د. سلمى خبان1
1 باحثة، المملكة المغربية.
بريد الكتروني: khoubbane1989@gmail.com
HNSJ, 2023, 4(3); https://doi.org/10.53796/hnsj4332
تاريخ النشر: 01/03/2023م تاريخ القبول: 21/02/2023م
المستخلص
درس المقال أسلوب الالتفات و مرجعه داخل الخطاب التفسيري، وذلك انطلاقا من مقدمة منطقية مفادها أن كل تغير في المبنى يفضي إلى تغيير في المعنى، ومن المعلوم أن الضمائر، بوصفها أحد أصغر مكونات اللغة العربية، مباينة في بنيتها للمرجع الذي تعوضه وتقوم مقامه، فإن دراسة الفروق الدلالية لهذا الأسلوب القرآني تكاد تندرج في باب المسكوت عنه الذي قلما يلتفت إليه.
الكلمات المفتاحية: الالتفات ، البلاغة، الأسلوب.
The rhetoric of the attention style of Al-Fakhr Al-Razi: a reading in the structure and significance
Khoubbane Salma
1 Researcher, Kingdom of Morocco. Email: khoubbane1989@gmail.com
HNSJ, 2023, 4(3); https://doi.org/10.53796/hnsj4332
Published at 01/03/2023 Accepted at 21/02/2023
Abstract
Study the article on the style of allusion and reference within interpretive discourse ,based on a logical introduction that states that any change in structure leads to a change in meaning . It is know that pronouns , as one of the smallest components of the Arabic language , differ in their structure according to the refrence they replace and their position . thus ,studying the semantic differences of this Quranic style almost falls into the realy addressed.
Key Words: Apostrophe ,rhetoric,style.
تقديم:
اهتم المفسرون منذ القدم بالجوانب اللغوية والتركيبية لأسلوب الالتفات في القرآن الكريم ، وأبانوا الفوائد واللطائف المبتغاة من ورائه، ويهدف هذا المقال إبراز جمالية وبلاغة أسلوب الالتفات في الخطاب القرآني من خلال تفسير مفاتيح الغيب، إذ أن للالتفات تأثيرا نفسيا وبعدا حجاجيا في سياق الآيات القرآنية.
من هذا المنطلق، انقسم المقال بعد مقدمة تناولت الأبعاد اللغوية والاصطلاحية إلى محورين، عني أولهما بالبحث في بنية الالتفات مركزا على دراسة تجلياته على مستوى التركيب، ومتتبعا الاختلافات السياقية عند الرازي . في المقابل، اهتم المحور الآخر بدراسة أقسامه عبر مناقشة اختلافات البلاغيين في ترتيب المعارف، ومدى انعكاسها على تراتبية الضمائر ، وذلك قبل العمل على نقد هذه التراتبية بالنظر إلى ما تحمله الضمائر من أبعاد فلسفية وتواصلية وتأويلية.
- الالتفات :أبعاده اللغوية والاصطلاحية
- الالتفات في اللغة:
الالتفات مأخوذ من التفت التفاتا، و”التلفت” أكثر منه وتلفت إلى الشيء، التفت إليه،صرف وجهه إليه، ويقال لفت فلانا عن أريه، أي صرفته عنه. [1]
وقد – وقد وردت لفظة “الالتفات” في موضعين من القرآن الكريم”.
الموضع الأول: قوله تعالى:”لا يلتفت منكم أحد الى امرأتك”[2]، فـ”الالتفات هنا بمعنى “التخلف” أي ان يتخلف أو ان ينظر وراءه، ففي النص القرآني أمر بترك التلفت لحكمة ربانية سامية، تنجيهم من العذاب.
والموضع الثاني جاء في قوله تعالى: ”قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا”[3]، واللفت هنا بمعنى الصرف إذ أن عبارة “لتلفتنا” هي بمعنى “لتصرفنا واللفت والفتل أخوان ومطاوعهما الالتفات والانفتال”[4].
وجاء في أساس البلاغة للزمخشري:التفت إليه وتلفت، ومنه قول الشاعر:
تلفت نحو الحي حتى وجدتني ¥ وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا[5]
ومنه رجل ألفت: أحول، تيس ألفت: “ملتوى القرنين” ومن المجاز لفته وسبق من ايراد المعاني اللغوية الالتفات نجد أنه يدل على الصرف والفتل، غير أن هذا المصطلح له معان أخرى كالقبض والأكل والمزج والخلط والنظر، وقد اتخذت هذه المعاني اللغوية وجهات شتى في البلاغة العربية، إذ اتصلت بالجهد والقوة والسلب والإيجاب وبالاستجابة النفسية والسلوكية .[6]
”لأن الكلام عندما ينطوي على تعديل معين في أسلوب مخاطبته للمتلقي يؤدي إلى تحريك نشاط السامع وايقاظه”[7]
- المفهوم الاصطلاحي للالتفات(حسب آراء البلاغيين)
الالتفات فن بلاغي متميز في علم البلاغة العربية، ولم يتفق علماء البلاغة على تحديد مفهومه، وقد فسر الزركشي إشارة ابن المعتز بأن “الالتفات: هو الانتقال والانصراف عن معنى يكون فيه معنى آخر أو هو تعقيب الكلام جملة مستقلة ملاقية له في المعنى على طريق المثل أو الدعاء “فالاول كقوله تعالى: “وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا”[8]
والثاني قوله تعالى:”ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم”.وذكر جمهور البلاغيين أن شرط الالتفات أن يكون في جملتين كاملتين مستقليتين، وقد أشار الزمخشري إلى هذا الشرط في الكشاف،كما أورد فخر الدين الرازي الالتفات ضمن أقسام النظم عادا إياه الوجه الخامس، وذكر ذلك قائلا:”قيل إنه العدول من الغيبة إلى الخطاب، وبالعكس، ، فالأول قوله تعالى: “مالك يوم الدين إياك نعبد”.
والثاني قوله تعالى “حتى اذا كنتم في الفلك وجرين بهم ” وقيل :هوتعقيب الكلام بجملة تامة ملاقية إياه في المعنى؛ ليكون تتميما له على جهة المثل، أو غيره..”[9]
ومن أوائل العلماء الذين تناولوا مفهوم الالتفات ولم يصرح به أبوعبيدة ت 210 هـ وقد أطلق على عموم مباحث البلاغة العربية تسمية المجاز” وعد عملية التحول بين أنماط الضمائر مجازا، بقوله:”ومن المجاز ما جاءت مخاطبة الشاهد ثم تركت وحولت إلى مخاطبة الغائب”، ومن مجاز ما ، كقوله تعالى:”ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى”[10] جاء خبره عن غائب ثم خوطب الشاهد”[11]
أما قدامة ابن جعفرت337ه فيقول عنه:”ومن نعوت المعاني الالتفات، وهو أن يكون الشاعر آخدا في معنى فكأنه يعترضه إما شك فيه أو يظن بأن رادا يرد عليه قوله أو سائلا يسأله عن سببه،فيعود راجعا إلى ما قدمه فإما يؤكده أو يذكر سببه أو يحل الشك فيه.”[12]
ومن تتبع مفهوم الالتفات في مصادر البلاغة يجد اختلافا في مفهومه، فهناك من يحصره في مجال الضمائر، وهناك من جعله انزياحا أسلوبيا من امثال ابن المعتز حيث قسمه الى ثلاثة أقسام: القسم الاول في الرجوع من الغيبة الى الخطاب القسم الثاني: الرجوع عن الفعل المستقبل الى فعل الامر، وعن الفعل الماضي الى فعل الامر.
والثالث في الاخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل، وعن المستقبل بالماضي. [13]
- بنية الالتفات : دراسة تجلياته على مستوى التركيب:
يعتبر أسلوب الالتفات من أبرز صور العدول القرآني، و التي يعدل فيها التركيب عن البنى التركيبة التي يتطلبها السياق .
ذلك أن التركيب القرآني يعدل عن البنى التركيبية التي يتطلبها سياقه إلى بنى تركيبية أخرى ، هذه الاخيرة وقف عندها الرازي مفصحا عن خصائصها ومجالات استعمالها في السياق القرآني ، وخاصة في الآيات الكونية والقصص القرآني وآيات الوعد والوعيد.
ومن تلك الصور التي وقف عندها الرازي في الآيات الكونية تفسيره لقوله تعالى:﴿ (9) خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)﴾ [14]
قال :”والعدول عن المغايبة إلى النفس فيه فصاحة وحكمة، أما الفصاحة فمذكورة في باب الالتفات من أن السامع إذا سمع كلاما طويلا من نمط واحد، ثم ورد عليه نمط آخر يستطيبه ألا ترى أنك إذا قلت قال زيد كذا وكذا ،وقال خالد كذا وكذا ،وقال عمر كذا وكذا، ثم إن بكرا قال قولا حسنا يستطاب لما قد تكرر القول مرارا.
وأما الحكمة فمن وجهين :أحدهما :أن خلق الأرض ثقيلا، والسماء في غير مكان قد يقع لجاهل أنه بالطبع،وبث الدواب يقع لبعضهم أنه باختيار الدابة، لأن لها اختيار ، فنقول الأول طبيعي والآخر اختياري للحيوان ، ولكن لايشك أحد أن الماء في الهواء من جهة فوق ليس طبعا، فإن الماء لا يكون بطبعه فوق ولا اختيارا،إذ الماء لا اختيارله فهو بإرادة الله تعالى ، فقال” وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ” .الثاني: هوأن إنزال الماء نعمة ظاهرة متكررة في كل مكان ،فأسنده إلى نفسه صريحا لينتبه الإنسان لشكر نعمته فيزيد له من رحمته، وقوله تعالى:” فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ “أي من كل جنس فتحته زوجان ،لأن النبات إما أن يكون شجرا ،وإما أن يكون غير شجر ،والذي هو الشجر إما أن يكون مثمرا ،وإما أن يكون غير مثمر.[15]
يتبين لنا من قول الرازي أن العدول في هذه الآية جرى على طريق الغيبة في قوله تعالى: “خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ” ،ثم انتقل إلى طريق التكلم ” وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً”، فكان هذا التحول في البنية التركيبية للاية ذا مغزى مهم ، يتعلق أولا بقدرة الله الخالقة،و يشير ثانيا إلى نعمة من نعم الله الظاهرة، والمتمثلة في إنزال الماء من السماء ، فلما كان هذا الانزال من نعم الله الظاهرة أسنده سبحانه إلى نفسه صريحا، لينتبه الانسان إلى ذلك، وليشكر النعمة التي أحاطها الله به ،فيزيده سبحانه من رحمته.
فكان هذا العدول كأنه لفت إلى الموضع الذي يشير إل القدرة الخالقة والتي يحث القرآن على النظر إليها،والخاصة نعمة الماء، إذ أن نزول الماء بإرادة الله سبحانه و تعالى .
وبناء عليه فإن عملية التحول والانتقال بين الضمائر يؤدي إلى تحريك نشاط السامع مما يؤدي إلى تمكين المعنى، فنشوء العلاقات المتبادلة بين الدوال الالتفاتية لها وظيفة أدائية في القرآن الكريم ترتبط بالمعنى والدلالة، وعليه يصبح العمل بمجمله إشارات دلالية، تتنوع بحسب المقام ومقتضيات الأحوال:فمنها تعظيم شأن المتكلم أو المخاطب ، ومنها تقوية الشعور والحضور معا ، إذ أن تقوية حضوء الأشياء المتحدت عنها بواسطة الالتفات تحصل بالالتفات الفعلي.[16]
وفي سياق آخر نجد الرازي يعلل ظاهرة الالتفات اعتمادا على الآيات الكونية كما سبق ذكره.
ففي قوله تعالى: ﴿أَمّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلََهٌ مّعَ اللّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [17]
عدول من الغيبة في (خلق) و(أنزل) إلى ضمير المتكلم (نحن) في (أنبتنا) تأكيدا لاختصاصه تعالى بإنفاذ المشيئة والاقتدار, قال الرازي في تفسيره: “(قد) يقال ما حكمة الالتفات في قوله: (فَأَنبَتْنَا)؟؛ جوابه: أنه لا شبهة للعاقل في أن خالق السموات والأرض ومنزل الماء من السماء ليس إلا الله تعالى، وربما عرضت الشبهة في أن منبت الشجرة هو الإنسان، فإن الإنسان يقول أنا الذي ألقى البذر في الأرض.. وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها، وفاعل السبب فاعل للمسبب، فإذن أنا المنبت للشجرة فلما كان هذا الاحتمال قائماً لا جرم أزال هذا الاحتمال، فرجع من لفظ الغيبة إلى قوله: (فَأَنبَتْنَا), وقال: (مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا) لأن الإنسان قد يأتي بالبذر والسقي.. والتشميس ثم لا يأتي على وفق مراده, والذي يقع على وفق مراده فإنه يكون جاهلاً بطبعه ومقداره وكيفيته فكيف يكون فاعلاً لها؛ فلهذه النكتة حسن الالتفات ههنا“.[18]
ومنه قوله تعالى:﴿ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) ﴾[19]
قال الرازي:””أرسل” إسنادا للفعل إلى الغائب وقال:” فسقناه”بإسناد الفعل إلى المتكلم وكذلك في قوله “فأحيينا”وذلك لأنه في الأول عرف بنفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ،ثم لما عرف قال :أناالذي عرفتني سقت السحاب وأحييت الأرض ففي الأول كان تعريفا بالفعل العجيب،وفي الثاني كان تذكيرا بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء “[20]
وفي سياق القصص القرآني:قال الرازي في تفسيره لقوله تعالى:﴿ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (104) ﴾[21]
“فإن قيل : ما الحكمة في ذكر المعبود الحق في هذا المقام بهذه الصيغة وهي قوله:” الذي يتوفاكم” قلنا: فيه وجوه: الأول: يحتمل أن يكون المراد أني أعبد الله الذي خلقكم أولاً ثم يتوفاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً وهذه المراتب الثلاثة قد قررناها في القرآن مراراً وأطواراً، فههنا اكتفى بذكر التوفي منها لكونه منبهاً على البواقي.
الثاني: أن الموت أشد الأشياء مهابة ،فخص هذا الوصف بالذكر في هذا المقام ليكون أقوى في الزجر والردع.
الثالث: أنهم لما استعجلوا نزول العذاب قال تعالى﴿(102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)﴾[22]
فهذه الآية تدل على أنه تعالى يهلك أولئك الكفار ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم، فلما كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا”ولكن اعبد الله الذي يتوفاكم”[23] وهو إشارة إلى ما قرره وبينه في تلك الآية كأنه يقول أعبد ذلك الذي وعدني بإهلاكهم وإبقائي”([24]).
وفائدة هذا الالتفات إلى الخطاب في قوله”يتوفاكم” بصيغة الخطاب وذلك بعد صيغة التكلم في قوله” ولكن أعبد” وكان المقتضى الاستمرار ليكون المقطع (ولكن أعبد الله الذي يتوفاني) بدل قوله تعالى “يتوفاكم” لما فيه من التهديد والوعيد للمشركين .
وفي قوله تعالى: ﴿(32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَات وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ (35)﴾[25]
قال الرازي: كيف ثنى الضمير في قوله”عليكما ” مع أنه جمع قبله بقوله “إن استطعتم” والخطاب مع الطائفتين وقال” فلا تنتصران” وقال من قبل “لا تنفذون إلا بسلطان” تقول فيه لطيفة: وهي أن قوله “إن استطعتم” لبيان عجزهم وعظمة ملك الله فقال: إن استطعتم أن تنفذوا باجتماعكم وقوتكم فانفذوا ولا تستطيعون لعجزكم فقد بان عند اجتماعكم واعتضادكم بعضكم ببعض فهو عند افتراقكم أظهر،” فهم” خطاب عام مع كل أحد عند الانضمام إلى جميع من عداه من الأعوان والإخوان.
وأما قوله تعالى” يرسل عليكما” فهو لبيان الإرسال على النوعين لا على كل واحد منهما لأن جميع “الإنس” و”الجن” لا يرسل عليهم العذاب والنار فهو يرسل على النوعين ويتخلص منه بعض منهما بفضل الله ولا يخرج أحد من الأقطار أصلاً، وهذا يتأيد بما ذكرنا أنه قال: لا فرار لكم قبل الوقوع ولا خلاص لكم عند الوقوع لكن عدم الفرار وعدم الخلاص ليس بعام.
والجواب الثاني: من حيث اللفظ وهو أن الخطاب مع المعشر فقوله”إن استطعتم” أيها المعشر وقوله “يرسل عليكما” ليس خطاباً مع “النداء” بل هو خطاب مع” الحاضرين “وهما نوعان وليس الكلام مذكوراً بحرف “واو العطف” حتى يكون النوعان مناديين في الأول وعند عدم التصريح “بالنداء” فالتنبيه أولى كقوله تعالى”فبأي آلاء ربكما تكذبان” وهذا يتأيد بقوله ” سنفرغ لكم أيها الثقلان” وحيث صرح “بالنداء” جمع الضمير وقال بعد ذلك “فبأي آلاء ربكما” حيث لم يصرح بالنداء([26]).
يتضح لنا من خلال هذه الآيات، أن أسلوب الالتفات عند الرازي آلية إبلاغية ترشد إلى الإصغاء والاستجابة ، فتحول وجهة الخطاب بين ضمائر المتكلم والمخاطب والغيبة والجمع والتثنية، لعلة دلالية الغرض منها الإقناع بتلاحم الآيات أسلوبيا للتأثير في المتلقي[27]، و كل موضع منها باختلاف محله وما يقصده المتكلم .
استنتاج:
واضح أن الرازي في رصده لسياقات الالتفات السابقة، كان يتحرك من مستويين:
الاول:يتمثل في تحديد المحيط الأسلوبي الذي يرتبط بالالتفات ، والذي على أساس منه تستقر الدلالة القرآنية في سياقها المحدد.
بمعنى أن الدلالة القرآنية عند الرازي أصبحت تمثل الهدف الرئيسي الذي يبحث عنه، ومسوغ ذلك بحثه عن الحكمة من الالتفات في الضمائر، لأن أي التفات من ضمير إلى ضمير يقدم للدلالة القرآنية دلالة جديدة لا يمكن توفرها بالتعبير عن الضمير بنفس البناء الاصلي.
وعلى هذا الأساس فالالتفات عند الرازي يقتضي حاجة معنوية لاغنا للدلالة القرآنية عنها وهي تختلف من مقام إلى مقام.
الثاني:يتجلى في تحديد الامكانات التعبيرية التي يحدثها الالتفات وما ينتج عنه من أغراض بلاغية في التركيب القرآني.
وسنبرز دلالة ذلك في المحاور الآتية:
- أقسام الالتفات في تراتبية الضمائر:
تأثر الرازي في تحديد صور الالتفات بمن سبقه من علماء وخاصة الزمخشري ،وتوسع فيه فشمل إلى جانب الضمائر الالتفات في العدد.
ويتميز هذا الالتفات بالانتقال من صيغة إلى صيغة كالانتقال من خطاب حاضر إلى غائب أو من غائب إلى حاضر أو غير ذلك، كما يكون فيه الرجوع من خطاب التثنية إلى خطاب الجمع، ومن خطاب الجمع إلى خطاب الواحد.
وللدلالة على طريقة الرازي في تحليل هذا النمط من العدول القرآني سنتطرق إلى بعض الأقسام متوسلين بها للكشف عن تفكيره البلاغي ،وهي كالآتي:
- الالتفات في الضمائر:
- الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
- الالتفات من الخطاب إلى الغيبة.
- الالتفات من التكلم إلى الخطاب.
- الالتفات من الغيبة إلى التكلم.
- الالتفات من الغيبة إلى الخطاب:
ومن أمثلة هذا الالتفات قوله تعالى:﴿ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين * الرحمن الرحيم * مالكِ يوم الدين* إيـّـاكَ نعبُدُ وإيـّـاك نسْـتعين ﴾ [28]حيثُ التفتَ من أسلوب الغيبة بقوله الحمدُ للهِ ربِّ العالمين إلى أسلوب الخطاب بقوله إيـّـاكَ نعبُدُ وإيـّـاك نسْـتعين .
والفائدة من ذلك أن المصلي كان أجنبيا عند الشروع في الصلاة ،فلا جرم أثنى على الله بألفاظ المغايبة إلى قوله مالك يوم الدين ،ثم إنه تعالى كأنه يقول له حمدتني وأقررت بكوني إلها ربا رحمانا رحيما مالك ليوم الدين، فنعم العبد أنت قد رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل إياك نعبد.
والحكمة كما قال الرازي في الانتقال من مقام الغيبة إلى مقام الخطاب ،أن من أول السورة إلى قوله إياك نعبد ثناء والثناء في الغيبة أولى، فلما شرع العبد في الصلاة بهذا الثناء ، اقتضى المقام كرم الله له وإجابته في تحصيل القربة منه، فنقله سبحانه في قوله إياك نعبد إلى آخر السورة من مقام الغيبة إلى مقام الحضور.[29]وهو يوجب علو الدرجة ، وكمال القرب من خدمة رب العالمين.[30]
يبدو لنا مما سبق أن تعليل الرازي لهذا العدول الأسلوبي جاء نتيجة توسله بالأسرار المستنبطة من المعاني السابقة من حمد الله والثناء عليه وذكر ربوبيته سبحانه وملكه ليوم الدين، فجاء تفسيره نتيجة وعي بلاغي بسياق الكلام ونوع المعنى ، فهو آلية يشغلها المخاطب بغرض التأثير في المتلقي ، دون الحاجة إلى تفريع المعنى ، بل بمجرد الضمائر العائدة إلى المرجع نفسه.
وقد ورد عند السابقين من البلاغيين أن في الآية الكريمة محددات تخاطبية، فابن الاثير فسر هذا الالتفات انطلاقامن دلالة محورية في بنية الحمد وبنية العبادة فقوله تعالى”الحمد لله” ولم يقل “الحمد لك” ولما صار إلى العبادة التي هي أقصى الطاعات قال “إياك نعبد” فخاطب بالعبادة اصراحا بها، وتقربا منه عزاسمه بالانتهاء الى محدود منه. [31] .
وقد عبر عن هذا الرأي حازم القرطاجني : “اعلم أن الانعطاف بالكلام من جهة إلى أخرى أو من غرض إلى آخر، لا يخلو من أن يكون مقصودا أولا، فيذكر الغرض الأول لأن يستدرج منه إلى الثاني، وتجعل مآخذ الكلام في الغرض الأول صالحة مهيأةلأن يقع بعدها الغرض الثاني موقعا لطيفا، وينتقل من أحدهما إلى الآخر انتقالا مستطرفا، أو لا يكون قصد أولا في غرض الكلام الأول أن يجعل ذكره سببا لذكر الغرض الثاني والتوطئة للصيرورة إليه، الاستدراج إلى ذكره، بل لا ينوي الغرض الثاني في أول الكلام وانما سنح الخاطر سنوحا بديهيا، ويلاحظه الفكر والمتصرف بالتفاتاته إلى كل جهة ومنحى من أنحاء الكلام، فما كان من قبيل هذا القسم الثاني فانه الذي يعرف بالالتفات ويتوسع حازم القرطاجني في معنى الالتفات من مجرد التحول من ضمير إلى آخر أو من فعل إلى آخر، إلى معنى اشمل فيعبر عنه بمصطلح الصورة الالتفاتية. [32]
وفي قوله تعالى:﴿ (20) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾[33]
قال الرازي:اعلم أن في هذه الآية مسائل”أن الله تعالى لماقدم أحكام الفرق الثلاثة، أعني المؤمنين والكافرين والمنافقين.أقبل عليهم بالخطاب، وهوباب من الالتفات المذكور في قوله تعالى: ” إيـّـاكَ نعبُدُ وإيـّـاك نسْـتعين ” وفيه فوائد :أحدها أن فيه مزيد هز وتحريك من السامع كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن الثالث:إن فلانا من قصته كيت وكيت، ثم تخاطب ذلك الثالث فقلت يا فلان من حقك أن تسلك الطريقة الحميدة في مجاري أمورك، فهذا الانتقال من الغيبة إلى الحضور يوجب مزيد تحريك لذلك الثالث.
وثانيها كأنه سبحانه وتعالى يقول : جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولا ثم الآن أزيد في إكرامك وتقريبك، فأخاطبك من غير واسطة ، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة، شرف المخاطبة والمكالمة.
وثالثها أنه مشعر بأن العبد إذا كان مشتغلا بالعبودية فإنه يكون أبدا في الترقي ، بدليل أنه في هذه الآية انتقل من الغيبة إلى الحضور. ورابعها أن الآيات المتقدمة كانت في حكاية أحوالهم، وأما هذه الآيات فإنها أمر وتكليف، ففيه كلفة ومشقة فلا بد من راحة تقابل هذه الكلفة ، وتلك الراحة هي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته، كما أن العبد إذا ألزم تكليفا شاقا فلو شافهه المولى وقال: أريد منك أن تفعل كذا فإنه يصير ذلك الشاق لذيذا لأجل ذلك الخطاب. [34]
والظاهر من قول الرازي أن مجيء الالتفات على هذه الشاكلة اقتضته الدلالة على إيضاح المعنى المقصود ، وهو تنبيه السامع الثالث بالتفاتك نحوه ، واستدعاء اصغائه إليه ليحصل له مع التنبيه شرف المخاطبة والمكالمة، وهذه النظرة المتأنية لدى الرازي نابعة من تصوره الحجاجي ، و انفتاح آفاق القراءة المتجددة المعبرة عن ”ازدواجية القصد في أسلوب الالتفات ، فبالاضافة إلى مقام التلفظ الفعلي ، فإن ضمير المخاطب يحيل إلى كل مقام ورد فيه الملفوظ فينفتح الخطاب بذلك على الراهن باعتبار ضمائر الحضور تملؤها جماهير القراء المتعاقبة على قراءة القرآن وسماعه، أي أن حجاجية الالتفات تبدو من خلال العدول”[35]
فجاء الكلام في هذه الآية دليلا على خصوصية هذا النوع من الالتفات ، في سياق العبودية والتكليف، وقد توسع الرازي في ذلك توسعا أصوليا بين فيه مسألة العبودية والتكليف.[36]
- الالتفات من الخطاب إلى الغيبة:
قال تعالى:﴿ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ (22)﴾[37]
قال الرازي:أن الفائدة في صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة ليدل على المقت والتبعيد والطرد ،وهو اللائق بحال هؤلاء ،لأن من كان من صفته أنه يقابل إحسان الله تعالى بالكفران ،كان اللائق به ما ذكرناه.[38]
قال الرازي في تفسير قوله تعالى:﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً (3)﴾[39]
“بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ””
فيه ثلاثة ألفاظ دالة على الحضور ، وقوله تعالى” إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”يدل على الغيبة،وانتقال الكلام من الحضور إلى الغيبة يسمى صنعة الالتفات.[40]
وقال الرازي في تفسير قوله تعالى:﴿ (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64)﴾[41]
إن الالتفات من لفظ الخطاب إلى لفظ المغايبة في قوله تعالى” وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ” إجلال للرسول صلى الله عليه وسلم ،لأنهم إذا جاؤوه فقد جاؤوا من خصه الله برسالته وأكرمه بوحيه ،وجعله سفيرا بينه وبين خلقه،ومن كان كذلك لا يرد الله شفاعته.[42]
- الالتفات من الغيبة إلى التكلم:
وفي قوله تعالى﴿ يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)﴾[43]
يقول الرازي:” فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ”رجوع من الغيبة إلى الحضور، والتقدير أنه لما ثبت أن الاله واحد وثبت أن المتكلم بهذا الكلام إله ،فحينئذ ثبت أنه لاإله للعالم إلا المتكلم بهذا الكلام،وهويفيد الحصر،وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه، وأن لايرغبوا إلا في فضله وإحسانه.[44]
فجاء الالتفات لإفادة هذا السياق بضمير المتكلم لبيان عظمته سبحانه وتعالى، واختصاصه بهذا الفعل.
وفي قول تعالى:
﴿ (9) خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)﴾ [45]
قال :”والعدول عن المغايبة إلى النفس فيه فصاحة وحكمة، أما الفصاحة فمذكورة في باب الالتفات من أن السامع إذا سمع كلاما طويلا من نمط واحد، ثم ورد عليه نمط آخر يستطيبه ألا ترى أنك إذا قلت قال زيد كذا وكذا ،وقال خالد كذا وكذا ،وقال عمر كذا وكذا، ثم إن بكرا قال قولا حسنا يستطاب لما قد تكرر القول مرارا.
في هذا المقام تأثر الرازي بمن سبقه من المفسرين وخاصة الزمخشري :لأن الكلام اذا نقل من أسلوب إلى أسلوب. كل ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للإصغاد اليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بفوائد[46]
وأما الحكمة فمن وجهين :أحدهما :أن خلق الأرض ثقيلا، والسماء في غير مكان قد يقع لجاهل أنه بالطبع،وبث الدواب يقع لبعضهم أنه باختيارالدابة، لأن لها اختيار ، فنقول الأول طبيعي والآخر اختياري للحيوان ، ولكن لايشك أحد أن الماء في الهواء من جهة فوق ليس طبعا، فإن الماء لا يكون بطبعه فوق ولا اختيارا،إذ الماء لا اختيارله فهو بإرادة الله تعالى ، فقال” وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ” .الثاني: هوأن إنزال الماء نعمة ظاهرة متكررة في كل مكان ،فأسنده إلى نفسه صريحا لينتبه الإنسان لشكر نعمته فيزيد له من رحمته، وقوله تعالى:” فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ “أي من كل جنس فتحته زوجان ،لأن النبات إما أن يكون شجرا ،وإما أن يكون غير شجر ،والذي هو الشجر إما أن يكون مثمرا ،وإما أن يكون غير مثمر.[47]
- الالتفات من التكلم إلى الخطاب:
قال الرازي في تفسيره لقوله تعالى:﴿ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (104) ﴾[48]
“فإن قيل : ما الحكمة في ذكر المعبود الحق في هذا المقام بهذه الصيغة وهي قوله:” الذي يتوفاكم” قلنا: فيه وجوه: الأول: يحتمل أن يكون المراد أني أعبد الله الذي خلقكم أولاً ثم يتوفاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً وهذه المراتب الثلاثة قد قررناها في القرآن مراراً وأطواراً، فههنا اكتفى بذكر التوفي منها لكونه منبهاً على البواقي.
الثاني: أن الموت أشد الأشياء مهابة ،فخص هذا الوصف بالذكر في هذا المقام ليكون أقوى في الزجر والردع.
الثالث: أنهم لما استعجلوا نزول العذاب قال تعالى﴿(102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)﴾[49]
فهذه الآية تدل على أنه تعالى يهلك أولئك الكفار ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم، فلما كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا”ولكن اعبد الله الذي يتوفاكم” وهو إشارة إلى ما قرره وبينه في تلك الآية كأنه يقول أعبد ذلك الذي وعدني بإهلاكهم وإبقائي”([50]).
انتقل أسلوب الالتفات من التكلم إلى الخطاب لبيان عظمة ما أسند إليه ضمير التكلم وإن جاء على الخطاب.
مما سبق يتضح لنا أن هذا النوع من الالتفات له فائدة عامة تتجلى في الخروج عن رتابة المألوف ونمثله بالخطاطة التالية:
أسلوب الالتفات
فائدة بلاغية
تشاكل ممتع بين الآيات القرآنية
علاقة الكلام بالنظم
استراتيجية حجاجية
تهيئة المخاطب نفسيا لقبول القضية أو رفضها
فعل تأثيري
- الالتفات في العدد:
وفي قوله تعالى: ﴿(32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ (35)﴾[51]
قال الرازي: كيف ثنى الضمير في قوله”عليكما ” مع أنه جمع قبله بقوله “إن استطعتم” والخطاب مع الطائفتين وقال” فلا تنتصران” وقال من قبل “لا تنفذون إلا بسلطان” تقول فيه لطيفة: وهي أن قوله “إن استطعتم” لبيان عجزهم وعظمة ملك الله فقال: إن استطعتم أن تنفذوا باجتماعكم وقوتكم فانفذوا ولا تستطيعون لعجزكم فقد بان عند اجتماعكم واعتضادكم بعضكم ببعض فهو عند افتراقكم أظهر،” فهم” خطاب عام مع كل أحد عند الانضمام إلى جميع من عداه من الأعوان والإخوان.
وأما قوله تعالى” يرسل عليكما” فهو لبيان الإرسال على النوعين لا على كل واحد منهما لأن جميع “الإنس” و”الجن” لا يرسل عليهم العذاب والنار فهو يرسل على النوعين ويتخلص منه بعض منهما بفضل الله ولا يخرج أحد من الأقطار أصلاً، وهذا يتأيد بما ذكرنا أنه قال: لا فرار لكم قبل الوقوع ولا خلاص لكم عند الوقوع لكن عدم الفرار وعدم الخلاص ليس بعام.
والجواب الثاني: من حيث اللفظ وهو أن الخطاب مع المعشر فقوله”إن استطعتم” أيها المعشر وقوله “يرسل عليكما” ليس خطاباً مع “النداء” بل هو خطاب مع” الحاضرين “وهما نوعان وليس الكلام مذكوراً بحرف “واو العطف” حتى يكون النوعان مناديين في الأول وعند عدم التصريح “بالنداء” فالتنبيه أولى كقوله تعالى”فبأي آلاء ربكما تكذبان” وهذا يتأيد بقوله ” سنفرغ لكم أيها الثقلان” وحيث صرح “بالنداء” جمع الضمير وقال بعد ذلك “فبأي آلاء ربكما” حيث لم يصرح بالنداء([52]).
يتضح لنا من خلال هذه الآيات، أن أسلوب الالتفات عند الرازي هو تحول وجهة الخطاب بين ضمائر المتكلم والمخاطب والغيبة والجمع والتثنية، وذلك لعلة دلالية تدل عليها القرائن في السياق القرآني ، و كل موضع منها باختلاف محله وما يقصده المتكلم .
- من التثنية إلى الجمع :
قوله تعالى : ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ) الحج/19-21.
حيث أسند فعل الاختصام إلى ضمير الجماعة (اختصموا) لا إلى ضمير التثنية (اختصما) الملائم لظاهر السياق .
والحمل على المعنى في الجمع مراد به: ( اختصموا ) : ما يختصمون فيه أو أراد بالخصمين أهل طاعته وأهل معصيته وخصومهم ، أيضا بقوله : (الخصم صفة وصف بها الفوج أو الفريق ، فكأنه قيل : هذان فوجان أو فريقان مختصمان، وقوله (هذان) للفظ، و(اختصموا) للمعنى).
ولعل الملاحظ على هذا الرأي أنه لم يتجاوز نطاق تبرير الظاهرة أو تسويغها لغويا عن طريق القول إنها من باب الحمل على المعنى ( اختصموا ) بعد الحمل على اللفظ ( هذان خصمان ) .
بناء عليه يمكن رصد تصور الرازي في الخطاطة التالية:
الالتفات عند الرازي
الضمائر العدد
تحول في الضمائر تحول في المعنى
مقاصد
تأثيرية
بالإضافة إلى ما سبق ذكره فإن أسلوب الالتفات له وظيفة تأثيرية ، حيث تنبه الرازي إلى أهمية الفعل التأثيري بوصفه استراتيجية يتبعها المتكلم لتوجيه سلوك المتلقي لإنجاح الفعل التأثيري، وقد استمد ذلك من علاقة الكلام بالنظم القرآني.
لائحة المصادر والمراجع
القرآن الكريم
ابن الاثير،المثل السائر،قدمه وعلق عليه احمد الكوفي وبدوي طبانة.،دار نهضة مصر للطبع والنشر، ج2
قدامة ابن جعفر، نقد الشعر، تحقيق كمال مصطفى، مكتبة خانجي
الرازي فخر الدين، نهاية الايجاز في دراية الاعجاز، تحقيق احمد حجازي السقا، المكتب الثقافي، ط1، مصر1989
الرازي فخر الدين، مفاتيح الغيب،دار الفكر،ط1،2005
الزمخشري ،الكشاف،دار إحياء التراث العربي،بيروت ،ج4
الزمخشري،أساس البلاغة ، دار إحياء التراث العربي ،بيروت ، لبنان ،ط1،2001
الزركشي، البرهان في علوم القرآن،تحقيق محمد أبي الفضل ابراهيم،مطبعة البابي الحلبي،ط2،1973،ج3
صوله عبد الله ،الحجاج في القرآن ،جامعة منوبة،تونس،2001، ج1
أبوعبيدة،مجاز القرآن،مكتبة الخانجي،مصر،ج1
عودة ناظم خضر، الأصول المعرفية النظرية التلقي، دار الشروق للنشر
غماري نصيرة محمد، النظرية التداولية عند الأصوليين، دراسة في تفسير الرازي،عالم الكتاب الحديث ، الاردن ،ط2014
ابن منظور، لسان العرب، دار صادر بيروت، ط1955، مادة لفت
Chaim, perelman/lucie tyteca :traité de l argumentation ,edition de l université de bruxelles,5 Edition,2000n p 241
الهومش:
- لسان العرب، ابن منظور، دار صادر بيروت، ط1955، مادة لفت ↑
- سورة هود الاية 31 ↑
- سورة يونس الاية 78 ↑
- الزمخشري ،الكشاف،دار إحياء التراث العربي،بيروت ،ج4،ص284 ↑
- البيت للصمة بن عبد الله القشيري في لسان العرب ماد : (وجع)، وينظر : شرح ديوان الحماسة : 3/ 114. ↑
- الزمخشري،أساس البلاغة ، دار إحياء التراث العربي ،بيروت ، لبنان ،ط1،2001،ص677 ↑
- ناظم عودة خضر، الأصول المعرفية النظرية التلقي، دار الشروق للنشر،ص70 ↑
- الزركشي، البرهان في علوم القرآن،تحقيق محمد أبي الفضل ابراهيم،مطبعة البابي الحلبي،ط2،1973،ج3،ص335 ↑
- نهاية الايجاز في دراية الاعجاز، الفخر الرازي، تحقيق احمد حجازي السقا، المكتب الثقافي، ط1، مصر1989،ص203 ↑
- سورة القيامة،33/34 ↑
- أبوعبيدة،مجاز القرآن،مكتبة الخانجي،مصر،ج1،ص11 ↑
- قدامة ابن جعفر، نقد الشعر، تحقيق كمال مصطفى، مكتبة خانجي،ص167 ↑
- ينظر المثل السائر، ابن الاثير،قدمه وعلق عليه احمد الكوفي وبدوي طبانة.،دار نهضة مصر للطبع والنشر، ج2ص167 وما بعدها ↑
- لقمان،الاية10 ↑
- مفاتيح الغيب،دار الفكر، ط 1،2005، ج25،ص128 ↑
- عبد الله صولة،الحجاج في القرآن ،جامعة منوبة،تونس،2001، ج1،ص520 ↑
- النمل،الاية60-61 ↑
- مفاتيح الغيب،ج24،ص184 ↑
- فاطر،الاية9 ↑
- مفاتيح الغيب،ج26،ص7 ↑
- يونس،الاية104 ↑
- يونس،الاية103 ↑
- ↑
- () التفسير الكبير،ج 17،ص13. ↑
- الرحمن،الاية33-34-35 ↑
- () التفسير الكبير، ج29، ص100-101. ↑
- Chaim, perelman/lucie tyteca :traité de l argumentation ,edition de l université de bruxelles,5 Edition,2000n p 241 ↑
- الفاتحة،الاية2-5 ↑
- مفاتيح الغيب،،ج1،ص225 ↑
- نفسه،ج16،ص61 ↑
- ابن الأثير، ج2، ص137 ↑
- حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الادباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، دار الكتب الشرقية، ص314 ↑
- البقرة،الاية21 ↑
- مفاتيح الغيب،ج2،ص82-83 ↑
- نصيرة محمد غماري، النظرية التداولية عند الأصوليين، دراسة في تفسير الرازي،عالم الكتاب الحديث ، الاردن ،ط2014،ص77 ↑
- ينظر: مفاتيح الغيب،ج2،ص83 وما بعدها ↑
- يونس،الآية،22 ↑
- مفاتيح الغيب،ج16 ،ص61 ↑
- الإسراء، الآية1-2-3 ↑
- مفاتيح الغيب،ج20،ص129 ↑
- النساء،الاية64 ↑
- مفاتيح الغيب،ج10،ص141 ↑
- النحل،الاية51 ↑
- مفاتيح الغيب،ج10‘ص42 ↑
- لقمان،الاية10 ↑
- الزمخشري، الكشاف،تحقيق عادل احمد عبد الموجود، مكتبة العبيكان، ط1، 1998،ج1،ص120 ↑
- مفاتيح الغيب،ج25،ص128 ↑
- يونس،الاية104 ↑
- يونس،الاية103 ↑
- () التفسير الكبير،ج17،ص13 ↑
- الرحمن،الاية33-34-35 ↑
-
() التفسير الكبير، ج29، ص100-101. ↑