العقيدة القرآنية سماتها وآثارها على الفرد والمجتمع دراسة وصفية تحليلية

د. أحمد محمد عبد الله1

1 كلية التربية، جامعة كرميان، العراق.

بريد الكتروني: Ahmadabdulla440@gmail.com

HNSJ, 2023, 4(6); https://doi.org/10.53796/hnsj462

Download

تاريخ النشر: 01/06/2023م تاريخ القبول: 09/05/2023م

المستخلص

العقيدة ارتباط القلب بما أنطوى عليه ولزومه والتي تتصل بذهن الانسان وروحه وفكره ، لقد كان منهج القرآن في عرض العقيدة منهجا يختلف عن باقي الكتب السماوية ، فالقرآن الكريم بيّن العقائد وأقام عليها الأدلة والبراهين العقلية والوجدانية، لتترسخ في عقل المسلم وقلبه لتتحول الى سلوك وقيم تطبق على الواقع وتربط الانسان بخالقه سبحانه وتعالى في كل حركاته وسكناته، لقد كان المنهج القرآني منهجا واضحا سهلا تخاطب العقل والقلب والفطرة البشرية وتربطها بخالقها، منهجا يفهمه العام والخاص والمتعلم والأمي، فالمتأمل لمنهج القرآن، يجد منهاجاً واضحاً، للتفكير، ودعوة صادقة للتدبر والتأمل، وإعمال الجوارح من السمع والبصر والحواس، ليتعرف الإنسان على ربه، ثم يستقيم بعد ذلك على المنهج الإلهي، إنها دعوة للكينونة البشرية بكل جوانبها، دعوة للعقل أن يفكر ويتأمل ويتدبر، ودعوة للحواس أن تعمل، وللقلب أن يخشـــع ، ليصل الانسان في النهاية الى مرضاة الله ويتبوأ المكانة التي أرادها الله له كخليفة لله في الأرض لنشر الفضائل الخلقية والاعمار المادي والحضاري، ولقد كان من آثار هذا المنهج الإلهي القويم أن اخرج الناس من ظلمات العقائد والأخلاق الفاسدة والرذائل الى نور التوحيد والفضائل والقيم السامية والتضحية والمكارم فحولت أمة أمية من رعاة الإبل الى قوم قادوا البشرية نحو أفاق السمو والفضائل وأنشات أمة استحقت بعقيدتها وأخلاقها وقيمها الفاضلة استحقت أن تقود البشرية لأكثر من خمسة قرون وحضارة روحية سامية مازالت البشرية تنهل من معينها الثر المتدفق.

الكلمات المفتاحية: العقيدة، العقيدة القرآنية، المنهج.

Research title

The Qur’anic Faith: Its Features and Effects on the Individual and Society
An analytical descriptive study

Dr. Ahmed Mohammed Abdulla

1 College of education, Garmian university, Iraq.

Ahmadabdulla440@gmail.com

HNSJ, 2023, 4(6); https://doi.org/10.53796/hnsj462

Published at 01/06/2023 Accepted at 09/05/2023

Abstract

Doctrine is the connection of the heart with what it contains and its necessity, which is related to the human mind, spirit and thought. The approach of the Qur’an in presenting the belief was a method that differs from the rest of the heavenly books. Reality and connects man with his Creator, Glory be to Him, in all his movements and dwellings. The Qur’anic approach was a clear and easy approach that addresses the mind, heart, and human instinct and connects it to its creator. It is a method that is understood by the public, the private, the educated, and the illiterate. The one who meditates on the Qur’anic approach finds a clear approach to thinking, and a sincere invitation to contemplation, meditation, and the actions of the limbs. From hearing, sight and senses, so that man may know his Lord, and then straighten up after that on the divine approach. It is a call to human being in all its aspects, a call to the mind to think, meditate and contemplate, and a call to the senses to work, and for the heart to be humble, so that man will eventually reach God’s pleasure and assume status Which God wanted for him as a successor to God on earth to spread moral virtues and material and civilized reconstruction, and it was one of the effects of this correct divine approach that brought people out of the darkness of beliefs, corrupt morals, and vices to the light of monotheism, virtues, sublime values, sacrifice, and honors, so an illiterate nation of camel herders turned into a people who led humanity Towards the horizons of transcendence and virtues, and created a nation worthy of its faith, morals and virtuous values that deserved to lead humanity for more than five centuries and a sublime spiritual civilization from which humanity still draws abundant wealth.

المقدمة:

إن العقيدة تحتل مكانة عظيمة في حياة الإنسان فهي المحور الذي يدور حوله كل النشاطات البشرية وما السلوك البشري فردا وجماعات إلا تجسيدا للعقائد التي تحملها وتؤمن بها، وكل الأديان والشرائع وضعت العقيدة في أسمى مكانة واعطتها اشد الاهتمام فالإنسان ليس حيوانا ناطقا كما يقول ارسطو بل هو كائن متدين يحقق انسانيته بمقدار تدينه وارتباطه بخالق الأرض والسماوات ، والعقيدة تقوم بهذا الدور الخطير في تحويل الانسان وكافة نشاطاته نحو هدف واحد وهو ربط الانسان بخالقه عندئذ تستقيم سلوكه وتصرفاته فيكون ذلك الانسان الذي كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، ولقد كان للقرآن منهجا فريدا في عرض العقيدة لتترسخ في قلوب المؤمنين ، وبيان هذا المنهج ذو أهمية بالغة خصوصا في هذا العصر الذي تتسم بصراع العقائد تارة ، وبغموض هذا المنهج لدى الكثير من الدعاة الذين ضيقوا على الناس وفقدوا الرؤية القرآنية السهلة التي جاءت لتخاطب البشرية بكل الوانها، فاقتضى البحث أن اقسمه الى مقدمة ومبحثين ، المبحث الأول لتعريف العقيدة وسمات المنهج القرآني، والمبحث الثاني لآثار هذا المنهج على الفرد والمجتمع، وختمت البحث بخاتمة لأهم النتائج التي توصلت إليهاوأسال الله تعالى ان أكون قد وفقت لبيان جزء من هذا الجانب ففيه الخير كله والرحمة كلها والقرآن هو حبل الله والعروة الوثقى لهداية البشرية وانقاذها من التيه والضياع، انه سميع مجيب

المبحث الأول: تعريف العقيدة

العقيدة لغة:

قال الخليل:(عقدت الحبل عقداً ونحوه فانعقد ،واعتقدت مالاً: أي جمعته، وعقد قلبه على شيءٍ: لم ينزع عنه، واعتقد الشيء صلب، واعتقد الإخاء والمودة بينهما: أي ثبت ،والعقد مثل العهد، عاقدته عقداً مثل عاهدته عهداً، وما عقد عليه القلب أنك فاعله أو من أمر تيقنته: فهو العزم). ([1]) وقال صاحب (جمهرة اللغة): (وكل عقد عقدته فقد جلزته، والجلز: العقد المشدود، عقد العقد: الرمل المتعقد بعضه في بعض) ([2]). وجاء في تهذيب اللغة : (العقود: العهود، ويقال عقدت الحبل فهو معقود، وكذلك العهد ، ويقال: عقد فلان اليمين: إذا وكدها. وأعقدت العمل ونحوه فهو مُعقدٌ وعقيد، وانعقد النكاح بين الزوجين، والبيع بين البيّعين، وانعقد عقد الحبل إنعاقداً، وموضع العقد من الحبل معقد وجمعه معاقد). ([3]) وقال الجوهري في الصحاح : (عقدت الحبل والبيع والعهد فانعقد ، واعتقد الشيء: أي أشتد وصلب ،واعتقد كذا بقلبه وليس له معقود: أي عقد رأيٍ ، واعتقد ضيعة ومالاً :اقتناها، وتعاقدوا: تعاهدوا)([4]) وجاء في معجم مقايس اللغة ([5]): وعاقدته مثل عاهدته، والعقد عقد اليمين ومنه قوله تعالى: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ([6])، واعتقد الشيء: اقتناه، وعقد قلبه على كذا: فلا ينزع عنه، واعتقد الشيءُ: صَلُبت، واعتقد الأخاء ثبت، وبهذا فإن من معاني “عقد ” الثبات على الشيء وعدم النزوع عنه. وقال صاحب تاج العروس: ([7]) والذي صرح به أئمة الإشتقاق: أن أصل العقد نقيض الحل ثم استعمل في أنواع البيوعات والعقود ثم في التصميم والإعتقاد الجازم

وفي لسان العرب:

(العقد نقيض الحل عقده يعقده عقداً وتعقاداً ويقال عقدت الحبل فهو معقود وكذلك العهد ومنه عقده النكاح والمعاقدة المعاهدة والميثاق وعقدت الحبل والبيع فانعقد والعقد العهد والجمع عقود. وتعاقد القوم تعاهدوا)([8]) .

العقيدة اصطلاحاً:

العقيدة والاعتقاد ارتباط القلب بما أنطوى عليه ولزمه. وهو التصديق مطلقاً سواءً أكان جازماً أو غير جازم، مطابقاً أو غير مطابق، ثابتاً أو غير ثابت.

(والإعتقاد كالإفتخار له معنيان: أحدهما المشهور: وهو حكم ذهني جازم يقبل التشكيك، والثاني غير المشهور: وهو حكم ذهني جازم أو راجح، فيعم العلم وهو حكم جازم لا يقبل التشكيك، والاعتقاد المشهور والظن وهو الحكم بالطرف الراجح، والاعتقاد بالمعنى المشهور يقابل العلم وبالمعنى غير المشهور يشتمل العلم والظن.

والإعتقاد ([9]) يطلق على التصديق مطلقاً أعم من أن يكون جازماً أو غير جازم مطابقاً أو غير مطابق ثابتاً أو غير ثابت). ([10])

والمراد بالإعتقاد الحكم الذهني الجازم أو الراجح وهو حكم جازم لا يقبل التشكيك.

والاعتقاد المشهور وهو حكم جازم يقبله، والظن وهو الحكم بالطرف الراجح، فالخبر المعلوم، والمعتقد، والمضنون صادق، والموهوم كاذب، لأنه الحكم بخلاف الطرف الراجح.

(أما المشكوك فلا يستحق فيه الاعتقاد، لأن الشك عبارة عن تساوي الطرفين والتردد فيهما جميعاً من غير ترجيح، فلا يكون صادقاً ولا كاذباً وتثبت الواسطة).([11])

وقد ساوى صاحب “التعريفات” بين العلم والاعتقاد الجازم فقال:

العلم: هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، وقال الحكماء هو حصول صورة الشيء في العقل.

وقال في تعريف الاعتقاد: (هو ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل). ([12])

وجاء في (موسوعة العقائد الإسلامية):

(العقيدة إذاً عبارة عن ذلك الشيء الذي يتصل بالذهن وروحه وفكره، يعني شد تلك النظرية وربطها وإحكام صلتها. فحينما ينجذب الرأي إلى الذهن ويرتبط به يسمى عقيدة، ولا فرق بين الرأي الباطل والرأي الصائب) ([13]).

وعليه فإن العقيدة تطلق على كل ما يؤمن به الإنسان سواءً أكان حقاً أو باطلاً، صحيحاً أو خطئاً، مطابقاً للواقع أم غير مطابق، مفيداً له ولمجتمعه أو غير مفيد.

المطلب الثاني

سمات عامة لمنهج القرآن في عرض العقيدة

إذا تأملنا في منهج القرآن في عرض العقيدة، نراه قد نهج نهجاً جديداً يختلف عن الكتب السماوية التي سبقته، فالقرآن الكريم لم يقتصر على ذكر العقائد وطلب التسليم بها دون إقامة الأدلة والبراهين عليها، بل جاء بالعقائد وأقام الأدلة والبراهين عليها لإثباتها في عقول وقلوب المسلمين، وتعرض لعقائد المخالفين وأقام الحجة على زيفها وبطلانها. ([14])

فالمتأمل لمنهج القرآن، يجد منهاجاً واضحاً، للتفكير، ودعوة صادقة للتدبر والتأمل، وإعمال الجوارح من السمع والبصر والحواس، ليتعرف الإنسان على ربه، ثم يستقيم بعد ذلك على المنهج الإلهي، إنها دعوة للكينونة البشرية بكل جوانبها، دعوة للعقل أن يفكر ويتأمل ويتدبر، ودعوة للحواس أن تعمل، وللقلب أن يخشـــع ﭽ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﭼ ([15]) ، لقد تحدث القرآن عن الإلوهية والربوبية وصفاتها باعتبارها الحقيقة الكبرى والأساسية والتي من أجلها كانت بعثة الرسل وفي سبيلها أحمرت صفحات التاريخ البشري بأنهار من الدماء الزكية لقافلة شهداء العقيدة من الأنبياء والربانيين والدعاة والعلماء في كل عصر ومكان، وتحدث عن العبودية في نطاق الكون والإنسان والحياة وربط كل هذه الحقائق في تصور يسير وسهل لتوجيه الإنسان في النتيجة إلى الغاية التي من أجلها خلق الإنسان ألا وهي العبودية بشقيها تزكية النفس وعمارة الأرض. ([16])

لقد ربط الإسلام بين العقيدة وقضية وجود الإنسان ومصيره ونشاطاته ربطاً وثيقاً بحيث أن نشاطات الإنسان كافة تنطلق من مبادئ عقدية وتربط الإنسان بالخالق لتحقيق رسالة العبودية في الأرض.

إن جمال العقيدة الإسلامية وكمالها وتناسقها، وبساطة الحقيقة التي جاء بها وتمثلها كانت قاعدة متينة جاءت ليزيح عن الضمير الإنساني ذلك الركام الثقيل من العقائد الفاسدة والتصورات والأساطير التي أثقلت كاهل الإنسان ومنعته من الوصول إلى الحقائق الكبرى المتعلقة بالحياة والكون والوجود.

وإذا ما قارنا العقيدة الإسلامية بغيرها من العقائد الفاسدة، تبدو لنا العقيدة الإسلامية رحمة بما فيها من سهولة ويسر وجمال وبساطة وتناسق وقرب وأنس وتجاوب عميق مباشر مع الفطرة البشرية، ولخطورة أمر العقيدة وأهميتها، (ظل القرآن الكريم في مكة ينزل ثلاثة عشر عاماً يتحدث عن قضية واحدة لا تتغير وهي قضية العقيدة والتوحيد لله تعالى والعبودية له، ومن أجل ذلك كانت الدعوة الأولى قاصرة على حقيقة التوحيد، لأن التوحيد عقيدة للضمير، وتفسير للوجود، فمنهج للحياة وتفسير للوجود، وليست كلمة تقال بالألسن، أو صورة في الضمير، إنما هو الأمر كله والدين كله وما بعده من تفصيلات وتفريعات لا يعدو أن يكون الثمرة الطبيعية لاستقرار هذه الحقيقة في القلوب). ([17])

ومن هذه السمات:

أولاً: إنها عقيدة عملية واقعية سهلة تناسب الإنسان وواقعة وقدراته العقلية والروحية والنفسية، فليست فوق إدراك وفهم الإنسان من الناحية العقيلة، وليست طيراناً في سماوات الروح بعيداً عن الحياة المادية، ولا طيراناً في آفاق الخيال بعيداً عن الواقعية ومتطلباتها، ومن الناحية النفسية فإنها تتعامل تعاملاً حكيماً مع النفس الإنسانية، وتقدر عوامل الضعف والقوة التي تعتري هذه النفس، فتوضّف كل هذه الطاقات و القدرات العقلية والروحية والجسمية داخل الإنسان وتوجهها نحو الغاية التي من أجلها خلق الإنسان وذلك لتحقيق العبودية لله بشقيها – تزكية النفس وعمارة الأرض، والقرآن يختزل في كل ما يأتي به من أجل تهيئة الإنسان للأداء الأكمل لرسالته في الحياة، ففي عرضه لمسألة الأسماء والصفات يوضح مدى تجليات هذه الأسماء وعلاقته بالإنسان، فكل الأسماء والصفات الإلهية لها تأثير في سلوك الإنسان، فالإنســـــان عندما يقرأ قولـــه تعالى: ﭽ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﭼ ([18]) ، تطمئن نفسه، ويترسخ إيمانه، ويزول هلعه وخوفه من مصدر رزقه، لأنه تيقن أن الله هو الرزاق، وأن رزقه في السماء ولن يصل إليه يد أحد ليمنعها عنه، ([19]) وفي عرضه لقصص الانبياء والنبوات، يذكر تأييد الله لهم بالمعجزات الباهرات التي تدل على صدقهم وصفاتهم الرفيعة التي تجعلهم نماذج يقتدى بهم وبهداهم ففي مجال المعجزات يوضح كيف دافع الله عنهم0

وعند عرضه لقصص الأنبياء وجهادهم ضد الطواغيت يبين ويؤكد أن من واجب الأمة إتباع الرسول، فاتباع الرسول وإطاعته طاعــــة لله تعـــالى، ﭽ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﭼ ([20])،

، وفي عرضه للغيبيات كاليوم الآخر والملائكة، فانه يعرضه بما هو متعلق بالإنسان وبالقدر الذي له علاقة بالإنسان ووظيفته كخليفة لله في الأرض، فيتحدث عن الملائكة بما يقوي ويرسخ إيمان الإنسان المؤمن، فيوضح مهامهم، وأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأن منهم من يراقبون الناس، ومنهم من يحصون ويكتبون عمل الإنسان، ومنهم من يتعقبون مجالس الذكر ويحفون أهل هذه المجالس.

وفي معرض حديثه عن الجن يؤكد أن فيهم الصالح وفيهم دون ذلك، وأنهم مكلفون مثل البشر بالتكاليف الإلهية، وأنهم مأمورون بالعبودية لله، وبالتالي فإن ذكر العوالم الغيبية في القرآن لم تأت للترف الفكري وزيادة المعلومات، أو لدفع الإنسان نحو التشويق لمحاولة معرفة هذا العالم وكشف كنهه، بل نرى العكس تماماً، فان الخالق لم يكشف ولم يذكر من هذه العوالم إلا بالمقدار الذي له علاقة بوظيفة الإنسان وتقوية إيمانه وأداء رسالته في الحياة، رسالة العبودية لله تعالى. ([21])

ثانياً: عقيدة الفطرة:

وما أجمل قول القائل: (عبارة القرآن هي إياها تجتذب راعي الإبل ومرتاد الكواكب وأي إنسان عاقل ما دام متدبراً… أليس هذا قمة الإعجاز.)([22])

فالعقيدة الإسلامية تخاطب الإنسان، أميراً كان أو عالماً أو حكيماً أو قائداً، رجلاً أو امرأة، تخاطب عقولهم وقلوبهم ووجدانهم، وتنفذ إلى الأغوار العميقة لهذا الكائن البشري، فتعمل فيها وتوقضها وتفجر فيها الطاقات الخلاقة للخير والفضيلة والبناء.

فعقيدة التوحيد التي جاء بها القرآن واضحة لا غموض فيها، سهل في عرضها، بسيط في شرحها، يسير فهمها على كل إنسان مهما كان مستواه وفهمه، فالعقيدة في القرآن صيغت بأسلوب ميسر، ومنهاج مفسر، وذات أثر عميق على الإنسان. ([23]) فالعقيدة الإسلامية ليست غامضة ولا عسيرة كالعقائد الأخرى التي تستعصي على الإنسان فهمها وإدراكها، بل هي عقيدة سهلة يسيرة تخاطب هذا الإنسان بكافة مستوياته، لا فرق بين أمي وعالم وحكيم وقائد، وهذه هي معجزة الإسلام التي انتشر نوره في مشارق الأرض ومغاربها، ودخل فيه الناس أفواجاً ليخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

ثالثاً: عقيدة ومنهج للحياة:

فهي وحدة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، فالنظم الإسلامية تتجمع وتتآلف فيما بينها لينتج من هذا التوحد المنهج الإسلامي الكامل للحياة البشرية، ولا يمكن أن نتصور أن النظام الأخلاقي في الإسلام يؤتي ثماره ما لم يترسخ النظام العبادي، والعبادات لا يمكن أن تظهر آثارها ما لم تكن هناك تطبيق للنظام الاقتصادي، ولا يكون للاقتصاد وجود دون تحقيق الحدود والضوابط، والحدود والأحكام لن تطبق ما لم يكن هناك نظام وكيان عادل وظيفتها وكما قال العلماء سياسة الدنيا وحماية الدين.

فالإسلام منهج شامل متكامل لا يمكن فصلها بعضها عن بعض، فمثل الإسلام كمثل الجسم الكامل كل عضو يؤدي وظيفته ضمن هذا الإطار، وإذا عزلنا جزءاً من هذا الجسم، ومهما كان مهماً وحيوياً فإن هذا الجزء ليس سوى قطعة ميتة دون فائدة، مثلا: لو فصلنا العين عن الجسم ماذا يحصل؟ ان العين نفسها تصبح مجرد قطعة لحم لا قيمة لها، وبنفس الوقت فان الجسم يعجز عن أداء وظيفته بالشكل المطلوب.

إن الذين يدعون إلى فصل المنظومة الإسلامية عن بعضها البعض يقعون في خطأ كبير بل وخطير، لأن فصل المنظومة الإسلامية الكاملة والشاملة بعضها عن بعض والإيمان ببعضها دون بعض خطر عقيدي ومخالفة للمنهج الرباني يترتب عليها وعيد شديد في الدنيا والآخرة ﭽ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ﭼ ([24]).

وهذا الترابط والارتباط الوثيق المحكم بين جميع تفاصيل هذا الدين يؤدي إلى غاية واحدة وهدف واحد، وهو سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وتحقيق الغاية التي من أجلها خلق الإنسان ألا وهي العبودية لله تعالى، فكل جانب من الجوانب التكليفية والتعبدية، وجميع نشاطات الإنسان صفت وربطت بالعقيدة، لكي يهيء الإنسان لأداء رسالته في الحياة، ويستشعر وجود الله وعظمته وتجلياته في كل عمل وحركة وخلجة من خلجات نفسه، فيكون إنساناً ربانياً تشع منه أنوار الهداية والصلاح فيصلح نفسه ويصلح غيره، صالحاً في نفسه مصلحاً لمجتمعه، فيكون ذلك الإنسان الفاضل الذي ينشر الخير والفضيلة.

رابعاً: وضوح الهدف:

إن عبادة الله بالمفهوم الشامل، هي الهدف الذي يتوجب على الإنسان فرداً وجماعة أن يصعد إليه أوجه نشاطه كافة، وبينما ترسم المذاهب الوضعية أهدافاً للحركة الحضارية، تتميز بالغموض والمثالية كما هو الحال عند هيغل، وتتميز حيناً آخر بالتحديدات الصارمة والمادية كما هو الحال عند “كارل ماركس” و “فردريك أنكلز” ، وتتميز حيناً ثالثاً بصبغة مسيحية باهتة غير مبررة عقلياً كما هو الحال عند “توينبي”، الأمر الذي قاد الأول – وهو يتحدث عن تجلي المتوحد من خلال الدولة إلى أن يعطيها كافة المبررات الفلسفية لممارسة سياستها العدوانية التي تقود ولا ريب إلى الدمار الحضاري والظلم البشري، وقاد الثاني إلى إعلان ديكتاتورية الطبقة العاملة كهدف للحركة التأريخية، وتبرير أي أسلوب تعتمده لتحقيق هدفها ما دامت لا تعدو أن تكون منفذة أمينة لمنطق التبدل في وسائل الإنتاج، الأمر الذي قادها – ويقودها – إلى تنفيذ المجازر الجماعية تجاه كافة القوى المعارضة.

وقاد الثالث وهو بصدد حقن الحضارة الغربية المعاصرة بالأمل، إلى ترقيعات غير منطقية بين القيم الروحية المسيحية وبين بعض معطيات الديانات العالمية كالإسلام واليهودية والبوذية فيما سماه “الديانة الرباعية الجامعة”([25])، الأمر الذي يتناقض أساساً مع طبيعة التجربة الدينية القائمة على التلقي عن المصدر الواحد، فبينما ترسم المذاهب الوضعية أهدافاً كهذه تتميز بالغموض أو الطغيان أو التناقض أو الانغلاق، نجد العقيدة الإسلامية يعلن هدفه الواضح: عبادة الله والتوجه إليه والتلقي عنه، ويطلب من القوى المؤمنة أن تتحرك وفق كل الأساليب الشريفة لتجميع البشرية حول هذا الهدف ([26]) ، ﭽ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِﭼ ([27]) .

خامساً: أسلوب مخاطبة الفطرة:

إن الإيمان بوجود الله شعور فطري ينبع من النفس البشرية، وإن الإحساس الفطري شعور أصيل في النفس الإنسانية، يستوي فيه العالم والجاهل والبدوي والحضري والرجال والنساء، وهو دليل من واقع الإنسان وتجاربه، فكم من إنسان دعا ربه فأجابه، وكم من سائل سأل ربه فأعطاه، إن من الحقائق المسلم بها أن ما من نفس إلا وتلجـــأ إلى الله ساعة الخطر والشـــدة ﭽ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﭼ ([28]) .

ويقول تعالى أيضاً: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ ﭼ ([29]) .

فالإيمان بوجود الله تعالى بديهية لا يجحدها إلا من أنكر عقله فلا ينطق بها لسانه، وان استقر بها وجدانه، لأنه لا يمكن لأي إنسان مهما كان أن يعيش ويموت دون أن يفكر في إله وخالق لهذا الكون، لكن ربما لم يساعده بيئته الاجتماعية على ذلك، أو ربما قصر عقله فلم يهتد إلى الحق، ولكن إذا جد الجد وأحس بالخطر ويئس من قوى الأرض، لجأ إلى القوي العزيز([30]): ﭽ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﭼ ([31]).

سادساً: الدعوة إلى التفكر والتأمل والنظر:

إن القرآن الكريم لا يقف عند مرحلة تأكيد العلاقة الفوقية للإنسان على الطبيعة، وإنما يدعوه أن يتحرك لاعتماد هذه العلاقة في تنفيذ متطلبات استخلافه العمراني والحضاري في الأرض، وهذا لن يأتي إلا بالنظر العميق في ملكوت السماوات والأرض ، والدراسة المتأنية والعميقة لنواميسه وقوانينه وأسراره، والسعي الدائم وفق الأساليب العلمية التجريبية للكشف عن هذه النواميس والقوانين والأسرار من أجل فهم أكثر لقدرات الله الخلاقة، وإيمان أعمق به ، ومن أجل استخدام هذه النواميس لتطوير الحياة على الأرض ومواصلة العمران وتحقيق مفهوم الاستخلاف على كل المستويات، لقد دعا القرآن الإنسان أن يفكر ويتأمل وينظر إلى ما حوله، إلى طعامه، ﭽ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاﭼ ([32]) ، وإلى خلقه: ﭽ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﭼ ([33]) ، إلى الملكوت: ﭽ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﭼ ([34]) ، إلى التاريخ وحركة الإنسان في الأرض: ﭽ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﭼ ([35]) ، إلى خلائق الله: ﭽ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﭼ ([36]) ، إلى آيات الله المنبثة في كل مكان: ﭽ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﭼ ([37]) ، إلى النواميس الاجتماعية: ﭽ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﭼ ([38]) ، إلى الحياة كيف بدأت، وكيف نمت وارتقت : ﭽ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﭼ ([39]) .

ان العقل والحواس جميعاً مسؤولة في تحمل تبعة البحث والتمحيص والاختيار، والإنسان مبتلى بهذه المسؤولية لأنه من طينة أخرى غير طينة الأنعام ﭽ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﭼ ([40]) .

(ويؤكد القرآن الكريم في حشد من آياته أن السمع والبصر والفؤاد جيمعاً هي التي تعطي للحياة الإنسانية قيمتها وتفردها، وأن الإنسان بتحريكه هذه القوى والطاقات، وبفتحه هذه النوافذ على مصراعيها، وباستغلال قدراته الفذة العجيبة، سيصل قمة انتصاره العلمي والديني على السواء، لأن هذه الانتصارات تبؤه مركزه المسؤول كسيد على العالمين وخليفة لله في الأرض، وبتجميد هذه الطاقات، وقفل نوافذها وسحب الستار والأغشية عليها، يكون قد اختار بنفسه المنزلة الدنيا التي ما أرادها الله له يوم منحه نعمة السمع والبصر والفؤاد)([41])ﭽ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ﭼ ([42]) .

سابعاً: ارتباط العقيدة بغيرها من تفاصيل الدين:

وضحنا سابقاً أن العقيدة القرآنية عقيدة هادفة، أي أنها تهدف إلى تحقيق السعادة للإنسان في الدنيا والآخرة، وتحقيق الخلافة في الأرض من خلال أداء رسالة العبودية لله ، لذلك لم يخل جانب من جوانب الأحكام التكليفية من الارتباط بالعقيدة لتوجيه ودفع الإنسان لأداء رسالته في الحياة بالشكل الأكمل، ففي مجال العبادة ونقصد بها العبادات البحتة كالصلاة وغيرها جاءت مقترنة ومرتبطة بجوانب العقيدة.

ﭽ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﭼ ([43]) .وفي مجال الجهاد: يؤكد أن الجهاد في سبيل الله والتضحية بالنفس في سبيله هي تجارة توصل بالنتيجة إلى النجاة من النار والفوز بالجنة ورضوان الله، وأن الإيمان بالله ورسوله تسبق هذه الخطوة، فالجهاد والتضحية في سبيل الله هي ثمرة الإيمان القوي الراسخ وبدون هذا الإيمان القوي تصبح عملية بلا أساس ثابت ولا توصل صاحبه إلى تلك الدرجة السامية المشرفة قال تعالى: ﭽ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﭼ ([44]) .

وفي مجال الأخلاق قال تعالى: ﭽ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﭼ ([45]) وفي مجال الاقتصاد: ﭽ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَﭼ ([46]) .

في مجال الحكم ﭽ يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّﭼ ([47]) . ﭽ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَﭼ ([48]) .

وفي مجال العلاقة الزوجية: ﭽ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﭼ ([49]) . وفي مجال الحدود والعقوبات: ﭽ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﭼ ([50]) .

فهذه الجوانب كلها وغيرها وكما نرى بوضوح ربطت ربطاً وثيقاً بالعقيدة واقترنت بأصول الدين، وهذا يؤكد أن العقيدة القرآنية ليست عقيدة نظرية مجردة بعيدة عن الواقع العملي للإنسان، بل إنها عقيدة عملية تدخل في كافة تفاصيل النشاطات البشرية، وكل ما يقوم به في شؤونه كلها من محراب الروح والمناجات إلى كرسي السلطة ففي كل ذلك مربوط بالله ويحقق هدف وجوده ألا وهو رسالة العبودية لله ([51]) .

المبحث الثاني

آثار المنهج القرآني على الفرد والمجتمع

إن الإنسان بانتمائه إلى هذا الدين يضع نفسه وقدراته كافة في سياق واحد وتوجه واحد وهدف واحد ومجرى واحد مع خلائق الله، والسنن الكامنة في قلب الطبيعة، انه يتحول من موقع الارتطام والاصطدام مع الكون ونواميس الكون، إلى الانسجام والتناغم والتوافق مع السنن والنواميس الكونية، يأخذ منها ويعطيها، ومن هذا التقابل والتناغم والأخذ والعطاء على الدرب الواحد، بالقانون الواحد وصوب الهدف والغاية الواحدة، يجد الإنسان نفسه قد تحول إلى طاقة في ميدان الفعل والإبداع.

إن الوفاق والتناغم بين الإنسان ونواميس الكون هو مفتاح يجعل الإنسان يصعد لا إلى القمر بل إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى الآفاق السرمدية التي جاء هذا الدين ليقود الإنسان اليها، وكلما أبدع الإنسان وسخر قوانين الطبيعة الكامنة فيها كلما ازداد ارتفاعاً وعلواً وقرباً من خالق الكون ونواميس الكون، وكلما ازداد قرباً، إزداد كماله الإنساني، وأصبح جديراً أكثر بلقب خليفة الله في الأرض، والقرآن الكريم يحدثنا في اثنتين من آياته عن السبب في صد الكثيرين عن دعوة هذا الدين وكيف أن الصيرورة الزمنية، بما يتحقق من تراكم في الخبرة، ومزيد تألق في العقل، كفيلة بالإعانة على تجاوز تلك العقبات والاقتراب أكثر من الهدف الأسمى وهو الوصول إلى الحق وتحقيق الغاية وتقريب البشرية إلى الله، بل يعطينا البشرى والتفاؤل بأن الوقت في صالح هذا الدين مهما تبجحت البشرية وانتفخت واغترت بالمكتسبات المادية. ([52]) يقول تعالى: ﭽ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَﭼ ([53])ﭽسَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّﭼ ([54]) .

ومن آثار المنهج القرآني على الإنسان وكما يأتي:

أولاً: تنمية الشعور الاجتماعي:

لقد كان إنسان ما قبل الإسلام يتحرك في سلوكه حول ذاته وأهوائه ومصالحه، وينطلق في تعامله مع الآخرين وفق هذا المنطلق، لكنه وبفضل العقيدة الجديدة أصبح إنساناً مضحياً يضحي بالغالي والنفيس وبكل ما يملك في سبيل عقيدته ومبادئه، وأصبح يشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه
المجتمع والآخرين، وأن هذه المسؤولية جزء من عقيدته ودينه وهو يقرأ قوله تعالى: ﭽ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﭼ ([55]) ، ويسمع قوله تعالى: ﭽ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﭼ [56]) .

وتتفتح آفاق نفسه للبذل والتضحية والإيثار وهو يتلقى التوجــيه الرباني ﭽ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﭼ ([57])، وقوله تعالى: ﭽ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﭼ ([58]).

وهذه التربية وهذا المنهج جعلت المرأة عندما أُخبرت باستشهاد زوجها وأخيها وأبيها تقول:

ماذا صنع رسول الله؟ فقالوا هو بخير، فقالت: (كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل، أي هينة). ([59])

ثانياً: حماية وصون الفرد من الإنهيار والسقوط:

إن نظرة الإنسان إلى الحياة والكون ومفاهيمه في مجالات الحياة كافة، بل وحتى عواطف الإنسان وأحاسيسه كلها تدور حول محور العقيدة التي يؤمن بها، والتي تسهم في بنائه الفكري والأخلاقي والإجتماعي ، وتوجه طاقاته نحو البناء والتعمير المادي والمعنوي، وإذا كانت المدارس الوضعية المصطنعة قد حققت بعض النجاح في الميادين المادية، إلا أنها قد فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق حياة حرة كريمة سعيدة للإنسان بعيدة عن التفسخ والانحلال الأخلاقي، عامرة بالقيم والمثل والأخلاق السامية. ([60]) فكانت نتيجة هذه المدارس والأفكار، وهذه الحضارة المادية المزيد من السقوط الأخلاقي، والمزيد من الشقاء للبشرية فرداً وجماعة، فأصبح الإنهيار الأخلاقي وغياب القيم العليا في الحياة، وسحق الكرامة الإنسانية وإذلالها أمام سطوة المادة والقيم المادية، والأمراض النفسية والإنتحار والحروب والكوارث البشرية نتيجة إنعدام القيم وسوء تقسيم ثروات الأرض، كل هذه كانت من نتائج الابتعاد عن الله ومنهج الله المتمثل بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة، ﭽ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﭼ ([61]).

إن العقيدة الإسلامية حصن منيع يحفظ الإنسان من السقوط والاستسلام، فالحياة مليئة بالتعب والوصب، والإنسان يعتريه السراء والضراء، يفقد الأعزة، ويواجه البلايا والنوازل، فتأتي العقيدة لتجعل من الإنسان جبلاً راسخاً لا يتزعزع في البلايا ولا يتزلزل في الكوارث، لأنه يعتقد أن ما يجري في الكون من خير وشر فهو من مظاهر مشيئة الله الحكيم الذي لا يصدر منه شيء إلا عن حكمة ولا يفعل إلا عن مصلحة، فالكوارث والمصائب مرة ظاهرها، حلوة باطنها، وإذا ما صبر الإنسان على هذه المصائب يكون مأجوراً مثاباً عند الله ﭽوَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون ﭼ ([62])

ثالثاً: النقلة التصورية الإعتقادية:

ما من منهج في تأريخ البشرية حرر العقل وكرمه ووضعه في موقعه الصحيح كما فعل الإسلام، لقد حول المنهج الإسلامي الإعتقادي التوجه الإنساني من التعدد إلى الوحدة، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن عشق الحجارة والأصنام والتماثيل إلى محبة الحق الذي لا تلمسه الأيدي ولا تراه العيون، كسراً للحاجز المادي، وتمكينا للعقل من التحقق بقناعات تعلوا على معطيات الحس القريب.

إنه وحسب المصطلح القرآني خروج بالناس من الظلمات إلى النور
ﭽ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﭼ ([63]) ، وتحول كامل من الأسود إلى الأبيض ومن النقيض إلى النقيض، وجاء لكي يحرر بني آدم: ﭽ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﭼ ([64]).

وأكد في أكثر من مناسبة بأن الدين الجديد والعقيدة الجديدة هو ( الصراط المستقيم ، وما سواه ليس سوى التيه والاعوجاج والضياع والهوى والضلال، وأن العقل مهما أوتي من قدرة وفطنة وقابلية فلن يقدر على أن يعمل ويعطي ويبدع وهو يتخبط في التيه ويكبل بالأغلال). ([65])

إن العقيدة الجديدة جاءت لكي تنقل الإنسان إلى السعة والتوحيد والعدل، هناك حيث يجد الإنسان وعقل الإنسان نفسه، وقد أعيد تشكيله بهذه القيم، قادراً على الحركة والفعل، غير محكوم عليه بظلم من سلطة فكرية قاهرة، ترغمه على قبول مالا يمكن قبوله باسم الدين، متحققاً بالتقابل الباهر بين الله والإنسان، حيث يملك وحده حق التوجه والعبادة والمصير، ومن هذا المستنقع الآسن، ومن هذه النقرة الضيقة التي يختنق فيها العقل والروح والوجدان، ومن هذه الخرائب المهجورة التي يعشش فهيا التخلف والسخف والسذاجة، مجتمع الوثنية وعبادة الأصنام، جاء الإسلام ليخرج الناس إلى آفاق التوحيد ونضج التصور ونقاء الاعتقاد، منحه الأرضية، وأعطاه الإشارة لكي ينطلق ويصنع الأعاجيب ([66]).

رابعاً: تفجير الطاقات الخيرة داخل الإنسان:

ان العقيدة المبنية على الإيمان بالله واليوم الآخر هو منبع الحياة الروحية، ومصدر السعادة والطمأنينة للإنسان، وهذا الإيمان من الإعتقاد بأن هناك إلهاً يسيطر على هذا العالم، ومعرفته حق المعرفة، يؤدي إلى ظهور آثار هذا الإيمان في أعمال وسلوك الإنسان.

فالعقيدة الراسخة والإيمان بالله يطلق ويحرر النفس من قيودها المادية، فتتعالى على الشهوات، ولا تبالي بالمنافع والمضار الخاصة، فيسعى الإنسان لنفسه ولأمته وللناس جميعاً، ويسخر قدراته وطاقته في نشر الخير والفضيلة والبناء، فكل ما في الإنسان من خير ونبل وتضحية وإيثار وإنكار للذات، مستمد من عقيدته الراسخة وإيمانه بالله تعالى، وفي أي عصر ومكان، وعندما تتفاعل هذه العقيدة مع النفس البشرية، تفجر فيها المشاعر النبيلة والطاقات الخيرة للبذل والعطاء دون انتظار أجر أو شكر من الناس: ﭽ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﭼ([67]) ، فأوقف هذه النفوس الخيرة المعطاءة حياتهم لصالح الإنسانية وخدمة البشرية، فلا نرى في القرآن آية ذكر فيها “الذين آمنوا” إلا وذكر معها وأضيف إليها “وعملوا الصالحات” إشارة منه أن الإيمان يجب أن يكون مقروناً بالعمل الصالح، والإيمان بالله والعمل الصالح يترتب عليهما مرضاة الله والفوز بالجنة يوم القيامة.([68])

ﭽ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﭼ ([69]).

ﭽ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﭼ ([70]).

وفي ظل هذه المعطيات العقائدية وهذه المسارعة والمسابقة للخير والفضيلة والعلم تفجرت حضارة روحية جمعت بين الأرض والسماء بين المادة والروح بين عالم الغيب والشهادة بين الاعمار الأرضي والعروج الروحي بين المثالية والواقع فقدمت للبشرية قيما ومكتسبات ستظل خالدة تنهل منها البشرية ومن معينها الثر لانها استقت من الوحي الإلهي وتفاعلت مع العقل والروح فكانت هذه النتاجات في شتى صنوف العلوم والمعارف والتي كانت الأرضية الخصبة لانطلاق الحضارة الغربية وبث الروح فيها لتصل الى ما وصلت اليها الآن من تفوق وتقدم مادي.

النتائج

وبعد هذه الرحلة في رحاب القرآن ورياحينه وعبق أنواره اقدم أهم النتائج التي توصلت إليها:

1ـــــ العقيدة إعتقاد جازم يستقر في القلب والذهن وتتحول الى قوة راسخة تشد روح الانسان وفكره لتدخل في كل نشاطات الانسان وتعطيعا المعنى الايماني الراسخ.

2 ـــــ القرآن الكريم وفي عرضه للعقائد قدّم منهجا قائما على الاستدلال المنطقي والبراهين العقلية ممزوجة بالمشاعر الوجدانية لتثبت العقيدة في عقل المؤمن وروحه وأعماق كينوته وتختلط بوجوده الكلي.

3 ـــــ العقيدة الإسلامية بكمالها وتناسقها، وبساطة الحقيقة التي جاءت بها في سهولة ويسر وجمال وبساطة وتناسق وقرب وأنس وتجاوب عميق مباشر مع الفطرة البشرية؛ جاءت لتزيح عن الضمير الإنساني ذلك الركام الثقيل من العقائد الفاسدة والتصورات والأساطير التي أثقلت كاهل الإنسان ومنعته من الوصول إلى الحقائق الكبرى المتعلقة بالحياة والكون والوجود.

4 ـــــ هذه العقيدة القرآنية عقيدة سهلة واضحة تناسب الانسان وقدراته وطاقاته العقلية والروحية وبعيدة كل البعد عن التعقيد والغموض كحال العقائد والنحل الأخرى لانها جاءت لتخاطب الانسانية بجميع مستوياتها العقلية من عالم الفلك والذرة الى الراعي البسيط لتدعو الجميع الى مائدة النور والهداية الإلهية.

5 ــــــ هذه العقيدة ربطت وبأسلوب سهل ومعجز كل النشاطات البشرية من محراب العبادة الى ميادين الحياة، ربطتها بالايمان بالله لتكون حياة الانسان وحركاته وسكناته ونشاطاته مربوطا بالله سبحانه وتعالى.

6 ــــــ لقد كان من آثار هذا المنهج أن أنشأ مجتمعا متماسكا قويا قادرا على مجابهة التحديات.

7 ــــــ هذا المنهج كرّم الانسان وضعه في موقعه الصحيح وحول التوجه الإنساني من التعدد إلى الوحدة، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن عشق الحجارة والأصنام والتماثيل إلى محبة الحق الذي لا تلمسه الأيدي ولا تراه العيون.

8 ـــــ وكان من آثار هذا المنهج القرآني أن نمّى في الإنسان الشعور الاجتماعي وغرس فيه روح البذل والتضحية والفداء في سبيل الدين وقيمه ومعطياته فقدم المجتمع نماذج من التضحية والايثار لولا ان سجلها التاريخ لكنا نحسبها من عالم المثل و الخيال ولكنها تحققت بفضل الايمان والعقيدة التي غرسها القرآن في قلوب المسلمين فكانوا نماذج إنسانية خالدة في السلوك والأخلاق والرحمة والشفقة والتكافل والتعايش

المصادر والمراجع

  1. () كتاب العين، لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، الطبعة الثانية، 1426هـ-2005م: 661-662.
  2. () جمهرة اللغة أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت 321هـ)، علق عليه ووضع حواشيه وفهارسه: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1426هـ-2005م: 1/ 785.
  3. () تهذيب اللغة أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت 370هـ)، حققه وقدم له: عبد السلام محمد هارون، راجعه: محمد علي النجار، دار الصادق ، لطباعة والنشر، ب ت: 1/196.
  4. () الصحاح في اللغة، الإمام إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393هـ)، اعتنى به: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة ، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 1426هـ-12005م: 724.
  5. () معجم مقايس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395هـ)، اعتنى به: محمد عوض مرعب، فاطمة محمد أصلان، دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 1422هـ-2001م: 654.
  6. () سورة المائدة: 89.
  7. () تاج العروس من جواهر القاموس، محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني الملقب بمرتضى الزبيدي (ت: 1250هـ)، تحقيق: د. عبد العزيز مطر، مطبعة حكومة الكويت، الطبعة الثانية، 141هـ-1994م: 8/ 401.
  8. () لسان العرب ، جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الأفريقي المصري، (ت711هـ) الناشر: أدب الحوزة – طهران، الطبعة الأولى، 1405هــــ-1984م : 1/ 117.
  9. () كشاف اصطلاحات العلوم والفنون محمد أعلى بن علي التهانوي، دار صادر – بيروت/ لبنان: 2/ 954،
  10. () شرح المقاصد، مسعود بن عمر بن عبد الله المشهور سعد الدين التفتازاني (ت 792هـ) ، قدم ووضع حواشيه: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 1422هـ- 2001م: 1/ 51-70.
  11. () المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم، لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (ت792هـ)، تحقيق: الدكتور عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية – بيروت/ لبنان، الطبعة الثانية، 1428هـ-2007م: 173.
  12. () كتاب التعريفات، لعلي بن محمد بن علي الحسيني الجرجاني (ت 816هـ)، حققه وعلق عليه: نصر الدين تونسي، شركة القدس التجارية- القاهرة، الطبعة الأولى، 1428هـ-2007م: 248-251.
  13. () موسوعة العقائد الإسلامية في الكتاب والسنة، محمد ري شهري وآخرون، تحقيق: مركز بحوث دار الحديث، تعريب: صلاح الصاوي، خليل العصامي، نشر : دار الحديث العلمية ، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 1425هـ-2004م: 116.
  14. () ينظر: أصول الدين الإسلامي ، د. رشدي عليان، د. قحطان الدوري، جامعة بغداد، الطبعة الرابعة، 1411هـ-1990م: 1/ 30.
  15. () سورة محمد: 24.
  16. () ينظر: منهج القرآن في عرض عقيدة الإسلام: جمعة أمين عبد العزيز، راجعه وقدم له : محمد نجيب المطعني، دار الدعوة للنشر والتوزيع –الاسكندرية، الطبعة الثالثة، 1414هـ-1993م: 49.
  17. () في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة-مصر: الطبعة الشرعية الرابعة والعشرون، 2004م: 1/5.
  18. () سورة الذاريات: 58.
  19. () ينظر: العقيدة الإسلامية في القرآن الكريم ومناهج المتكلمين، د. محمد عياش الكبيسي، مطبعة الحسام- بغداد، الطبعة الأولى، 1416هـ-1995م: 29، ومنهج القرآن في عرض عقيدة الإسلام: 291-293.
  20. () سورة النساء: 80.
  21. () ينظر: العقيدة الإسلامية في القرآن الكريم: 31-32.
  22. () الله يخاطب العقول شاكر عبد الجبار ، مطبعة الحوادث – بغداد، الطبعة الثالثة، 1987م: 3.
  23. () ينظر: منهج القرآن في عرض عقيدة الإسلام: 35.
  24. () سورة البقرة: 85.
  25. ( ) أي تأليف ديانة جديدة وذلك من خلال جمع نصوص محددة من الأديان الأربعة: الإسلام واليهودية والمسيحية والبوذية حسب الرؤية التي يريدونها هم.
  26. () ينظر: أصول تشكيل العقل المسلم، للدكتور عماد الدين خليل ، دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق- بيروت، الطبعة الأولى ، 1426هـ-2005م: 82.
  27. () سورة البقرة: 193.
  28. () سورة الأنعام: 40-41.
  29. () سورة يونس: 12.
  30. ) ) ينظر: منهج القرآن في عقيدة الإسلام: 55-61.
  31. () سورة يونس: 22-23.
  32. () سورة عبس: 24-31.
  33. () سورة الطارق: 5.
  34. () سورة الأعراف: 185.
  35. () سورة غافر: 82.
  36. () سورة الغاشية: 17.
  37. () سورة المائدة: 75.
  38. () سورة الإسراء: 21.
  39. () سورة العنكبوت: 20.
  40. () سورة الإنسان: 2.
  41. (42) التفسير الإسلامي للتاريخ، الدكتور عماد الدين خليل ، دار الكتاب الإسلامي- طهران، الطبعة الأولى، 1988: 209-211، ينظر: منهج القرآن في عرض عقيدة الإسلام: 79-80.
  42. (43 سورة الإسراء: 36.
  43. () سورة آل عمران: 193-194.
  44. () سورة الصف: 10-12.
  45. () سورة الفرقان: 63-76.
  46. () سورة المطففين: 1-6.
  47. () سورة ص: 26.
  48. () سورة المائدة: 44.
  49. () سورة المجادلة: 1.
  50. () سورة النور: 2.
  51. () ينظر: العقيدة الإسلامية: 35-37.
  52. () ينظر: أصول تشكيل العقل المسلم: 16.
  53. () سورة يونس: 39.
  54. () سورة فصلت: 53.
  55. () سورة الصافات: 24.
  56. () سورة التحريم : 6.
  57. () سورة الحشر: 9.
  58. () سورة البقرة: 207.
  59. () السيرة النبوية، لأبن هشام بن أيوب الحميري أبي محمد (ت 212هـ)، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل- بيروت، 1411هـ : 4/5.
  60. () دور العقيدة في بناء الإنسان: 7-11.
  61. () سورة طه: 124.
  62. () سورة البقرة: 155-157.
  63. () سورة إبراهيم: 1.
  64. () سورة الأعراف: 157.
  65. () أصول تشكيل العقل المسلم: 20-22.
  66. ( 2) ينظر: المصدر نفسه: 23.
  67. () سورة الإنسان: 9.
  68. () ينظر: روح الدين الإسلامي، عفيف عبد الفتاح طبارة، دار العلم للملايين، بيروت- لبنان، الطبعة السابعة والعشرون، 1988: 175-176.
  69. () سورة البينة: 7.
  70. () سورة البقرة: 25.