الوقوف والبكاء على الاطلال في شعر المعلقات الجاهلية

د. الفاتح صديق عبد الفراج أحمد1

1 كلية التربية، جامعة كردفان، السودان.

HNSJ, 2023, 4(3); https://doi.org/10.53796/hnsj4320

Download

تاريخ النشر: 01/03/2023م تاريخ القبول: 15/02/2023م

المستخلص

هذه الدراسة عن ظاهرة الوقوف والبكاء على الأطلال في شعر المعلقات الجاهلية، وتهدف الدَّراسة إلى التَّعرف بالأطلال وأسباب الوقوف والبكاء عليها، ومكانتها في الشعر الجاهلي، ومن ثَّم الوقوف على صور منها في شعر المعلقات. واتبعت الدَّراسة المنهج الوصفي التحليلي والمنهج الاستقرائي، معتمدة في مادتها على المصادر التي تناولت شعر المعلقات، وخلصت الدراسة إلى عددٍ من النتائج من أهمّها: إن الوقوف والبكاء على الأطلال تُعَدُ متنفَساً للشاعر يُعبّر بها من خلالها عن تجربته الوجودية، فلم يبق له في هذه الأطلال سوى الذَّكريات والشوق والحنين للأهل والأحبة. توصي الدراسة بمزيد من الدَّراسات عن الأطلال في الأدب الجاهلي.

Research title

Standing and crying over the ruins in pre-Islamic poetry

Dr. Al-Fateh Siddig Abdel Faraj Ahmed 1

1 College of Education, University of Kordofan, Sudan.

HNSJ, 2023, 4(3); https://doi.org/10.53796/hnsj4320

Published at 01/03/2023 Accepted at 15/02/2023

Abstract

This study on the features of the phenomenon of standing and crying on the ruins in the hair pendant, and the study aims to identify the ruins and the reason for standing, and its position in poetry Jahili, and then stand on the features and pictures of descriptive method, which is adopted on the sources of poetry. The study concluded with a number of results, the most important of which are: standing and weeping on the ruins is an outlet for the poet through which to express his existential experience. The study in these ruins only memories and longing for the people and loved ones. Recommends further studies on the ruins of Arabic literature.

مقدمة:

الحمد لله الموفق لكُل خير، والحاث على كُلَّ بر، والدَّال على كُل فضل وإحسان. والصلاة والسلام على النبي محمد ـ (صلَّى الله عليه وسلم ــ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدَّين) وبعد.

إن ظاهرة الوقوف والبكاء على الأطلال تعد من أشهر الظواهر شيوعاً في الشعر الجاهلي، وفيها يجد الشاعر متنفساً لما يختلج في خلده وبما يدور في ذاكرته من ذكريات تحمل الأسى والشجن الماضيين، يحاول الشاعر استعادتها بهذا القالب الفني في عمله الإبداعي، على أن هذا التقديم له بموضوع القصيدة، الذي يكون الشاعر في صدد الحديث عنه. وقد أرسى شعراء الجاهلية أصول هذا التقديم ورسومه الفنية، وحرصوا على المحافظة على مقوماته في أقدم ما آثر في مطولاتهم، فألموا بمعظم تفصيلاته، وهكذا تبيانت صورة الطلل في مقدمات الشاعر الواحد، لأن كل افتتاح له مزاياه الخاصة التي تخالف الأفتتاح الآخر.

إن الوقوف على الأطلال في الشعر الجاهلي من صُلْبِ واقع الحياة الجاهلية، ومحرَّكه الوجداني والمعاناةُ، وهو ترجمان النفس وإنعكاس لأحاسيسها، وقد ساعدت عليه الظروف الأقتصادية والاجتماعية والطبيعية مجتمعة، فلا تخلو معظم القصائد الجاهلية من اسم لمحبوبة أولشخص أو مكان أو وقوف وبكاء على طلل.

يقف الباحث لدراسة بعض ما تحمله الأطلال من معانٍ وما لها من صلة وثيقة بالشاعر الجاهلي، على اعتبار أن الشاعر الجاهلي لم يكن يصف الصحراء و يناجيها، أو الوقوف والبكاء على الأطلال، بل هو إنسان له موقفه الخاص وتصوره الذَّاتي نحو المكان.

الطَّلل في بعده الصحراوي يفرض ظلاً كبيراً على القصيدة العربية القديمة، هو إضافة إلى أنه يمثل جزءاً من البناء الفني، إنه يكشف نظام آخر من الاخلاقيات المتجاورة والمتحاورة، فيمتزج فكر الشاعر الجاهلي وخلقه بهذه الصحراء، بحيث تشكل اتجاهاً خاصاً فرضته على الإنسان، فقد كان المكان هو الموجه لحياة الشاعر الجاهلي ووجوده، مما جعله يتعامل مع ظاهرة الوقوف والبكاء على الأطلال تعاملاً خاصاً ومنفرداً، فقد جعل الكثير من شعراء العصر الجاهلي المقدمة الطَّللية النافذة التي يطلون منها على موضوع قصائدهم.

1- أهمية الموضوع.

تأتي أهمية هذا الموضوع أنَّه يقدم دراسة أدبية نقدية لظاهرة الوقوف والبكاء على الأطلال في شعر المعلقات. ومن أهميته كيف أصبحت هذه الظاهرة عرفاً تقليدياً في معظم مقدمات قصائد المعلقات الجاهلية، الأمر الذي أدَّى إلى علاقة وَطِيْدَة بين الطَّلل وحاضر الشاعر وما ضيه، حيث إنه يمثل وسيلة للكشف عن واقع الشاعر بكل ما يحمله من مظاهر الحياة.

2- أهداف الموضوع.

يهدف هذا الموضوع إلى دراسة ظاهرة الوقوف والبكاء على الأطلال في شعر المعلقات الجاهلية، ثَّم الوقوف على أهم موضوعات الأطلال التي ترددت في القصيدة الجاهلية، لعلاقتها الوثيقة بإنسانية الشاعر الجاهلي، وتنازعه مع ميوله وعواطفه وماضيه وحاضره.

3- حدود البحث.

1- حدود زمانية: منذ بداية تدوين الشَّعر الجاهلي قبل الإسلام يقدر ( بـــ 150) عاماً.

2- حدود مكانية: ما قيل من شَّعر في الجزيرة العربية بحدودها الجغرافية المعروفة.

4- منهج البحث.

اعتمد الباحث في هذه الورقة البحثية على المنهج الاستقرائي والوصفيَّ التَّحليليّ الذي يعمل على إيراد النَّص الأدبيَّ، وتحليله تحليلاً يبرز ما يحويه النصَّ الشعري.

5- هيكل البحث:

قسم الباحث هذه الورقة إلى مقدمة، وقائمة بالمصادر والمراجع، وخاتمة، وعناوين كالاتي: التعرف بالأطلال وأسباب الوقوف عليها، ومكانت الأطلال في الشعر الجاهلي، وظاهرة الوقوف والبكاء على الأطلال في شعر المعلقات، والصورة التشبيهية للأطلال في شعر المعلقات.

1- تعريف الأطلال وأسباب الوقوف عليها.

جاء في المعجم الوسيط إن الطَّلل هو: ما بقي شاخصاً من آثار الدّيار ونحوها، ومن الدار ونحوها موضع مرتفع في صحنها يهيأ لمجلس أهلها أو يوضع عليه المأكل والمشرب ومن السفينة أو السيارة ونحوهما غطاء تغشى به كالسقف جمع أطلال وطلول([1]). وفي المصباح المنير: الطَّللُ الشَّاخصُ من الآثار والجمع أطلالُ مثل سبب وأسباب وربما قيل طلولُ مثل أسدٍ وأسُودٍ([2]).

لقد كان الطَّلل في أول أمرة حقيقة، ثم أصبح بعد ذلك رمز للعالم المفقود، ثم أصبح بعد فترة تقليدياً فنياً من تقاليد الشعر العربي الجاهلي القديم.

لذا يعد البكاء على الأطلال ظاهرة بارزة في الشعر العربي الجاهلي القديم، حيث نالت القصيدة الجاهلية مقدمة طللية من الدراسات ما يوازي أهميتها وحجمها في رسم وهيكلة القصيدة إلى الدرجة التي أصبحت عرفاً تقليدياً في القصيدة الجاهلية، وذلك لأنها مقدمة صالحة للاستهلاك الذي يبدأ فيه النَّص الشعري، وينطلق منه إلى فضائه الواسع.

أسباب الوقوف والبكاء على الأطلال في شعر المعلقات.

1- الحنين الذي يشعر به الإنسان في دار الحبيب بعد أن خلت هذه الدار من الحبيب فرؤية منازل الأحبة خالية تشعر الشاعر بالحنين والشوق.

2- كان لانعكاسات البيئة الجاهلية الصحراوية على الناس قيامهم بالتَّرحال بحثاً عن الماء والكلأ، ويُسمَّى الناس الذين يتجمعون في موضع اللقاء بالخليط، وهنا يبدأ شعر الوقوف والبكاء على الأطلال.

3- البعد عن المحبوبة والأشتياق لها في دار الغربة أو موت المحبوبة، وهنا يدمج الشاعر في قصيدته مشاعر الحزن بمشاعر الشوق، ولعل من أبرز انعكاسات هذه الظاهرة على الشعر الجاهلي ابتداء الشعراء قصائدهم بالقوف على الأطلال والبكاء على الديار والاستطراد إلى وصفها وجعلوا ذلك شبه قاعدة فنية نادرة لا يخرجون عنها. وإذا كانت الحبيبة هي المثير الطبيعي لعاطفة الحب، فأن الأطلال هي المثير الصناعي، لأن إذا بعدت الحبيبة عن المشاعر فديارها حلت محلها في إثارة عاطفة الحب لدي الشاعر، فصارت الحبيبة وديارها وحدة متماسكة، فإذا كان الجزء الأول قد ارتحل، فإن الجزء الآخر قد حل محله.

4- إن الوقوف على الأطلال رمز لحب الوطن عند الإنسان العربي، وهي رمز للضياع والاغتراب، ووسيلة إلى تذكر العهود الماضية، فالشاعر الجاهلي تجاوز منزل الحبيبة إلى تذكر الماضي والبكاء عليه.

5القيم التعبيرية التي تُعبَّر عن الحالات الإنفعالية المُعبَّرة عن الحالة النَّفسيّة التي يمرُّ بها الشاعر الجاهلي، فكان البكاء والوقوف على الأطلال هو محاولة لتخفيف حدِة ذلك الأنفعال، الأمر الذي يؤدي إلى الكشف عن بواعث ذلك الأنفعال الناتج عن الكبت النَّفسي، وتراكم الأحزان من جهة، واليأس من الوصول إلى الهدف المنشود أو من الضَّيق والحرمان من جهة أخرى، فكانت هذه الحالات في مجملها عوامل متعددة تُضَيقُ الخناق النفسي على الإنسان. ومن هنا كان البكاء على الأطلال وسيلة إشارة للتَّعبير، ولوناً واضحاً من ألوان التَّصوير. إن ظاهرة الطَّلل في الشعر العربي الجاهلي قبل الإسلام الذي اتخذها له داباً لم تأتِ عبثاً، ولا لمجرد البكاء على عهود ماضية، وأزْمُنٍ خالية، ولا لمجرد الحنين والتّعلق بالمكان، فتلك جوانب عاطفية وقد تناولها الناس قديماً وحديثاً من ابن قتيبة إلى نقاد عهدنا هذا، وإنما الذي يجب التوقف لديه هو أن هذه الطلليات فكل ما عبّر النقاد فيما تحسب كانت جزءاً من تلك الحياة البدوية الرعوية الشظِفَة الضنكة التي كان نظامها ينهض على إجبارية التّنقل من مرعى إلى مرعى، ومن وادٍ إلى وادٍ، ومن غدير إلى غدير([3]). وكانت القبيلة ربما اضطرت إلى التّنقل فجأة عن مستقرها من منزلها إذا خشيت العدوان عليها، أو الإغارة المبيتة ضدها، كما جاءت مثلاً بعض ذلك قبيلة بني أسدٍ حين تّوجَّسَتْ أن يُصَبِحَها امرؤ القيس طلباً بثأر أبيه.

إن الوقوف على الأطلال كانت من روائع المقدمات الشّعرية التّي أضافت رونقاً خاصاً على الشعر الجاهلي، فأصبح يتميّز برهافة الحس والجمالية في القصائد، ويتّفق معظم النَّقاد على أن ظاهرة الوقوف على الأطلال من أجمل ما قام به شعراء العصر الجاهلي ومصدر لجمال قصائدهم.

2- مكانت الأطلال في الشَّعر الجاهلي.

اتخذت القصيدة العربية في العصر الجاهلي شكلاً موحداً، إذ استهل معظم شعراء العصر الجاهلي قصائدهم بالوقوف على الأطلال والبكاء عليها، وهي ظاهرة برزت عند الشعراء الجاهليين، فقد افتتحوا قصائدهم بالوقوف على الأطلال، أي بالوقوف على آثار ما تبقى من ديار المحبوبة. ومن الصور الشائعة في الوقوف على الأطلال أن يبدأ الشاعر بذكر الديار وقد عفت أو كادت آثارها أن تمحى، ثم يذكر الديار ويحدد مكانها بذكر ما جاورها من مواضع، ثم ينعتها بعد أن سقطت عليها الأمطار، ونما عليها العشب فاتخذتها الحيوانات مرتعاً تقيم فيه وتتوالد([4]). وسار شعراء تلك الحقبة الجاهلية على هذا النمط البنائي والشكلي للقصيدة العربية في ذلك الوقت، ومما يؤكد ذلك قول ابن قتيبة: سمعت بعض أهل الأدب يذكر أنَ مقصّد القصيدة إنما ابتدأ فيه بذكر الديار والدَّمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين، إذ كانت نازلة العَمَد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدَر لانتجاعهم الكلأ، وانتقالهم من ماء إلى ماء، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الشوق، وألم الوجد والفراق، وفرط الصبابة، ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعى به إصغاء الأسماع إليه([5]).

لقد كان الوقوف على الأطلال عادة مألوفة لدي شعراء العصر الجاهلي، فمعظم القصائد قد حوت هذا النمط من المقدمات. والذي يتعمق في الشعر الجاهلي يجد أن معظم الشعر الذي وصلنا من ذلك العصر لا يخلو من مقدمة يكون موضوعها البكاء على الأطلال. ثم بعد ذلك يصفون رحلاتهم في الصحراء، وما يركبونه من إبل وخيل، وكثيراً ما يشبهون الناقة في سرعتها ببعض الحيوانات الوحشية، ويمضون في تصويرها، ثم يخرجون إلى الغرض من قصيدتهم مديحاً أو هجاء أو فخراً أو عتاباً أو رثاء([6]). يعد امرؤ القيس أول من استخدم شعر الوقوف على الأطلال غير أننا لا نستطيع الجزم بذلك مؤكدين أو نافين لأن امرؤ القيس قال: ([7]).

عُوجا على الطَّللِ القَّدِيم لأَنَّنَا *** نَبكيِ الدَّيارَ كَما بَكى ابن خِذَامِ

فهنا يُبَيَّنُ امرؤ القيس أن (ابن خذام) وقف على الأطلال، وربما هناك شعراء آخرون وقفوا قبله. وكان الوقوف على الأطلال هو الخطوه الأولى التي بدأ بها الشاعر الجاهلي قصائده ليعبر بها عن مدى إرتباطه بالمكان. قال لبيد بن ربيعة([8]).

هَلْ تَعْرِفَ الدَّارَ وَالأطْلالَ وَالدِّمَنا *** زِدْنَ الفَؤادَ عَلَى عِلاتِهِ حَزَنا

دَارُ لأسْمـــــاءَ قَدْ كَانِتْ تَحُلُ بِها *** وَأنْتَ إذْ قَدْ كَاَنَتْ لَكُـــمْ وَطَنَا

ومن هنا ساهم الطلل بشكل كبير في بكاء الشاعر الجاهلي وحزنه، فلا نجد قصيدة من قصائد المعلقات الجاهلية إلا وفيها ظاهرة البكاء على الأطلال، فأصبح البكاء بذلك علامة من علامات الوقفة الطللية يعبر بها الشاعر عن الحزن والفراق اللذين ألما به، فهو بكاء معنوي أكثر من حسي، فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها([9]). قال عنترة بن شداد:([10])

لِمَنْ طَللُ بوادي الرّملِ بالي *** مَحتْ آثارَهُ ريحُ الشّمالِ

وقَفتُ به ودَمعي من جُفُوني *** يَفيضُ عَلى مَغَانِيه الخَواليِ

أُسائِلُ عن فَتاةِ بني قَرَادٍ *** وَعَنْ أتْرابِـــها ذَاتِ الجَـــمالِ

وَكَيفَ يُجيبنِي رَسَـمُ مُحِيلُ *** بَـــعيدُ لا يرُدُّ عَلى ســؤاليِ

إذا صَاح الغُرابُ بهِ شَــجَانِي *** وأجْرى أدَمُـعيِ مثُل اللاَلي

وأخبَرنِي بأصناف الرَّزايا *** وبالهجرانِ مِنْ بَعَد الوصَالِ

يتساءل الشاعر عن الطلل وما أصابه من خراب، وآثاره التي محتها رياح الشمال، فهو منكر للتحول الذي أصابه، وما حصل له من تغيرات بفعل الرياح فتحول الطلل بذلك إلى مكان خالي موحى بالخراب والدمار مورد العطاء وحيز الأنفعال، ساعدت على تحويل مشاعر وأحاسيس الشاعر، فبخواء القلب من الحب وابتعاد الحبيبة عن الديار خوت معالمها فكان البكاء على تلك الديار علامة ومتنفساً لما آلت إليه الأمور.

والطلل في الشعر الجاهلي يعبر عن حالة الشاعر النفسية، وما كان يجوش فيها من خواطر وهموم تجلت في انفعالاته اتجاه الواقع الذي يعيشه، فكان لتلك الطلول الأثر الواضح على نفسية الشاعر الجاهلي، تجلت فيه أشعاره وقصائده، فقد عمل الطلل على حياة الشاعر، وحزنها في آثاره والرسم المتبقي منه، حيث كان الشاعر يلجأ إليه في حالة الاشتقاق والحنين، وذلك للتذكر والعودة للأيام التي كان يعيشها في هذا المكان، هذه الذكريات الماضية البعيدة، وما انطوى عليها من حب وتمتع لا تفارقه في ماضيه وحاضره، فهي ملازمه له في كل الأحوال. قال زهير ابن أبي سلمى:([11])

أمِن آل ليلى عَرفت الطُّلولا؟ *** بذِي حُرُضٍ ماثلاتٍ مُثولاً

بَليْنَ وَتَــحسبُ آياتـــهنَّ *** عَنْ فرطِ حَــولينَ رَقَّاً مُــحيلاً

لقد استدعت الأطلال وما بقي منها من ذكريات الشاعر وحياته التي عاشها فيها، وهذه الأطلال التي لم يبق منها سوى الآثار والمعالم، فكان وقوفه فيها بعد أصبحت خالية من أهلها، وقوفاً يثير في ذاته انفعالات كانت مخزونة ودفينة في داخله. ومما لا شك فيه أن هناك ترابط وجداني بين الحبيبة والطَّلل في الشعر الجاهلي، الأمر الذي جعله يشاركه شعوره وأحساسه فلامس بكائه أعمق مشاعره فامتد في ذاته بعد أن انقطع عنه فعلياً، فكانت حالته تزداد توهجاً وانفعالاً كلما ازدادت صورة الطَّلل في نفسه. قال امرؤ القيس([12])

لِمَنْ طَلَلُ أبْصَرتُه فَشَجَانِي *** كَخَطَ زَبُورِ في عَسِيبِ يَمانِ

دِيَـــارُ لهِنْدٍ وَالرَّبَابِ وَفَرتنَي *** لَيَالِيَنَا بِــالنَّغفِ مِنْ بَدَلانِ

لَيَالي يَدْعُوني الهَوَى فأَجِيبهُ *** وَأعْيُنُ مَنْ أهْوَى إلىَّ رَوَاني

يبدو حضور الطَّلل في هذه الأبيات حضوراً قوياً، وعنصراً فَعَّالاً ساهم في تحريك مشاعر الشاعر الذي أخذ يتسائل عن الطَّلل بقوله: (لمن طَلل أبصرته فشجاني) فقد أثار شجونه وأحزانه. وتذكر ما كان في هذه الدَّيار من أيام وما يقضيه من المتعة واللهو، فأصبح يتأسف ويتحسر عليها، فهي تذكره بهذه بهند وصواحبها اللواتي كنَّ مقيمات بهذا الطّلل. فالمرأة كانت هي العنصر والمثير الطبيعي لعاطفة الشاعر، والأطلال المثير المقارن أو الصناعي، وإن كانت الحبيبة بعيدة عن المشاعر، فديارها حلّت محلها في إثارة عاطفتها([13]).ويعد الطَّلل في الشعر الجاهلي متنفساً للشاعر يعبر به من خلاله عن تجربته الوجوديه، فاستذكار الشاعر لماضيه من خلال هذا الطلل ليحدد الحاضر والمستقبل، اللذين يدخلان في نسج تجربته الشعرية، فلم يبق له في هذا الطلل سوى الذكريات، والشوق للأهل والأحبة. قال: عبيد بن الأبرص وهو يبكي على دياره وأهله وقد أبادتهم وأهلكتهم الحروب ([14]).

لَمن طللُ لَمْ يَعفُ منُه المذنبُ *** فَجنبا حِبر قد تَعفَى فوَاهبُ

دَيارُ بني سَعَد بن ثَعلبة الأولى *** أذاعَ بهم دَهَرُ عَلى النَّاس رائبُ

فأذهبهم ما أذهب النَّاس قَبلهُمْ *** ضِراسُ الحرُوب والمنَايا العَواقبُ

والأبيات يذكر فيها الشاعر ديار قومه وما حل بها من خراب ودمار بعد الحرب، فقد خلت من أهلها بعد أن كانت مسكونة بالناس والأهل، إذ لم يبق منها سوى الأثر المتمثل في الطلل، هذا الطلل الذي جعل عواطف الشاعر تتحرك، وتهتز لما رأته من خراب وفقدان الأهل، فكان الحزن والقلق يخيمان على الشاعر، فالطلل من هذا الجانب يعبر عن خبايا النفي التي نظرت فيما حولها، فوجدته دماراً، ورأت أن ما كان يزينه من حياة وأنس واطمئنان وإحساس بالجمال قد اندثر أيضاً. فأن الوقوف على الأطلال والبكاء عليها وعلى أهلها الذين رحلوا إنما هو بكاء على الجمال الذي تلاشى واندثر من جهة، ومشكلة الإحساس بالضياع الذي كان مسيطراً على نفوس طائفة من شعار العصر الجاهلي من جهة أخرى([15]).

ومن هنا يسمى هذا النسق بالوقوف على الأطلال، إذا كانت القصيدة في المدح أو الهجاء أو الغزل أو الرثاء أو الفخر، تبقى البداية موحَدة تشير إلى تعلّق الشاعر بوطنه وأرضه وأهله، وهذا يوضح الأثر الإجابي للبيئة الصحراوية على المقدرة الشعرية عند الشاعر الجاهلي.

3- الوقوف والبكاء على الأطلال في شعر المعلقات.

الوقوف والبكاء على الأطلال في شعر المعلقات، ظاهرة تغلغلت بين ثنايا الشعر الجاهلي وأصبحت محط أنظار، ويمكن أن يتلخص تعريف هذه الظاهرة بأن الوقوف والبكاء على الأطلال هو زيارة المكان الذي ما زالت به منازل الحبيبة أو القبيلة وتذكر الماضي.

الوقوف والبكاء على الأطلال في الشعر الجاهلي هو طقس ديني جاهلي، وهذا سر ثباته في مقدمة القصيدة الجاهلية، لذلك أول ما نلاحظه في الوقوف والبكاء على الأطلال في شعر المعلقات الآتي.

1- كثرة الاستفهامات:

تشير كثرة الاستفهامات في الوقوف والبكاء على الأطلال إلى مشكلة الوجود والمصير للشاعر الجاهلي، فيها قصر زمانه نتيجة معضلة الموت، فأوقف كل حركاته أمام الطّلل، وغدا يسائلها آملاً في رد مقنع من قلبه، يبدد له ظلمت الأسى والخوف.

ومن هنا أبعد الشاعر كل محتويات الوصف ومكوناته وانتقل إلى الاستفهام الذي تعددت معانيه، وإن سكن التعجب أو الإنكار للأطلال في بعض تساؤلات الشاعر الجاهلي، تعجب على ما آلت إليه من اندثار وزوال، وإنكار للبقاء تحت رحمها، واستجدائها لمعرفة مصير هؤلاء الذين استوطنوها ذات مرّة، ثم غادروها دون عودة، فالشاعر لا يريد الإكثار من البكاء لأنه سئم استمرار أحواله وانهزاميته أمام هذا الطّلل، ولا شك أن تأخير الوصف جعل التَّعجب والإنكار أكثر اتصالاً بالطَّلل عامة، ثم جاء الوصف وكأنه نوع من التعليل والتخصيص.([16])

وما يثير شغف قارئ شعر المعلقات، هو تعدد أساليب الاستفهام خاصة في الوقفة الطَّللية، وهي ظاهرة اتصلت بأكثر أدوات الاستفهام فنياً، واتصلت بأغلب قصائد الجاهلين موضوعاً قال امرؤ القيس:([17])

ألا عِمْ صَبَاحاً أيُّها الطَّلَلَ البَالي *** وَهَل يَعِمَنْ مَنْ كَان في العُصُرِ الخَاليِ

وَهَلْ يَـــعِمَنْ إلا سَعِيدُ مـــُخَلَّدُ *** قَلِيلُ الهُمــــومِ مــــا يَبَيتُ بأؤجــــالٍ

وَهَل يَعِمَنْ من كَان أحدثُ عَهدِه *** ثَلاثِين شَهراً في ثَلاثةِ أحوالِ

ديِارُ لسَلمى عَــــافيِاتُ بَذِي خَالِ *** ألحَ عَليها كُلُّ أسْـــحمَ هَطَّالِ

يدعو الشاعر في هذه الأبيات بالنعم لهذا الطَّلل، ثم يتراجع عن الدعاء له، خاصة وأن هذه الديار فقدت معالمها بعد أن هجرها مستوطنوها. وكيف لها بأن تنعم وقد دق فيها الزمن نعش الأنهار والإندثار. وأمام هذا فإن الشاعر يستبعد السعادة بما أن الخلود مؤقت وبالتالي فالسعادة محدودة، ولهذا فإن السعادة والنعيم مستحيلان ما دام الخلود محالاً. قال عنترة بن شداد يسأل الديار والأطلال:([18])

هَلْ غَادَرَ الشَّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ *** أمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعـْدَ تَوَهُمِ

يَا دَارَ عَبْلَةَ بِالجِوَاءِ تَكلَّمِي *** وَعِمِي صَبَاحًا دَارَ عَبْلَةَ وَاسْلَمي

فَوَقَفتُ فِيـــها نَاقَتي وكَأنَّها *** فَـــدَنُ لأقْضِي حَــــاجَةَ المُتَلَوِمِ

وَتَحُلَّ عَبلَةُ بالـــجِوَاءِ وَأَهْلُنَا *** بالــــحزْنِ فَالصَّمَانِ فَـــالمُتَثلَّمِ

حُيّيت مِـــن طللٍ تَقادَمَ عَــــهْدُهُ *** أقْوَى وأقْفرَ بَــــعْدَ أُمَ الهَيثَمِ

حَلَّتْ بِأرضِ الزَّائرِينَ فأصْبَحَتْ *** عَسِراً عَلَيَّ طلابُكَ ابِنَةَ مَخُرمِ

وفي هذه الأبيات يطلب الشاعر من الديار والأطلال أن تتكلم وتحدثه عن محبوبته، ولكنها لا تجيب إلا كما يجيب الأخرس الأعجمي فيبقى في ربوعها واقفاً يذكر ارتحالها وانتقالها عن الديار، فليس له إلا أن يذكر رحيلها وما تركته في نفسه من أسى وحزن مرير.

2- علاقة الطلل بوجدان الشاعر:

خصَّ شعراء المعلقات الطَّلل بكثيرٍ من المودة المتبادلة، ولجأوا إلى مخاطبته برهبة شديدة، وأطلقوا عليه أسماء كثيرة، الهدف منها هو نيل استعطافه لأنه كان يمثل مرجعاً دلالياً وزمانياً ونفسياً.

لذا كان الشاعر في بحث دائب عن حضور مشبع يوازي تشوقه الداخلي إلى عالم مشبع بالحاضر، ومن ثم يبدو عالمه الطللي الشعري عالماً مفرحاً حميمياً لا يستدير نحو الماضي. قال امرؤ القيس:([19])

قِفا نَبك من ذِكرى حبيبٍ ومنزلٍ *** بِسِقطِ الَّلوى بينَ الدَّخول فَحَومَلِ

فَتُوضِحَ فَالمِقَراةِ لم يَعْفُ رَسْمُها *** لما نَسَجَتْها من جنوبٍ وشَمْألِ

تَرى بَـــعَرَ الأرآمِ في عَرَصاتِها *** وقَيِعانَــها كأنَّهُ حَــــبًّ فُلْفُلِ

وَقوفاً بها صَــحْبِي عَلَىَّ مَطِيَّهمْ *** يقَولونَ لا تَـهلك أسى وتَجَمَّلِ

والشاعر يطلب من أصحابه بقوله: قفا وأسعداني وأعيناني وصبراني على البكاء عند تذكري حبيباً فارقته، ومنزلاً خرجت منه في زمنٍ كان مأهولاً ومانوساً بأهله. ومن ثم كيف غادره أهله، وأفقرت من بعدهم أرضه، وسكنت رمله الظباء، ونثرت في ساحته بعرها حتى تراه كأنه حب الفلفل في مستوى رحباته. قال طرفة بن العبد في أطلال محبوبته: (خوله)([20]).

لِخَولةَّ أطْلالُ بِبِرقَةِ ثَهمَدِ *** تَلوحُ كَبَاقي الوَشْمِ في ظَاهِرِ اليَدِ

وَقَوفَاً بِها صَحَبي على مَطِيَّهمْ *** يَقولونَ: لا تَهلكْ أسىَ وتَجَلَّدِ

بدأ طرفة أبياته هذه بذكر الأطلال ووقوفه بها هو وأصحابه، فظهر عليه الأسى حتى كاد يهلك، ثم عاد بذكرياته إلى الماضي، فاسترجع ساعة الفراق وعرض موكب الإرتحال وضخامته وسيره السريع يشق الوديان والجبال غير مبالٍ بما يصادفه من عوائق أو عقبات.

قال زهير بن أبي سلمى عن أطلال محبوبته: (أم أوفى)([21]).

أمِــنْ أمْ أوفَــى دِمنةُ لَــمْ تَكَلَّمْ *** بِــــحَوْمَانَةٍ الدَّرَّاجِ فالمـُتثَلَّمِ

وَدَارُ لَهَا بالرّقْمَتَينِ كأنــها *** مـَراجَعُ وَشَمٍ في نَواشِرِ مِعصَمِ

بِها العَينُ والارآم يَمشينَ خِلفةٍ *** وأطْلاؤهَا يَنهَضْنَ من كُلِ مِجْثَمِ

وقفتُ بِها من بــعدِ عِشرِينَ حِــجَّةً *** فلايَا عَرَفْتُ الدَّار بَعدَ تَوَهمِ

أثافِيَّ سُفْعاً في مُعَرَّسِ مِـــرْجَلٍ *** وَنُؤيَا كجِذْم الحْوضِ لــم يتثلمِ

فَلَمَّا عَرَفتُ الدَّارَ قلتُ لِرَبعها *** ألا انعَمْ صبــاحاً أيَّها الرَّبعُ واسلَمِ

والأبيات توضَّح أن الشاعر وقف بأطلال محبوبته (أم أوفى) وقفة حزنٍ وأسى، لأنها أصبحت مقراً لبقر الوحش والظباء بعد مضي عشرين سنة، إلا أنه أخرج الكلام في معرض الشك في هذه الدار أهي لها أم لا؟ ولكنه عرفها بعد مشقة ومعاناة شديدة من خلال حجارة سودا تحيط بها، ونهيراً كان حول بيتها. ومن ثم محيياً إياها وداعياً لها بقوله: ( طاب عيشك في صباحك وسلمت). قال عنترة بن شداد مخاطباً أطلال محبوبته:(عبلة) ([22])

أعيَاكَ رَسْمُ الدَّارِ لم يَتَكلَّمِ *** حَـــتى تَكَلَّمَ كالأصمَ الأعْـــجَمِ

وَلقدْ حَبستُ بِــها طويلاً نَاقَتــِي *** أشْكُو إلى سُفْعٍ رَوَاكدَ جُـثَّمِ

يَا دَارَ عَبلةً بِالجَواءِ تَكلَّمي *** وَعِمِي صَباحاً دَار عَبلةَ واسلمي

دَارُ لآنِســـةِ غَضِيضٍ طَرفَـــها *** طَوعٍ العَنـــاقِ لَذِيذةِ المبتسمِ

يسأل عنترة الدار ولكنها لا تجيب إلا كما يجيب الأخرس الأعجمي، فيبقى في ربعها، وبين آثارها يطلب منها أن تتكلم، وتحثه عن أخبار محبوبته، ففي قوله: (ولقد حبست بها ناقتي) يبكي لفراق أهلها ويشكو إلى أطلالها ورسومها.

3- الطلل وعلاقته بحاضر الشاعر وماضيه.

الحديث عن هذه العلاقة، يشير إلى حضور وصف صورة الأطلال بأنها تمثل حاضر الشاعر وماضيه مشكلاً من خلالها وسيلة للكشف عن واقعه بكل ما يحمله من مظاهر وأشكال الحياة. قال امرؤ القيس:([23])

ألا عِم صَبَاحاً أيُّهَا الطَلَلُ البَالي *** وَهَل يَعِمَنْ من كَان في العُصُرِ الخَالي

دِيارُ لسَلمَى عَــــافِيَاتُ بِذِي خَـــــال *** ألَحَ عَلَيها كُلَّ أَسْحــَمَ هَــطَلِ

وَتَحسِبُ سَلمَى لا تَزَالُ ترى طَلاَّ *** من الوَحشِ أو بَيضاً بميثاءِ مِحْلالِ

وَتَحسِبُ سَلمَى لا تزالُ كَعَهْدِنَا *** بوَادي الخُزَامي أو على رَس أوعالِ

ليَالي سَلَمى إذْ تُرِيكَ مُنـــْصَّباً *** وَجِيداً كَـــجِيِدِ الرَّئمِ ليسَ بمِـــعطالِ

ألا زَعَمَتْ بَسْبَاسَــــةُ اليوْمَ أنَّثى *** كَبِرْتُ وَأن لا يُــحسِنُ اللَّهوَ أمْثَاليِ

وفي هذه الأبيات خاطب الشاعر الطلل بقوله: (ألا عم صباحاً أيها الطلل) فشبه بذلك الطلل بالإنسان، فالتحية لا تكون بين شخص وشخصاً آخر وليس للطلل، فكان الشعور المنبثق من أعماق الذات الباحثة عن الخلود في رحلة العبور إلى الحياة، أو الذات المجابهة للحياة في واقعية العيش، شكل معالم الصورة لدي الشاعر، وجعلها نسيجاً ملتحماً في جسد القصيدة، فحين تقف على هذا المشهد التصويري الفني للطلل تجد أن الصورة التي إستوحها الشاعر من خياله وأسقطها على الطلل شكلت وأظهرت مدى تلاحم الشاعر بالطلل، فأحدث بذلك التكافؤ الوجداني بين النفس الإنسانية، والطلل المتعلق بها. فكما تتخالف أشجان الذكريات من حيث البواعث والمواقف وظواهر السلوك، فكذلك تتخالف القدرات الإبداعية في تصويرها لما تثيره مناظر الأطلال من انفعالات في النفس.([24]) قال لبيد بن ربيعة العامري:([25]).

والعِينُ سَاكِنَةُ عَلى أطْلائِهَا *** عُوذاً تأجَّلُ بالفَضَـــاءِ بِهَامُها

وَجَلا السَّيولُ عن الطُّلولِ كأنَّها *** زُبُرُ تُجِدُّ مُتُونَهَا أقْــلامُها

أو رَجْعُ واشِمةٍ أُسِفَّ نَؤورُها *** كِفَفاً تَعَرَّضَ فَوقَهُنَّ وِشَامُها

فَوقفتُ أسْألهَا، وكيفَ سُؤالنَا *** صُمَّا خَوالدَ ما يُبِينُ كَلامُهَا

عَرِيَتْ وَكَان بِها الجَميعُ فأبْكروا *** مِنهَا وَغَودرَ نُؤيُهَا وَثُمَامُها

والشاعر في هذا الأبيات يستقي أخيلته من العالم الحسي المترامي حوله، فيقارن بين المرئيات ويربط الصور بعضها ببعض، ويشيع الحركة في المعاني التي ينتقيها من هذا العالم، ويبث في عناصرها والحياة.

ومن هنا كان الطلل من أهم الموضوعات التي ترددت في القصيدة الجاهلية، لعلاقته الوثيقة بإنسانية الشاعر الجاهلي، وتنازعه مع ميوله وعواطفه وماضيه وحاضره.

3- الصورة التشبيهية للأطلال في شعر المعلقات.

1- تشبيه الطلل بالوشم:

صورة الطلل في شعر المعلقات أحد الممارسات الفنية التي ميزت الشعراء، وأضحت طابور اصطف فيه جلهم إلا من تمرد عليها، بحيث كان يصبو فيها كل واحد إلى إزالة ذلك الهم الذي طال وجدانهم والتمثل أساساً في اندثار المكان وتحويله إلى آثار باقية، فسعوا إلى تثبيته حتى لا يغيب تاريخ قبيلته ولتبقى تلك الصورة الماضية مصدراً ينهل منه الشاعر ليؤكد على وجوده، ومن ثم سعى إلى تشبيه الطلل ببعض المفردات والدلالات الإيحائية ليبرز شغور المكان من ساكنيه ومن ذكرياته. قال طرفة بن العبد:([26])

لِخَوْلَةً أطْلالُ ببرُقَةِ ثَهْمَدٍ *** تَلوحُ كَبَاقي الوَشْمِ في ظَاهر اليَدِ

أمام هذه الصورة التي أبدع فيها الشاعر، رجع إلى رد تلك الرسوم والأطلال ووضعها تحت علاقة تشبيهية مباشرة بالوشم، إذ أنها صورة تشبيهية حسية يراد بها وضع معالم جمالية فنية لتلك الأطلال حتى لا تفنى، وتبقى مزار لكل من أراد مداواة جراحه. وسار زهير بن ابي سلمى على خطا طرفة بن العبد. قال:([27]).

أمِنْ أمْ أوفَى دِمنةُ لَـــمْ تَكَلَّمْ *** بِـــحَوْمَانَةٍ الدَّرَّاجِ فالمُــتثَلَّمِ

وَدَارُ لَهَا بالرّقْمَتَينِ كأنها *** مَراجَعُ وَشَمٍ في نَواشِرِ مِـعصَمِ

بِها العَينُ والارآم يَمشينَ خِلفةٍ *** وأطْلاؤهَا يَنهَضْنَ من كُلِ مِجْثَمِ

إن الشك الذي يتسلل إلى جوف الشاعر: وهو يخاطب الأطلال والدَّمن والدَّيار بقدرة الزمن على إعفائها جعل زهير يسلك طريقة للإبقاء على الطلل متخذاً من الوشم أنجح وسيلة يمكنها تحقيق ذلك، ولعل التشبيه الذي ساقه الشاعر في هذه الأبيات بأستخدام الأداة(كأن) فيها من التأكيد على أن الطلل ماكث رغم ما دخله من تغيير، وسيبقى الأمن والأمان من صفاته ومعالمه، وما الحيوانات التي تسرح به إلا دليل على ذلك الوشم الذي مورس على يد المرأة لا يختلف عن الوشم الذي اتخذ من الطلل، فهما يتماثلان.

ويبدو ذكر الوشم في المقدمة الطللية قد ارتبط ببعض الطقوس الجماعية التي كانت تتردد عليها المجتمعات القديمة، ومنها المجتمع الجاهلي الذي انغمس انغماساً كبيراً في هذه الممارسات، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى وجود رموز تتكرر عبر حضارات متعددة وأزمتة مختلفة، عرفها بكونها قوى نفسية هاجعة في الواعي الفردي في تجاوزه وتجارب الفرد الشخصية إلى الموروث الإنساني العام.([28])

2- تشبيه الطلل بالخطوط والكتب.

اعتمد الشاعر الجاهلي في تشبيه للطلل بالخطوط والكتب على حاسية البصر التي يستخدمها ليحقق من خلالها أكبر قدر ممكن من جماليات المكان الموصوف. إذاً المنطق الذي رسمه الشاعر لهذه الديار يرتبط بمدى قرب تلك الأطلال الماثلة كالكتاب الذي رسمت فيه حروف وخططت عليها كلمات، لا يندثر، بل تبقى قائمة على تلك الصفحات، قال لبيد بن ربيعة:([29])

فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِىَ رَسْمُها *** خَلَقا كما ضَمِنَ الوَحِيَّ سِلامُها

قال: توحشت الديار الغولية والرجامية، وتوحشت مدافع جبل الرَّيان لارتحال الأحباب منها واحتمال الجيران عنها، ثم قال: وقد توحشت وغيرت رسوم هذه الديار فعريت خَلقاً وإنما عراها السيول ولم تنمحِ بطول الزمان، فكأنه كتاب ضمن حجراً، شبه بقاء الآثار لقدم الأيام ببقاء الكتاب في الحجر. قال لبيد بن ربيعة: ([30]).

وَجَلا السَّيولُ عن الطُّلولِ كأنَّها *** زُبُرُ تُــجِدُّ مُتُونَهَا أقْلامُها

أو رَجْعُ واشِمةٍ أُسِفَّ نَؤورُها *** كِفَفاً تَعَرَّضَ فَوقَهُنَّ وِشَامُها

قال: وكشفت السيول عن أطلال الديار فأظهرتها بعد ستر التراب إياها، فكأن الديار كتب تجدد الأقلام كتابتها، فشبه كشف السيول عن الأطلال التي غطاها التراب بتجدد الكتاب سطور الكتاب الدارس، وظهور الأطلال بعد دروسها بظهور السطور بعد دروسها. قال عبيد بن الأبرص: ([31]).

لَمنِ الدَّارُ أفْقَرَتْ بالجَنابِ *** غَيرَ نُؤيٍ وَدِمنةٍ كَالكَتاب

غَيَّرَتْهَا الصَّبا وَنَفْحُ جَنُوبٍ *** وشَمالٍ تَذرو دُقاقَ التَرابِ

فَتراوحْنها وكلُ مُلثٍ *** دَائـــمِ الرَّعدِ مــُرْجَحِنّ السَّـــحابِ

الشاعر في هذه الأبيات أنكر الديار، وأخذ يتسائل عن أهلها الذين تركوها وهجروها، فلم يبقى من آثارهم سوى الحفر التي كانت تمنع السيل عن خيامهم، فقد خلت الدار من أهلها، ودرست حتى باتت مستوية كالكتاب، حيث غيرت صورتها الرياح القوية التي عصفت بها وكذا سقوط الأمطار المستمرة عليها.

الخاتمة.

الحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأصلي وأسلم على النَّبيَّ المصطفى وعلى آله وأصحابه المستكملين الشَّرفا، وبعد:

جاءت هذه الورقة تحت عنوان: ( الوقوف والبكاء على الأطلال في شعر المعلقات الجاهلية). ومن هنا توصل الباحث إلى عدد من النتائج أهمها:

1- إن الوقوف والبكاء على الأطلال أصبحت عرفاً تقليدياً في معظم مقدمات قصائد المعلقات الجاهلية).

2- عَبَّرَ الطَّلل عن حالة الشاعر النَّفسية، وما كان يجوش فيها من خواطر وهموم تجلَّت في انفعلاته اتجاه الواقع الذي يعيشه.

3- يُعدُّ الطَّلل متنفساً للشاعر يُعبّر به من خلاله عن تجربته الوجودية، فلم يبق له في هذا الطَّلل سوى الذَّكريات، والشَّوق للأهل والأحبة.

4- كَثُرَتْ أساليب الاستفهام في الوقوف والبكاء على الأطلال تُشير إلى مشكلة الوجود والمصير للشاعر، حيث أنه أوقف كل حركاته أمام الطَّلل، وغداً يسائلها آملاً في رد مقنع من قلبه، يبدّد له ظلمت الأسى والخوف.

5- كان لعلاقة الطَّلل بوجدان الشاعر أثرُ عَميقُ في نفسه، إذ جعله يشعر بالحنين والشّوق إلى دار الحبيب بعد أن خلت هذه الدَّار من الحبيب.

6- هنالك علاقة بين الطَّلل وحاضر الشاعر وماضيه، حيث أنه يمثل وسيلة للكشف عن واقع الشاعر بكل ما يحمله من مظاهر وأشكال الحياة.

7- إن تشبيه الأطلال بالوشم والخطوط والكتاب، هي صورة جمالية يراد بها وضع معالم فنية لتلك الأطلال حتى لا تفني وتبقى مزار لكل من أراد مداواة جراحه.

المصادر والمراجع.

1- القرآن الكريم.

2- أساليب الاستفهام في الشعر الجاهلي: حسني عبد الجليل يوسف، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهر،ط1، 2011.

3- الأطلال في الشعر الجاهلي: محمد عبد الواحد حجازي، دار الوفاء للطباعة والنشر، مصر، ط1، 2022م.

4- بيئة القصيدة الجاهلية، الصورة الشعرية لدي امرؤ القيس: ريتا عوض، دار الآداب، بيروت، ط1 .

5- تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي: شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة.

6- تحفة البلغاء في اختصار كتاب الشعر والشعراء: اختصار وإعداد: أسامة محمود الدّعاس، دار الحديث، القاهرة، ط1، 2006م.

7- الحماسة المغربية، مختصر كتاب صفوة الأدب ونخبة ديوان العرب: أبو العباس أحمد بن عبد السلام، المحقق: محمد رضوان الداية، دار الفكر المعاصر بيروت، ط1 ، 1991م.

8- ديوان امرؤ القيس: اعتنى به : عبد الرحمن المصطاوي، دار المعرفة، بيروت، ط2، 2004م.

9- دراسات في الشعر الجاهلي: يوسف خليف، دارغريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1981م.

10- ديوان زهير بن ابي سلمى: شرح عمرو فروخ، دار الأرقم، لبنان، (دـ ت ط).

11- ديوان عبيد بن الأبرص: تحقيق: كرم البستاني، دار صادر، بيروت، د ت ط.

12- ديوان لبيد بن ربيعة العامري: حمدو طمَّاس، دار المعرفة، القاهرة، ط1، 2004م.

13- شرح ديوان عنترة بن شداد: الخطيب التبيريزي، دار العلم للملايين، دمشق.

14- شرح المعلقات السبع للزوزني: الحسين بن أحمد بن الحسين الزوزني، دار إحياء التراث العربي، ط3، 2002م.

15- شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات: أبوبكر الأنباري، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار المعارف، القاهرة، ط5.

16- شرح القصائد العشر: يحيى بن علي بن محمد الشيباني، التبريزي، إدارة الطباعة المنيرة، ط2، 1352هـ.

17- الشعر والشعراء: أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة، دار الحديث، القاهرة، 1423هــ.

18- الغزل في العصر الجاهلي: أحمد الحوفي، مكتبة النهضة، مصر، ط1، 1958م.

19- في تاريخ الأدب الجاهلي: علي الجندي، مكتبة دار التراث، ط2، 1991م.

20- قصة الأدب في الحجاز: عبدالله عبد الجبار، محمد عبد المنعم خفاجى، مكتبة الكليات الأزهرية.

21- المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية، علي مصطفى صبح، السعودية ، تهامة، جدة، 1984م.

22- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: أحمد بن محمد بن علي، موقع الإسلام للنشر والتوزيع.

23- المعجم الوسيط: إبراهيم مصطفى، وآخرون، تحقيق: مجمع اللغة العربية، دار الدعوة للنشر، القاهرة.

Margins:

  1. – المعجم الوسيط: إبراهيم مصطفى، تحقيق مجمع اللغة العربية، دار الدعوة للنشر، القاهرة، ج2، ص564.
  2. – المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمد بن علي، موقع الإسلام للنشر والتوزيع، ج5، ص427.
  3. – قصة الأدب في الحجاز: عبدالله عبد الجبار، محمد عبد المنعم خفاجى، مكتبة الكليات الأزهرية، ص210.
  4. – المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية، علي مصطفى صبح، تهامة، جدة،1984م، ص70.
  5. – الشعر والشعراء: أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة، دار الحديث، القاهرة، 1423هـ ج1،ص75.
  6. – شرح المعلقات السبع للزوزني: الحسين بن أحمد بن الحسين الزوزوني، دار إحياء التراث العربي، ط3، 1423هـ ،ص8.
  7. – ديوان امرؤ القيس: عبد الرحمن المصطاوي، دار المعرفة – بيروت، ط2، 1425هــ ص151.
  8. – الحماسة المغربية: مختصر كتاب صفوة الأدب ونخبة ديوان العرب: أبو العباس أحمد بن عبد السلام، تحقيق: محمد رضوان الداية، دار الفكر المعاصر ، بيروت، ط1، 1991م، ج2، ص907.
  9. – تحفة البلغاء في تختصار كتاب الشعر والشعراء: إعداد: أسامة محمود الدَّعاس، دار الحديث، القاهرة،ط1، 2006م،ص12م.
  10. – شرح ديوان عنترة بن شداد: الخطيب التبريزي، دار العلم الملايين، دمشق، ص130م.
  11. – ديوان زهير بن ابي سلمى: شرح عمرو فروخ، دار الأرقم، لبنان، ص59.
  12. – ديوان امرؤ القيس: ص158م.
  13. – الغزل في العصر الجاهلي: أحمد الحوفي، مكتبة النهضة، مصر، ط1، 1958م، ص271م.
  14. – ديوان عبيد بن الأبرص: تحقيق: كرم البستاني، دار صادر، بيروت: ص27.
  15. – دراسات في الشعر الجاهلي: يوسف خليف، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1981م.
  16. – أساليب الاستفهام في الشعر الجاهلي: حسني عبد الجليل يوسف، مؤسسة المختار للنش والتوزيع، القاهرة، ط1، 2011م، ص66.
  17. – ديوان امرؤ القيس: ص135.
  18. – شرح ديوان عنترة بن شداد: شرح الخطيب التبريزي، دار العلم للملايين، دمشق، ص98.
  19. – شرح المعلقات السبع: شرح الأديب القاضي المحقق: أبو عبدالله بن أحمد بن الحسين الزوزني، دار الحرم للتراث، القاهرة، ط2، 2014م، ص38.
  20. – المرجع السابق: ص80.
  21. – المرجع السابق: ص114.
  22. – شرح المعلقات السبع: شرح الأديب القاضي المحقق: أبو عبدالله بن أحمد بن الحسين الزوزني،ص194.
  23. – ديوان امرؤ القيس، 135.
  24. – الأطلال في الشعر العربي: محمد عبد الواحد حجازي، دار الوفاء للطباعة والنشر، مصر، ط1، 2002م.
  25. – ديوان لبيد بن ربيعة العامري: حمدون طمّاس، دار المعرفة، القاهرة، ط1، 1425هــ ، 2004م.ص107.
  26. – شرح المعلقات السبع الزوزني، ص89.
  27. – المرجع السابق: س133.
  28. – بنية القصيدة الجاهلية، الصورة الشعرية لدي امرؤ القيس، ريتا عوض، دار الأدب، بيروت، ط1، ص176.
  29. – ديوان لبيد بن ربيعة: ص107.
  30. – ديوان نفسه: ص108.
  31. – ديوان عبيد بن الأبرص: ص27.