ظاهرة الفقر في مغرب القرنين 18 و19م، وجهود السلاطين والصلحاء في مكافحتها والحد من انتشارها

عبد الرحيم الربيعي1

1 جامعة محمد الخامس-الرباط- المغرب

بريد الكتروني: rbiiabderrahim@gmail.com

HNSJ, 2023, 4(7); https://doi.org/10.53796/hnsj4718

Download

تاريخ النشر: 01/07/2023م تاريخ القبول: 17/06/2023م

المستخلص

يتناول هذا المقال المتواضع ظاهرة اجتماعية مهمشة في المصادر والمراجع التاريخية على السواء، وهي ظاهرة الفقر في مغرب القرنين 18 و19م، فالمؤرخون لم ينصفوها خلال هاته الفترة مقارنة بالقرنين 16 و17م، بل أسدلوا عليها في كتاباتهم ستارا من الصمت والتهميش باستثناء بعض المؤرخين الذين خصوا ظاهرة الفقر عموما بالتفاتة مهمة رغم قصرها، لذا سنحاول من خلال هذا المقال نفض الغبار عن أسبابها والعوامل التي ساهمت في ظهورها واستفحالها، مع تسليط الضوء على جهود السلاطين والصلحاء في مكافحتها والحد من انتشارها، في وقت وقف ضحاياها موقف العاجز عن استيعابها والتصدي لها.

فما هو واقع ظاهرة الفقر في المجتمع المغربي خلال القرنين 18 و19م؟ وما الأسباب والعوامل التي ساهمت في انتشارها؟ وما التدابير والإجراءات التي اتخذها السلاطين والصلحاء لمواجهة ظاهرة الفقر والحد منها؟

الكلمات المفتاحية: الفقر، الأزمات الاقتصادية، القرنين 18 و19م، ظاهرة اجتماعية.

Research title

The phenomenon of poverty in Morocco in the 18th and 19th centuries AD and the efforts of the sultans and the righteous to limit its spread

HNSJ, 2023, 4(7); https://doi.org/10.53796/hnsj4718

Published at 01/07/2023 Accepted at 17/06/2023

Abstract

This humble article deals with a marginalized social phenomenon in both historical sources and references which is the phenomenon of poverty in Morocco in the 18th and 19th centuries AD.The historians did not do justice to it during this period compared to the 16th and 17th centuries AD but rather they shed a curtain of silence and marginalization in their writingswith a few exceptions of some historians who singled out the phenomenon of poverty in general with an important gesture despite its shortness. So, we will try through this article to raise dust about its causes and the factors that contributed to its emergence and exacerbation adding to highlighting the efforts of the sultans and the righteous to limit its spread in Morocco in the eighteenth and nineteenth centuries AD at a time when its victims stood unable to absorb and confront it.

What is the reality of poverty in Moroccan society during the 18th and 19th centuries? What are the causes and factors that contributed to its spread? What measures and actions have the sultans and righteous taken to confront and reduce the phenomenon of poverty?

Key Words: poverty, economic crises, the 18th and 19th centuries, a social phenomenon.

مقدمة:

تعد ظاهرة الفقر من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية التي عانت منها مجتمعات العالم منذ القدم و وصولا إلى وقتنا الراهن، وهي تحديات عرفتها المجتمعات المتقدمة والنامية على حد سواء، إلا أن معدلاتها ترتفع في الدول النامية وذلك نتيجة الأزمات الاقتصادية والمجاعات والكوارث الطبيعية المتكررة في غياب حلول وإجراءات معقلنة.

وفي هذا الإطار يعتبر مغرب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، إحدى البلدان التي عانت من هذه الآفة السوسيو اقتصادية التي كانت تشتد خطورتها تبعا للاضطرابات السياسية والمشاكل الاقتصادية والمجاعات والأوبئة[1]، والتي كانت لها انعكاسات على المستوى المعيشي لأفراد مجتمعه، وتفشي الفقر بين مكوناته، والذي كانت تتدنى مؤشراته في فترات الرخاء الاقتصادي وترتفع في أوقات الأزمات.

كلها عوامل كانت تنتج أسرا مشردة وأيتاما وأرامل كثرا، دفعت بالسلاطين وأعيان وصلحاء المجتمع المغربي خلال القرنين 18 و19م؛ إلى اتخاذ عدة إجراءات وبرامج لمحاربة هذه الظاهرة الفقر، التي شكلت إحدى التحديات الأساسية للرفع من المستوى المعيشي لهذه الفئة في غياب معيل لها أو نتيجة إعاقة حلت بأحد أفرادها.

مشكلة الدراسة:

جاء هذا البحث للتقصي عن ظاهرة الفقر في مغرب القرنين 18 و19م، وأسبابها وصورها، وأشكالها، وضحاياها ومجهودات السلاطين والصلحاء من أجل الحد منها في مغرب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، من خلال الإجابة عن التساؤلات الفرعية التالية:

  • ما هي الأسباب التي كانت وراء انتشار ظاهرة الفقر في مغرب القرنين 18 و19م؟
  • ما هي مظاهر الفقر في مغرب القرنين 18 و19م؟
  • ما الطرق والآليات والأساليب التي كان يتبعها السلاطين والصلحاء للحد منها ؟

منهج الدراسة:

لمعالجة تلك المشكلات أو الصعوبات اعتمدنا على المنهج التاريخي الذي ينصب على وصف الوقائع والأحداث التاريخية كما هي قائمة، مع تحليل الظواهر والأحداث المختلفة، من أجل الوصول إلى أحكام معللة ومنطقية، كما اعتمدنا في كتابة هذا الموضوع على مجموعة من المصادر، توزعت بين الوثائق ، وكتب التاريخ، وغيرها.

أهداف الدراسة:

  • تهدف هذه الدراسة إلى معالجة إشكالية “ ظاهرة الفقر في مغرب القرنين 18 و19م، وجهود السلاطين والصلحاء في مكافحتها والحد من انتشارها“، ومعرفة أشكالها وصورها مع الكشف عن الأسباب التي كان لها دور في انتشارها.
  • ومن أهداف هذه الدراسة أيضا نفض الغبار عن ظاهرة اجتماعية مهمشة، في المصادر التاريخية الحديثة والمعاصرة، وإلقاء الضوء على أبعادها النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وانعكاساتها على الحياة العامة للمجتمع المغربي خلال القرنين 18 و19م.

أهمية الدراسة:

تكمن أهمية هذه الدراسة في الكشف عن خبايا وأسرار ظاهرة الفقر في مغرب القرنين 18 و19م، باعتبارها ظاهرة خطيرة على أفراد المجتمعات العالمية والمجتمع المغربي بشكل خاص خلال القرنين 18 و19م، والبحث في هذا الموضوع الذي يلفه الكثير من الغموض والصعوبات، أوجب علينا التقصي عن عوامل انتشارها وصورها، وارتباطها الوثيق بالتحولات السياسية والاقتصادية وكذا الطبيعية من مجاعات وأوبئة حدثت في مجتمعنا المغربي. من أجل هذا وغيره تقدمنا بهذا البحث وأسميناه “ ظاهرة الفقر في مغرب القرنين 18 و19م، وجهود السلاطين والصلحاء في مكافحتها والحد من انتشارها “.

خطة البحث:

من أجل إعطاء صورة واضحة المعالم عن ظاهرة الفقر في مغرب القرنين 18 و19م، وانطلاقا مما وفرته لنا المظان المعتمدة من معلومات قسمنا البحث إلى مقدمة وثلاث مباحث وخاتمة.

المبحث الأول: مظاهر الفقر وأسباب انتشاره في مغرب القرنين 18 و19م:

أدت الأزمات الاقتصادية إلى زيادة عدد فقراء مغرب القرنين 18 و19م، وتفاقم سوء أحوالهم، وأدت بالكثير منهم إلى مستنقع البؤس والضياع والجوع، وتزداد الأوضاع قتامة في أوقات القحط والجفاف التي كانت تضرب المغرب بشكل دوري، لكن يبقى التساؤل المطروح: هل كانت حالة الفقر دائمة أم مؤقتة؟ وما هي الفئة التي كانت أكثر عرضة للفقر والضياع؟

نرى إذن انطلاقا من مجموعة من الرسائل والوثائق المخزنية وكذا الأجنبية، أن أسباب الفقر عديدة ومتنوعة منها ما هو مرتبط بالأزمات الاقتصادية، ومنها ما له علاقة بالمجاعات والأوبئة والكوارث الطبيعية التي كانت تضرب المغرب بين الفينة والأخرى، وما كانت تؤدي إليه من أزمات إنسانية ساعدت في انخفاض مداخيل المخزن المركزي الذي ابتكر “أساليب لسد عجزه وتعويض نقص مداخليه”[2] المالية، وذلك عبر فرض ضرائب مفرطة وإتاوات تحت ذريعة جمع الأموال من أجل الجهاد لتحرير الثغور المغربية المحتلة، والتي أدت إلى إفقار العديد من الرعايا المغاربة. كما لجأت الدولة إلى فرض دعائر على الرعايا لسداد نفقة الجند، إذا ما خلت بيوت المال وأغلقت كل السبل أمام الجيش، فإنه غالبا ما كان يلجأ إلى شن عمليات النهب والسلب على أملاك الناس مما أدى إلى إفقارهم في المدن والأرياف على حد سواء. فبالنسبة للحواضر نسوق ما حدث في مدينة فاس عام1736 م “التي تعرضت أسواقها إلى عمليات نهب واسعة من طرف الودايا[3] على كل الأغنام والدواب التي وجدوها بسوق الخميس”[4]، وباقي الأسواق والطرقات، وهو ما أثر سلبا على الأوضاع المادية للسكان، دفعت بالعديد منهم إلى الاستدانة أو الاقتراض أو الرهن، وكذلك الحال في العالم القروي وخاصة الفلاحين.

وجسد لنا ماثيوس (Matheus) هذا الواقع المؤلم منذ 1879م، حيث كتب يقول: “لقد نزل الخراب بعدد كبير من الفلاحين الذين اضطروا خلال المجاعة إلى طلب القروض بفوائد عالية لشراء الدقيق، وإن الكثيرين منهم يوجدون رهن الاعتقال، ويموتون جوعا، بينما تعرض أفراد أسرهم للتشرد وأصبحوا من المتسولين”[5].

وعموما، كانت لهذه الأسباب وغيرها آثار كبيرة من الناحية الاجتماعية، أدت بشرائح من أفراد المجتمع إلى دخول عالم الفقر والتشرد وإلى تذوق مرارته عبر سلسلة من المعاناة، دفعت بالكثير منهم إلى التسول وطلب المساعدة والعون من أغنياء القرى والحواضر، ومن أبرز الأمثلة على ذلك رسالة استعطاف إلى أحد الأغنياء تعود إلى 17 ذي الحجة 1227ه/ 22 دجنبر 1812م وجهها المدعو محمد الشياظمي، بائع الخبز بسوق الغرسة الكبيرة بتطوان، إلى التاجر محمد بن عمر بجه، جاء فيها: “فإني طالب منك أن تغيثني إغاثة ملهوف بما أطلق الله يديك لتغيثني لله، وابتغاء مرضاة(كذا) الله، لأني مسكين وذو عيال وغريب في البلاد، وركبني الدين، وبقيت متحيرا لا ندري ما نفعل، ولم تكن لي سيدي صنعة سوى أني أبيع الخبز للناس في السوق بالأجرة وتلك الأجرة لا تكفيني لشيء ثم إني سيدي رفعت أمري إلى الله ثم إليك لتنظر حالي وتشفق من ضعفي. واعلم سيدي بأني صعب علي الحال من أجل حيائي(كذا) ومروءتي وضعف بدني وكبر سني، وإنك إن فعلت معنا ما نطلبه منك كأنه عتقت رقبة في سبيل الله”[6].

فمن خلال هذه الرسالة، يمكن القول إن الأزمات التي كان يمر منها المغرب قد أزاحت الستار عن خلل المنظومة العامة للسلطة الحاكمة آنداك بعجزها عن تفادي تأثيرها على الرعية، وخاصة خلال فترات المجاعات والكوارث الطبيعية، والتي أدخلت بالكثير منهم إلى جبة الفقر بعد فقدان الركيزة الأساسية للحياة ألا وهي الأمن والاستقرار، ليظل الفقر والجوع ملازما لهم، ودفع بالعديد منهم إلى أكل بعض الحيوانات الأليفة كالكلاب والقطط. وفي هذا الإطار تحدث ابن سودة، من جهته، عن ضحايا الجوع بفاس وغيرها من الأقاليم المغربية ومنها قبائل الريف، حيث يقول “وفنت أقوام بالجوع والعياذ بالله خصوصا الفقراء، لا سيما أهل الريف […] حتى كان يخرج من الفقراء كل يوم نحو الأربعين ميتا من الغرباء”[7].

وعلاوة على ذلك فإنه إذا ما “نجم القحط عن غزو الجراد، كان الفقراء يجدون فيه غذاء شهيا، فيستهلكونه مسلوقا بعد أن يذر عليه الملح والفلفل والخل”[8]. ويخبرنا السفير البريطاني جون درومند-هاي “بأن سكان الصحراء كانوا يبتهجون عند قدومه ويسمونه (الخير)، إذ لا يلحقهم ضرر منه، في حين يقدم لهم وجبة لذيذة، كما يتيح لهم فرصة الهجرة إلى الأراضي الشمالية التي اجتاحها وهجرها سكانها”[9]، بعدما بدأت رائحة الموت تفوح منها، أما في المدن الساحلية فقد كانوا يأكلون السمك بدون طبخ، وهذا جاء في إحدى رسائل محمد بركاش بقوله: “إن الضعفاء يتخاطفون الحوت بشدة وازدحام ويأكلونه أخضر”[10] خوفا من الموت جوعا، والذي مات بسببه العديد من المغاربة وخصوصا من لا يقدر على السؤال والمتكفف واليتامى.

وهذا ما جاء في رسالة عامل الرباط، عبدالسلام السوسي إلى سيدي محمد، والمؤرخة بتاريخ 8 ذو القعدة 1284ه/ 2 مارس 1868م: “إن الناس يموتون جوعا في دورهم خصوصا من لا يقدر على السؤال والمتكفف من الأرامل والأيتام والزمنى. ومن قدر على التكفف لا يجد من يحاسنه من قلة اليد وكذلك الضعفاء والأفاقيون يوجدون موتى في بعض السكك ولازال الأمر يشتد”[11]، وتجدر الإشارة هنا أنه من البديهي أن يكون لهذه الأوضاع دور في ارتفاع أعداد الهجرات إلى مناطق أكثر أمانا، وبعيدا عن عدوى الفقر وطلبا للرزق، وقد خلفت هذه الهجرة نتائج سلبية على المدن الساحلية التي تتوفر على مراسي تستقبل السفن الأوربية المحملة بالحبوب، والتي تزايد نشاطها التجاري والاقتصادي بعدما قرر مولاي عبدالرحمن فتحها في وجه التجارة الخارجية مع أوروبا بداية سنة 1825م، كمدينة الدار البيضاء التي “اكتظت خلال ستة أشهر بالفقراء القادمين من شتى الآفاق. ومن بين الحشود من هؤلاء الأشقياء الذين يطحنهم الجوع، يوجد عمال وأفراد يأبون مد أيديهم لطلب الصدقة، ولا يقتاتون إلا بالجذور. وكانت الخبازة، التي تنمو بكثرة في بعض جهات المدينة، القوت الوحيد بالنسبة لكثير من العائلات”[12].

ولم يقتصر هذا التسرب البشري على مدينة الدار البيضاء بل امتد لمدن عدة، كالرباط وسلا التي كان يتواجد بهما منذ مارس 1868م مابين 4 و5 آلاف من الفقراء من سكان المدينتين ومن الآفاقيين الذين لا يملكون ما يسدون به رمقهم[13]. مع تزايد أعداد اللاجئين الذي انعكس سلبا على الوضع المعيشي للمدينتين، مما زاد من انخفاض الأجور وانتشار البطالة وارتفاع الأسعار، مع تفشي الفقر وتزايد أعداد المتشردين؛ وبذلك أصبح شبح الفقر المقرون بالجوع قوة اجتماعية بوسعها أن تسلك بالجماعات البشرية مسالك غريبة، تؤدي بهم نحو الضياع والبؤس.

وجاء على لسان القنصل العام للولايات المتحدة بطنجة، ماثيوس (Matheus)، “إن السفارات الأجنبية محاصرة ليل نهار بالجائعين ولا يسمع المرء طيلة الأربع والعشرين ساعة سوى نداء واحد: الخبز”[14]. وتقول رواية أخرى من طنجة كذلك: “وترى أفواج الجائعين الذين غادروا دواويرهم، يهيمون في اتجاه المدن بحثا عن الشغل أو استجداء للقمة عيش، وترى النساء التعسات لا تغطيهن سوى بعض الأسمال ينتقلن من باب لأخرى طلبا للصدقة، وكثير منهن يحملن على سواعدهن طفلا صغيرا يبحث عبثا في ثدي أمه المتغضن عن الغذاء الضروري للعيش”[15].

المبحث الثاني: مجهودات الزوايا والصلحاء من أجل مواجهة الفقر والحد من انتشاره:

في ظل واقع انتشار الفقر وتردي أوضاع الفقراء، برز العديد من الصلحاء من أغنياء المدن سواء كانوا يهودا أو مسلمين، والذين عملوا على التخفيف من تداعيات الفقر عبر تقديم صدقات ومساعدات للفقراء، ابتغاء ثواب الله، ورفعا للشدة عن الناس، ولنا عن ذلك أمثلة متعددة، نذكر هذا المثال الذي قدمه محمد حجي في ترجمته للفقيه محمد الصنهاجي والمتوفى عام 1154ه، أنه “كان يواسي في زمان الشدة فاتخذه المساكين الحائرون عدة، أقام أياما يطعم الطعام حين المسغبة العظيمة وضيق العيش للخاص والعام”[16].

وكان الصلحاء عبر تاريخ المغرب يشاركون ما يملكونه مع الفقراء والمساكين، ولا يحتفظون بأي فضل، إلا إذا لم يوجد محتاج[17]، ومثال ذلك الشيخ محمد أبو الراوين كان “يصبح غنيا، ويمسي فقيرا، لا يلوي على شيء، يدفع كل موجود له للضعفاء والمساكين”[18]، ونفس المسار سلكه الشيخ عبد الله بن عجال الغزواني، فكل “ما يأتيه من أسباب الدنيا يدفع لذوي الحاجات”[19]، وخاصة في حالات الضيق الاقتصادي والأزمات الغذائية، فقد ذكر التجكاني محمد الحبيب، في كتابه الإحسان الإلزامي في الإسلام، أن أحد الصلحاء بسوس كان “يرد عليه الفقراء، والمساكين، والضعفاء، فيقيمون ويأكلون كلهم، ويشربون في هناء، مع كون البلد ضيقا، وربما توالت عليه القحوط”[20].

ومن الجدير الذكر أيضا أن بعض صلحاء المدن في المغرب كان لهم دور كبير في الحد من الفقر، فهذا الشيخ محمد بن ويسعدن السكتاني، أحد مشايخ سوس الكبار، كان “يرد عليه الفقراء، والمساكين، والضعفاء، فيقيمون ويأكلون كلهم، ويشربون في هناء، مع كون البلد ضيقا، وربما توالت عليه القحوط”[21].

لم يكن هذا التكافل الاجتماعي بقاصر على سكان الحواضر، فقد غرس جذوره العميقة أيضا بين سكان البوادي من خلال عادات وتقاليد ما تزال متداولة بين الساكنة إلى يومنا هذا؛ كأن يتجمع فقراء القبيلة عند الحقل وقت الحصاد أو عصر الزيتون أو قطف الثمور وغيرها، للحصول على حوالي العشر من الغلال، كما كان يجري توزيع الخبز و”الكرموس” عليهم عند دفن الموتى بالقبور وفي مناسبات الأعياد الدينية. ويظهر هذا التكافل الاجتماعي في أعلى مظاهره في تسليف الكبار الزرع للصغار في السنوات العجاف. وقد وقف أحمد التوفيق في كناش الجيلالي الدمناتي على تقاييد تنص على سلفات الشعير والقمح، جاء في واحد منها: “الحمد لله وحده، تقييد زرعنا قمحا وشعيرا الذي أسلفناه للإيالة رجاء من الله أن يقبل منا ثوابه”[22].

وفي هذا السياق لا ينبغي حجب الدور التقليدي الذي كانت تلعبه الزوايا، ونحن نعرف أن إيواء الغرباء وعابري السبيل وإطعامهم، كانت من بين الوظائف الاجتماعية التي اضطلعت بها إلى درجة أن كل زاوية لم تكن تخلو من قاعة مخصصة لهذا الغرض. وكان إطعام الناس وإيواؤهم يسدى في بعض الزوايا لسائر البشر، حتى من المخالفين للعقيدة الإسلامية.

أصبح هذا الدور الاجتماعي للزوايا من أولوياتها في أوقات المجاعات، سيما وأن إغاثة المنكوبين كانت تخلق أمامها فرصة مد نفوذها الروحي؛ ففي هذه الأوقات العصيبة، كان يشتهر أمرها، وينتشر بين الناس ذكرها، ويفزع إليها المنكوبون من كل حدب وصوب. وهناك زوايا كانت تقوم بهذا الدور بتنسيق مع المخزن؛ فالزاوية الفاسية “كانت تتحول في أوقات القحوط إلى مركز لتوزيع حبوب المخزن على الجائعين”[23]، وتبرز أهمية هذا النشاط الاجتماعي عندما يحل بالناس وباء أو مجاعة وقحط، إذ تتحدث المصادر عن مساعدات الزاوية الشرقاوية لجموع الجائعين، وتجندها للتخفيف من وطأة ذلك، إذ أقام الشيخ المعطي بن الصالح “فرانا للخبز في السوق للمساكين والجائعين … وكان عاملا قدورا في السوق يطبخون فيها الحريرة ويطعمونها لعباد الله … وتتواتر عند الناس إلى اليوم، أخبار موائد الطعام التي اشتهر بها الشيخ العربي بسبب القرب الزمني، دون أن ينسوا تعيين بعض الأماكن التي كانت تلجأ الزاوية إلى الإطعام فيها عندما تضيق رحابها بالوافدين، وهو فعلا ما تؤكده المصادر[24].

المبحث الثالث: اهتمام سلاطين مغرب القرنين 18 و19م، بالفقراء وتحسين أوضاعهم:

اهتم سلاطين مغرب القرنين 18 و19م، بالفقراء من خلال العمل على تحسين أوضاعهم، وبذلوا جهدا من أجل ذلك، خاصة أثناء الأزمات الاقتصادية؛ والكوارث الطبيعية التي كان لها الأثر الكبير على الحياة الاقتصادية لأفراد المجتمع، مما دفع بالسلاطين إلى تقديم الدعم والسند للضعفاء وفقراء المغرب، وفي هذا الإطار يذكر ابن الحاج أنه “في سنة (1133ه/ 1721م) أو التي قبلها على اختلاف الروايات، فتح السلطان مولاي إسماعيل مخازن القمح وفرقه على الضعفاء وذوي العاهات […] وأتته قبائل البربر والأعراب وأنزلهم ببلاد الغرب فعاشوا وواساهم بقمح ومال وثياب”[25]. ولا يخفى على من نظر بعين الإنصاف، وتحلى بقول الحق الذي هو أحمد الأوصاف، أن المغرب في عهد مولاي إسماعيل ظهر فيها من الخيرات مالا يحصى، ورأى الناس من الأمن والرخاء والهناء ما لم يخطر لأحد ببال. وكل ذلك مما شاع وذاع وامتلأت من الأسماع[26].

وهناك وثائق تعكس صورا للتضامن بين السلاطين وأفراد المجتمع؛ والممثلة في إصدار السلاطين إلى السلطات المحلية أوامر بتقديم الغوث للجائعين، لاسيما أيام حدوث المجاعات وانتشار الأمراض والأوبئة؛ ونسوق من الأمثلة ما حصل في مجاعة 1190ه/ 1776م ، و مجاعة 1196ه/ 1782م، حينما أوقف السلطان سيدي محمد بن عبد الله دورا لاستعمال الطعام للأرامل، والأيتام، والمساكين، ولم يزل كذلك حتى صرف الله تلك الأزمة عن المسلمين[27]، ونفس الشيء قام به مولاي الحسن الأول حينما أصدر أوامره السامية لأمناء الصويرة خلال مجاعة سنتي 1878م و 1883م، بتوزيع خمسين مثقالا في اليوم على مساكين المدينة، و”بلغ ما وزع عليهم من يونيو 1882م إلى ماي 1883م ، 16.860 مثقالا”[28]. وفي فاس “اتجهت العناية إلى تأمين غذاء المساكين بدار المارستان”[29].

كما أن مولاي الحسن أولى اهتماما خاصا بخبز الصدقة، كما تعكس ذلك رسائله المتعددة والمطولة إلى محتسب فاس، والتي “بوسع المرء أن يملأ بها مجلدا كاملا”[30]، ونال رجال العلم أيضا نصيبهم من هذه المساعدات[31] التي وجدت بالمغرب بكثرة، فمثلا بتطوان كان يوزع الخبز على المحتاجين، صباح يومي الخميس والاثنين من كل أسبوع، فالسلاطين العلويون كانوا حرصين على هذا النوع من المساعدات، فهذا السلطان مولاي عبد العزيز بعث- بتاريخ 15 ذي القعدة عام 1319ه برسالة إلى ناظر الأحباس بالدار البيضاء يقول فيها: “وبعد وصل جوابك عما أمرت به من تنفيذ الخبز للمرضى والأفاقين”. [32]

وصفوة القول مساعدة الفقراء والمحتاجين كانت دئما من أولويات السلاطين عبر تاريخ المغرب، إلا أن المصادر التاريخية اعترتها بعض الضبابية حول دورهم ومجهوداتهم تجاه هذه الفئة من المجتمع، لذلك اقتصرنا على ذكر بعض جهود السلاطين ومساعيهم في النهوض بهذه الفئة المهمشة داخل المجتمع، والحد من تفشي ظاهرة الفقر داخله بمختلف شرائحه.

خاتمة:

خلاصة القول أن الفقر جسد ظاهرة اجتماعية خطيرة ومعقدة في مغرب القرنين 18 و19م، ازدادت تجذرا بسب الأزمات الاقتصادية والسياسية والمجاعات التي اجتاحت البلاد، تاركة خدوشا نفسية واجتماعية واقتصادية على ضحاياها، دفعت بالسلاطين والصلحاء إلى القيام بمحاولات لاجتثاث جذورها عبر تقديم مساعدات للفقراء والمحتاجين والتخفيف من معاناتهم، باقتسام ما لديهم معهم، وتحسين مستوى معيشتهم، ويبقى هذا المقال مجرد بحث متواضع أماط اللثام عن واقع الفقر وأثاره على ضحاياه في مغرب القرنين 18 و19م، ونأمل أن يكون بمثابة تحفيز للباحثين، لإثارة تساؤلات وتوسيع رقعة البحث حولها، باعتبارها ظاهرة تستحق الدراسة والمعالجة التاريخية.

نتائج البحث:

من أهم النتائج التي توصل إليها البحث ما يلي:

  1. يمكن القول إن الأزمات الاقتصادية وكذا السياسية والطبيعية كان لها دور في ظهور ظاهرة الفقر وانتشارها.
  2. أن ظاهرة الفقر وانتشارها كان لها انعكاسات نفسية واجتماعية واقتصادية على الحياة العامة للمجتمع المغربي خلال القرنين 18 و19م، دفعت بالسلاطين والصلحاء إلى بدل مجهود لمواجهتها والحد منها.

البيبليوغرافيا المعتمدة

باللغة العربية:

إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، ج. 3، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 1994.

  • أحمد ابن الحاج السلمي، الدار المنتخب المستحسن في بعض مآثر أمير المؤمنين مولانا الحسن، مخ. خ. ح، ج. 7، رقم 1920.
  • أحمد التوفيق، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (اينولتان 1850-1912)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ط.2، الرباط، 1983.

أحمد بوكاري، الزاوية الشرقاوية زاوية أبي الجعد دورها الاجتماعي والسياسي، ج .2، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1989.

بلحسن الحسين ريوش، الثرات الشعبي وأهميته التاريخية من خلال نماذج من الأمثال والعادات والطقوس والمرددات الشعبية، دار الأكاديميون للنشر والتوزيع، الأردن، د.ت.

رسالة من محمد بركاش إلى الوزير الطيب بن اليماني، بتاريخ 10 رمضان 1284ه/ 5 يناير 1868م، م. و. م. ر، مح. رمضان 1284ه، تحت رقم: A16–017.

محمد الأمين البزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1992.

محمد الحبيب التجكاني، الإحسان الإلزامي في الإسلام وتطبيقاته في المغرب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1996

محمد الصغير الافراني، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، تقديم وتحقيق: الشادلي عبد اللطيف، ط.1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1989.

محمد حجي، موسوعة أعلام المغرب، ج. 7، دار الغرب الإسلامي، ط. 1، بيروت، 1996.

مصطفى فنيتر، عيسى بن عمر قائد عبدة 1879-1914، منشورات جمعية البحث والتوثيق والنشر، الرباط، 2005.

معلمة المغرب

باللغة الأجنبية:

  • DRUMMOND-HAY John, Western Barbary: Its wild tribes and savage animals, John Murray, London, 1844.

Margins:

  1. إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، ج. 3، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 1994، ص. 156.
  2. مصطفى فنيتر، عيسى بن عمر قائد عبدة 1879-1914، منشورات جمعية البحث والتوثيق والنشر، الرباط ، 2005، ص. 62.
  3. قبائل الوداية: قبيلة تنحدر من عرب معقل، كانت تقطن جنوب المغرب استقدمها السلطان مولاي إسماعيل خلال دخوله الثاني لمدينة مراكش، وقد قسمها إلى قسمين، الأول تمركز بمدينة فاس، بقيادة أبو عبدالله بن عطية، في حين ترك الجزء الثاني بمكناس. أنظر: معطى الله (آمنة)، “الأوداية”، ضمن “معلمة المغرب”، ج. 3، مطابع سلا، الرباط، 1991، ص. 878
  4. ابراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، ج. 3، م. س، 1994، ص. 71.
  5. محمد الأمين البزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1992، ص. 369.
  6. بلحسن الحسين ريوش، الثرات الشعبي وأهميته التاريخية من خلال نماذج من الأمثال والعادات والطقوس والمرددات الشعبية، دار الأكاديميون للنشر والتوزيع، الأردن، د.ت، ص. 319.
  7. محمد حجي، موسوعة أعلام المغرب، ج. 7، دار الغرب الإسلامي، ط. 1، بيروت، 1996، ص. 2632.
  8. محمد الأمين البزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب…، م. س، ص. 358.
  9. DRUMMOND-HAY John, Western Barbary: Its wild tribes and savage animals, John Murray, London,1844, p. 62.
  10. رسالة من محمد بركاش إلى الوزير الطيب بن اليماني، بتاريخ 10 رمضان 1284ه/ 5 يناير 1868م، م. و. م. ر، مح. رمضان 1284ه، تحت رقم: A16–017.
  11. محمد الأمين البزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب…، م. س، ص. 206.
  12. نفسه.
  13. محمد الأمين البزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب…، م. س، ص. 204.
  14. نفسه.
  15. نفسه.
  16. محمد حجي، موسوعة أعلام المغرب، ج. 7، م. س، ص. 2122.
  17. محمد الحبيب التجكاني، الإحسان الإلزامي في الإسلام وتطبيقاته في المغرب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1996، ص. 550.
  18. نفسه.
  19. نفسه.
  20. نفسه.
  21. نفسه.
  22. أحمد التوفيق، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (اينولتان 1850-1912)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ط.2، الرباط، 1983، ص. 385.
  23. محمد الأمين البزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب…، م. س، ص. 356
  24. أحمد بوكاري، الزاوية الشرقاوية زاوية أبي الجعد دورها الاجتماعي والسياسي، ج .2، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1989، ص. 16.
  25. أحمد ابن الحاج السلمي، الدار المنتخب المستحسن في بعض مآثر أمير المؤمنين مولانا الحسن، مخ. خ. ح، ج. 7، رقم 1920، ص.7.
  26. محمد الصغير الافراني، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، تقديم وتحقيق: الشادلي عبد اللطيف، ط.1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1989، ص. 431.
  27. محمد الحبيب التجكاني، الإحسان الإلزامي في الإسلام …، م. س، ص. 602.
  28. محمد الأمين البزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب…، م. س، ص. 372.
  29. نفسه.
  30. محمد الأمين البزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب…، م. س، ص. 375.
  31. نفسه.
  32. محمد الحبيب التجكاني، الإحسان الإلزامي في الإسلام …، م. س، ص. 557.