د. وفاء أواه1
1 أستاذة باحثة في سوسيولوجيا التنمية، المغرب.
بريد الكتروني: aouah1973@gmail.com
HNSJ, 2022, 3(7); https://doi.org/10.53796/hnsj3734
تاريخ النشر: 01/07/2022م تاريخ القبول: 15/06/2022م
المستخلص
تناولت مجموعة من الدراسات والأبحاث داخل الجامعات المغربية بإسهاب موضوع انتقال مختلف مكونات المجتمع الصحراوي من البداوة إلى الاستقرار أو الحياة الحضرية، وخصوصا في مجال العلوم الاجتماعية. يعود الاهتمام بالموضوع لمجموعة من الأسباب التي تبدو في تقديرنا ذات موضوعية وجديرة بالتمحيص لما تكتسيه من أهمية في فهم التحولات المجتمعية في الأقاليم الجنوبية، لكن أهم هذه الأسباب يتجلى في طبيعة سيرورة التحضر هذه مقارنة بالمجتمعات والمناطق الحضرية الأخرى من البلاد. هذا التفرد جاء من حيث كونها تميزت بالفجائية والتسارع، المحكوم بمحددات طبيعية وسياسية وإثنية سنحاول أن نستحضر بعضها خلال تطرقنا لبعض مظاهر الاندماج الحضري داخل بعض مدن الأقاليم الصحراوية.
Mechanisms and manifestations of urban integration within the desert society
Dr. Wafa Aouah1
1 Research Professor in the Sociology of Development, Morocco.
Email: aouah1973@gmail.com
HNSJ, 2022, 3(7); https://doi.org/10.53796/hnsj3734
Published at 01/07/2022 Accepted at 15/06/2021
Abstract
A group of studies and research within Moroccan universities dealt in detail with the issue of the transition of the various components of desert society from nomadism to stability or urban life, especially in the field of social sciences. The interest in the subject is due to a number of reasons that, in our estimation, seem objective and worthy of scrutiny due to their importance in understanding societal transformations in the southern provinces, but the most important of these reasons is reflected in the nature of this urbanization process compared to other societies and urban areas of the country. This uniqueness came in terms of being characterized by suddenness and acceleration, which is governed by natural, political and ethnic determinants.
تمهيد
تناولت مجموعة من الدراسات والأبحاث داخل الجامعات المغربية بإسهاب موضوع انتقال مختلف مكونات المجتمع الصحراوي من البداوة إلى الاستقرار أو الحياة الحضرية، وخصوصا في مجال العلوم الاجتماعية. يعود الاهتمام بالموضوع لمجموعة من الأسباب التي تبدو في تقديرنا ذات موضوعية وجديرة بالتمحيص لما تكتسيه من أهمية في فهم التحولات المجتمعية في الأقاليم الجنوبية، لكن أهم هذه الأسباب يتجلى في طبيعة سيرورة التحضر هذه مقارنة بالمجتمعات والمناطق الحضرية الأخرى من البلاد. هذا التفرد جاء من حيث كونها تميزت بالفجائية والتسارع، المحكوم بمحددات طبيعية وسياسية وإثنية سنحاول أن نستحضر بعضها خلال تطرقنا لبعض مظاهر الاندماج الحضري داخل بعض مدن الأقاليم الصحراوية.
سنركز اهتمامنا في هذه المقالة على مظاهر الاندماج في المجال الحضري لساكنة المناطق الجنوبية، خصوصا أن عينة البحث التي تناولناها بالدرس تمثل شرائح من المجتمع الصحراوي التي عاشت التحولات المجالية والاجتماعية والعمرانية الأساسية والمحورية، وهذا خلال تشكل المراكز الحضرية وتوسعها بالمجتمع الصحراوي، وبالضبط على مستوى المعيش اليومي وعلاقة الأفراد والجماعات بفعل الاندماج كما تدركه وتتمثله من زاوية مرجعيتها الثقافية. لقد ركزنا في هذا البحث على أربعة مباحث أساسية: درجة وشكل الاندماج. العلاقة مع الوافد، النوع الاجتماعي ومظاهر الاندماج. كلها ترتبط بممارسات اجتماعية وثقافية تمليها سيرورة التحول المجالي وفق مقتضيات العولمة وتداعياتها.
السؤال الأساسي والمشروع الذي من المنطقي أن يطرح نفسه في هذا سياق هذا التأطير العام هو: هل استطاعت هذه التحولات أن تحدث قطيعة مع المقومات الأصلية للمجتمع الصحراوية؟ وإلى أي حد غيرت مظاهر الحداثة ونمط الحياة الحضرية من الخصوصيات الثقافية في معناها العام؟ في اعتقادنا، نعتبر أن التأثيرات والتحولات التي حدثت ولا زالت تحدث في المجتمع الصحراوي لم تخلق قطيعة بين الحياة البدوية والحياة المتحضرة، بل شكلت استمرارية لحضور البدوي في المجالات الحضرية كما سنحاول أن نبرزه فيما لي من الفقرات.
– من البداوة إلى الاستقرار، الثابت والمتغير
لا يجب الاعتقاد عند قراءة هذا العنوان الفرعي أن الأمر يتعلق بتكرار ما تم التطرق له في دراسات وأبحاث سابقة، بل نحن بصدد تسليط الضوء على بعض المظاهر الجزئية، لكنها ذات دلالة في مستويات محددة من الدينامية العامة للتغير الاجتماعي الذي دأبنا على محاورته خلال تفعلنا مع هذا الموضوع، وهو على درجة من الرحابة، ومن التعقيد في نفس الوقت بحيث يصعب الإلمام به ولو على سبيل سرد ووصف قضاياه العامة. فقد تمس التحولات المجتمعية في علاقتها بالمنطلقات الأصلية لمجتمع ما كل مناحي الممارسة والتواجد الاجتماعي داخل الحياة الحضرية، بحيث يبدو ظاهريا أن المجتمع قد انخرط فعليا، وفي مستويات متقدمة من معيشه اليومي داخل نمط الحياة المديني بما تفرضه إيقاعات الحياة المعاصرة، لكن تبين عند إجراء بعض المقابلات بأن علاقة ساكنة المدن الصحراوية لا زالت تعيش حالة من التردد ومن عدم اليقين فيما يخص علاقتها بمستجدات الحياة المعولمة من جهة، والموروث الثقافي والهوياتي من جهة أخرى.
من الطبيعي إذن، ونحن بصدد تأطير موضوعنا هذا عن مظاهر هذا الاندماج، أن نتساءل عن الأسباب التي قد تحول دون ذلك. كانت الغاية من هذا الاستفسار هو محاولة قياس تمثل بعض من يقطنون المراكز الحضرية حول ذواتهم ومحيط معيشهم، والذي يندرج ضمن تقنيات رصد العلاقة الانعكاسية réflexivité التي تعتبر في السيسيولوجيا المعاصرة أحد الركائز الإبستيمية لفهم طبيعة العلاقات التي ينسجها الأفراد داخل مجتمعات ما بعد الحداثة والمتجهة نحو الفردنة l’individuation والفردانية المفرطة. لقد أصبحت تسمى من طرف بعض المنظرين بالمجتمعات الانعكاسية[1]. وخصوصا عندما يتعلق الأمر بتعدد وتداخل والتباس المرجعيات الهويات بكل أصنافها، المذهبية والسياسية والفكرية والثقافية وما إلى ذلك، وهي ظواهر فردية وجماعاتية communautariste تتزايد في الانتشار داخل مجتمعاتنا التي تعيش عند اصطدامها بمظاهر الحداثة المفرطة ذلك الشرخ الذي يؤدي إلى الانشطار الوجداني والهوياتي لدى الأفراد والجماعات التي تعيش خضم هذه التحولات المباغتة.
لقد أكد فرديناند تونيزFerdinand Tönnies، وهو عالم اجتماع ألماني على أن هناك نوعين من التجمعات البشرية، الجماعة أو المجتمع محلي والمجتمع. فالأول تسوده الإرادة الطبيعية حيث الناس يؤمنون داخله بأهمية العلاقات الاجتماعية كغاية في حد ذاتها، وتهيمن سلطة العرف والتضامن الجماعي، كما أنها غير مقرونة بمصلحة بذاتها وتغيب فيها العلاقة التعاقدية، بينما المجتمع هو الذي تسود فيه الإرادة العقلانية، وتتأسس العلاقات بين الأفراد على أساس الوصول إلى غايات أو أهداف معينة متفق عليها مسبقا. فقد أشار تونيز إلى أن هناك عوامل أساسية تتحكم في الانتقال من المجتمع الأول إلى المجتمع الثاني، ولعبت دورا مميزا في عملية التطور الاجتماعي وهي العلم وتحضر المجتمع وظهور المدن والإنتاج الصناعي الرأسمالي وازدهار التجارة[2]. يمكن القول بأن هذا ما وقع داخل المجتمع الصحراوي في فترة زمنية محدودة نسبيا، إذ نجده انتقل فعلا من قيم الجماعة وهيمنتها إلى نوع من التحرر والفردانية وهيمنة العلاقات المعقلنة والتعاقدية، وتقديم المصلحة الشخصية عن مصلحة الجماعية وتنامي استهلاك الخدمات التي يوفرها المجال الحضري.
في حين نجد روبرت ريدفيلد، وهو عالم أنثروبولوجي أمريكي، قد ركز في أبحاثه على التحولات الثقافية داخل المجتمعات الريفية[3]. لقد خلص إلى أن هناك مجتمع ريفي ومجتمع المدينة، فالأول يتميز بقلة عدد سكانه وكل فرد فيه يعرف الآخر، وهو مجتمع متضامن ومتجانس والتقسيم الوظيفي بين الجنسين يكاد يكون معدوم كما أن السلوك فيه عفوي. أما مجتمع المدينة فهو على نقيض المجتمع الريفي. في نفس السياق، وضع سوروكان[4] ثمانية خصائص تميز المجتمع الحضري على المجتمع البدوي أو الريفي سنحاول أن نسقطها على مجتمع البحث فيما يخص عناصر التحول أو التغير التي عرفها:
- المهنة في المجتمعات الحضرية الريفية: لاحظنا فيما سبق بأنه وقع تحول في الممارسات المهنية. عموما من الرعي إلى التجارة والعمل المأجور، أو حتى القطاع الخدماتي.
- البيئة في كلا المجتمعين وتأثيرها على النشاط الاجتماعي.: يمكن أن تكون قولة “الإنسان ابن بيئته’ مناسبة في هذا السياق. حيث أن تغيير مجال العيش بالنسبة للساكنة الصحراوية رافقه تغير في الأنشطة والممارسات الاجتماعية. العمل، الترفيه، الاستهلاك والاحتفال.
- حجم المجتمع المحلي: الكل يؤكد على أن الانتقال إلى المجال الحضري رافقه نمو ديموغرافي ملفت ومهم، في حين أنه كان جد محدود في البادية حيث أن “الفريك” لم يكن يتجاوز في أقصى الحالات 16 خيمة
- الكثافة السكانية في الريف والحضر: من اكراهات العيش داخل المجال الحضري الذي عانت منها الجماعات البدوية عند انتقالها إلى الحضر هي الكثافة داخل فضاء عيش ضيق. وهذا ما جعل الوافدين الأوائل يستعينون بالخيام والحوش، والعودة المؤقتة للبادية كمتنفس عن ضيق المجال في المدينة.
- عملية تجانس أو لا تجانس السكان في المجتمع الحضري والمجتمع الريفي: كان التعارض واضحا كما لمسنا ذلك عند المقاربة بين التجانس الآلي والتلقائي بين ساكنة المجال الصحراوي البدوي حيث تشابه “القسمات” فيما بينها. وألا تجانس الذي عرفتها نفس الساكنة خلال تواجدها في المجال الحضري بسبب توافد عناصر بشرية مختلفة في نمط العيش والعادات، وضرورة العيش في مجال مشترك ضيق ومغاير لفساحة البادية وبساطتها.
- التمايز والتشريح الاجتماعي: التحول يكون كذلك على مستوى البنية الاجتماعية العامة، أو ما يطلق عليه بالتشريح الاجتماعي l’anatomie sociale، إذ تتسع هوة التمايز الطبقي مع تنامي التبادل الرأسمالي الليبرالية وتمركز الثروة لدى شريحة اجتماعية محدودة مما ينعكس على بنية المجال وعلى تمايز الممارسات الاجتماعية وشرعنة الفقر والتهميش والإقصاء كما لاحظنا فيما يخص أحياء المخيمات وما تلاها من الكوارث الحضرية.[5]
- عملية التنقل والإقبال عليها: يعني بالتنقل الحركية المجالية la mobilité spatiale وهي التواجد الكثيف لوسائل النقل ولفعل التنقل الذي يصبح أحد الممارسات الأساسية في العيش داخل المجال الحضري ويزيد من عبء الحياة بالنسبة للشرائح الضعيفة من المجتمع مثلا “الكوير” كوسيلة نقل خاصة بهم وهي تعني ما تعني.
- التفاعل الاجتماعي وأنماط الاتصال: من مميزات الحياة الحضرية نجد التغير الملموس في أنماط وأشكال التفاعل الاجتماعي بين مختلف الأفراد والجماعات بفعل تزايد تنوع وقوة وإيقاع التبادلات وقهريتها، ثم تطور وسائل الاتصال والتواصل وتعقيدها.
– شروط الاندماج ومحدداته
من بين مظاهر الحياة الحضرية التي تطرقنا لها سالفا هو تعايش وتساكن جماعات اجتماعية من أصول ومشارب متباينة في مجال محدود نسبيا حيث القاعدة هي التبادل ضمن منطق التضامن أو التنافس. لهذا فما وقع في المدن الصحراوية موضوع الدراسة هو أنه تمت الهدرة نحو هذه المدن من مختلف مناطق المغرب في مراحل تاريخية مختلفة ولأسباب متعددة أهمها الخدمة في الوظيفة العمومية والأمن والجيش، تم التجارة والصيد البحري. وهذا ما جعل هذه المراكز الحضرية فضاء لتعايش فئات اجتماعية من ثقافات مختلفة. لكن ما وقع هو أن المورفولوجيا الاجتماعية أضحت منقسمة إلى قسمين، “الصحراويون” و”البرانيون” فرضه معطى إثني وبشري بسيط يمكن تبريره تاريخيا وثقافيا. فمجتمع البيضان يمتاز بخصائص ومميزات ثقافية وبشرية تختلف عن ساكنة الشمال، وحتى تلك القريبة منهم مجاليا كمنطقة كلميم وأيت باعمران، والذين يسمونهم الحسانيون بأهل التل ويعتبرونهم غرباء ومختلفون. وقد شكل الوافدون عناصر يصعب التأقلم معها كما ورد في تصريح أحد المستجوبين[6]: ” على مستوى العادات والتقاليد فإن أهل الصحراء لم يندمجوا كثيرا في ثقافة المستعمر ولم يكن لديهم أي ولاء لإسبانيا، فالمدينة الوحيدة التي اندمجت مع إسبانيا هي الداخلة أما المدن الأخرى فلم ينجحوا معهم إلا في العمل لذلك بقيت عادات الصحراويين كما هي إلا بعض الكلمات والمصطلحات الإسبانية التي باتت في قاموسهم اللغوي. وكانت إسبانيا تسمح للصحراويين بالاحتفال بأعيادهم الدينية وممارسة شعائرهم في وقتها. حيث إنهم يحترمون ويقدرون ساعات العمل بالنسبة للصائم في رمضان. أما مرحلة استقرار فقد تغير المجتمع الصحراوي وبشكل سلبي لا من ناحية العادات ولا من ناحية التقاليد، فاللغة الحسانية أصبحت مهددة بالاندثار بسبب غلبة الكلمات الدارجة المغربية على اللسان على مستوى الزي وطقوس الاحتفال، فالمدينة أصبحت آفة على التقاليد والعادات الصحراوية.”
نرى في هذا التصريح مقارنة بين زمن الاستعمار الاسباني الذي عرف غياب شبه تام لفعل الاندماج مع ثقافة وعادات المستعمر، والذي كان يحترم عادات وأعراف ومعتقدات الساكنة المحلية. في حين، وبعد مرحلة الاستقرار وقع تغير ملموس تأثرت خلاله الثقافة واللغة الحسانية سلبيا بدخول تأثيرات لغوية وتعبيرية أخرى هددت أصالتها وتفردها. هذا الانطباع أو الرأي وجدناه متداول بنسبة مهمة، وهي تعبر عن صعوبة في تقبل الآخر تصل إلى اعتباره منبوذا ودخيلا يجب تجنب التعامل معه واحتقاره واعتباره مصدر الشر والمآسي التي عرفها المجتمع. إن التوجس من الفئات الوافدة يبقى وارد ومعطى أساسي في التعامل مع الهوية المحلية ومع تملك المقومات الثقافية المحلية، إما باعتبارها شيئا مختلف ودو قيمة مهمة يجب المحافظة عليها وتعزيزيها، أو في مستوى آخر أكثر قلقا حيث تكون مرجعية الانتماء شيئا مقدسا يمثل الأفضل والأحسن والأسمى وما يخالفها دون قيمة أو خطرا أو شيئا مدنسا.
تتعدد الأنماط العمرانية وتختلف من مدينة إلى أخرى بسبب اختلاف الثقافات و تنوعها، لأن العمران بصفة عامة والعمران العربي خاصة يعتبر النموذج الذي يعكس الحضارة والتاريخ المشترك في فترات زمنية مختلفة حيث تعبر هذه النماذج عن مفاهيم تتضمن المتطلبات الاجتماعية و الثقافية لكل مجتمع، و تتوقف على مجموعة من المميزات تحمل العديد من المعاني و الرموز الثقافية التي تعكس خصوصيته، إلا أن هذه النماذج و الأنماط العمرانية طرأت عليها العديد من التحولات من جراء الثورات في الكثير من الأحيان أو بهدف التنمية و التعمير. يعطي التنظيم المجالي نظاما معينا للمدينة لكون هذه الأخيرة تعبر عن لا تنظيم، والا توازن من الناحية الوظيفية المجالية. كما يعرف العمران عادة على أنه بمثابة النافذة المفتوحة على ثقافة الجماعات الاجتماعية، ويعتبر كأداة للتعبير الفكري والثقافي الحضاري كما يحدد إطار النمط المعيشي وكيفية تنميته من جوانبه المختلف.
كشف ريموند لودري في تعريفه للمدينة على أنها ” ليست مجرد شيء مادي كآلة تشغيل يجب أن تشتغل جيدا، بل هي تجمع إنساني يشغل موضعا معينا، يعيش أعضاءها بعلاقات متبادلة تتحكم فيها بعض القوانين والأعراف وكذا العادات، فهي غير معزولة في نمطها عند التاريخ، وعند ذاكرة الشعوب، في حين تتميز باستقلالية معينة تخضع للحياة الحضرية الممكنة في وقت ما، في بيئة ما، وفي ظروف ميلاد معينة “[7]. يمكن أن نعتبر هذا التعريف التالي المتفرد والثاقب مفسرا لتلك الدينامية المندمجة التي تقوم بها المدينة في علاقاتها مع الجماعات البشرية الوافدة بحيث تعيد نسج العلاقات منطق غالبا ما يكون غير منتظر وغير مدرك ومستوعب. فهو يتجاوز كل معارف وتجارب وإمكانيات الفهم الخاصة بالأفراد والجماعات، وهذا ما يجعل العلاقات التبادلية يشوبها الشك والترقب وتنتهي في دواليب المصلحة الشخصية وتدبير الوضعيات التبادلية. وعليه نستخلص أن التبادل القائم والتكامل بين النواحي الفيزيقية والاجتماعية في المدينة لا يمكن أن يقوم على علاقات اجتماعية دون توفر المجال الذي تنمو عليه هذه العلاقات، كما أن أنماط العمران وشكل النسيج العمراني هي انعكاس لأفكار وقيم ومعتقدات السكان، فالمدينة في أبسط صورها هي انعكاس للعلاقات الاجتماعية على المجال وعلى البنيات وأشكال التنظيم..
نستخلص من كل التعاريف التي تم التطرق إليها أنه لا يوجد تعريف جامع مانع للمدينة، فلكل مجال من مجالات المعرفة التي تهتم بهذه الظاهرة الديناميكية وجهة نظره تجاهها. وللتغلب على هذه الصعوبة في تعريف المدينة علينا محاولة إيجاد تعريف متعدد التخصصات، بحيث نجمع فيه ما بين وجهة نظر كل من الجغرافيين و الديمغرافيين وعلماء الاجتماع و الأنثروبولوجيين أو المؤرخين، بحيث ننظر إلى المدينة على أنها كل متفاعل تشكله العوامل الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية في ظروف معينة، وزمان ومكان معينين لتلبي حاجات الإنسان وتعكس أفكاره لأن عملية تنظيم المجال لأي مدينة تتحدد بعدة ضوابط طبيعية واجتماعية تؤثر في مجالها، فالمدينة إذن ” تعبر عن شكل من أشكال تملك المجال، فالاختلاف الظاهر في استغلال المجال الذي تبدو عليه المدينة لا ينفصل عن التأثيرات المختلفة للتنظيم الاجتماعي في مجمله”[8].
سيرورات الاندماج الحضري
لاحظنا فيما سبق أن المدينة تفرض بشتى الوسائل على الوافدين عليها شروطا محددة من الاندماج والتأقلم مع إطاراتها المعيشية النوعية. في حين أن فعل الاندماج يتم بوسائل وإمكانيات مختلفة حسب المرجعيات والامكانيات الخاصة بكل جماعة اجتماعية. فدينامية التعايش مع المحيط الجديدة لم تكن بنفس الأسلوب إذ ما قارنا بين الوافدين من البادية والوافدين من مراكز حضرية أخرى كما وقع سنة 1991 في المدن الثلاثة موضوع الدراسة. تم أن الاندماج أختلف بين من قدموا في المراحل التاريخية الأولى حيت معالم الحياة المدينية كانت في بدايتها وأولئك الذين قدموا في مراحل متأخرة. تم أن التعامل مع المجال الحضري يختلف بين الأفراد والجماعات حسب نوعية العمل والمستوى الدراسي والانتماء القبلي والنشاط الاقتصادي الأصلي وطبيعة العلاقات التبادلية والتضامنية المتاحة. فحسب نتائج البحث الميداني تبين بأن هناك فئة اعتبرت نفسها غير مندمجة بتاتا داخل المجال الحضري، وذلك بنسبة تقارب 18 في المئة. وهي نسبة مهمة إذ ما تمعنا في الدلالات الخفية لهذا الموقف وهو الإحساس بعدم الانتماء والفشل في الانتماء. في المقابل، نجد أن نسبة كبيرة من المبحوثين قد عبروا على اندماجهم في الحياة الحضرية واعتبروا تجربة الانتقال والاستقرار مسألة إيجابية حسنت من شروط عيشهم ووفرت لهم فرصة الاستفادة من المرافق الاجتماعية ومختلف الخدمات التي توفرها المدينة. أما من اعتبروا أنفسهم اندمجوا لكن بشكل نسبي فقد كان عددهم قليل وهذا يعني أنهم في تفاعل بين المجال الأصل الذي لا زال يمارس عليهم نوع من الجاذبية ومغريات الحياة الجديدة التي لا زالوا ينظرون إليها بنوع من التردد.
لقد نشأت المدن نتيجة الرغبة في التعايش كمجموعات بالنسبة للأفراد، ولتحقيق الاستقرار الذي كان يحاول الإنسان القديم جاهدا الحصول عليه، فمن الريف والصحراء والغابات، بدأ ينتقل تدريجيا للوصول إلى مفهوم جديد للتعايش، يضمن استقراره، ويحقق له في نفس الوقت الحماية من كل المؤثرات الخارجية، فكان تخطيط المدن القديمة ينطلق من نوعين: التخطيط الدائري والتخطيط ذو المحاور المتعامدة أنظر الشكل. ولقد وجهت الدراسة دائما الباحثين للسؤال: متى وأين وتحت أي ظروف ظهرت هذه المدينة وماذا أسهمت به في تاريخ المنطقة أو العصر؟ وهل هناك نمو تطوري أو دوري في التاريخ الإنساني مرتبط بظهور المدن أو نموها؟ إن قيام المدن ونموها مسألة يصعب أن نتتبعها بدرجة ملحوظة لأسباب عديدة، ومما لا شك فيه أن المدن انبثقت تعبيرا عن ظروف روحية ومادية واجتماعية وسياسية، وانعكست هذه الصور على تغير المدن ونمو العمارة، وأكد بارنز:”أن العمارة هي سجل لعقائد المجتمع”، ويقصد بنشأة المدن: «هي مرحلة المدينة في فجر قيامها”، وتتميز بانضمام بعض القرى لبعضها البعض، واستقرار الحياة الاجتماعية إلى حد ما، وقد قامت المدينة في هذه المرحلة بعد اكتشاف الزراعة وقيام الصناعات اليدوية.
قضايا الادماج والنوع الاجتماعي
كان لابد أن ننهي هذا الجزء المتعلق بسيرورات الاندماج الحضري بالتساؤل عن دور ومكانة المرأة الصحراوية في مسار التحولات المجالية والحضرية والمجتمعية ككل. وهل للنوع الاجتماعي خصوصيات محددة فيما يخص التغير الاجتماعي في المجال الصحراوي أم أن سيروارات الانتقال إلى المدن والاستقرار داخلها هي نفسها التي عاشها الرجل؟ الكل يعرف بأن للمرأة في المجتمع الصحراوي مكانة متميزة رسختها الأعراف والتقاليد، حيث يقول الشيخ محمد المامي، متحدثا عما تحظى به المرأة الصحراوية من تقدير واحترام عند عامة أهل القطر “كأنهن لم يخلقن إلا للتبجيل والاكرام والتودد لهن، فلا تكليف عليهن ولا تعنيف، فالمرأة هي سيدة جميع ما يتعلق بالبيت من متاع وماشية، والرجل بمثابة الضيف، ويؤكد هذه المكانة المتميزة للمرأة الصحراوية ما يورده ابن بطوطة من أن النساء في بعض أقاليم الصحراء أعظم شأنا من الرجال. من الأمور التي يمكن أن تفسر هذا الاندماج السريع للنوع اجتماعي داخل المجال الحضري كما جاء على لسان أحد المستجوبات هو امتهان المرأة في الاقاليم الجنوبية التجارة والصناعة التقليدية صناعة المنتوجات الجلدية هي من الحرف الخاصة بالمرأة في الصحراء، تعتمد فيها أساسا على جلد الماعز أو الإبل، حيث تقوم بدباغة الجلد ثم تهيئه لهذا الغرض و”الجماعة” و”تغليف الصناديق” ويدخل في هذه الحرفة صناعة “أصرمي”و”المرفك وبعض الوسائل التزيينية للخيمة وتستعمل المرأة في هذه المهنة وسائل كالخطاطة وهي آلة الرسم بالألوان والكبظة وهي آلة التقطيع واللشفة وهي آلة الغرز. استرسلت مبحوثة أخرى في نفس الموضوع: ” تزاول النساء “لمعلمات صناعة الجلود من ملابس وأفرشه وأغطية بزركشتها الجميلة وزخرفتها الساحرة للأعين. ومن أثاث الخيمة البارز”إليويش” وسجادة الصلاة التي مازالت حتى الآن تصنع من جلود الخراف المحلية كما تقوم “لمعلمات” كذلك بوظائف التجميل والزينة الخاصة بشابات الحي ونساءه عموما خصوصا زمن الأفراح والمناسبات فكانت “لمعلمات” وما زلن إلى اليوم، يقمن بإعداد القلائد التقليدية ” الخرز” من الحجارة الكريمة والنادرة، وترتيبها مع الذهب والفضة وكذلك صناعة تيجان من هذه المعادن النفيسة”.
خلاصة
يمكن القول بأننا خلصنا في هذا الورقة إلى أن أنماط العلاقات الاجتماعية سواء ما تعلق منها بساكنة المدن الصحراوية، أو المهاجرين الوافدين اليها من المدن والمناطق الشمالية، تكون في غالب الأمر مبنية على أساس قرابي عصبي، أو على مصلحة فردية أو جماعية محددة. لكن بالنسبة لساكنة المجال الأصل، كان الانتقال يتم بفعل سلطة التقاليد والضوابط الاجتماعية التي تحكم مثل هذه الممارسات والتفاعلات، وكذا العلاقات والمبادرات. بمعنى أن ساكنة البادية، ورغم مظاهر التحول وتجليات المدنية، قد أعادت في جزء مهم من هذه التجربة البشرية انتاج النزعة العصبية والولاء لأفراد القبيلة والعشيرة والانتماء إليهم وعدم الخروج عن نظامهم الاجتماعي، وخاصة لدى الأفراد المسنين والحاملين للتراث الثقافي البدوي أو الريفي. وبالتالي فقذ لاحظنا أنهم لازالوا متمسكين بثقافاتهم التي نشؤا عليها في مواطنهم الأصلية، هذا إذا ما أخدنا بعين الاعتبار فئة الشباب التي اندمجت في الحياة الحضرية وخرجت عن عادات وتقاليد أجدادها، وأصبحت تقيم علاقات اجتماعية مبنية على اساس الزمالة والصداقة والمهنة وعلاقات آنية مصلحية. يمكن القول أن تجربة الانتقال نحو الاستقرار في المجتمع الصحراوي كان اندماجها نسبيا في الثقافة الحضرية من حيث قيمها وعاداتها وتقاليدها ومعاييرها الاجتماعية الحديثة، بحيث عرفنا أن نسبة كبيرة من المهاجرين اندمجوا في الثقافة الحضرية الحديثة، وهذا لأنها، في اعتقادهم، توجههم للأحسن والأفضل بعد أن قاموا بتبنيها. أصبح المهاجر يستدمج إذن ثقافتين: الأولى تقليدية والثانية حديثة وجديدة. وبهذا نستنتج أن أغلب المهاجرين اندمجوا والثقافة الحضرية الجديدة وتبنوها وهذا لعدم وجود اختلاف كبير بين الثقافتين، وخاصة من جانبها المعنوي والرمزي اللامادي. في الأخير، نقول بان المجتمع الصحراوي هو في طريقه نحو التكيف والاندماج بمرونة داخل اسلوب الحياة الحضرية. رغم أنه يمكن القول بحصول ما يمكن أن نسميه بالاندماج التماثلي، بمعنى أن هذا الاندماج الحاصل هو عبارة عن تماثل جاء في شكل مسايرة للثقافة الاصلية والتماهي معها، والتي نشأت عليه الساكنة الأصلية في مواطنها الأصلية ومحاولة إيجاد صدى لها متجسدة غالبا في المدينة وأبعادها الحضرية.
ببليوغرافيا
1/ Georg Simmel, Les grandes villes et la vie de l’esprit. Suivi de “Sociologie des sens”, Paris, Payot, coll. « Petite Bibliothèque Payot », 2013, 107 p., trad. J.-L. Vieillard-Baron et F. Joly, préf. P. Simay, ISBN : 978-2-228-90887-0.
2/ Brunet Roger. Les images de la ville. Paris, Ed. Anthropos, 1973. In : Espace géographique, tome 3, n°3, 1974. pp. 209-210.
3/ Pitirim Sorokin, Tendances et déboires de la sociologie américaine. Paris : Aubier, Éditions Montaigne, 1959, 401 pp. Collection Sciences de l’homme. Traduit de l’Américain par Cyrille Arnavon. Titre original : Fads and Foibles in Modern Sociology and Related Sciences (1956) .
4/ Deverre, C. (2009). Robert Redfield et l’invention des “sociétés paysannes”. Etudes Rurales (183), 41-50.
http://prodinra.inra.fr/record/190712
4/ رسال ة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة ف ي القانون العام سنة 2005 تحت اشرا ف الدكتور الحسان بوقنطار.
Margins:
- أنضر كتاب la modernité réflexive عند كل من اولريك بيك Ulrich Beck وأونطوني غيدنز Antoni Guidenes / ↑
- Ferdinand Tönnies (1922), Communauté et société. Catégories fondamentales de la sociologie pure. Introduction et traduction de J. Leif. Titre allemand original: GEMEINSCHAFT UND GESELLSCHAFT. Paris: Retz-Centre d’Études et de Promotion de la Lecture, 1977, 285 pages. Collection: Les classiques des sciences humaines. ↑
- Deverre, C. (2009). Robert Redfield et l’invention des “sociétés paysannes”. Etudes Rurales (183), 41-50.
http://prodinra.inra.fr/record/190712 ↑ - ↑
- Pitirim Sorokin, Tendances et déboires de la sociologie américaine. Paris : Aubier, Éditions Montaigne, 1959, 401 pp. Collection Sciences de l’homme. Traduit de l’Américain par Cyrille Arnavon. Titre original : Fads and Foibles in Modern Sociology and Related Sciences (1956). ↑
- مقتطف من سيرة سيد أحمد ولد مبارك ولد رحال. (مقابلة) ↑
- Brunet Roger. Les images de la ville. Paris, Ed. Anthropos, 1973. In: Espace géographique, tome 3, n°3, 1974. pp. 209-210. P 2010. ↑
- Brunet Roger. Les images de la ville… نفس المرجع ↑