دور الاستعمار في إثارة الصراعات السياسية والدينية ( العراق انموذجا من 1921- 1948 )

علي حسين محمود1*, الدكتور فلاح المنصوري2

1 قسم تاريخ الحضارة الاسلامية/ كلية العلوم والمعارف/ جامعة المصطفى/ ايران

E-mail: ali.t226.t226@gmail.com

2 قسم تاريخ الحضارة الاسلامية / كلية العلوم والمعارف/ جامعة المصطفى/ ايران

E-mail: astadhly376@gmail.com

HNSJ, 2022, 3(9); https://doi.org/10.53796/hnsj3925

Download

تاريخ النشر: 01/09/2022م تاريخ القبول: 24/08/2022م

المستخلص

جاء في هذا البحث بيان للأساليب الاستعمارية التي استخدمتها الحكومة البريطانية في العراق لفرض سيطرتها الغريبة، وليس لكل مستعمر أن يستخدم هذه السياسة في تشتيت وتشتت الناس للحصول على جهة داعمة واحدة على الأقل. كما تطرق إلى بعض المهام التي قام بها الاستعمار إبان حكمه للعراق، وكذلك ردود الفعل الوطنية للنخب والقادة المعارضين للاستعمار، والمكائد والأساليب التي استخدمتها بريطانيا لاختراق الحكومة والسيطرة على حكم الشعب العراقي في ذلك الوقت.

Research title

The role of colonialism in provoking political and religious conflicts

(Iraq as a model from 1921-1948)

Ali Hussein Mahmoud 1*, Dr. Falah Al-Mansoori 2

1 Department of History of Islamic Civilization/ College of Science and Knowledge/ Al-Mustafa University/ Iran

E-mail: ali.t226.t226@gmail.com

2 Department of History of Islamic Civilization/ College of Science and Knowledge/ Al-Mustafa University/ Iran

E-mail: astadhly376@gmail.com

HNSJ, 2022, 3(9); https://doi.org/10.53796/hnsj3925

Published at 01/09/2022 Accepted at 24/08/2021

Abstract

In this research came a statement of the colonial methods used by the British government in Iraq to impose its control, and it is not strange for every colonizer to use this policy in dispersing and dispersing the people and dispersing them to obtain one supportive party at least, and it also touched upon some of the tasks carried out by colonialism during His rule over Iraq, as well as the national reactions of the elites and leaders opposed to colonialism, and the machinations and methods used by Britain to penetrate the government and control the Iraqi people at that time.

المقدمة

لقد كانت بريطانيا تنظر للعراق نظرة خاصة, نظرا لما يتمتع به من مميزات تدعم مشروعها الاستعماري ,منها موقعه الجيوسياسي, وثرواته الهائلة ,لذلك شكل محور ارتكاز لبريطانيا في منطقة المشرق العربي, وغرب اسيا, حيث ان الاستعمار البريطاني في العراق ترك اثرا كبيرا في التاريخ العراقي لاسباب منه الاحداث والمجريات التي حدثت اثناء وجود الاحتلال, وكذلك طول فترة هذا الاحتلال ونفوذه الذي ظل موجودا حتى بعد اعلان الانسحاب, هذه الاسباب جميعا استوقفتني لدراسة هذا الموضوع ,وكتابة هذا البحث لأن جميع القرارات او المشاريع التي صدرت عن الجهات الرسمية البريطانية , أو قرارات القادة العسكريين, هدفت الى تحقيق المصلحة البريطانية قبل كل شيء، فعملت على اصدار القوانين التي تتطلبها الاوضاع المحلية و تبنتها اللجان العسكرية البريطانية، يجاريها بذلك بعض شيوخ القبائل من خلال العرف العشائري، ثم رسمت سياستها المستقلة فيما تراه ممكنا على نظام سياسي هيكلي للدولة ككل في انظمة جزئية ذات وظائف متخصصة كالسلطات ( التشريعية والتنفيذية والقضائية) مبتغية بذلك تحقيق مآربها الاستعمارية بصورة مماثلة لمحيطها الدولي نظريا.

ولجأت في هذا البحث الى بيان الاساليب الاستعمارية التي استخدمتها الحكومة البريطانية في العراق لفرض سيطرتها وليس بغريب على كل مستعمر ان يستخدم تلك السياسة في تشتيت و تفريق الشعب و تشتيتهم للحصول على طرف واحد مساند عللا الاقل, و كذلك تطرقت الى بعض المهام التي قام بها الاستعمار خلال حكمه على العراق, كما ولابد من بيان ردود الافعال الوطنية من النخب و القادة المعارضين للاستعمار وما استخدمته بريطانيا من مكائد و اساليب للتوغل في الحكم و السيطرة على الشعب العراقي انذاك.

المفاهيم:

قبل الشروع في كتابة هذا الموضوع لابد من بيان ابرز المفاهيم التي تبين لنا مفاتيح البحث وسنأتي هنا ببيان المفهوم العام فقط دون الدخول في المعاني اللغوية و الاصطلاحية وانما ندرج للقارئ الكريم المفاهيم بمعناها العام وكما يأتي:

  1. مفهوم الاستعمار:

هو استيلاء دولة أو شعب على دولة اخرى و شعب اخر لنهب ثرواته و تسخير طاقات افراده و العمل على استثمار مرافقه المختلفة[1].

أو هو احتلال البلاد والمكث فيها زمناً طويلاً ومحاولة الهيمنة على مقدرات الأوطان والشعوب. وقد تطور إلى الاحتلال الفكري والاقتصادي بل تحول إلى العولمة التي تفرض كل مكوناتها على الأمم الأخرى[2].

  1. مفهوم الصراعات السياسية:

هو التصادم بين الشخصيات أو النزعات الذي تؤدي الى الحدث في المسرحية او القصة ويكون هذا التصادم داخليا في نفس احدى الشخصيات او بين الشخصيات و القوى الخارجية[3].

وقيل هو الصراع الذي يحدث لأن الاطراف المتورطة في الصراع تحاول الحصول على نفس القوة و جمعها بعدد محدود و استخدام القوة لتحقيق اهدافها او ايديولوجيتها[4].

  1. مفهوم الصراعات الدينية:

هي الخلافات التي تنشأ بين مجموعة او مجموعات من البشر في دولة ما او منطقة محددة و هذه الصراعات ليس الدين هو السبب في نشأتها في الاصل وانما الطرق التي يوظف بها الدين في حياة الناس هي السبب في نشوء ذلك الصراع و يستغل الدين للتغطية على اهدافها الاخرى[5].

وبالنتيجة نصل الى ان الصراع بمفهومه الواسع يتضمن التصادم بين المصالح و الاهداف و المعتقدات السياسية و الدينية و غيرها لدول تختلف فيما بينها من ناحية القيم و الاخلاق و الافكار و الاستراتيجيات التي تتبعها[6].

أساليب بريطانيا في اثارة الصراعات السياسية و الدينية

في العراق 1921- 1948

قامت السلطات البريطانية في العراق باتخاذ وسائل و اساليب عديدة لبسط نفوذها على الشعب العراقي وقامت بدارسة الثغرات التي من الممكن ان تساعدها في ذلك فلجأت الى القوة و العنف وبالمقابل لم يرضخ الشعب العراقي لتلك القوة مهما كانت فقامت بحيلها والاعيبها للوصول الى كسب ثقة الشعب العراقي ومن ثم السيطرة عليهم فاستخدمت مبدا(فرق تسد) وسندرج ادناه بعض الاساليب التي استخدمها البريطانيون في اثارة الصراعات :

  1. تأمين حاجاتها بالاستيلاء على الاراضي و الممتلكات و تشغيل العراقيين بالاكراه لخدمة المجهود الحربي البريطاني.
  2. التخطيط لجعل الجزء الجنوبي من العراق مستعمرة هندية, تمهيدا لضمة للهند تحقيقا للسياسة الاستعمارية الطامعة في جنوب العراق[7].
  3. تكوين نظام اداري يشغل فيه العراقيون وظائف ثانوية.
  4. استدراج بعض العشائر لضمان ولائها, والقيام بمدهم بالمال و منحهم الاقطاعيات الكبيرة[8].
  5. قامت الحكومة البريطانية بفرض نفسها وسياستها على العراق وبينت نواياها امام عصبة الامم و الدول المجاورة بانها احتلت العراق بصفة الانتداب, بينما

بينت نوايها امام العراقيين بانها دخلت العراق من اجل مصلحته وان قواتها لم تدخل العراق كمحتل انما دخلت كالحليف للعراقيين.

  1. التلاعب و التمويه و التضليل لإخفاء عيوب الانتداب و تحويله الى معاهدات بدأ من 1922 الى معاهدة 1930 مما شق العراقيين الى صفوف موافقة لعدم اطلاعهم و صفوف معارضة[9].

اهم مظاهر الصراع السياسي والديني ونتائجها في العراق 1921-1948

تنوعت مظاهر البريطانيين في العراق اثارة الصراعات السياسية و الدينية في صفوف الشعب العراقي و كانت هذه المهام مبنية على خبرتهم السابقة في الهند، التي وصفها الجنرال (هالدن(: بأنها كانت هذه الأساليب قاسية لم يألفها الشعب العراقي ولم يكن مستعدا لقبولها بصورة كلية, فقاموا أما بإرسال الضباط استخدموهم في الإدارة المدنية في العراق ولكنهم لم يكونوا ذوي خبرة سابقة في الإدارة ولا يعرفون عن البلاد ولا عن سكانها شيئا، لذا استخدموهم بوظيفة معاون حاكم سياسي، وقد عين بعضهم، أحيانا بوظيفة حكام سياسيين[10].

بما يعني انهم قاموا ببث التفرقة الداخلية مما زعزع ثقة الشعب في الحكومة وبدأوا بإبعاد الكفاءات من العراقيين و استبدالهم بالبريطانيين وقام هؤلاء الضباط البريطانيين ممن تحولوا الى الشؤون الادارية المدنية انفتحت اوداجهم سلفا و غرورا و ازدراء للناس و احتقروهم جهارا و ساروا فيهم سيرة خشنة و اوصلوا انواع الاذى لهم ولم يكتفوا بذلك بل اصطنعوا طائفة ممن لا خلاق لهم فقربوهم و أدنوهم حتى جعلوهم اخلص مستشاريهم امعانا في الارهاق و تنكيلا بأهل البلاد الشرعيين[11].

و ايضا بدأوا الحكام البريطانيون بتقليد الناس العوام و المنبوذين في المجتمع بعض المناصب الادارية و في امور الشرطة و البستهم الحكومة البريطانية سراويل قصيرة و التي لم يألفها العراقيون و اقامتهم في الشوارع و الازقة و فرضت على المارة ان يسيروا في الجهة اليسرى من الشارع و المخالف بسلوك الجهة اليمنى سهوا يتعرض للاهانة او يضرب بالسوط يلفحه جنود الانضباط العسكري, و قاموا بنبذ التفرقة بين العشائر حيث قاموا باختيار بعض الشيوخ دون مراعاة القواعد المتعارف عليها في وراثة المشيخة, وقدموا من قام بالولاء لهم[12].

وقد كان لهذا الموقف ردود فعل مضادة من قبل العديد من الفئات الاجتماعية للمجتمع العراقي، كذلك لدى بعض مراكز القوى في الإدارة البريطانية في العراق، لا بل امتدت” واستمرت هذه المشكلة موضع جدل وخلاف داخل الحكومة البريطانية وبين السلطات العسكرية والسلطات السياسية في العراق[13].

عمدوا الى زرع الفتن و التحريض لتمزيق الوحدة الوطنية فقاموا بالتفريق بين طوائف العراق فتقربوا من السنة و اغروا علمائهم بقبول الوظائف و الاهتمام بدوائر الاوقاف وفي المقابل اهتموا اكثر بطائفة الشيعة و راعوا مواكبها و طقوسها الحسينية التي تقام في شهر محرم و قدموا لهم كل ما يحتاجونه في تلك المواكب[14].

بعد الثورة العشرين قامت قيادة الاحتلال البريطاني بجمع سبعين الف بندقية من عشائر الفرات الاوسط في حين لم تجمع السلاح من عشائر المنتفك قاصدين بذلك بقاء هذه العشائر على ولائها و اخلاصها لهم, واستغلال عشائر الفرات الاوسط كقوة في ضرب العشائر الاخرى المعارضة لسياستها في مناطقهم[15].

وقد جلبوا بعض العرب المعروفين بثقافتهم الغربية العلمانية,في وقت كانت ثقافة العراق اسلامية محافظة, مثل ساطع الحصري1933 وغيره وعينوهم في مناصب مهمة في وزارات حساسة فولد صراعا واعتراضا فقد اعتمد الإنكليز على ساطع الحصري لتحقيق المخطط البريطاني كعراب للقومية العربية في العراق وربطها بالطائفية، واضطهاد أربعة أخماس عرب العراق، وحرمانهم من حقوق المواطنة في بلدهم. عمل بإجهاد لتنفيذ هذا المخطط الطائفي خلال عمله في العراق حيث عُيّن الحصري مديراً للمعارف بالإضافة إلى كونه مستشاراً للملك[16]. وفي عام 1939 قامت القوات البريطانية باغتيال الملك غازي للتخلص منه و على اثر هذا الحادث ثار الشعب في مظاهرات عارمة و صب غضبه على مبنى القنصلية البريطانية في الموصل و قتلوا هناك القنصل البريطاني و عين ابن فيصل الثاني ملكا للعراق[17].

وظلت الاحداث تتوالى على العراقيين من قبل السلطات البريطانية لغرض انتشار الفتنة وبقيت الصراعات الداخلية و الخارجية مستمرة و تتعاقب الحكومات و تتوالى في تشكيلها الى ان انتهت فقرة الانتداب و تخلص العراق من البريطانيين.

دور النخب والكفاءات السياسية والدينية في التصدي للصراعات السياسية والدينية 1921- 1948

لقد كانت نخب الحكم تستند الى بعض قادة المؤسسة العسكرية لحمايتها ومصالحها وتهديد خصومهم. وكان أحد أسباب ذلك هو الاختلافات الفكرية والرؤى الفلسفية وتضارب المصالح بين نخب الحكم وتناقض التوجهات والأهداف لمكونات القاعدة الاجتماعية التي كان كل عنصر منها يتركز على تحقيق المصالح الذاتية للنخب, على حساب الهوية العراقية الوطنية والمصلحة العامة وكذلك بناء الدولة والبرنامجية المستقبلية. وكان تدخل العسكر في البدء يتم بصورة غير مباشرة وذلك بالتلويح بالقوة المادية من قبل بعض أعضاء النخبة الحاكمة, إما فيما بعد فقد تدخلت المؤسسة العسكرية بصورة مباشرة عبر الانقلابية المستقاة من تجربتي تركيا وايران, وهذا ما حدث في الانقلاب العسكري الأول في العالم العربي, وهو انقلاب بكر صدقي عام 1936، ثم تلته خمس انقلابات عسكرية مستترة, تمت ما بين أعوام 1937- 1941 والتي قام بها مجموعة العقداء الأربعة بالتحالف مع بعض الضباط الكبار وبعض أعضاء نخبة الحكم من السياسيين, ثم توجها انقلاب العقداء الأربعة في مايس عام 1941 الذي قاده كل من (صلاح الدين الصباغ, محمد فهمي سعيد, محمود سلمان وكامل شبيب)[18].

ولم تحقق تلك الانقلابات التي كانت مدعومة من قبل السياسيين المحورين ومؤسسة العرش إلا مزيدا من التدخل العسكري في السلطة السياسية من جانب, وكذلك جسدت الانقلابات صراع المصالح بين دول الحلفاء ودول المحور أبان الحرب العالمية الثانية 1939 /1945 من جانب آخر، وهي تعكس ايضا الصراع بين نخب الحكم وهشاشة النظام السياسي برمته ومنظماته الدستورية. كما كان من نتائجها أن بدأ التفكير من قبل ضباط المؤسسة العسكرية بالتكتل المنظم (والغائي..؟) ليس لتغيير بنية الحكم العليا بقدر تغيير النظام الملكي برمته. فكان عام 1948 قد شهد أول تنظيم لظاهرة (الضباط الأحرار) التي توحدت كتلها في منتصف الخمسينيات وقادت فعل التغيير الجذري في 14 تموز 1958 ،وقد سبق وأن مهد لهذه الظاهرة قبل هذه التاريخ بروز تكتلات صغيرة ذات طابع فردي من قبل الضباط الصغار غالبا ما كانت تزول نتيجة عدم توفر ظروف النجاح[19].

اذ ان الممارسات الديمقراطية المفروضة على النخبة, خدمتهم في تحقيق مأربهم الشخصية, حيث كانت الوسيلة التي من خلالها يتسلقون إلى السلطة السياسية, ويكتسبون مصادر القوة من خلال عدة مصادر منها على وجه التحديد, عبر الخطاب السياسي الجماهيري التعبوي والتحريضي, وعمليات التزوير للانتخابات, حيث رصد ذلك بشكل جلي بعد أحداث ثورة العشرين التي دخلت كمتغير في الإستراتجية السياسية البريطانية المقررة لحكم العراق[20],

كما قام شيوخ بعض العشائر بتحشيد رجالهم لتصدي للقوات البريطانية من خلال الهجمات المباغتة على طرق المواصلات و مناطق و جودهم وقطع اسلاك التلغراف بهدف شل حركة التموين و الامدادات البريطانية و قطع الاتصال بين وحدات الجيش و قياداتهم وقتل عدد من الضباط البريطانيين الذين اساءوا التصرف مع العشائر[21].

وكان موقفهم من المعاهدة الاولى 1922 بالغاء الانتداب و اسقاط اي وزارة تصادق على معاهدة لا تتماشى مع تطلعات الشعب العراقي وانفجرت تظاهرات في عدة مدن كالنجف و الفرات الاوسط وارسلوا البرقيات التي تنص على الغاء الانتداب و طرد المستشاريين البريطانيين و اطلاق حرية الصحافة, وظلت المظاهرات صاخبة الا ان طوقت الجماهير بناية المجلس التأسيسي و منعت النواب من الدخول او الخروج منه و تهديد النواب المؤيدين للسياسة البريطانية[22].

وكذلك الجرائد التي كانت تنبه الشعب وتنطق بلسان الثورة فقد فضحت سياسة بريطانيا الاستعمارية و واوضحت اسباب الثورة كجريدة الفرات في النجف و جريدة الاستقلال ايضا قامت بنشر مظالم المحتلين وتوضيح مطالب الامة المشروعة[23].

وفي عام 1922 قامت مظاهرة حاشدة بالتوجه نحو البلاط الملكي تطالب بتأليف حكومة وطنية وسقوط الانتداب وقد صادف مجيء المندوب السامي بيرسي كوكس لتقديم التهاني للملك فأستاء من ذلك, ثم اتخذها فرصة سانحة لضرب الحركة الوطنية والقضاء على الحياة الحزبية فطالب كوكس في التالي بتقديم اعتذار و اعتقال المسؤولين عن تدبير المظاهرة فكان الاعتذار عاجلا و وافيا الا ان المندوب اغتنم فرصة مرض الملك فأخذ مسؤولية الحكم على عاتقه و امرباغلاق حزبي النهضة و الوطني و تعطيل جريدتيهما (الرافدين و المفيد) واعتقال زعماء الحركة و نفيهم خارج العراق[24], و كذلك جريدة صدى الوطن التابعة للحزب الوطني التي نشرت في 25 تشرين الثاني 1930 في عددها الاول احتجاجا رفعه جعفر ابو التمن الى رئيس الوزراء بين فيه سلوك الوزارة تجاه الصحف المعارضة بأنه يتنافى مع الحرية التي كفلها القانون الاساسي للعراقيين[25].

وكذلك كان لرجال الدين وقفة مهمة امثال هبة الدين الشهرستاني من خلال منصبه كوزير للمعارف في العراق و الذي تسلمه عام 1921 في حكومة عبد الرحمن النقيب[26], فقد سعى لإصلاح المؤسسة التعليمية في البلاد من خلال أتباعه سياسة تعليمية و تربوية ذات طابع وطني و قومي, إلى جانب مواكبة العلوم و المعارف الحديثة حتى تكون نتائجها في المحصلة النهائية إعداد جيل واع و متنور, وقد بذل جهود حثيثة بالحد من تدخلات المستشارين البريطانيين في شؤون التعليم وقد عرف بمواقفه المبدئية بمناصرة المعارضة السياسية في العراق, و المطالبة المشروعة بالحرية و الاستقلال من ربقة الانتداب البريطاني , و الذي أدى به إلى الاستقالة من منصبه في عام 1922 قائلاً : ( إن شعبنا العراقي الكريم , الذي جاهد في سبيل تكوين حكومته الوطنية لا يهدأ روعه إلا إذا وجد حكومته حرة في أعمالها … فكيف نرجو سكون الشعب و اطمئنانه مع أنه من جهة يظن أن بقاء الانتداب عليه , و لم يسمع بإلغاء ذلك صريحاً ). و حارب المناهج التي تهدف إلى تفتيت الوحدة الوطنية, و القومية العربية كالمناهج التي كانت مقرة من قبل الدولة العثمانية أو ما جاء به ساطع الحصري ومحاربة من يريد الترويج لثقافة التغريب على حساب الأصالة, و تبديل الموظفين الأجانب بالعراقيين الوطنيين ومنها طرده لمستشار وزارة المعارف ( كابتن فاول )[27].

كما كان للشعراء دور ايضا في فضح عملاء بريطانيا وتنوير الشعب امثال الشاعر معروف الرصافي الذي نشر قصيدته: ( ياقومي لاتتكلموا ان الكلام محرم) والشاعر محمد مهدي الجواهري الذي نشر: ( نامي جياع الشعب نامي حرستك الهة الطعام) وقام ساطع الحصري بفصل الشاعر محمد مهدي الجواهري من سلك التعليم لأنه وصف في قصيدة له أحد مصايف إيران عام 1927، متهما إياه بالشعوبية والتبعية الإيرانية، وأصر على فصله رغم تدخل الملك فيصل الأول، مما أضطر الملك تعويض الجواهري بتعيينه موظفاً في البلاط. وقد خصص الجواهري عشرات الصفحات من مذكراته عما عاناه على يد الحصري من تعسف بدوافع طائفية بحتة[28].

في عام 1941 وقعت الحادثة المعروفة باسم الفرهود خلال انهيار القانون والنظام، وسقط نحو 300 بين قتيل وجريح من يهود بغداد، هذه الحادثة شكلت فرصة ذهبية لبريطانيا وللحركة الصهيونية. فبريطانيا حاولت أن تحمل الوطنيين العراقيين والدعاية النازية مسؤولية هذه الحادثة رغم أن رواية أخرى لدوافع هذه الحادثة تشير إلى ترحيب يهود بغداد بالاحتلال البريطاني وعودة الوصيّ على العرش عبد الله بن علي الموالي للإنكليز، الأمر الذي استفز الوطنيين المهزومين أمام القوات البريطانية، لكن هذا لم يكن سبب انفجار العنف تجاه اليهود. يشير مؤرخون إلى أن إشاعات انتشرت في بغداد قبيل سقوط حكومة رشيد الكيلاني، حول تعاون اليهود مع السلطات البريطانية، ودعمت هذه الإشاعات مشاركة فرق عسكرية يهودية قادمة من فلسطين إلى جانب القوات البريطانية في المعارك ضد الوطنيين العراقيين. أما الحركة الصهيونية فاستغلت الحادثة لتحريض يهود العراق على الهجرة إلى فلسطين[29].

اما الحزب الشيوعي فقد قام بتظاهرة في 28 حزيران 1946 عجزت شرطة الحكومة عن تفريقها وقد اخترقت شارع الرشيد حيث قدر عددها قرابة العشرة االف متظاهر وعند عبورها الجسر متجهه الى السفارة البريطانية لتقديم مذكرة احتجاج على سلوك الحكومة البريطانية من موقفها تجاه القضية الفلسطينية وتأييدها المنحاز لتقرير لجنة التقسيم واذا بالشرطة تطلق الرصاص بكثرة على المتظاهرين فسقط عدد من القتلى والجرحى واشتدت حملة االهارب على العمال المصوبين في شركة النفط الذين يطالبون برفع اجورهم المتدنية وبدالً من ان تعالج الحكومة الحالة المأسوية للعمال فانها الرضاء السفارة فتحت النيران على العمال االمنين فقتلت ستة عشر عامالً ومراه وطفالً . ولم ينج الحزب الوطني الديمقراطي ورئيسة كامل الجادرحي من هذه الحملة سواء في حملته او في توقيفه وسجنه لايام[30].

رغبت بريطانيا في تحديد صفة الشرعية للمعاهدة العراقية – البريطانية لسنة 1930 وفي توسيع الامتيازات العسكرية بحيث يكون العراق باجمعه مطاراً للقوات البريطانية بدال من مطاري الحبانية والشعيبة وحدهما كما كان الامر في معاهدة 1930 دارت مفاوضات بين الجانبين العراقي والبريطاني في بغداد ولندن خالل الفترة 8 مايس 1947 – 4 كانون الثاني 1948 انتهت بتوقيع معاهدة جديدة في ميناء بورتسموث البريطاني في 15 كانون الثاني 1948 وسميت شعبيا باسم معاهدة بورتسموث[31].ولقيت المعاهدة انتفاضة شعبية قوية فقد خرجت تظاهرات عارمة يهتفون ضد المعاهدة العراقية – البريطانية وضد الصهيونية وانضمت الى المظاهرة جماهير طلابية كبيرة من طلبه الكليات والمعاهد والمدارس الثانوية الامر الذي دفع الشرطة الى التصادم مع المتظاهرين فجرح عدد من الطلبه واجتمع مجلس الوزاء برئاسة صالح جبر وقرر تعطيل الدراسة في كلية الحقوق اعتباراً من 6 كانون الثاني وتشكيل لجنة ادارية للتحقيق, و كان رد الفعل الشعبي لحادثة الحقوق قوياً واصدرت الاحزاب السياسية بيانات استنكرت فيه اعتداء الشرطة على الطالب وطالبت باطالق سراح الطلبة المعتقلين واستئناف الدراسة, الا ان توقيع المعاهدة في ( 15 كانون الثاني) التي نشرت في الصحف العراقية في اليوم التالي اشعل فتيل الانتفاضة, فقامت مظاهرة كبيرة في 21 كانون الثاني قد ادى ذلك الى اصطدامات دموية وقع فيها عدد من القتلى والجرحى دخلت قوات الشرطة الى المستشفى الملكي ووجهت النار على الطالب وتسببت في قتل وجرح البعض منهم مما ادى الى استنكار الاطباء وتقديم استقالاتهم [32].

و استمرت المظاهرات في 27 / كانون الثاني فزحفت مظاهرة من جانب الرصافة الى جانب الكرخ قابلتها تظاهرة اخرى كانت متوجهه من الكرخ الى جانب الرصافة فاجتمعتا على جسر المأمون فتصدت لها الشرطة فقتل بعض المتظاهرين وسقط بعضهم االخر في النهر واستطاع الباقون النجاة كانت حادثة جسر المأمون القشة التي قصمت ظهر صالح جبر فاستقال ثالثة وزراء وعشرون نائباً احتجاجا على الاسلوب الذي عالجت فيه الحكومة المظاهرات كما استقال رئيس مجلس النواب عبد العزيز القصاب الذي شاهد الحوادث بنفسه فتغير الوضع لغير صالحه فقد دعا الوصي الى عقد اجتماع سياسي واسع في القصر حضره رؤساء االحزاب السياسية ورؤساء الوزراء السابقين ورئيساً مجلسي الاعيان والنواب وممثلو الكتل اذاع الوصي عل اثر هذا االجتماع بياناً الى الشعب العراقي ووعد فيه بااليبرم ايه معاهدة التضمن حقوق البلاد وأمانيها الوطنية وقد عد الوطنيون هذا البيان بمثابة اول انتصار لهم وفي الوقت الذي اصر فيه صالح جبر على تهديده باستخدام القوة للقضاء على المظاهرات غير ان الوصي طلب منه الاستقاله وترك الحكم وما ان قدم على ذلك حتى توقفت المظاهرات وهدأت البلاد[33].

الخاتمة

بين هذا البحث اهمية و مكانة العراق لدى الاستعمار لما بذلوا من جهود في محاولة احتلاله و السيطرة عليه و على امكانياته وما قامت به من اجل بث الصراعات ومن الطبيعي أن تقترن الصراعات الناتجة عن الاختلاف بخصومات ومعارك سياسية. فعندما تشتد حدة الموقف السلبى إزاء الآخر، يزداد الميل إلى تشكيل كيانات سياسية على خطوط الانقسام الديني أو المذهبي أو العرقي أو العشائري. وكثيرًا ما تكون الصراعات المُركبة ذات المكونين الثقافي والسياسي جاذبة لتدخلات إقليمية ودولية تؤدى غالبًا إلى تفاقمها وهذا ما كان نتيجة لما بثه الاستعمار. و جاء البحث بأهم النتائج التي توصلت اليها في ختام بحثي هذا:

  1. احتكار السلطة في العراق بيد بريطانيا واقصاء العراقيين من الحكم في بلادهم من خلال تطبيق سياسية ادارية تقوم على التفريق.
  2. التقرب الى شيوخ العشائر وبث الطائفية بين العشائر وبين المكونات الشعبية.
  3. قيام البريطانيين بتسخير قدرات الشعب العراقي لخدمة مصالحها الخاصة لتنفيذ سياستها الاستعمارية.
  4. اخذت النخب و الجماعات و الشيوخ بالتصدي للاستعمار البريطاني بشتى الصور و الاشكال.
  5. التصدي الشعبي لسياسة الامر الواقع بعد اعلان الانتداب وبدأت الحشود و التنظيمات السرية و العلنية بإعلان التظاهرات و المقاومة ضد الوجود الاستعماري.
  6. ظهور الحركات الجديدة و التنظيمات وابرزها حركة تنظيم الضباط الاحرار

المصادر والمراجع

  1. عبد الرحمن حبنكة الميداني: اجنحة المكر الثلاثة و خوافيها, دار القلم, بيروت- دمشق, ط1, 1935.
  2. طالب مشتاق: اوراق ايامي, دار واسط للدراسات و النشر, بغداد, 1989.
  3. علي الوردي: لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث, دار الراشد, بيروت, 1920.
  4. فيليب ايرلند: العراق دراسة في تطوره السياسي, ترجمة جعفر الخياط, دار الكشاف, بيروت, 1949.
  5. كاظم هاشم نعمة: الملك فيصل الاول و الانكليز و الاستقلال, الدار العربية للموسوعات, بيروت- لبنان, ط2, 1988.
  6. ليث الزبيدي: ثورة 14 تموز في العراق, مكتبة اليقظة العربية, بغداد, 1981.
  7. مجدي وهبة و كامل المهندي: معجم المصطلحات العربية في اللغة و الادب, مكتبة لبنان, بيروت- لبنان, 1983.
  8. مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط, مكتبة الشروق الدولية, 2003.
  9. محمد حديد: مذكراتي الصراع من اجل الديمقراطية في العراق, دار الساقي, بيروت, 2006.
  10. محمد حسين زبون, عبد الله كاظم: اهالي العمارة و ثورة 1920, مجلة ميسان للدراسات الاكاديمية, العراق, عدد15, 2009.
  11. محمود شاكر: التاريخ الاسلامي, المكتب الاسلامي, بيروت, 2000.
  12. مسعد بن عيد العطوي, اهداف و مهام الاستعمار, موقع ثقافة ومعرفة, 2016.
  13. وهيب ابي فاضل: موسوعة عالم التاريخ و الحضارة, دار نوبليس, القاهرة, ط1, 2005.
  14. اليعازر بعيري: ضباط الجيش في السياسة و المجتمع العربي, ت: بدر الرفاعي, المكتبة الثقافية, بيروت, 1992.
  15. علي الوردي: لمحات اجتماعية, انتشارات الشريف الرضي, قم- ابران, 1998,
  16. طالب مشتاق: اوراق ايامي (1900-1948), دار الطليعة, بيروت, 1968.
  17. عبد الرزاق الحسني: تاريخ الوزارات العراقية, دار الشؤؤون الثقافية العامة, بغداد, 1988.
  18. عبد الستار الحسني: هبة الدين الشهرستاني حياته ونشاطه, ط1, مؤسسة تراث الشيعة, قم- ايران, 1430.
  19. عباس شبلاق: يهود العراق, دار الساقي, لندن, 2005.

Margins:

  1. الشهباني: مصطفى, محاضرات في الاستعمار, جامعة الدول العربية, معهد الدراسات العربية العالية, ص23. الميداني: عبد الرحمن حبنكة , اجنحة المكر الثلاثة و خوافيها, ص51.
  2. العطوي: مسعد بن عيد العطوي, اهداف و مهام الاستعمار, موقع ثقافة ومعرفة, 2016, ص1.
  3. مجدي وهبة و كامل المهندي: معجم المصطلحات العربية في اللغة و الادب, مكتبة لبنان, بيروت- لبنان, 1983, ص 224.
  4. مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط, مكتبة الشروق الدولية, 2003, ص28.
  5. ينظر: منير محمود بدوي: مفهوم الصراع, مجلة الدراسات المستقبلية, جامعة اسيوط, عدد3, 1997, ص 39.
  6. محمد عبد السلام: ادارة الصراعات الداخلية, مجلة السياسة الدولية, عدد 189, 2012, ص23.
  7. عماد محمد ذياب الحفيظ: الصراع الطائفي و تأثيره على البيئة, دار صفاء للنشر والتوزيع, عمان- الاردن, 2006, ص38.
  8. جعفر عباس حميدي: تاريخ العراق المعاصر, مكتبة عدنان للطباعة والنشر, بغداد, 2015, ص23.
  9. وهيب ابي فاضل: موسوعة عالم التاريخ و الحضارة, دار نوبليس, القاهرة, ط1, 2005, ص28.
  10. فيليب ايرلند: العراق دراسة في تطوره السياسي, ت: جعفر الخياط, دار الكشاف, بيروت, 1949, ص31.
  11. طالب مشتاق: اوراق ايامي, ج1, ص93.
  12. الوردي: علي, لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث, انتشارات الشريف الرضي, قم- ابران, 1998, ج5, ص23.
  13. كاظم هاشم نعمة: الملك فيصل الاول, الدار العربية للموسوعات, بيروت- لبنان, ط2, 1988, ص17.
  14. علي الوردي: لمحات اجتماعية, ص398.
  15. ستيفن: همسلي لونكريك: العراق الحديث, ت: جعفر الخياط, منشورات الفجر, بغداد, 1988, ج1, ص205.
  16. عبد الرزاق الحسيني, تاريخ الوزارات العراقية, ص124.
  17. محمود شاكر: التاريخ الاسلامي, المكتب الاسلامي, بيروت, 2000, ص195.
  18. اليعازر بعيري: ضباط الجيش, ت: بدر الرفاعي, المكتبة الثقافية, بيروت, 1992, ص243.
  19. ليث الزبيدي: ثورة 14 تموز في العراق, ص23.
  20. محمد حديد: مذكراتي الصراع من اجل الديمقراطية في العراق, دار الساقي, بيروت, 2006, ص87.
  21. زبون: محمد حسين, اهالي العمارة و ثورة 1920, مجلة ميسان للدراسات الاكاديمية, العراق, عدد15, 2009, ص33.
  22. جعفر عباس حميدي, تاريخ العراق المعاصر, ص50.
  23. علي الوردي: لمحات اجتماعية, ص9.
  24. طالب مشتاق: اوراق ايامي (1900-1948), دار الطليعة, بيروت, 1968, 114.
  25. علي الوردي: لمحات اجتماعية, ص11.
  26. عبد الرزاق الحسني: تاريخ الوزارات العراقية, دار الشؤؤون الثقافية العامة, بغداد, 1988, ج1, ص73.
  27. عبد الستار الحسني: هبة الدين الشهرستاني حياته ونشاطه, ط1, مؤسسة تراث الشيعة, قم- ايران, 1430, ص120.
  28. الجواهري: محمد مهدي, مذكراتي, ج1, ص43.
  29. شبلاق: عباس, يهود العراق, دار الساقي, لندن, 2005, ص130.
  30. النعمان: سالم عبيد, عرض موجزلتاريخ الحركة الوطنية, دار المدى للطباعة والنشر, العراق, ط1, 2012, ص309.
  31. فاضل حسين, سقوط النظام الملكي في العراق, منشورات مكتبة افاق, بغداد, ص14.
  32. ناجي شوكت: سيرة و ذكريات ثمانين عاما, يغداد, 1974, ص558.
  33. طقوش: محمد سهيل, تاريخ العراق الحديث و المعاصر, بيروت, ط1, 2015, ص225.