الذكاء اللغوي عند الأطفال

رنـا الشـيـخ عـمـر1
1 جامعة آيدن، إسطنبول، تركيا
بريد الكتروني: rana147@gmail.com
HNSJ, 2024, 5(1); https://doi.org/10.53796/hnsj51/13
Downloadتاريخ النشر: 01/01/2024م تاريخ القبول: 14/12/2023م

المستخلص

يدور البحث حول هدف واضح وهو علاقة اللغة في تنمية الذكاء عند الإنسان بشكل عام وعند الأطفال بشكل خاص وقد قسَّمت البحث إلى فصلين، تحدَّثت في الفصل الأوَّل عن مفهوم الذكاء ونظرية الذكاءات المتعددة، ثم عرضت أنواع الذكاءات وفق نظرية الذكاءاتالمتعددة.

وربطت في الفصل الثاني بين اللغة والتفكير وعلاقة ذلك في الإبداع ومظاهر الذكاء، ثم ذكرت بعض التطبيقات التي يمكن أن يستخدمها المعلم ليدعم الذكاء اللغوي عند الأطفال في الغرفة الصفيَّة أو خارجها وختمت البحث بجملة من التوصيات، بالإضافة إلى نتائج البحث التي استنتجتها.

الكلمات المفتاحية: الذكاء – اللغة – الإبداع – الذكاءات المتعددة – التفكير

Research title

Linguistic intelligence in children

Rana Al-Sheikh Omar1

1 Aydin University, Istanbul, Türkiye Email: rana147@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(1); https://doi.org/10.53796/hnsj51/13

Published at 01/01/2024 Accepted at 14/12/2023

Abstract

The research revolves around a clear goal, which is the relationship between languages and the development of intelligence of humans in general, and of children in particular.

The research is divided into two parts. The first part discusses the concept of intelligence and the theory of multiple intelligences, then presents the types of intelligences according to the theory of multiple intelligences.

In the second one, the research establishes a connection between languages, thinking, and their relationship to creativity and aspects of intelligence. It also mentions some applications that teachers can use to support linguistic intelligence in children, both inside and outside the classroom.

The research is concluded with a set of recommendations, in addition to the research’s findings.

Key Words: Intelligence – Language – Creativity – Multiple Intelligences – Thinking

المقدمة:

الحمد لله على كل حال، المتصف بالعزة والعظمة والجلال، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد أفضل الخلق، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

أضع بين أيديكم بحثي المتواضع حيث كان سبب اختياري لهذا الموضوع (الذكاء اللغوي عند الأطفال) هو طبيعة عملي في تعليم الأطفال للناطقين ولغير الناطقين بالعربيَّة.

ولطالما فكرت ما الذي يجعلنا نَصِفُ الأطفال بأوصاف مثل ذاك ذكي وذاك غبي وذاك ضعيف في مجال وقوي في آخر، فمنذ الفجر الأوَّل للإنسانية وهناك سؤال يشغل بال الباحثين في كل التخصصات، سؤال مُلِح دارت حوله أغلب البرامج التعليميَّة والتربويَّة وبرامج تنمية القدرات، لقد كان سؤالاً يبحث عن الذكاء البشري، كيف يتكوَّن وهل هو فطري أم مكتسب، وما هي الخطوات التي يجب علينا تنفيذها إن قررنا أن نزيد أو أن ننقص من ذكاء شخص ما، وهل للغة دور في صناعة الذكاء عند الإنسان.

أسئلة كثيرة ودراسات متنوعة حاولت أن تدرس ذكاء الإنسان في مختلف مراحل حياته، ترصد مظاهره وتصف أحواله وتحدد معاييره وتصمم البرامج الداعمة له.

وقد كان الدافع الأكبر لكتابة هذا البحث هو الرغبة في تأليف منهج لتعليم الأطفال ينطلق من الذكاء اللغوي لبناء وتنمية كل الذكاءات الأخرى فأسأل الله أن يكون عملي خالصاً لوجهه الكريم.

ومن الصعوبات والتحديات التي واجهتها في بحثي هو تداخل هذا الموضوع مع علوم أخرى يلزم البحث فيها وقتاً طويلاً، وتغلبت على تداخل المواضيع باستشارة متخصصين في المجالات الأخرى.

وهناك أسئلة كثيرة كانت في ذهني، بعضها وجدت له جواباً في بحثي هذا ولكن راودتني أسئلة أخرى جديدة. هل تؤثر اللغة في سلوك الإنسان؟ هل الأزمات التربوية هي أزمات تواصلية في المقام الأول؟ ما أهمية اللغة العربيَّة بالذات لتنمية تشابكات عصبية داخل الدماغ لا توجد مع أي لغة أخرى؟

أهداف البحث: يهدف البحث إلى ما يلي:

  1. تحديد الأنواع المختلفة للذكاء.
  2. تحديد مظاهر الذكاء اللغوي عند الأطفال.
  3. إبراز أهمية اللغة في تنمية الإبداع والتفكير.
  4. تمكين المعلم من بعض الأنشطة والأساليب التي تساعده في دعم الذكاء اللغوي عند الأطفال.

أهمية البحث: تكمن أهمية هذا البحث في كونه يربط بين الذكاء اللغوي وباقي الذكاءات مفترضاً أنَّ للذكاء اللغوي دور في دعم الذكاءات الأخرى.

الدراسات السابقة: هناك الكثير من الدراسات التي درست نظرية الذكاءات المتعددة نذكر منها:

  1. الذكاء اللغوي لدى تلاميذ الصف الأول الابتدائي الملتحقين وغير الملتحقين في رياض الأطفال، أ.د كريم ناصر علي، 2019م، الجامعة المستنصرية، كلية التربية، هدفت الدراسة إلى التعرف على الذكاء اللغوي عند تلاميذ الصف الأول الملتحقين وغير الملتحقين برياض الأطفال وقد استخدمت الدراسة مقياساً تم تطبيقه على عينة مكونة من 200 تلميذ وتلميذة.
  2. الذكاء اللغوي لدى طلبة المرحلة الإعدادية، للباحثة هلة وليد غانم، الجامعة المستنصرية، كلية التربية، قسم الإرشاد النفسي، هدفت الدراسة إلى التعرف على الذكاء اللغوي ومعرفة الفروق في الذكاء اللغوي تبعاً لمتغير الجنس أو لمتغير التخصص بين علمي وأدبي

وبالنسبة لبحثي لم أجد بحثاً يرتكز على الذكاء اللغوي في دعم الذكاءات الأخرى وإنَّما كانت الأبحاث تصف أنواع الذكاءات وتحدد المقاييس لها فحسب.

منهج البحث: اعتمدت المنهج الوصفي في بحثي، وحاولت أن أعرض أنواع الذكاءات مع تقديم تفصيل لعلاقة التفكير باللغة وعلاقة الإبداع باللغة كما أنني تحدثت عن تطبيقات عملية تخدم الذكاء اللغوي عند الأطفال.

مخطط البحث:

المقدمة……………………………………………….

الفصل الأول- مفهوم الذكاء ونظرية الذكاءات المتعددة

تمهيد

أولاً: الذكاء في اللغة

ثانياً: العلاقة بين الذكاءات المتعددة ونظريات الذكاء

ثالثاً: أنواع الذكاء وفق الذكاءات المتعددة

رابعاً: الذكاء اللغوي اللفظي عند الأطفال

خامساً: سمات الذكي لغوياً وآليات دعم الذكاء اللغوي

الفصل الثاني- علاقة اللغة بالتفكير وعلاقة التفكير بالإبداع

تمهيد

أولاً: كيف ننمي التفكير والذكاء عند الاطفال

ثانياً: مهارات اللغة والذكاء

ثالثاً: تطبيقات لزيادة الذكاء اللغوي عند الأطفال

الخاتمة:

  • نتائج البحث
  • التوصيات والاقتراحات

المصادر والمراجع.

الفصل الأوَّل- مفهوم الذكاء ونظرية الذكاءات المتعددة:

تمهيد:

الذكاء هبة من الله تعالى يمنح بذورها للناس بنسب تتفاوت فيما بينهم، ورغم أنَّ القدرات العقليَّة للإنسان كبيرة جداً إلا أنَّ أغلب الدراسات والأبحاث تثبت أنَّ نسبة كبيرة من الناس يعتمدون على 10% فقط أو أقل من قدراتهم العقليَّة.

كان الاعتقاد السائد سابقاً أنَّ للذكاء نوع واحد فقط هو الذكاء المنطقي الرياضي، وبناء عليه يتم تقييم الأطفال وقبولهم أو رفضهم في البرامج التعليميَّة، إلى أن ظهرت نظريَّة الذكاءات المتعددة فبدلت المقاييس السابقة معلنة أنَّ الذكاء ليس واحداً وأنَّ كل طفل لديه ثمانية أنواع من الذكاء وقد تكون أكثر أيضاً.

الذكاء في اللغة:

في لسان العرب: ذَكَتِ النارُ تَذْكو ذُكُوّاً وذكاً، مقصورٌ: اشتد لهبها واشتعلت، الذَّكاء: شدة وهج النار والذَّكاء، ممدودةٌ: حدَّةُ الفؤاد، والذَّكاء: سرعة الفطنة[1]

ومن أبرز كتب التراث حول موضوع الذكاء كتاب كتبه أبو الفرج بن الجوزي بعنوان (كتاب الأذكياء) وقد شرح فيه مصطلح الذكاء قائلاً:

حد الذهن قوة النفس لاكتساب الآراء وحد الفهم جودة التهيؤ لهذه القوة وحد الذكاء جودة الحدس في هذه القوة في زمان قصير غير مهمل[2]

العلاقة بين نظرية الذكاءات المتعددة ونظريات الذكاء:

حاول جاردنر – وهو أستاذ التربية بجامعة هارفارد الأمريكية المؤسس لنظرية الذكاءات المتعددة- أن يفرِّق بين أسلوب التعلم الذي يعني طريقة التعلم التي يتعلم بها الفرد وبين الذكاء الذي يعني الطاقة الكامنة التي تحمل معها عمليات ومكونات ذهنية ونفسيَّة.

وإلى ما يقارب ربع قرن بقي جاردنر يؤسس ويبني أفكاره حول أنواع وأشكال الذكاء، إلى أن خرج كتاب (أطر العقل) عام 1983م والذي كان بمثابة ميلاد لهذه النظريَّة التي غيَّرت مفهوم الذكاء بالكلية، ذاك المفهوم الذي نَظَر للذكاء نظرة أحادية تحدد بمعامل (IQ)، وأكَّد جاردنر أنَّ الإنسان يمتلك عدَّة أنواع من الذكاء وحدد هذه الأنواع بسبعة ثمَّ أضاف لها نوعاً ثامناً بعد عدة سنوات.

لقد قامت نظرية الذكاءات على فرضيتين أساسيتين هما:

  1. كل الأطفال يولدون حاملين معهم بذور الذكاءات الثمانية بنسب متفاوتة.
  2. البيئة هي الفيصل في تنمية أي نوع من أنواع الذكاء أو في تأخره.

لقد رصد جاردنر لكلِّ نوع من الأنواع الثمانية سماته الخاصة ومقوماته التي تعين الباحثين والمعلمين على تمييزه عن باقي الأنواع، ورفض بقوة قياس الذكاء من خلال الاختبارات والإجابة القصيرة، مؤكداً أنَّ الذكاء يقاس من خلال قدرة الفرد على حل المشاكل فالذكاء قابل للتنمية في كل وقت وهو متعدد ويستخدم لفهم القدرات الإنسانيَّة والتفاعل معها ودعمها، وليس لوصفها وتقييمها والحكم عليها بالسلب أو الإيجاب فقط.

أنواع الذكاء وفق الذكاءات المتعددة:

  1. الذكاء اللغوي اللفظي Linguistic intelligence

هو القدرة على استخدام الكلمة بكفاءة، إذ يكون الفرد حساساً للغة المكتوبة والمنطوقة. والقدرة على تعلمها، واستخدامها لتحقيق أهداف معينة وتوظيفها شفوياً أو كتابياً ويبدو أنَّ هذا الذكاء يكون متطوراً عند الشعراء والكتَّاب والصحفيين ورجال السياسة والدين.

  1. الذكاء المنطقي الرقمي Logical intelligence

هو القدرة على استخدام الرقم بكفاءة وتحليل المشكلات استناداً إلى المنطق والقدرة على توليد التخمينات الرياضية وتفحص المشكلات.

  1. الذكاء المكاني- البصري Spatial/Visual intelligence

هو القدرة على التصور الفراغي البصري وتنسيق الصور المكانية وإدراك الصور ثلاثية الأبعاد، إضافة إلى الابداع الفني المستند إلى التخيل الخصب.

  1. الذكاء الجسمي – الحركي Bodily/Kinesthetic intelligence

هو القدرة على استخدام المهارات الحسيَّة الحركيَّة والتنسيق بين الجسم والعقل من خلال العمل على إيجاد تناسق متقن لمختلف الحركات التي يؤديها الجسم.

  1. الذكاء الايقاعي Musical intelligence

هو القدرة على تمييز النبرات والألحان والايقاعات المختلفة

  1. الذكاء الاجتماعي (البينشخصي) Interpersonal Intelligence

هو القدرة على إدراك أمزجة الآخرين ونواياهم وأهدافهم ومشاعرهم والتمييز بينها.

  1. الذكاء الذاتي الداخلي (الضمنشخصي) Interpersonal intelligence

القدرة على فهم الفرد لذاته من خلال استبطان أفكاره وانفعالاته وقدرته على تصور ذاته من حيث نواحي القوة ونواحي الضعف.

  1. الذكاء الطبيعي Naturalist Intelligence

تظهر هذه القدرة في تحديد وتصنيف الأشياء الموجودة في الطبيعة من نبات وأزهار وأشجار وحيوانات وطيور.

مسلمات نظرية الذكاءات المتعددة عند الأطفال:

  1. لا نولد حاملين معنا نوعاً واحداً من الذكاء بل الأنواع الثمانية وهي مرنة.
  2. كل طفل يحمل معه الذكاءات الثمانية ولكن النسب تتفاوت من طفل لآخر.
  3. كل الأطفال قادرون على تنمية الذكاء عندهم إن توافرت لهم مقومات في البيئة.
  4. تتشابك الذكاءات فيما بينها بآلية عمل معقدة ولا تعمل بشكل منفرد.
  5. التعليم الناجح هو الذي يستثمر الذكاءات القوية في تطوير وتنمية الذكاءات الضعيفة.
  6. يتعلم الأطفال بسهولة ويسر إن كان نمط التعليم متوافقاً مع نوع ذكائهم.

الذكاء اللغوي اللفظي عند الأطفال:

يعد مفهوم الذكاء اللغوي واحداً من الذكاءات المتعددة، تلك النظرية التي وجدت عناية كبيرة من الباحثين في علم النفس والتربية، ظهرت في الدراسات والأبحاث الكثيرة التي شرحت وفسرت وأبدعت برامج دعم تعليمي يقوم على مبادئ وأساسيات هذه النظرية وخاصَّة الذكاء اللغوي الذي كتبت عنه تعاريف كثيرة أبرزها:

القدرة على استخدام الكلمات شفوياً أو تحريرياً بفاعلية

القدرة على استخدام العمليات اللغوية المحورية بوضوح

القدرة على استخدام الكلمات المؤثرة شفوياً أو في الكتابة

الذكاء اللفظي هو الذكاء المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالكلمات سواء تذكرها أو فهمها أو التفكير فيها والتحدث بها وقراءتها وكتابتها

وللذكاء اللغوي ثلاث مستويات أساسية:

المستوى الأول: هو المستوى البسيط وفيه يستطيع الفرد أن يعرف الحروف والكلمات ويتعرف على الجمل بمستواها البسيط، كما أنه يستطيع إنتاج السابق لفظياً وكتابياً

المستوى الثاني: يستطيع الفرد في هذا المستوى استعمال المفردات بشكلها المعقد بأسلوب سليم تعبيرياً وتواصلياً كما أنه يفهم الاستخدامات المختلفة للغة في سياقاتها المتنوعة، في هذا المستوى يكون لدى الفرد مجموعة من المفردات تشكل له قاموساً لغوياً واسعاً يستخدمه لفظياً وكتابياً لإيصال أفكاره ومشاعره

المستوى الثالث: يستطيع الفرد في هذا المستوى أن يبتكر ويبدع أعمالاً أصيلة باللغة وأن يستخدم الأساليب البيانية ويتعامل مع اللغة ويستخدمها كونها لغة واصفة.

سمات الذكي لغوياً:

  1. يقرأ الكلمات بشكل صحيح
  2. يدرك ويعي الأساليب البلاغية
  3. يتميز بالثراء اللغوي وحصيلة المفردات التي يمتلكها
  4. يظهر أسلوباً مطوراً في الكتابة مقارنة بأقرانه
  5. لديه قدرة متميزة على التواصل الشفهي
  6. يستمتع بالقصص والأحاديث
  7. يتمتع بقراءة الكتب والألعاب والألغاز التي تعتمد على الحروف أو الكلمات
  8. يتذكر بسرعة الأسماء والأماكن والعناوين
  9. يحكي القصص ويؤلفها ويلقي النكات ويجد مترادفات الكلمات بيسر وسهولة
  10. يكثر الأحاديث والحوارات بشكل ناجح مع الآخرين
  11. لديه قدرة على الاستنتاج وتحليل الأحداث في القصص التي يستمع لها
  12. يصف الصور شفهياً وصفاً دقيقاً
  13. يختار الكتب والقصص دون توجيه خارجي

كيف يتم دعم الذكاء اللغوي عند الأطفال:

  • الألعاب التي تستخدم الكلمات
  • قراء القصص والرواية والحكايات
  • وصف الصور وكتابة التعليقات عليها
  • قراءة الشعر
  • تعليم الكتابة الإبداعية
  • هواية المراسلة
  • الاشتراك في الخطابة والمناظرات والتأليف
  • عمل حلقات مناقشة

الفصل الثاني: علاقة اللغة بالتفكير وعلافة التفكير بالإبداع

تمهيد:

يشهد العصر الحالي تغيرات وتطورات تعتمد على العقل البشري وتستبعده في نفس الوقت، فالذكاء الاصطناعي اليوم هو نتيجة عقل بشري فكَّر، لكنَّه فكَّر بطريقة مختلفة فأنتج ما يحل محل العقول الخاملة غير النامية، ولذلك بتنا نشهد صيحات متعددة أن أدركوا عقولكم قبل أن تبلعها الروبوتات التي صممت لتقوم بمهام البشر

إذن فالقضية الآن كيف يمكننا أن ندرب وننمي مهارات التفكير لدى الأفراد وكيف نجعلهم أذكياء؟

كيف نبني أفراداً قادرين على مواكبة هذا التطور الهائل والتأثير فيه؟

كيف نحفظ وجودنا من الضياع وسط هذه الفوضى المعرفيَّة؟

كيف نستطيع استثمار قدرات الإنسان بالشكل الأمثل ليكون مبدعاً؟

شهدت الساحة جدالاً طويلاً ونقاشات كثيرة عن علاقة التفكير باللغة، فهناك من يقول أنَّ اللغة تسبق التفكير، وهناك من قال أنَّ التفكير يسبق اللغة، وهناك من جعل اللغة والتفكير وجهان لعملة واحدة[3]، وبغض النظر عن فكرة من منهما يسبق الآخر إلا أنَّه مما لا شك فيه أنهما يؤثران ببعضهما وأنَّنا إن أردنا بناء عقول مفكرة فللغة من ذلك نصيب كبير بل هو الأكبر إن لم يكن الوحيد

وهذا ما يؤكده لنا الدكتور محمد بن عبد الكريم الجزائري الذي عدَّ اللغة منطلقاً للفكر وأنَّ استعمالنا لأيِّ لغة أخرى غير لغتنا يعني أن فكرنا أيضاً أصبح مستعاراً

(أي شعب أهمل لغته واستعار لغة شعب آخر فسلوكه وتفكيره – هما الآخران – مستعاران بالدرجة الأولى ومن كان كذلك فلا شخصية له، ومن لا شخصية له فلا ثقافة له، ومن لا ثقافة له فحظه في الحياة تقليد أعمى)[4]

لم يكتف الدكتور بذلك، بل عدَّ اللغة كائناً حيَّاً ينمو ويموت ويتفاعل ويجمد (فاللغات ما هي سوى كائنات حية، تنمو بنمو ثقافات الأمم وحضاراتهم، وتجمد بجمود أهلها، ثم سرعان ما تموت، عند فقدان الثقة بالنفس، والتنكر للأرومة، والزهد في التراث اللغوي، واللغة تحفظ كيان الأمة، وتحمي أنظمتها وثقافتها من وصمة التقليد الأعمى)[5]

فليست اللغة إذن أداة لنعبر بها عن أفكارنا الجاهزة بل هي أداة التفكير والمعرفة وصناعة الذكاء، إنَّها أداة للإبداع وهذا ما دفع الغرب أيضا للإقرار بذلك ومنهم هيجل الذي يقول (إننا نفكر داخل الكلمات) [6]

انطلاقا من ذلك كانت أوَّل خطوة نحو إحداث اضطراب في العقل اللغوي العربي وفي اللسان العربي هي هدم هذه اللغة العظيمة، من خلال الابتعاد عنها أو تشويهها أو إحلال لغات أخرى في العقل العربي

فاللغة لا تنفصل عن الفكر والفكر لا مجال للتعبير عنه بغير اللغة، فمن خلال اللغة يظهر الفكر من لغة داخلية إلى لغة خارجية معبِّرة على شكل ألفاظ وكلام وجمل مفيدة، فاللغة ثمرة من ثمار الفكر الذي يقوم بالتجريد والإدراك وربط العلاقات والاستنتاج من خلال اللغة نفسها يقول د. محمد بن عبد الكريم الجزائري (لولا اللغة لبقيت جميع الأشياء مبهمة، الأسماء مجهولة الدلالة مهملة الوظائف)[7]

كيف ننمي التفكير والذكاء عند الأطفال:

تتفق أغلب الدراسات على أنَّ التفكير مهارة يمكن أن تتحسن بالتدريب والمراس والتعلم

فعن طريق إثارة التفكير يحدث ارتباط بين الخلايا العصبيَّة في الدماغ مما يجعل الشبكة الدماغيَّة غنية بالتشابكات العصبيَّة، فيزيد سمك القشرة الدماغية وتنمو فيزيد الذكاء العقلي، أي أن التعلم يزيد من النمو المادي للدماغ الذي يتغير فيزيولوجيا حين ينغمس في بيئة غنية بالمثيرات[8]

حيث يولد الإنسان بدماغ مجهز بمئة ترليون خلية عصبية تحتاج أن تتشابك، يحدث هذا التشابك عندما يتعرض الدماغ للخبرة مما يجعل الارتباطات تعيد تشكيل نفسها ثم تقوى هذه الارتباطات بالتكرار والممارسة[9]

أدرك العرب الأوائل ذلك فتمسكوا بالقرآن الكريم وبلغتهم الفصحى وهم على يقين أنَّهم بذلك ينمون كل مهارات التفكير التي شاعت اليوم بأسماء متعددة، فقد ظهر في نهاية العقد الأخير من القرن العشرين اتجاه جديد في الفكر التربوي الحديث في أمريكا يدعو المربين إلى التركيز على تحقيق عدد من النواتج العلمية وقد برز هذا الاتجاه في غمرة الاهتمام بتنمية التفكير وبخاصة تنمية التفكير الناقد والإبداعي، وقد ركز أصحاب هذا الاتجاه على ضرورة تنمية عدد من الاستراتيجيات التفكيرية فيما أصبح يعرف باتجاه العادات العقلية [10]ومنها انطلقت مسميات كثيرة كخانات العقل والتفكير الناقد والتفكير الإبداعي والتفكير الاستدلالي والتفكير المصوَّر والتفكير الخيالي والتفكير الاستراتيجي والتفكير النظامي

تجربة في أمريكا ينقلها العرب وهم ينادون بضرورة تعليم التفكير عن طريق برامج متعددة كلها بنيت بالأصل بلغة غير لغتنا ثم ترجمت ونقلت لنا حاملة معها فكر اللغة الأم لها، لتزيد طلبتنا ضياعاً واضطراباً إذ أننا نتعلم بلغة غيرنا رغم أن لغتنا تحمل كل ذلك وبطريقة متناغمة.

وإن أخذنا مثالاً اللغة القرآنية فإننا سنجد أنها لغة داعمة لكل مهارات التفكير ببرنامج شامل ومنهجي ومتكامل والأمثلة على ذلك كثيرة أذكر منها:

(أفرأيتم الماء الذي تشربون)[11]: في هذه الآية تأمل مفتوح الوجهة تأمل في الماء في شفافيته ووظيفته ووفرته، فكّر وتأمل ستجد أنَّ صنوف التفكير لا تقف عند حد، وفي الآية أيضاً استخدام للحواس فقد انطلقت من التأمل بالمحسوس (الماء) للوصول إلى المجرد (الحكمة من ذلك)

(أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون)[12]: في هذه الآية استدلال، جاء الاستدلال بعد التأمل العميق في الماء وهو ما يصطلح عليه اليوم بمهارة تحليل المعلومات بقصد الوصول للتمييز

(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)[13]: في هذه الآية استنباط للغايات التي تصل بنا لمعرفة ما الحكمة من الأمر

(لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون)[14]: في هذه الآية إثارة للخيال وعمق التفكر بالمحسوسات وهو خيال يتأمل في دقة صنع الخالق ويتخيل ماذا لو تغيرت صفات المادة كيف سيكون حال الإنسان

(قل أرأيتم إن جعل الله عليكم سرمدا إلى يوم القيمة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون)[15] : في هذه الآية أيضاً تنمية للخيال لكنه خيال معكوس يتخيل زوال النعمة وكيف الحال بدونها

القرآن الكريم من أول آية فيه إلى آخر آية فيه يعمل عقل الإنسان في نفسه والآخرين والبيئة والخلق والوجود والعدم والأولين والقصص القديمة والمستقبل والمحسوسات والمجردات، كل ذلك من خلال لغة اختارها الخالق لتحمل القرآن فتحمل معها مهارات التفكير تلك

مهارات اللغة والذكاء:

الحقيقة أنَّ ما نشهده اليوم من اضطراب على ألسنة الناس اضطرابا تواصلياً هو في أصله اضطراب فكري فمهارات اللغة كلها قائمة على الفكر وتنمي الذكاء كما سأبين:

مهارة القراءة: حتى يستطيع الإنسان أن يقرأ لا بد له أن يحلل النص إلى كلمات ويحلل الكلمات إلى حروف ولا بد له أيضاً أن يقارن بين حرف وآخر وبين كلمة وأخرى وبين معنى وآخر، ولا بد له أن يصوغ الفرضيات حتى يستطيع معرفة الكلمة وأن يراجع بعد ذلك كله ما توصل له ثم يستنتج ليقرأ

وأثناء القراءة يتعامل القارئ مع النص من خلال التفكير فهو يدرك ويلاحظ ويستجيب للمعنى ويفهم العلاقات بين معاني المفردات بل ويدرك أيضاً ما بين السطور وما فوق السطور ويوازن بين المعاني ويربطها بعلاقات ويصدر أحكاماً تؤدي إلى نتائج تعطي نظرة جديدة، فالقارئ دوره نشط حيوي في التعامل مع النص

مهارة التحدث: يعتبر التحدث الهدف الأول في تعلم اللغة وخصوصاً في مرحلة الطفولة المبكرة ولغير الناطقين بالعربية، والتحدث يتطلب من المتحدث سيطرة وتملكاً للغة كوسيلة للتفكير والتعبير والاتصال فحتى يتحدث لا بد له من انتقاء المعلومة وتصنيفها وتنظيمها وتحديد الفكرة الرئيسة والأفكار الفرعية واختيار كل ما له علاقة بالموضوع والقوالب أو الكلمات المناسبة والملائمة لهذا كله حتى ينتجه على شكل كلام

مهارة الكتابة: تحتاج الكتابة إلى التخيل والدقة والاستكشاف والاستنتاج للوصول للقاعدة التي تحكم كتابة الحروف والكلمات وصياغة الجمل المكتوبة

مهارة الاستماع: تتطلب وعياً عالياً وانتباهاً مركزاً ومن خلالهما يقوم الفرد بالتصنيف والمطابقة والتحليل والتركيب والاستبعاد والموازنة والتنظيم

نستنتج من ذلك أنَّ مهارات اللغة العربية هي مهارات يعتمد اكتسابها على فكر يقظ قادر على القيام بهذه العمليات بمهارة وتملك لها، فينطلق اللسان ناطقاً معبراً بأسلوب سليم بل إنَّ الأعمق من ذلك أنَّ علوم اللغة بأجمعها هي علوم فكرية تزيد الذكاء وتدعمه في الدرجة الأولى فالنحو يحتاج للاستكشاف والاستنتاج للوصول للقاعدة والربط بين القاعدة النحوية والكلام المنطوق والمكتوب، والكتابة الإملائية تحتاج إلى تحليل القاعدة النحوية وتفسيرها من خلال الأمثلة التي يتم عرضها وكلها من مهارات التفكير الناقد وتزيد الذكاء

وتساعد نصوص الأدب كذلك على التطور الذهني وتنمية مهارات التفكير الناقد من خلال تحليل النص عبر عمليات التفكير التي تدرك وتلاحظ وتستجيب للمعنى وتفهم العلاقات بين معاني المفردات وأيضاً تقوم بالموازنات بين المعاني والمفاهيم ثم إصدار الأحكام والاستنتاجات الناقدة وابداء الرأي وحل المشكلات

ويتدرب الطالب أيضاً من خلال النصوص الأدبية على معرفة وجهة نظر الكاتب والتمييز بين الأفكار الصحيحة والخاطئة وبين الخيال والواقع وبين الحجج الضعيفة والقوية ونقد النص المقروء ومعرفة موقف الكاتب من خلال أفكاره والبحث عن مصادر المعلومات وكلها مهارات تندرج تحت مهارات التفكير الناقد وتزيد الذكاء

والبلاغة أيضاً تقوم على نشاطات لغوية وفكرية تمكن الفرد من تطوير استنتاجات وتنبؤات واستدلالات بدلاً من الاكتفاء بتلقي المعلومات مباشرة من الكاتب وتساعده على قراءة ما بين السطور

تطبيقات لزيادة الذكاء اللغوي عند الأطفال:

من الأنشطة التي تتناسب مع الأطفال الذين يظهرون ذكاءاً لغوياً عالياً أن نستخدم العروض والخطب، وأنشطة لعب الأدوار، والحوار والجدل، والألعاب التفاعلية الكلامية، والكتابة والمناظرة والمناقشة، وإعداد التقارير وقراءة القصص والمسرحيات والمقالات والاستماع للتسجيلات الصوتية والقراءة والاطلاع وألعاب منوعة كلعبة تخمين الكلمة السرية، أو الحروف الناقصة أو الكلمات المتقاطعة وقراءة الصحف والمجلات والفوازير الكلامية وكتابة الأشعار وقراءتها

أمثلة على بعض الأنشطة:

  1. اذكر أكبر عدد من الكلمات التي تقرأ من اليمين إلى اليسار وبالعكس وتعطينا معنى مفيداً مثل (ملح – حلم)
  2. دولة عربية إن حذفنا آخر حرفين تصبح اسم مشروب ما هي؟
  3. حيوان من ثلاث حروف إن حذفنا الحرف الثاني صار نوعاً من الورود؟
  4. كوِّن أكبر عدد من الكلمات مستخدماً هذه الحروف (م – ل – ح)
  5. قم بكتابة أكبر عدد من الكلمات التي تنتهي بحرف (د)
  6. تحدث عن أي موضوع لمدة 5 دقائق بدون أي توقف

الخاتمة

لقد اكتشف الغرب أهمية لغاتهم في صناعة الفكر وزيادة الذكاء وأدركوا أهمية الذكاء اللغوي في كشف وتنمية الذكاءات الأخرى، وبالتالي في بقاء الإنسان فحافظوا عليه ودعموه ووقفوا إلى جانبه، بل وحاربوا اللغات الأخرى حتى لا تتأثر لغتهم بها ، أمَّا لغتنا فهي ليست بحاجة لمن يحميها ولا أن يدافع عنها فقد تكفل الله عز وجل بهذا إذ بين لنا أنه حافظ لكتابه الكريم وبحفظه للقرآن تحفظ هذه اللغة ، ولكننا بحاجة حقاً لأن نحفظ أنفسنا ونحفظ عقولنا من الموت فدماغنا يعمل كنظام حي ونام يبحث في بيئته عن أسباب البقاء والتطور ويتكيف مع معطيات البيئة ويتأثر بما يحيط به وبمن يتفاعل معه فإن لم يجد بحث عن أحد يتبعه، وحسبنا في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك (لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه) رواه البخاري

نتائج البحث:

  • للغة ارتباط وثيق بالتفكير وللتفكير ارتباط وثيق بالإبداع ومظاهر الذكاء
  • تؤثر مهارات اللغة على مهارات التفكير وبالتالي تزيد من نسبة الذكاء
  • الذكاء ليس له نمطاً واحدا بل هو أشكال أساسها الذكاء اللغوي

التوصيات والاقتراحات:

  1. بما أن الذكاء اللغوي يؤثر في باقي أشكال الذكاء الأخرى فلا بد من الاعتناء به وخاصة في مراحل الطفولة المبكرة نظراً لحساسية هذه المرحلة في الاكتساب اللغوي
  2. لا بد من إعداد مناهج للأطفال تعتمد على الذكاء اللغوي في دعم باقي أنواع الذكاء

المصادر والمراجع

  • القرآن المجيد
  • جمال الدين ابن منظور الأنصاري (ت711هـ)، دار صادر، بيروت، ط3، (1414هـ،1993م) ج14
  • جوديث جرين، التفكير واللغة، ترجمة: د. عبد الرحيم جبر، الهيئة المصرية للكتاب، 1992
  • د. محمد بن عبد الكريم الجزائري، لغة كل أمة روح ثقافتها، دار الشهاب، الجزائر
  • د. ذوقان عبيدات و د. سهيلة أبو السميد، الدماغ والتعلم والتفكير، دار ديبونو للنشر، عمان، 2005، ط2
  • د. يوسف القطامي و د. فدوى ثابت، عادات العقل لطفل الروضة، دار ديبونو للنشر، عمان، 2009، ط1
  • شذى محمد بو طه، الذكاء المتعدد أنشطة عملية ودروس تطبيقية، دار ديبونو للنشر، عمان،2018، ط3.
  • فتحي عبد الرحمن جروان، في كتاب تعليم التفكير، دار الفكر، عمان، 2002
  • وليد فائق مرعي ومحمود علي أحمد، كتاب تعليم التفكير في اللغة العربية، دار الصادق الثقافية، العراق، ط1
  • نجدة محمد عبد الرحيم جدي، مفهوم الذكاء في التراث الإسلامي، مجلة العلوم والبحوث الإسلامية، السودان (2015) م

Margins:

  1. جمال الدين ابن منظور الأنصاري (ت711هـ)، دار صادر، بيروت، ط3، (1414هـ،1993م) ج14/ص287.
  2. نجدة محمد عبد الرحيم جدي. (2015)، مفهوم الذكاء في التراث الإسلامي، مجلة العلوم والبحوث الإسلامية، السودان، ص2-4.
  3. ينظر: جوديث جرين. (1992م)، التفكير واللغة، تر: د. عبد الرحيم جبر، الهيئة المصرية للكتاب.
  4. د. محمد بن عبد الكريم الجزائري، لغة كل أمة روح ثقافتها، دار الشهاب، الجزائر، ص 9-10، كتاب pdf
  5. المرجع السابق ص 7.
  6. نقلاً عن: وليد فائق مرعي ومحمود علي أحمد، تعليم التفكير في اللغة العربية، (ط1)، العراق: دار الصادق الثقافية، ص 157
  7. د. محمد الجزائري، مرجع سابق، ص 8
  8. عبيدات، ذوقان. وأبو السميد، سهيلة. (2005م). الدماغ والتعلم والتفكير، (ط2)، عمان: دار ديبونو للنشر والتوزيع، ص13
  9. ينظر: فتحي عبد الرحمن جروان، في كتاب تعليم التفكير، عمان: دار الفكر.
  10. د. يوسف القطامي و د. فدوى ثابت، (2009م)، عادات العقل لطفل الروضة، (ط1)، عمان: دار ديبونو للنشر، ص147
  11. سورة الواقعة، الآية 68
  12. سورة الواقعة الآية 70
  13. سورة الروم الآية 21
  14. سورة الواقعة الآية 70
  15. سورة القصص الآية 71