبال على الدنيا والاستسلام للشهوات وغير ذلك من الصفات المذمومة التي تطبع محب الدنيا بطابعها المميز.. فالزهد عنده فن من فنون الشعر، أراد به وعظ الناس عامة بأسلوب رائع، وألفاظ سهلة ومعان لطيفة قريبة من أفهام الناس فالزهديات في شعره جعلته في مكانة مرموقة بين شعراء عصره.

ونهاية أقول: هذا جهد المقل، وحسبي أني اجتهدت قدر استطاعتي، والله من وراء القصد، ومنه العون وعليه التوكل، وصل الله وسلم على سيدنا محمد.

قائمة المصادر والمراجع

1) القرآن الكريم.

2) ابن منظور، لسان العرب (1414). ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ومذيل بحواشي اليازجي وجماعة من اللغويين. الناشر: دار الصادر- بيروت الطبعة: الثالثة. مج3، ج21.

3) أبي العتاهية، (1986). ديوان أبي العتاهية. بيروت: دار بيروت لطباعة والنشر.

4) أبادي، الفيروز (2008). القاموس المحيط، تحقيق أنس محمد الشامي وزكريا جابر أحمد. القاهرة: دار الحديث للطبع والنشر والتوزيع.

5) الجوهري، إسماعيل بن حماد (1979). الصحاح تحقيق أحمد عبد الغفور عطار. (ط 4). بيروت: دار العلم للملايين ج2، مادة زهد.

6) الأصفهاني، أبي الفرج. كتاب الأغاني بتصحيح الأستاذ الشيخ أحمد الشنقيطي. القاهرة: مطبعة التقدم ج3.

7) الشامي، يحي (2009). أروع ما قيل في الزهد. دار الفضائل، (ط1). بيروت: دار الفكر العربي.

8) شعت، أحمد حبر حسين (1988). فن الزهد في شعر أبي العتاهية رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الأدب والنقد. كلية الآداب، قسم اللغة العربية للدراسات العليا.

9) شرف الدين، خليل (1987). الموسوعة الأدبية المسيرة أبو العتاهية من الرفض إلى القبول. بيروت: دار مكتبة الهلال.

10) الخفاجي، زينب عبد الكريم (2016). ظاهرة الزهد في العصر العباسي (زهد أبي العتاهية نموذجا). مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية، الجامعة المستنصرية، كلية الآداب، جامعة بابل، العدد 27.

11)الساعدي، محمد معروف (2009). ديوان ابي العتاهية. (ط4). بيروت: دار الكتب العلمية.

12) السيوفي، مصطفى (2008). أمراء الشعر في دولة بني عباس. (ط1). القاهرة: الدار الدولية للاستثمارات الثقافية.

13) سلام، محمد زعلول (1998). الأدب في عصر العباسيين منذ قيام الدولة حتى نهاية القرن الثالث. (ط1). الإسكندرية: منشأة المعارف.

14) د. كمال تمام (2011)، “أبو العتاهية ومذهبه الشعري”، www.alukah.net

15) “تعريف ومعنى عتاهية في معجم المعاني الجامع”، www.almaany.com

Margins:

  1. () الشامي، يحي (2009). أروع ما قيل في الزهد. دار الفضائل، (ط1). بيروت: دار الفكر العربي. ص 05.
  2. () ابن منظور، لسان العرب (1414). ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ومذيل بحواشي اليازجي وجماعة من اللغويين. الناشر: دار الصادر- بيروت الطبعة: الثالثة. مج3،
  3. ()أبادي، الفيروز (2008). القاموس المحيط، تحقيق أنس محمد الشامي وزكريا جابر أحمد. القاهرة: دار الحديث للطبع والنشر والتوزيع. ص 725.
  4. ()الجوهري، إسماعيل بن حماد (1979). الصحاح تحقيق أحمد عبد الغفور عطار. (ط 4). بيروت: دار العلم للملايين ج2، مادة زهد
  5. ()الساعدي، محمد معروف (2009). ديوان ابي العتاهية. (ط4). بيروت: دار الكتب العلمية. ص2. بتصرّف.
  6. () أبي العتاهية، (1986). ديوان أبي العتاهية. بيروت: دار بيروت لطباعة والنشر. ص 5
  7. ()د. كمال تمام (2011)، “أبو العتاهية ومذهبه الشعري”، www.alukah.net
  8. ()تعريف ومعنى عتاهية في معجم المعاني الجامع”، www.almaany.com
  9. ()الأصفهاني، أبي الفرج. كتاب الأغاني بتصحيح الأستاذ الشيخ أحمد الشنقيطي. القاهرة: مطبعة التقدم ج3. ص 158
  10. () أبي العتاهية، (1986). ديوان أبي العتاهية. بيروت: دار بيروت لطباعة والنشر. ص 488
  11. () الساعدي، محمد معروف (2009). ديوان ابي العتاهية. (ط4). بيروت: دار الكتب العلمية. ص 48
  12. () أبي العتاهية، (1986). ديوان أبي العتاهية. بيروت: دار بيروت لطباعة والنشر. ص 93
  13. () سورة العنكبوت الآية (64).
  14. () الخفاجي، زينب عبد الكريم (2016). ظاهرة الزهد في العصر العباسي (زهد أبي العتاهية نموذجا). مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية، الجامعة المستنصرية، كلية الآداب، جامعة بابل، العدد 27.
  15. () الصدر السابق ص 311
  16. () أبي العتاهية، (1986). ديوان أبي العتاهية. بيروت: دار بيروت لطباعة والنشر. ص 51
  17. () سورة الانعام الآية (94).
  18. () الساعدي، محمد معروف (2009). ديوان ابي العتاهية. (ط4). بيروت: دار الكتب العلمية ص 166.
  19. () أبي العتاهية، (1986). ديوان أبي العتاهية. بيروت: دار بيروت لطباعة والنشر. ص 325
  20. () شعت، أحمد حبر حسين (1988). فن الزهد في شعر أبي العتاهية رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الأدب والنقد. كلية الآداب، قسم اللغة العربية للدراسات العليا. ص43
  21. () أبي العتاهية، (1986). ديوان أبي العتاهية. بيروت: دار بيروت لطباعة والنشر. ص 154
  22. () المرجع نفسه: ص،45
  23. () سلام، محمد زعلول (1998). الأدب في عصر العباسيين منذ قيام الدولة حتى نهاية القرن الثالث. (ط1). الإسكندرية: منشأة المعارف. ص 201.
  24. () أبي العتاهية، (1986). ديوان أبي العتاهية. بيروت: دار بيروت لطباعة والنشر. ص 476
  25. () سلام، محمد زعلول (1998). الأدب في عصر العباسيين منذ قيام الدولة حتى نهاية القرن الثالث. (ط1). الإسكندرية: منشأة المعارف. ص،205 -204
  26. () المصدر نفسه.