منهج الإمام الباجي في كتابه “المنتقى” من حيث المبنى وصياغة المعنى والاستنباط الفقهي

عبدالعزيز الدغمي1

1 باحث في سلك الدكتوراه بكلية ابن طفيل بالقنيطرة، المغرب.

HNSJ, 2023, 4(8); https://doi.org/10.53796/hnsj4813

Download

تاريخ النشر: 01/08/2023م تاريخ القبول: 16/07/2023م

المستخلص

لما كان كتاب “الموطأ” للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه من أهم ما دُوِّن في السُنَّة المطهَّرة، وباعتباره من الكتب الفريدة التي اشتملت على صحيح الحديث، وعلى المأثور من أقوال الصحابة والتابعين، وعمل أهل المدينة، وعلى الكثير من الآراء الفقهية والأحكام الشرعية التي قال بها إمام دار الهجرة، ممَّا جعل الإمام الشافعي – رحمه الله – يقول فيه قولته المشهورة: “ما ظهر على الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك”

ولمَّا رأيت كثرة الكتب التي تناولت “الموطأ” بالشرح من قِبَل العلماء الذين صنفوا في أسانيده، وشرحوا متنه، وأولوه اهتمامهم البالغ كان داعيًا لي أن أعنى بالبحث منهج أحدهم في شرحه له.

وكتاب المنتقى من أحسن وأجود الشروحات سواء على مستوى منهجه من حيث المبنى ، أو على مستوى منهجه من حيث صياغة المعنى والاستنباط الفقهي .

Research title

The approach of Imam Al-Baji in his book “Al-Muntaqa” in terms of the structure, the formulation of the meaning, and the jurisprudential deduction

Abdelaziz Al-Doghmi1

1 From the city of Larache and a researcher in the Ph.D. corps at Ibn Tofail College in Kenitra

HNSJ, 2023, 4(8); https://doi.org/10.53796/hnsj4813

Published at 01/08/2023 Accepted at 16/07/2023

Abstract

Since the book “Al-Muwatta” by Imam Malik bin Anas, may God be pleased with him, was one of the most important books written in the purified Sunnah, and as one of the unique books that included the authentic hadiths, the well-known sayings of the companions and followers, the work of the people of Medina, and many jurisprudential opinions and legal rulings Which was said by the imam of Dar al-Hijrah, which made Imam al-Shafi’i – may God have mercy on him – say in it his famous saying: “No book has appeared on earth after the Book of God that is more correct than the book of Malik.

And when I saw the multitude of books that dealt with the “al-Muwatta’” with explanations by scholars who compiled its isnads, explained its text, and gave it great attention, it prompted me to study the approach of one of them in explaining it to him.

The book Al-Muntaqa is one of the best and finest explanations, whether on the level of its approach in terms of the structure, or on the level of its approach in terms of formulating the meaning and jurisprudential deduction.

مقدمــــــــــــــــــــــة

الحمد لله القوي القادر، الولي الناصر، اللطيف القاهر، المنتقم الغافر، الباطن الظاهر، الأول الآخر الذي جعل العقل أرجح الكنوز والذخائر، والعلم أربح المكاسب والمتاجر، وأشرف المعالي والمفاخر، وأكرم المحامد والمآثر وأحمد الموارد والمصادر؛ فشرفت بإثباته الأقلام والمحابر، وتزينت بسماعه المحاريب والمنابر، وتحلت برقومه الأوراق والدفاتر، وتقدم بشرفه الأصاغر على الأكابر، واستضاءت ببهائه الأسرار والضمائر، وتنورت بأنواره القلوب والبصائر.

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ذي العنصر الطاهر، والمجد المتظاهر، والشرف المتناصر، والكرم المتقاطر، المبعوث بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين، وناسخا بشرعه كل شرع غابر ودين دائر، المؤيد بالقرآن المجيد الذي لا يمله سامع ولا آثر، ولا يدرك كنه جزالته ناظم ولا ناثر، ولا يحيط بعجائبه وصف واصف ولا ذكر ذاكر وكل بليغ دون ذوق فهم جليات أسراره قاصر، وعلى آله وأصحابه وسلم كثيرا كثرة ينقطع دونها عمر العاد الحاصر.

كتاب المنتقى يعتبر من أحسن وأجود شروحات موطأ الإمام مالك، ومن أهم كتب المالكية في الفقه من جانب التنظير والتطبيق، وصاحبه من علماء القرن الخامس الهجري: الإمام القاضي أبو الوليد الباجي المتوفى سنة 474ه.

لذا جاء موضوع هذا البحث “منهج الإمام الباجي في كتابه “المنتقى” من حيث المبنى وصياغة المعنى والاستنباط الفقهي”

أهداف البحث

من خلال اطلاعي المتواضع على كتاب المنتقى شرح الموطأ للإمام أبي الوليد الباجي اتضح لي جملة من المزايا التي يمتاز بها هذا الكتاب عن غيره ، مما يعطي أهمية خاصة لهذه المدرسة وأهم هذه الخصائص هي كالآتي :

أولا : تجلية جهود بعض العلماء الذين عرفوا بممارسة فن من الفنون يضفون عليه مسحة جديدة ويعطونه شكلا متميزا ؛ كما فعله الإمام الباجي رحمة الله عليه في كتابه المنتقى

ثانيا: معرفة منهج الإمام أبي الوليد في الكتاب من حيث المبنى

ثالثا: معرفة منهج الإمام من حيث المعنى والاستنباط الفقهي.

إشكالية الموضوع

بناء على أهمية الموضوع فإنه يمكننا أن نبحث إشكالية البحث من خلال اسهام الإمام الباجي في بناء أسس نظرية فقهية أصولية حديثية من خلال شرحه كتابه المنتقى، وعليه فهناك تساؤلات عدة تطرح نفسها ويستوجب تناولها بالبحث والدراسة أهمها:

1/ ما أهمية كتاب المنتقى من بين شروحات الموطأ للإمام مالك رضي الله عنه.

من خلال هذا التساؤل يمكن معالجته في الآتي:

ـــ إبراز مكانة كتاب المنتقى

ـــ منهج الإمام فيه من حيث المبنى.

ـــ منهج الإمام فيه من حيث المعنى والاستنباط.

وجاءت خطة هذا المقال على الشكل الآتي:

المبحث الأول : التعريف بكتاب “المنتقى شرح موطأ مالك” للإمام أبي الوليد الباجي.

المطلب الأول : نظرة موجزة على كتاب المنتقى.

المطلب الثاني : توضيحه للمنهج الذي سلكه في كتابه.

المبحث الثاني منهجه في الكتاب من حيث المبنى.

المطلب الأول : حذف دراسة الأسانيد.

المطلب الثاني: تقسيم شرح الحديث إلى أجزاء. (الشرح، والفصل، والمسألة، والفرع)

المطلب الثالث: بناء المسائل على بعضها.

المطلب الرابع: إحالة إلى ما يندرج في الباب.

المبحث الثالث : منهجه في صياغة المعنى والاستنباط الفقهي.

المطلب الأول : فقه السنة في ضوء القرآن الكريم.

المطلب الثاني: شرح السنة بالسنة.

المطلب الثالث: عرض الروايات المختلفة للحديث الواحد.

المطلب الرابع: دراسة السند في معرض الاستدلال والاحتجاج.

المطلب الخامس: الوقوف عند الدليل من السنة عند الاختلاف في فهم النص، وفيه ثلاثة فروع :

الفرع الأول: تأويل بعض الأحاديث المخالفة لمذهب مالك.

الفرع الثاني: عرض آراء المذاهب الفقهية في فهم الحديث والاستنباط منه.

الفرع الثالث : بناء اختياراته الفقهية المستقلة.

المبحث الأول: التعريف بكتاب “المنتقى شرح موطأ مالك” للإمام أبي الوليد الباجي.

المطلب الأول: نظرة موجزة على كتاب المنتقى.

شرح أبو الوليد الباجي الموطأ بثلاثة شروح وهي: الاستيفاء، ثم اختصره في المنتقى، الذي اختصره أيضا في كتاب الإيماء.

يبدو أن شرح المنتقى هو الشرح الأوسط وهو الباقي إلى اليوم والذي طبع طبعة أولى بأمر من السلطان عبد الحفيظ ملك المغرب وذلك سنة 1331 هــ ثم أعيد طبعه بعد ذلك.

وهو شرح رائع لكتاب الموطأ اعتنى فيه الباجي بالناحيتين الحديثية والفقهية عناية كبيرة وحاول أن يعيد مسائل الفقه المالكي إلى أصولها من كتاب وسنة.

ويجدر بنا ونحن نتحدث عن هذا الشرح أن نترك المجال لأبي الوليد كي يبين الخط الذي رسمه لنفسه والمنهج الذي سيتبعه في شرحه لموطأ الإمام مالك بعد ذكر الدوافع التي دعته إلى تأليف كتابه المنتقى.

يقول رحمه الله: ” وفقنا الله وإياك لما يرضيه فإنك ذكرت أن الكتاب الذي ألفت في شرح الموطأ المترجم بكتاب “الاستيفاء” يتعذر على أكثر الناس جمعه ويبعد عنهم درسه، لا سيما لمن ليس يتقدم له من هذا العلم نظر، ولا تبين له فيه بعد أثر، فإن نظره فيه يبلد خاطره ويحيره، ولكثرة مسائله ومعانيه يمنع تحفُّظَه وفهمه، وإنما هو لمن رسخ في العلم وتحقق بالفهم[1]“.

وهو هنا يشير إلى غزارة ما في كتاب “الاستيفاء” من علوم، واحتياج من يباشره إلى سعة اطلاع وقدرة وعمق قد لا تتوفر لأغلب الناس، وهو إذا كان يختصر وييسر لأهل زمانه كتاب الاستيفاء فإننا إلى ذلك أحوج وعن إدراك ما في الاستيفاء أعجز وأضعف

ومهما يكن من أمر فإن قيمة المنتقى وشهادة العلماء الأعلام بأنه من أحسن شروح الموطأ؛ دليل وبرهان على أن الاستيفاء أعظم شأنا وأغزر علما وأكثر فائدة.

المطلب الثالني : توضيحه للمنهج الذي سلكه في كتابه.

ثم يبين أبو الوليد المنهج الذي سيسلكه في كتاب المنتقى فيقول: ” ورغبت أن أقتصر فيه على الكلام في معاني ما يتضمنه ذلك الكتاب من الأحاديث والفقه وأصل ذلك من المسائل بما يتعلق بها من أصل كتاب الموطأ ليكون شرحا له وتنبيها على ما يستخرج من المسائل منه ويشير إلى الاستدلال على تلك المسائل والمعاني التي يجمعها وينصُّها ما يَخِفُّ منها ويقرب ليكون ذلك حظ من ابتدأ بالنظر في هذه الطريقة من كتاب الاستيفاء إن أراد الاقتصار عليه وعونا له إن طمحت همته إليه فأجبتك إلى ذلك وانتقيته من الكتاب المذكور على حسب ما رغبته وشرطته وأعرضت فيه عن ذكر الأسانيد واستيعاب المسائل والدلالة وما احتَجَّ به المخالف وسلكت فيه السبيل الذي سلكت في كتاب الاستيفاء من إيراد الحديث والمسألة من الأصل ثم اتبعت ذلك بما يليق به من الفرع وأثبته شيوخنا المتقدمون رضي الله عنهم من المسائل وسُدّ من الوجوه والدلائل وبالله التوفيق وبه أستعين وعليه أتوكل وهو حسبي ونعم الوكيل[2]” .

وهذه معالم منهجه في المنتقى مع إعطاء بعض الأمثلة بشكل موجز، سواء من حيث المبنى، أو من حيث منهجه في استنباط الأحكام و صياغة المعنى.

المبحث الثاني: منهجه في الكتاب من حيث المبنى.

المطلب الأول: حذف دراسة الأسانيد.

إن المتفحص لكتاب المنتقى يجد أن آبا الوليد لم يهتم بدراسة الأسانيد، ولعل ذلك يعود إلى أمرين أساسيين أولهما: أن هذا الجانب ـ السند ـ قد أخذ من المؤلف قسطا وافرا من البحث في كتاب الاستيفاء أصل المنتقى، فتطلُّب الاختصار والانتقاء منه أن يصرف النظر عن ذلك.

وثانيهما: أن الإمام أبا عمر يوسف بن عبد البر قد كفى غيره مؤونة الاشتغال بأسانيد الموطأ في كتابه “التمهيد” لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، إذ وصل أسانيده وحدد درجة أحاديثه.

المطلب الثاني: تقسيم شرح الحديث إلى أجزاء : الشرح، والفصل، والمسألة، والفرع.

قسم الباجي شرحه للحديث إلى أربعة أجزاء يسمي أولها شرحا ويرمز له في الكتاب المطبوع (بشج) والقصد منه بيان المعنى العام للحديث دون تفصيل، مع الإشارة إلى ما يستفاد من هذا المعنى العام من أحكام، وفي كثير من الأحيان يشير إلى الوجوه المحتملة في فهم عبارات النص يقول قوله كذا ” يحتمل أن يكون كذا ويحتمل أن يقصد به كذا ويحتمل أن يراد به كذا…

مثال ذلك قول الباجي بباب الصلاة في معرض شرحه لحديث: “مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فافعل ما شئت، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة[3]…” .

)ش) قوله ” قوله مما أدرك الناس من كلام النبوة يريد أن مما بقي من حكمتهم على ألسنة الناس إذا لم تستح فافعل ما شئت وقد تأول الناس في ذلك تأويلين أحدهما: إذا كنت ممن لا يستحيي من القبيح الذي يستحيي الناس وأهل الصلاح منه فاصنع ما شئت أي ولا مانع لك وهذا وإن كان لفظه لفظ الأمر فإن معناه التوبيخ.

والثاني: إذا كان ما تفعله مما لا يستحيا منه فافعل ما شئت فإنه لا يرتدع أهل الدين إلا مما يستحيا منه ويكون قوله فافعل ما شئت على الإباحة “.[4]

تم ينتقل أبو الوليد إلى الجزء الثاني في تعامله مع الحديث ويسميه فصلا والقصد منه تناول العبارات الواردة في الحديث التي يمكن أن تستنبط منها الأحكام، بحيث يتناولها عبارة عبارة وجزءا جزءا، ويذكر ما يندرج تحتها من أحكام شرعية.

مثال ذلك قول أبي الوليد في نفس الحديث السابق ” (فصل) أما وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة فقد أسند عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق صحاح رواه وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حين دخل في الصلاة ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، وقد اختلف الرواة عن مالك في وضع اليمنى على اليسرى… ـ ثم ذكر أقوال الرواة عن مالك واحدا واحدا، وأثناء المناقشة يرجح القول الذي يراه مناسباـ [5]

وقد تتعدد الفصول بالحديث الواحد بحيث يأخذ من كل فصل من فصول الحديث أحكاما كالتي رأينا.

وإذا اقتضى الأمر أن تتفرع عن هذه الأحكام المستنبطة من أجزاء الحديث رسائل فقهية جزئية مرتبطة بموضوع الحديث فإن الباجي يدرجها تحت اسم آخر يسمى (مسألة(.

ومن ذلك قوله في نفس الفصل السابق: ” (مسألة) وفي أي موضع توضع اليدان[6]” . ثم يذكر أقوال العلماء ويناقشها.

وفي بعض الأحيان تتفرع عن هذه المسائل قضايا صغرى أكثر دقة فيدرجها أبو الوليد تحت قسم رابع يسميه (فرعا) ويبنى هذا عادة على ما تقرر في المسائل، ومنه قول أبي الوليد بعد إيراده (مسألة) غسل الميت إن لم يكن على كامل هيئته، أي مقطعا، قال: (فرع) فإن لم يوجد منه إلا رأس أو رجل، فقد قال مالك لا يغسل، ويصلى عليه، وينوى الجملة، ووجه قول مالك أن الأقل تابع للأكثر، فإذا غاب الأكثر كان بمنزلة مَغِيبِ جميعِه ولا يصلي على غائب” [7]

وتجدر الإشارة إلى أن أبا الوليد لا ينتقل من الشرح إلى الفصل إلى المسألة إلى الفرع إلا إذا وجد ما يقتضي ذلك، وعلى هذا قد تجد أحاديث لا يوجد من كلام الباجي عليها إلا الشرح ومنها ما يتعدى الشرح إلى الفصل وهكذا…

المطلب الثالث: بناء المسائل على بعضها:

بالنظر في المنتقى نجد أن أبا الوليد يبني المسائل على بعضها بعبارات من قبيل ” إذا تقرر ما سبق فإننا “..أو ” إذا ثبت ذلك فإننا…”، أو ” إذا ثبت صحة كذا فإنه…” وهذا تكرر كثيرا في الكتاب، ولعل هذا يرجع إلى كثرة اشتغال أبي الوليد بالمناظرة، ومعلوم أن جو المناظرة مغاير تماما لمجالس العلم حيث يجتمع الشيخ بطلبته، فالمناظرة تقتضي بناء الفروع على ما تقرر من أصول وبناء الجزئيات على ما اتفق عليه من كليات، أما مجلس العلم فيقتضي بسط المسائل واستعراض آراء الغير والرد عليها، وأخذ الوقت الكافي لبسط رأي العالم وحجته.

ومن ذلك قوله على سبيل المثال: ” (مسألة) إذا ثبت صحة الصوم في السفر، فإنه أفضل من الفطر لمن قوي عليه [8]“، وذلك بعد إيراده لآراء المذاهب الفقهية في صحة الصوم في السفر وترجيح رأي مالك بالدليل من القرآن، والأمثلة من هذا مطردة في الكتاب.

المطلب الرابع : إحالة ما لا يندرج في الباب من الحديث إلى بابه:

ومن أمثلة ذلك قوله في كتاب الضحايا في شرح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث فكلوا وتصدقوا وادخروا، ونهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا…[9] ( الحديث.” قوله صلى الله عليه وسلم ونهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام، يأتي في كتاب الأشربة .[10]

وقال بعد الكلام على القبض في الصلاة بتفصيل: ” وقوله تعجيل الفطور والاستيناء بالسحور سنذكره في باب الصوم إن شاء الله” [11].

المبحث الثالث : منهجه في صياغة المعنى والاستنباط الفقهي:

اجتمعت لدى أبي الوليد مقومات الفقيه المحدث، والمجتهد المناظر، والعلم المتبحر، فشرح السنة في ضوء القرآن، وعرض السنة على السنة وعلى أقوال الصحابة، واستعرض آراء المذاهب الفقهية وناقشها بحكمة، وفصل في آراء المدرسة المالكية وأصل فقهها بالدليل، بل وانتقد بعض الأدلة عند المالكية، وصاغ قواعد فقهية وأصولية تضبط فهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ساعده في ذلك تبحره في اللغة العربية، وفي العلوم الإسلامية بصفة عامة.

تلكم هي الخطوط الكبرى لفقه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب المنتقى لأبي الوليد الباجي والتي نحاول بسطها هنا ببعض الأمثلة، حتى نكشف عن العقلية المنهجية لهذا العالم الفذ، وأثره في دعم المذهب المالكي من خلال كتابه المنتقى.

المطلب الأول: فقه السنة في ضوء القرآن الكريم:

لا أحد ينكر من العلماء المعتبرين وجود تلازم بين القرآن والسنة، حيث يتوقف أحدهما على الآخر في الفهم والاستنباط باعتبار صدورهما من مشكاة واحدة، حتى قيل ” القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن ” وقال تعالى “{ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} “سورة النحل الآية 44 . والذكر قرآن وسنة.

وهذا التلازم وجدنا له أثرا في منهج فقه السنة عند الإمام أبي الوليد في مواقع شتى في كتاب المنتقى، فنجده يرجع بالمفهوم بالاعتماد على القرآن، ويأخذ بالرأي الذي يسنده نص قرآني ويقف عنده، ويورده في معرض الاحتجاج والاستشهاد ومن ذلك على سبيل المثال قوله حين حكى الخلاف بين الأئمة في مسح أو غسل الرجلين:” وقوله “غسل رجليه ” في نص الحديث ” يقتضي وجوب غسلهما لأن أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوجوب، وبهذا قال فقهاء الأمصار، وقال ابن جرير الطبري وداود، أن الفرضَ التخييرُ بين المسح والغسل، والدليل على صحة ما ذهب إليه الجمهور قوله تعالى ” {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين}” سورة المائدة الآية 6. وهي قراءة نافع وابن عامر والكسائي وعاصم من رواية حفص عنه، فإن قيل إذا وجب غسل الرجلين لقراءة من قرأ بالنصب وجب مسحهما لقراءة من قرأ بالجر، فالجواب أن هذا الذي ذهبتم إليه من التخيير غير صحيح، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وفي الأمر بالغسل نهي عن المسح، كما أن الأمر بالمسح نهي عن الغسل، ولا يجوز أن يقال أن مجرد الأمر بهما يقتضي التخيير بينهما لأن الأمر بكل واحد منهما غير معين، ويصرف تعيينه إلى المأمور به، فكلا القراءتين حجة عليكم فيما تدعونه من التخيير، لأن ظاهر القراءتين جميعا ينفي التخييرَ بينهما.[12]

وهكذا يجمع الباجي بين الدليل من القرآن ومن السنة لحسم الخلاف، والأمثلة من هذا كثيرة في المنتقى وذاك صنيع أهل الأثر في الاستنباط والاستدلال.

المطلب الثاني: شرح السنة بالسنة:

المسلك الثاني في فقه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما اعتمده السلف من علماء الأمة في مناهج الاستنباط والأحكام الشرعية، وذلك بعرض نصوص السنة على بعضها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعلم بمراد خطابه، والأقدر على بيان أوجه الدلالة فيه، وأفعاله صلى الله عليه وسلم تطبيق لأقواله كما هو واضح في هذا الكتاب.

المطلب الثالث: عرض الروايات المختلفة للحديث الواحد:

من المعلوم أن اختلاف الروايات له أثر كبير في استنباط الأحكام الشرعية من السنة النبوية خاصة ما تضمن منها زيادة تفسير، وقد بنى أبو الوليد في ذلك قاعدة قال فيها “الأخذ بالزائد المفسِّر أولى إذا كان راويه ثقة”. [13]

ومن أمثلة تطبيق أبي الوليد لهذه القواعد قوله ” في الحديث الذي رواه مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار في وقت صلاة الصبح، جاء فيه:

** ” (مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن وقت صلاة الصبح، قال: فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان من الغد صلى الصبح حين طلع الفجر. ثم صلى الصبح من الغد بعد أن أسفر. ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة، قال: ها أنذا يا رسول الله، قال: ما بين هذين وقت”) [14]

قال ـ بعد أن ذكر كل الاحتمالات التي تفهم من سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: ” وقد روى هذا الحديث بريدة بن حصيب الأسلمي وذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له صل معنا هذين اليومين أخرجه مسلم في صحيحه[15] فيحتمل أن يكون الراوي لحديث عطاء لم يسمع أمر النبي صلى الله عليه وسلم السائل بأن يشاهد معه الصلاة ويحتمل أن يكون سمعه وأراد بقوله فسكت عنه سكوته عن جواب مسألته[16].

وهكذا نلحظ أن الإمام أبا الوليد قارن بين الروايات المختلفة بنفس العالم المتبصر، ثم بنى على ذلك قاعدة في المنهج استنبطها من التطبيق العلمي في الجمع بين الروايتين، ودراسة ألفاظهما مستعينا بالتاريخ والسير، والنظر الدقيق في الاختلاف الحاصل بين الروايات.

والملاحظ كذلك أن أبا الوليد لا يسوق الروايات المختلفة للحديث الواحد إلا إذا دعت الضرورة العلمية إلى ذلك، أما حين لا تدعو الضرورة فإنه يعرض عن ذلك اختصارا.

المطلب الرابع: دراسة السند في معرض الاستدلال والاحتجاج:

رأينا أن الإمام أبا الوليد أعرض عن دراسة أسانيد الموطأ في المنتقى، لكننا نجده في كثير من المواضيع يدرس أسانيد الأحاديث التي يوردها مخالفوه في معرض الاحتجاج فيكشف عن عللها، أو يوثق نسبة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يورده في معرض الاستدلال، وترجيح رأيه أو رأي مذهبه، وهذه الإشارات إلى الأسانيد تكشف عن علو كعب الرجل في علم العلل والرجال، وأسوق على ذلك مثالا عمل فيه أبو الوليد بحديث أقوى مما ساقه مالك في الموطأ ولكنه وفق بين دليله وما جاء في الموطأ بدقة بالغة وفهم ثاقب، جاء في الموطأ:

**” (مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى، أثلاثا أم أربعا؟ فليصل ركعة. وليسجد سجدتين وهو جالس، قبل التسليم. فإن كانت الركعة التي صلى خامسة، شفعها بهاتين السجدتين. وإن كانت رابعة، فالسجدتان ترغيم للشيطان) [17]

قال أبو الوليد ” روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله عليه وسلم قال: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا، فليصل ركعة ويسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم، فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شفعها بهاتين السجدتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان

قال أبو الوليد: قوله فليركع ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ” ظاهره خلاف ما رويناه من حديث أبي هريرة وعمران بن حصين أن السجود في السهو بالزيادة بعد السلام، وكذلك في حديث عبد الله بن مسعود، ولنا في ذلك الترجيح والجمع بين الحديثين، فأما الترجيح فلنا أخبار كلها صحاح ولا اضطراب في أساليبها، وخبرهم مضطرب الإسناد لأن مالكا وأكثر الحفاظ على إرساله، وقد اضطرب في إسناده فرواه ابن بلال وغيره عن عطاء عن أبي سعيد، ورواه الدراوردي وغيره عن عطاء عن ابن عباس، فكان ما تعلقنا به أولى لسلامة روايته من الاضطراب، والوجه الثاني أن خبر عطاء رواه واحد والأخبار التي تعلقنا بها رواها جماعة من أئمة الصحابة والتعلق بخبرهم أولى، لأن السهو على الجماعة أبعد، والوجه الثالث أن رواة ما تعلقنا به أتبث من عطاء فكان التعلق بروايتهم أولى .[18]

وأما الجمع بين الحديثين فإنا نجمع بينهما على أن المراد بالسلام في حديث أبي هريرة وابن مسعود وعمران بن حصين السلام من الصلاة، والسلام المذكور في حديث عطاء سلام التشهد، ووجه ثان هو أن قوله في حديث عطاء ” فليركع ركعة ويسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ” يحتمل أن يريد به مجرد الصلاة لأنه نص على ما يفعله من الركوع والسجود والجلوس والسلام فكان الجمع بين الحديثين على ذلك أولى من اطراح أحدهما[19]” . اهـ

المطلب الخامس : الوقوف عند الدليل من السنة عند الاختلاف في فهم النص أو الاستنباط منه:

من منهج أبي الوليد الوقوف عند نصوص السنة الداعمة لمذهبه في فهم النص أو الاستنباط منه لأن نصوص السنة يشرح بعضها بعضا وتعين على الاستنباط السليم للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وكثيرا ما وقفنا في كتاب المنتقى على عبارات من قبيل )ودليلنا من السنة كذا ( أو ) الدليل على صحة ما نقوله كذا( تم يسوق أحاديث في الباب، وأحيانا يقطع فيقول ” والدليل على ما نقوله هذا الحديث وهو نص في موضع الخلاف ” وإليك بعض الأمثلة التي توضح ذلك، حتى ترى كيف يستعين الرجل بالسنة على فهم السنة وكيف يحسم الخلاف بالنص الحديثي الذي يستحضره من تكوينه العلمي ومعارفه الحديثية وإيمانه بالوقوف عند الأثر الصحيح في موضع الخلاف في فهم النص والاستنباط منه، وهذا ما وقفنا عليه في غير ما موضع من كتاب المنتقى.

يقول أبو الوليد في مسألة النهي عن ذبح الأضحية قبل انصراف الإمام فيما رواه مالك:

**” عن يحيى بن سعيد عن بشير بن بشار أن أبا بردة بن نِيَارٍ ذبح أضحيته قبل أن يذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعيد بضحية أخرى، فقال أبو بردة لا أجد إلا جَذَعا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم تجد إلا جَذَعا فاذْبح “.[20]

قال الباجي ويلزم مع ذلك أن يلزم وقتَ ذبح الإمام، ليترتب على ذلك ذبحُ الناس فأما وقت ذبح الإمام فهو بعد السلام من صلاة العيد يوم الأضحى، فمن ذبح قبل الصلاة لم يجزه، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي” إذا ذهب من الوقت بمقدار ما يصلي ركعتين بقراءتهما وتمامها للعيد فقد جاز الذبح فمن ذبح حينئذ قبل الصلاة أجزأه”، والدليل على ما نقوله ما أخرجه البخاري من حديث البراء بن عازب سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال ” أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي تم نرجع فننحر فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا ومن نحر قبل ذلك فإنما هو لحم يقدمه لأهله ليس من النسك في شيء” فقال أبو بردة ذبحت يا رسول الله قبل أن أصلي وعندي جدعة خير من مسنة، فقال: اجعلها مكانها ولن تجزئ أو توفي أحدا بعدك “. قال أبو الوليد ” وهذا بين في موضع الخلاف” [21].

والأمثلة من هذا كثيرة ومطردة في الكتاب، ونورد في هذا المطلب بعض الفروع:

الفرع الأول : تأويل بعض الأحاديث المخالفة لمذهب مالك وأصحابه.

ومما وقفت عليه في منهج تعامل أبي الوليد مع الأدلة من السنة في معرض الخلاف سعيه إلى تأويل بعض أدلة المخالفين من النصوص الحديثية التي تخالف مذهب مالك تأويلا مقبولا لا تعسف فيه ولا خروج عن ضوابط الاجتهاد في فهم النص، وان كان التأويل غير ممكن أيد مذهب المخالف ووقف عنده ولو خالف ما ذهب إليه مالك.

ومن أمثلة ذلك قول أبي الوليد في شرح الحديث الذي رواه مالك في الموطأ جاء فيه:

** ” (مالك (1)، عن جعفر بن محمد، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل في قميص)[22]

قوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل في قميص، ذهب مالك إلى ذكر هذا الحديث على معنى أنه أثبت ما نقل في هذا الباب ولم يخرج على شرط الصحيح في هذا شيئا، والذي ذهب إليه مالك وأبو حنيفة وجمهور الفقهاء هو أن الميت يجرد من قميصه للغسل ولا يغسل في قميصه، وقال الشافعي ” لا يجرد الميت ويغسل في قميصه ” والدليل على ما ذهب إليه مالك أن ما لم يكن عورة من الجسم فليس بعورة من الميت كالوجه، وإذا لم يكن جسد الميت عورة فلا معنى لستره بالقميص لأن تجريده منه أمكن لغسله وأبلغ في تنقيته… تم قال بعد… “وأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل في قميصه فإن صح ذلك فيحتمل أن يكون خاصا له [23]

الفرع الثاني: عرض آراء المذاهب الفقهية في فهم الحديث والاستنباط منه:

إن أول ملاحظة تطالع القارئ لكتاب المنتقى هي الاسلوب الحكيم الذي يعرض به الإمام أبو الوليد آراء المخالفين، بحيث لا تكاد تجد تعصبا للرأي ولا استخفافا بالرأي المخالف، ولا تنقيصا من قيمة ما ذهب إليه غيره، وإنما المقصود هو عرض هذه الآراء في الاتفاق والاختلاف، وعرض أدلتها ما أمكن، بل والأخذ بها إذا قويت حجتها، وإن كان الغالب هو بسط رأي المالكية والانتصار له بالعقل والنقل، ناقلا كلام أشهر المالكية ورواياتهم لفتاوى الإمام مالك في المسائل والفروع، بالإضافة إلى إيراد الأدلة من الكتاب والسنة والقياس والإجماع المعضدة والمفسرة لمذهب المالكية، مع بناء مسائل على بعضها والفروع على الأصول، يعرض كل هذا بنفس العالم الهادئ والمناظر البارع في جل فصول الكتاب ومسائله وفروعه، وإليك بعض الأمثلة التي ترسم أمامك أرقى صور الخلاف والمناظرة:

مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار وعن بسر بن سعيد وعن الأعرج، كلهم يحدثه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك ركعة من الصبح، قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر[24]

قال أبو الوليد ” يقتضي أنه أقل ما يكون به المدرك مدركا وبه قال مالك والشافعي في احدى قوله وقال أبو حنيفة أدرك العصر، واختلفوا فيمن أدرك تكبيرة قبل غروب الشمس فقال أبو حنيفة أدرك العصر خاصة، وقال الشافعي أدرك الظهر والعصر، فإن قالوا ليس في قوله ” أدرك ركعة من العصر ” أنه مدرك ما يقتضي أن من أدرك أقل من ركعة لا يكون مدركا إلا من جهة دليل الخطاب وأنتم لا تقولون به، فالجواب ان كثيرا من أصحابنا يقولون بدليل الخطاب، كالقاضي أبي الحسن بن القصار والقاضي أبي محمد بن نصر، وغيرهما. وبه قال مُتقدمو أصحابِنا كابن القاسم وغيره فعلى هذا يحتج بدليل الخطاب فإن سلمتم وإلا نقلنا الكلام إليه إن تركنا القول بدليل الخطاب على اختيار القاضي أبي بكر وغيره من أصحابنا فإن الحديث حجة في موضع الخلاف. لأنه صلى الله عليه وسلم إنما قصد إلى بيان آخر الوقت[25] .

وفي شرح حديث أم عطاء الأنصارية في غسل بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفاتها .[26]

قال أبو الوليد: قوله ” اغْسِلْنَها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك ” يقتضي مراعاة الوتر عل كل حال وأصل ذلك باب الطهارات المشروعة كالوضوء وغسل الإناء من ولوغ الكلب وغير ذلك وإلى هذا ذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة إذا غسل الميت ثلاثا كانت وترا فإن زاد الغاسل على ذلك لم يراع الوتر، والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك الحديث المتقدم وهو قوله ” اغسلنها ثلاثا أو خمسا ” فجعل التخيير بين الثلاث والخمس، ولم يذكر ما بينهما من الأربع، فإن قيل ففي لفظ الحديث ما يسوي بين ما يزاد على الثلاثة وهو قوله ” أو أكثر من ذلك ” فالجواب أنَّ على قول أبي حنيفة إنما يرجع الضمير إلى أقرب مذكور فيجب أن يكون الضمير في ذلك راجعا إلى الخمسة ويكون قوله أو أكثر من ذلك محمولا على الوتر بدليل قوله ثلاثا أو خمسا، وأما على قول مالك فإن الضمير راجع إلى متقدم فيكون معناه: أو أكثر من الثلاث والخمس، ويحمل على الوتر من وجهين أحدهما، قوله ثلاثا أو خمسا دليل على أن المراد بأكثر من ذلك الوتر والثاني الإجماع بأنه لا فرق بين الأربعة والستة، فإذا حمل قوله ثلاثا أو خمسا على المنع من الأربع وجب أن تكون الستة كذلك لأن أحدا لم يفرق بينهما وقد روي في هذا الحديث من طريق صحيح ” اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا”، وهذا يبيّن جميع ما قلناه، ودليلنا من جهة القياس أنَّ هذه طهارةٌ من حَدَثٍ، فكان الوتر مشروعا فيها كالضوء[27]” .

وفي مسألة صحة صيام المسافر، قال أبو الوليد ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن صيام رمضان في السفر يصح الا ما روي عن بعض أهل الظاهر فإنه قال لا يصح ولا يجزئ، ودليلنا على ما نقول قوله تعالى ” {وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون “.} سورة البقرة الآية 184.

ثم قال بعد ذلك في شرح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الصيام في السفر فقال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر”

قال أبو الوليد ” فإذا خرج الجواب مطلقا حُمل على عمومه، فحُمل على جواز الصوم للفرض أو النفل في السفر ولا يخص صوما دون صوم إلا بدليل، وذهب بعض أهل الظاهر إلى أن ذلك محمولا على التطوع وهذا تخصيص بغير دليل فوجب أن يكون باطلا ، وأحيانا يعرض أبو الوليد رأي المالكية ويخالفه لما ينقدح في ذهنه من دليل عقلي أو نقلي، ومثال ذلك:

** ” (مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى مكة، عام الفتح، في رمضان. فصام حتى بلغ الكديد. ثم أفطر، فأفطر الناس وكانوا يأخذون بالأحدث، فالأحدث، من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) “[28]

مسألة: إذا تبث صحة الصيام في السفر فإنه أفضل من الفطر لمن قوي عليه وقال بن الماجشون الفطر أفضل والدليل على ما نقوله قوله تعالى ” {وأن تصوموا خير لكم”} سورة البقرة الآية 184 .

ومثال آخر على الحديث الذي رواه مالك في الموطأ، جاء فيه:

** ” ثم قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن طائفة من الناس قد صاموا حين صمتَ قال: فلما كان رسول الله بالكديد، دعا بقدح فشرب، فأفطر الناس[29]

قال الإمام الباجي: والظاهر من نسق الحديث أنه إنما أفطر لئلا يتكلف أصحابه الصوم فيضعفون عن العمل وعن لقاء العدو ويحتمل أن يكون إفطاره نهارا ليريهم فطره بعد أن نوى من ليلته تلك، وقد قال الداودي إنه أفطر بعد أن بيت الصيام للضرورة ولا طريق إلى معرفة ذلك، وإذا احتمل الفعل الأمرين وجب أن يحمل فعله صلى الله عليه وسلم على الواجب وألحق به التقوي للعدو فالغالب أنه لا يكون ضرورة تبيح الفطر بعد انعقاده إلا بوجود الضعف أو العطش باللقاء والحرب، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بهذا الفطر استعدادا لأمر مستقبل وهذا لا يبيح الفطر بعد انعقاد الصوم.

وقد روى ابن حبيب عن مطرف أن المسافر له أن يفطر بعد ان يبيت صيام رمضان واحتج في ذلك بفطر النبي صلى الله عليه وسلم بالكديد وما قدمناه أبين والله أعلم وأحكم .[30]

والأمثلة من هذه المخالفات كثيرة جعلتنا نقف على اختيارات فقهية مستقلة لأبي الوليد

الفرع الثالث : بناء اختياراته الفقهية المستقلة.

في غير ما موضع من المنتقى، وقفنا على أن الباجي يستعرض آراء الأئمة في فهم معنى الحديث أو الاستنباط منه، ثم لا يستنكف أن يعرض رأيه المستقل بعد أن يناقش ما سبق، ويعضد ما ذهب إليه بالدليل من العقل أو النفل، ولا غرابة في ذلك، فإن أبا الوليد يملك من أدوات الاستنباط وفقه الدليل ما يؤهله للاجتهاد وبناء الأحكام دون أن يسعى إلى أدوات التقليد فيما أمكن فيه الاجتهاد.

ومن أمثلة ذلك، قول أبي الوليد في فقه حديث ذي اليدين في السهو:

” مسألة ( ويجوز للعامي إذا لم يفهم عنه الإمام بالتسبيح موضع السهو أن يكلمه بذلك ويعلمه بموضع السهو، ولا يفسد ذلك صلاته على نحو ما فعل ذو اليدين في خبر أبي هريرة، قال ابن القاسم سواء كان سهوه في ذلك في سلامه من اثنين أو غير ذلك من السهو، وهذا هو المشهور عن مالك، وعليه تناظر شيوخنا بالعراق، وقال سحنون: إنما يجوز ذلك فيمن سها فسلم من اثنين على مثل خبر ذي اليدين، وهذا الحكم مقصور عليه، وقال عبد الله بن وهب وابن نافع لا يجوز لأحد أن يفعل مثل ذلك اليوم فان فعله أحد فلا إعادة عليه، وقال ابن كنانة: لا يجوز لأحد أن يفعله اليوم، ومن فعله فعليه الإعادة وبه قال أبو حنيفة والشافعي.

قال القاضي أبو الوليد: ويحتمل عندي وجها آخر وهو أن يكون ذلك ممنوعا اليوم، وأن يكون حكم الإجابة يختص بالرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى:”{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم} (سورة الأنفال الآية 24) .” ولم يخص صلاة من غيرها وقد انكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي إذ لم يجبه حين دعاه وهو في الصلاة ونبهه على إباحة ذلك بالآية المذكورة، فيكون قول ابن كنانة على هذا التأويل والله أعلم[31].

ومن اختياراته الفقهية ما قاله في فقه حديث مالك الذي جاء فيه:

** ” (عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سَحُولية ليس فيها قميص ولا عمامة). [32]

وقوله في الحديث “ليس فيها قميص ولا عمامة” يحتمل رأيين أولهما: أنه كفن في ثلاثة أثواب لم يعتد فيها بقميص ولا عمامة، وإن كان ذلك من جملة ما كفن به.

وقد اختلف العلماء في ذلك، فروى ابن حبيب وابن القاسم عن مالك أن الميت يقمَّص ويعمَّم، وبه قال أبو حنيفة وقال القاضي أبو الحسن إن مذهب مالك أنه غير مستحب، وقد رواه يحيى عن ابن القاسم أن المستحب ألا يقمص ولا يعمم، ونَحَا به نحوَ المنع، وبه قال الشافعي،

قال أبو الوليد ” والأظهر عندي جوازه، والأصل في ذلك ما رَوى جابرُ بن عبد الله قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بنَ أبي وقد أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه وألبسه قميصه ونفث عليه من ريقه [33]والله أعلم، كان كسا عباساً قميصاً [34].

وفي ما رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته أنها حدثته عن جدته أنها كانت جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء فماتت ولم تقضه، فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها، قال يحيى: وسمعت مالكا يقول ” لا يمشي أحد عن أحد “[35]

قال الإمام الباجي: ” قوله فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها أجْراه مجرى ما تصِحُّ فيه النيابة من الحج وذلك أنه نذْرٌ متعلق بقطع مسافة هي نفسها قربة، فجاز أن تدخله النيابة كالحج والجهاد، وعلى هذا القول تدخل النيابة في قصد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقصد القدس، وقد قال مالك في العتيبة في التي نذرت المشي إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فماتت قبل ذلك “لا يفعل ذلك أحد عن أحد إن شاءوا تصدقوا عنها بقدر كرائها وزادها ذاهبةً وراجعةً” وهذا لا يمنع ما ذكرناه من النيابة لو أوْصَتْ به، لان هذا حكم من التزم المشي إلى مكة لا يحج أحد عنه، وإن شاءوا تصدقوا بقدر النفقة ولو أوصى به لنفذت وصيته.

قال القاضي أبو الوليد رحمه الله “ويحتمل عندي أن يكون حكم قباء غير حكم المسجد الحرام، لأن قطع المسافة التي تتعلق بنفقة المال إليه ليست بقربة وإنما القربة في الصلاة فيه خاصة، وحكمه في قطع المسافة إليه حكم سائر المساجد وهذا عندي أظهر والله أعلم[36] .

ويبدو من خلال هده الأمثلة وغيرها من اختيارات الباجي التي وقفت عليها في المنتقى أن أبا الوليد يحرص على تعزيز اختياره بالدليل من الكتاب والسنة والاجتهاد ولا يكتفي بعرض فقط، وفي ذلك إشارة إلى ربط الفقه بالدليل في منهج فقه الحديث عن الباجي كما هو الان عند علماء الحديث المجتهدين.

تلكم هي المسالك الكبرى لفقه الحديث عند الإمام أبي الوليد الباجي في كتاب المنتقى تكشف عن غزارة علم الرجل ونضح العقلية المنهجية لديه، وبراعته في توظيف علوم الشرع وقواعد المذاكرة و المناظرة وحذقه في الفتاوى والأحكام.

خاتمة

وفي ختام كلامي عن هذا المؤلف أدعو الباحثين إلى الاهتمام به دراسة وتدريسا واستنباطا، فهو بحر مليء بالجواهر واللآلئ، وإلى جانب ذلك فقيمته العلمية تكمن في تأصيل فقه المالكية بالدليل، وهو منهج استوى على سوقه مع علماء القرن الخامس الهجري في مدرسة المالكية، بالإضافة إلى أن الكتاب يحمل من المادة الحديثية والأصولية واللغوية ومن قواعد الجدل والمناظرة الشيء الكثير، فعسى الله أن يقيض له عقولا مثابرة وأجسادا على البحث صابرة.

لائحة المصادر والمراجع

  • المنتقى شرح موطأ مالك للقاضي أبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب الباجي ط/ 1/ 1420ه/ 1999م / دار الكتب العلمية، ـ بيروت ـ لبنان
  • صحيح البخاري: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه لمحمد بن إسماعيل البخاري الجعفي تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار الطوق ،الطبعة الأولى 1422هـ
  • موطأ الإمام مالك لمالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني. . صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي. . دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان عام النشر: 1406 هـ – 1985م

Margins:

  1. المنتقى، خطبة الكتاب ج/ 1/ ص/ 202/ ط/ 1/ 1420ه/ 1999م
  2. ـ المنتقى وقوت الصلاة /ج/ 1/ ص/ 203/ ط/ 1/ 1420ه/ 1999م.
  3. موطأ مالك، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة رقم 164.
  4. المنتقى وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة، ج 2، ص 286/ ط/ / 1420ه/ 1999م.
  5. نفس المصدر والجزء والصفحة.
  6. المنتقىى، القنوت في الصبح/ ج 1، ص 181
  7. المنتقى، الباب الثاني في صفة الصلاة على الميت/:ج 2، ص 471/ ط/1/ 1420ه/ 1999م.
  8. المنتقى، باب ما جاء في الصيام في السفر،ج/ 3/ ص/ 33/ ط/ 1/ 1420ه/ 1999م
  9. موطأ مالك، كتاب الأضاحي، باب ادخار لحوم الأضاحي رقم 475
  10. المنتقى، باب ما جاء في الضحايا وعن كم تذبح البقرة، ج/ 3/ ص/ 95
  11. المنتقى، القنوت في الصبح، / ج 2، ص 288./ ط/ 1/ 1420ه/ 1999
  12. المنتقى باب استيعاب الرأس مسحا / ج 1، ص 277/ ط/ 1/ 1420ه/ 1999م.
  13. المنتقى، باب من سلم من ركعتين ساهيا ج/ 2/ ص/ 82 / ط/ 1/ 1420ه/ 1999م..
  14. موطأ مالك كتاب وقوت الصلاة، رقم 3 تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، الناشر: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية – أبو ظبي – الإمارات، ط/ 1/ 1425 هـ – 2004 م
  15. صحيح مسلم كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس، رقم 613
  16. المنتقى باب وقوت الصلاة، ج/ 1/ ص:/ 66
  17. موطأ مالك، كتاب الصلاة، باب إتمام المصلي ما ذَكَرَ إذا شك في صلاته، رقم
  18. المنتقى، باب إتمام المصلي ما ذكر إذا شك في صلاته، ج/ 2/ ص/ 90/ 1420ه/ 1999م.
  19. نفس المصدر والجزء والصفحة.
  20. موطأ مالك، كتاب الضحايا، باب النهي عن ذبح الضحية قبل انصراف الإمام رقم 471
  21. صحيح البخاري كتاب الأضاحي باب سنة الأضحية رقم 5545
  22. موطأ مالك، كتاب الجنائز، باب غسل الميت، رقم 251
  23. المنتقى كتاب الجنائز، ج/ 2/ ص/ 2/ 450/ ط/ 1/ 1420ه/ 1999م.
  24. موطأ مالك، كتاب وقوت الصلاة، باب وقوت الصلاة رقم 5
  25. المنتقى، وقوت الصلاة، ج/ 1/ ص/ 217/ ط/ 1/ 1420ه/ 1999م.
  26. رواه مالك في الموطأ. عن أيوب بن أبي تيمية السختياني عن محمد بن سرين عن أم عطية الأنصارية أنها قالت: “دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر وجعلنا في الآخرة كافورا فإذا فرغتن فآذنني فلما فرغن أدناه فأعطانا حقوه فقال أشعرنها إياه
  27. المنتقى كتاب الجنائز، ج/ 2/ ص/ 452/ ط/ 1/ 1420ه/ 1999م.
  28. موطأ مالك، كتاب الصيام، باب ما جاء في ا.0لصيام في السفر، رقم 309
  29. موطأ مالك كتاب الصيام، باب ما جاء في الصيام في السفر، رقم 310
  30. المنتقى ما جاء في الصيام في السفر، ج/ 3/ ص/ 36/ ط/ 1/ 1420ه/ 1999م.
  31. المنتقى باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيا، ج/ 2/ ص/ 58/ 1/ 1420ه/ 1999م.
  32. موطأ مالك، كتاب الجنائز، باب ما جاء في كفن الميت، رقم 253
  33. صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب لبس القميص، رقم 5745
  34. المنتقى باب ما جاء في كفن الميت، ج/2/ ص/ 460/ ط/ 1/ 1420ه/ 1999م
  35. موطأ مالك، كتاب النذور، باب ما يجب من النذور في المشي، رقم 1712
  36. المنتقى باب ما يجب من النذور، ج/ 4/ ص/ 462 / ط/ 1/ 1420ه/ 1999م.