أعمدة هرقل من التداخل بين الميثولوجيا والجغرافيا إلى التمايز

زكرياء بوقجيج1

1 طالب باحث في سلك الدكتوراه، جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، المغرب.

HNSJ, 2023, 4(4); https://doi.org/10.53796/hnsj446

Download

تاريخ النشر: 01/04/2023م تاريخ القبول: 14/03/2023م

المستخلص

تحاول هذه الورقة الوقوف عند أسطورة أعمدة هرقل، عبر مراحل تاريخية مختلفة، ورصد أبرز التطورات التي عرفتها، منذ بدايتها كفكرة ميثولوجية اكتسحت الفضاء المتوسطي، إلى نهايتها كمعطى جغرافي رئيسي وراسخ ابتداء من العصر الوسيط، وتروم من خلال ذلك تحليل حالة التداخل بين الميثولوجيا والجغرافيا في العالم القديم، من خلال هذا النموذج البارز والطاغي الحضور، وتتبع تطوره عبر محطات تاريخية مختلفة، وكيف تمايزت وانفصلت الحقيقة الجغرافية عن التصور الميثولوجي القديم، وذلك عبر استثمار مختلف المصادر التاريخية المتاحة.

الكلمات المفتاحية: التاريخ القديم – الميثولوجيا القديمة – أعمدة هرقل – جبل موسى – جبل طارق.

\تقديم

حظيت أسطورة أعمدة هرقل باهتمام بالغ من لدن الأقدمين، فكان حضورها بارزا في عوالم الأساطير التي استوطنت المجال المتوسطي القديم، واكتسبت أهميتها من جهتين: باعتبار صاحب الأسطورة الذي نُسبت إليه وهو هرقل، بطل الأعمال الإثني عشر الشهيرة[1] في الميثولوجيا الإغريقية، والتي وصل صداها إلى كل العالم القديم خلال المرحلة الهلنستية، ومن جهة أخرى باعتبار الموقع الجغرافي الذي وضع هرقل الأعمدة فيه حسب متن الأسطورة، وأقصد هنا منطقة الشمال الغربي لقارة ليبيا، وهي جغرافيا غنية بأساطير العالم القديم، فهي موقع «القصر الملكي (للإله) لأنطي، ومكان معركته مع هرقل، و… حدائق الهيسبريد (التفاحات الذهبية) »،[2] وموقع جبل أطلس حيث الإيجيب والساتير، ومكان «أعمال هرقل وبيرسي Persée التي أنجزاها».[3]

الإطار اللغوي: العمودان أم الأعمدة؟

أثار انتباهي وأنا أقرأ في موضوع أعمدة هرقل، أن جل المصادر والمراجع المكتوبة بالعربية استعملت صيغة الجمع في حديثها عن العمودين،[4] رغم أن الأمر يتعلق بشيئين يمكن لصيغة المثنى أن تعبر عنهما بكل دقة، وذلك هو الأصل في اللغة العربية، واستنتجت أن “الخطأ” ربما وقع بسبب تأثير الترجمة من لغات لا وجود للمثنى فيها مثل الإغريقية واللاتينية ومشتقاتها، فتعبر عن المثنى بالجمع، كما نجد ذلك عند “بلينيوس”مثلا: أعمدة هرقل columnas Herculis [5]، وهو ما من شأنه أن يشوش القارئ العربي ويخلق لديه نوعا من الإرباك ، ولربما اعتقد أن الأمر يتعلق بأكثر من عمودين. وعند البحث في المصادر اللغوية وجدت أن إطلاق الجمع على المثنى يجوز بشرطه، كما ذكر ذلك سبويه حين قال: « وسألت الخليل رحمه الله عن أحسن وجوههما؟ فقال لأن الإثنين جميع (المقصود أن المثنى جمع أيضا)، وهذا بمنزلة قول الاثنين: نحن فعلنا ذاك»[6]، وقال «الفرَّاء إن العرب توقع ضمير الجمع على المثنى وقد ذكر ابن عاشور شرط العدول عن صيغة التثنية وعلل السبب فقال: العرب يعدلون عن صيغة التثنية إلى صيغة الجمع إذا كانت هناك قرينة، لأن في صيغة التثنية ثقلا لندرة استعمالها»[7]. ومنه فإنه يمكن استعمال الجمع للدلالة على المثنى إذا كان المدلول واضحا والقصد بيّنا، لذلك سأستعمل الجمع (أعمدة) لخفة نطقه ودلالته على الإثنين (عمودان)، وأيضا حتى يتسق ما أكتبه مع ما سبق، وكي لا يكون مقالي نشازا بين ما كُتب.

أعمدة هرقل في المصادر الفينيقية والإغريقية واللاتينية.

كان حضور أعمدة هرقل في المصادر القديمة بارزا، فنجد تكرار ذكرها في رحلة حانون القرطاجي مرتين على قصر تقريرها، وجاء في خبر ذلك أن القرطاجيين أمروا «حانون أن يبحر إلى ما وراء أعمدة هرقل لإنشاء مستعمرة ليبية – فينيقية، فباشر الملك رحلته على متن ستين سفينة مع حوالي ثلاثين ألف رجل وامرأة، مع المؤن والتجهيزات الضرورية، وبعد إبحاره وراء أعمدة هرقل لمدة يومين، أسس أول مدينة وأسماها تيمياثريون، وكانت تهمين على سهل واسع». “هيرودوت” من جهته وهو أحد أقدم من كتبوا عن غرب المتوسط كرر ذكر الأعمدة تسع مرات في كتابه[8]، وبالخصوص حين الحديث عن الجزء الغربي من القارة، وذكر لنا في أحد المقاطع أن الفرعون المصري نيكاو هو أول من بيَّن أن قارة ليبيا محاطة بالبحر، وذلك من خلال تهييء « رحلة بحرية استكشافية تتكون من الفينيقيين، أمرهم أن يعودوا من جهة أعمدة هرقل … فانطلق الفينيقيون من البحر الإيريتيري …. وقد مرت سنتان على رحلتهم، خلال السنة الثالثة تجاوزوا أعمدة هرقل ثم عادوا إلى مصر».[9] “ديودور” الصقلي الذي لم يكن مقتصدا في ذكر الأعمدة، تحدث عنها مطولا عارضا روايتين، فذكر بأن «هرقل عبر ليبيا إلى وصل إلى المحيط الذي يحيط بقادش، ورفع عمودين على كلتا القارتين … سنتوقف قليلا للحديث عن أعمدة هرقل التي سبق وأن أشرنا إليها. عند وصوله إلى أطراف ليبيا، أقام هرقل عموديه على حافة المحيط، كي يترك علامة لا تُمحى لرحلته الاستكشافية، وأقام حاجزا لتقريب طرفي القارة اللذين كانا سابقا متباعدين جدا ولم يترك لمياه البحر سوى ممر ضيق، وبذلك منع وحوش المحيط من الوصول إلى البحر الداخلي، تلك الفتحة الكبيرة التي كانت تزعج هرقل. لكن هنالك من يرى عكس ذلك أن القارتين كانتا ملتصقتين، وقام هرقل بفتح البرزخ الذي يشكل المضيق الذي ربط المحيط ببحرنا».[10]

C:\Users\pro\Desktop\colonnes hercule.bmp

أعمدة هرقل على خريطة “بوتنجر” [11]peutinger

“استرابون” بدوره ذكرها عدة مرات، ووصف المضيق الذي توجد فيه الأعمدة بالمضيق «الشهير لأعمدة هرقل الذي ذكرته عدة مرات في هذا الكتاب».[12] “بلينيوس الكبير” صاحب التاريخ الطبيعي لم يفته ذلك أيضا حين تحدث عن موقع مدينة طنجيس فقال: «وراء أعمدة هرقل كانت هنالك مدينتا “ليسا” و”كوطا”، أما في الوقت الحاضر فإننا نجد طنجيس».[13] أما “بومبونيوس ميلا” فقد كان استثنائيا في حديثه ومهَّد الطريق لبداية التحول والفصل بين جغرافية الموقع وأسطورة الأعمدة حين ذكر أن في المضيق «جبلا مرتفعا جدا وهو يقف مقابل الجبل الآخر الموجود في الضفة الإسبانية، الأول يسمى “أبيلا” والثاني يسمى “كالبي” Calpé، وهما معا يشكلان ما يسمى بأعمدة هرقل، وتذكر الأسطورة أن هذين الجبلين كانا ملتصقين ويشكلان معا جبلا واحدا، فقام هرقل بشقه، وهكذا ظهر المحيط الذي كان محصورا بهذا الحاجز، ووجد طريقه إلى المناطق التي يغمرها حاليا».[14]

وقد استمدت الأسطورة قوتها وحضورها القوي من التأثير الحضاري للإغريق في العالم القديم خلال المرحلة الهلنستية، هذا الانتشار الواسع للحضارة الإغريقية هو ما أنتج هذا الغنى والتشعب، وزاد من ذلك ارتباطها بهرقل، والذي تختزله شخصيته كل الأبعاد التي ذكرت، إذ كان عنصرا مركزيا في الميثولوجيا القديمة، ويعتقد “جون مولر” أن أسطورة هرقل هي من بين أكثر الأساطير التي أنتجها الإغريق تعقيدا، فقد أحصى فارون أربعة وأربعين هرقلا مختلفا، وأحصى “شيشرون” ستة، بينهم ثلاثة أجانب: هرقل الفينيقي أو “ميلقارت” Melkart، وهرقل المصري وهرقل الهندي المسمى “بيلوس” Bélos. [15] ثم إن ارتباط الأسطورة بموقع المضيق الاستراتيجي جغرافيا والحيوي ملاحيا في البحر المتوسط أسس أيضا لهذه الأهمية، فحسب “جون لوك” مثَّل موقع الأعمدة نقطة مرجعية للجغرافيا القديمة التي حاولت التعرف على العالم،[16] سيما وأن الأعمدة شكلت الحد الفاصل بين العالم المعروف والمجهول، فقد اعتقد الإغريق أن حدود العالم المتحضر شرقا هو جسر “أوكزان” pont Euxin حيث البحر الأسود حاليا، وغربا جرفا مضيق جبل طارق والتي كانت تسمى بحدود أطلس، بعدهما يبدأ غربا العالم المجهول، وشرقا يبدأ العالم المتوحش.[17]

الأعمدة خلال العصر الوسيط

استمر تأثير حضور أسطورة الأعمدة إلى ما بعد التاريخ القديم ونهاية العصر الوسيط، لأن حضورها كان وازنا فقد صعُب محو أثرها بسهولة كما تؤكد ذلك مختلف الشواهد. فقد رسم الفنان “هينريش ألدكروفر” (1502 – 1555)، لوحة شخَّص فيها هرقل وهو يحمل اللأعمدة على كتفيه.

C:\Users\zakaria\Desktop\البحث\colonnes d'Hercule.bmp

هرقل حاملا الأعمدة كما صوره “هينريش ألدكروفر” (1502- 1555)Heinrich Aldegrever

Scafi Alessandro, les colonnes d’Hercule dans la cartographie médiévale limites de la Méditerranée et portes du Paradis, in : Le rivage des mythes: une géocritique méditerranéenne, le lieu et son mythe, Volume 2 of Collection Espaces humains, Ed Bertrand Westphal, Predrag Matvejević 2001, p.343

كما نجد حضورها في الجغرافيا من خلال الرسم الخرائطي للعالم في كنيسة “هارفورد” في انجلترا والتي يعود زمن بنائها للقرن الثالث عشر.

C:\Users\zakaria\Desktop\البحث\Hercule 1.bmp

موقع أعمدة هرقل بحسب خريطة العالم الموجودة في كنيسة”هارفورد” Harford في إنجلترا والتي تعود للقرن 13

Scafi Alessandro, op. cit, p.354

الأعمدة في المصادر الإسلامية

في المصادر الإسلامية تختفي أسطورة هرقل وتظهر تسميات أخرى مختلفة للجبلين، فقد ذكر ابن حوقل خلال حديثه عن موقع بعض الأنهار أن هناك نهرا «محاذي لمرسى موسى من أرض طنجة »[18]، وسمي المرسى كذلك لقربه من جبل موسى كما سيأتي، وفي حديثه عن معدن المرجان ذكر أنه يُستخرج «بمدينة سبتة المحاذية من الأندلس لمدينة جبل طارق وهي المعروفة بالجزيرة الخضراء».[19] وذكر مؤلف مراكشي مجهول «أن على قرية بليونش المذكورة جبل عظيم فيه القردة عبر من تحته موسى بن نصير إلى ساحل طريفة فسمي به وهو الصحيح»،[20] وذكر صاحب السفارة التركية التمكروتي أن « جبل الفتح، وهو جبل طارق، وهو مملوك موسى بن نصير الذي بعثه من القيروان فقطع البحر إلى الأندلس ونزل في جبل متحصنا فيه حتى فتح الأندلس فتسمى به. والناس اليوم يرخمونه ولا يعرفون معناه. ثم قدم مولاه موسى بن نصير بعد فتح البلاد، فنزل هنلك بجبل مشرف على تطوان وعلى سبتة، فسمي إلى الآن جبل موسى».[21] جميع المصادر الإسلامية التي عرضت إذن تنحو نفس المنحى، فتسمي الجبل الجنوبي في مدينة سبتة بجبل موسى، وتسمي نظيره في الضفة المقابلة بجبل طارق، نسبة إلى القائدين العسكريين موسى بن نصير وطارق بن زياد.

إن حركة الكشوف الجغرافية خلال القرنين 15 و16، وتطور أساليب الملاحة وطرق رسم الخرائط، وإمكانية الإبحار عبر الأطلسي والوصول إلى قارات جديدة، ستمحو ما تبقى من أثر لأسطورة أعمدة هرقل وسيصبح المضيق ممرا بحريا كبقية المضائق في بحار العالم، وعلى جانبيه يقف جبلان شاهدان على قصة الانفصال بين الجغرافيا والأسطورة.

المصادر والمراجع

  1. Desautels Jacques, Dieux et mythes de la Grèce ancienne: la mythologie gréco-romaine, Presses Université Laval, Laval, 1988.
  2. Diodore de Sicile, IV, s XVIII,Traduit par Ferd. Hoefer, Librairie de L. Hachette et CIE, Paris, 1865.
  3. Hérodoute, I, II, IV, VIII.
  4. Hesiodos, LES PETITS POÈMES GRECS, par  M. ERNEST FALCONNET  SOCIÉTÉ DU PANTHÉON LITTÉRAIRE, PARIS, 1862.
  5. Jean Moeller, Traité des études historiques Tom 1, E. Thorin 1892.
  6. Jean-Luc Pierre, les colonnes d’Hercule : naissance d’une légeande, in : revue Zamane,Décembre 2012.
  7. peutinger, Konrad, Ravensburg 1888.
  8. Plinius, V.
  9. Pomponius Mela, I.
  10. Strabon, XVII.

ابن حوقل أبو القاسم، صورة الأرض، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت لبنان، 1992.

أوعشي مصطفى، أحاديث هيرودوت عن الليبيين، المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الرباط 2009، ص 29.

  1. التمكروتي علي بن محمد، النفحة المسكية في السفارة التركية، تحقيق عبد اللطيف الشاذلي، المطبعة الملكية، الرباط 2002.

سبويه عمرو بن عثمان، كتاب سبويه، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، ج II، مكتبة الخانجي بالقاهرة 1988.

  1. مجهول، دار النشر المغربية، الدار البيضاء 1985، كتاب الاستبصار في غرائب الأمصار.
  2. المهدي وليد، بغية السائل من أوابد المسائل، دار الراف، 2018.

  1. – Hesiodos, LES PETITS POÈMES GRECS, par  M. ERNEST FALCONNET  SOCIÉTÉ DU PANTHÉON LITTÉRAIRE, PARIS, 1862.
  2. – Plinius, V, 3.
  3. – Plinius, V, 7.
  4. – أوعشي مصطفى، أحاديث هيرودوت عن الليبيين، المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الرباط 2009، ص 29.
  5. – plinius, V, II.
  6. – سبويه عمرو بن عثمان، كتاب سبويه، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، ج II، مكتبة الخانجي بالقاهرة 1988، ص 48.
  7. – المهدي وليد، بغية السائل من أوابد المسائل، دار الراف، 2018، ص 1400.
  8. – Hérodoute, I, II, IV, VIII.
  9. – Hérodoute, I, CLII.
  10. – Diodore de Sicile, IV, s XVIII,Traduit par Ferd. Hoefer, Librairie de L. Hachette et CIE, Paris, 1865.
  11. – peutinger, Konrad, Ravensburg 1888.
  12. – Strabon, XVII, III.
  13. – Plinius, V, 2.
  14. – Pomponius Mela, I, V.
  15. – Jean Moeller, Traité des études historiques Tom 1, E. Thorin 1892, p 194.
  16. – Jean-Luc Pierre, les colonnes d’Hercule : naissance d’une légeande, in : revue Zamane,Décembre 2012, p.5.
  17. – Desautels Jacques, Dieux et mythes de la Grèce ancienne: la mythologie gréco-romaine, Presses Université Laval, Laval, 1988, p.254.
  18. – ابن حوقل أبو القاسم، صورة الأرض، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت لبنان، 1992، ص 68.
  19. – ابن حوقل، المصدر السابق، ص 76.
  20. – مجهول، دار النشر المغربية، الدار البيضاء 1985، كتاب الاستبصار في غرائب الأمصار، ص138
  21. – التمكروتي علي بن محمد، النفحة المسكية في السفارة التركية، تحقيق عبد اللطيف الشاذلي، المطبعة الملكية، الرباط 2002، ص 140- 141.